السنة الحادية عشرة / العدد الثامن والعشرون / نيسان  2016م / رجب  1437هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الكوفة عاصمة الإمام علي (ع)

بين الولاء والغدر

د. طارق شمس

 

عُرِفَت مدينة الكوفة منذ فتح الجيوش الإسلامية للعراق، حيث تحوّلت بعض المعسكرات التي تجمَّعت فيها الجيوش الإسلامية إلى أماكن ثابتة للدفاع عن البلاد والذّود عنها من أيّ اعتداءات من قِبَل البيزنطيين والفُرُس، وهذه المعسكرات حَمَلت أسماء دخلت تاريخ العالم الإسلامي من بابه الواسع، ولعبت دورًا بارزًا في تاريخ الدولة العربية الإسلامية، فتحوّل بعضها إلى عواصم، وأصبحت مركزًا لانطلاق الثورات والجيوش، وتحطيم العروش ومنها العرش الأموي نفسه.

وقد أدرك الخلفاء المسلمون أهميتها، فحاولوا إخضاعَها وكسبَ رضى سكانها، كونَها تمثّل تجمُّعًا كبيرًا للقوى العربية في بلاد العراق. ومنها الكوفة التي هي محوَر بحثنا.

أبرز ما ذكره الجغرافيون عنها

- المقدسي: [قصبة جليلة خفيفة، حسنة البناء، جليلة الأسواق كثيرة الخيرات... مصّرها سعد بن أبي وقاص أيام عمر، وكلُّ رمل خالطه حصى فهو كوفة... وكان البلد في القديم الحيرة وقد خربت، وأول من نزلها من الصحابة علي بن أبي طالب (عليه السلام)...]([1]).

- ابن حوقل: [مدينة الكوفة قريبة من مدينة البصرة في الكبر، هواؤها أصحّ، وماؤها أعذب، وهي على الفرات، بناؤها كبناء البصرة، وهي خطط لقبائل العرب]([2]).

- القزويني: [هي التي مصّرها الإسلاميون بعد البصرة بسنتين، يأتيها الماء بعذوبة وبرودة... وزعموا أن مِنْ أصدقِ ما يقول الناس في أهل كل بلدة قولهم: (الكوفي لا يوفي)، ومما نُقِمَ على أهل الكوفة أنهم طَعَنوا الحسن بن علي (عليه السلام)، وقتلوا الحسين (عليه السلام)، بعد أن استدعوه]([3]).

- البلاذري: [... أن عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره أن يتخذ للمسلمين دار هجرة وقيروانًا، وأن لا يجعل بينه وبينهم بحرًا، فأتى الأنبار وأراد أن يتخذها منزلاً فكثُر على الناس الذباب، فتحوَّل إلى موضع آخر فلم يصلح، فتحوّل إلى الكوفة فاختطها وأقطع الناس المنازل، وأنزل القبائل منازلهم، وبنى مسجدها، وذلك في سنة 17هـ]([4]).

- الزبيدي: في تفسيره لمعنى اسم "الكوفة": [الرملة الحمراء المجتمعة، وقيل المستديرة، أو كل رملة تخالطها الحصباء، أو الرملة ما كانت... واختُلِفَ في سبب تسميتها، فقيل سُمِّيَتْ لاستدارتها، وقيل بسبب اجتماع الناس بها، وقيل لكونها كانت رملة حمراء، أو لاختلاط ترابها بالحصى.... وسميت بكوفان، وهو جبل صغير فسهَّلوه واختطوا عليه... وكوفان... أي في عزٍ ومنعة... أو لأن سعدًا (سعد بن أبي وقاص) لما أراد أن يبني الكوفة ارتاد هذه المنزلة للمسلمين، قال لهم: تكوَّفوا في هذا المكان، أي اجتمعوا فيه، أو لأنه قال: كوِّفوا هذه الرملة أي نحُّوها وانزلوا]([5]).

وفي التفاصيل يورد الطبري في تاريخه: [.... كتب عمر إلى سعد: أنبئني ما الذي غيّر ألوان العرب ولحومَهم؟ فكتب إليه: إن العرب خدّدهم وكفى ألوانَهم وُخُومةُ المدائن ودجلة، فكتب إليه: إن العرب لا يوافقها إلا ما وافق إبلها من البلدان. وطلب الخليفة عمر بن الخطاب من سعد بأن يبعث كلاًّ من سلمان وحذيفة -وكانا رائدي الجيش- فيرتادا منزلاً بريًا بحريًا، ليس بيني وبينكم فيه بحر ولا جسر...، وسار كل من سلمان وحذيفة فوصلا الكوفة، وكتبوا إلى سعد بالخبر]([6]).

ومع وصول الخبر إلى سعد [ارتحل سعد بالناس من المدائن حتى عسكر بالكوفة في المحرم سنة 17هـ]([7]).

وهكذا ظهرت مستعمرات عسكرية جديدة، شُيّدت للمقاتلة من المسلمين كالفسطاط في مصر، والقيروان في أفريقيا، والكوفة والبصرة في العراق([8]).

ومع انتقال زعامة الدولة من المدينة المنورة، ظهرت مدن قوية ماديًا وعسكريًا، وكثيرة العدد، فانتقل الإمام علي (عليه السلام) في تشرين الأول من العام 656م إلى العراق، ودخل الكوفة التي كانت المستعمرة العسكرية الثانية في العراق([9]).

وهذه المدينة التي اختُطَّت لتكون معسكرًا للمسلمين، تكاثرت فيها الناس، ومع قدوم الإمام علي (عليه السلام) إليها وإقامته فيها، تحوَّلت إلى عاصمة للمسلمين ممن والى الإمام عليًا (عليه السلام) وبايعه بالخلافة، وفيها قتل (عليه السلام) ([10]).

أهمية الكوفة اقتصاديًا

نظرًا لأهمية الدور الاقتصادي في السياسة والحرب، فإن مدينة الكوفة لعبت دورًا تجاريًا بارزًا في عصرها الذهبي.

فالحيرة، والتي عُرِفت قبل الكوفة، وهي مدينة تاريخيّة، كانت قاعدة للمناذِرة وعاصمتهم، وتبعد عن الكوفة حوالى سبعة كيلومترات([11])، كانت محطة تجارية كبرى، ربطت بين بلاد الفرس والهند، وبين سوريا وبلاد الروم واليونان، حتى ازدهرت اقتصاديًا [وفاض المال حتى أن أهالي الحيرة من سعة ذات اليد، كانوا أولاً يتعاملون بالذهب وزنًا...]([12]).

ومع قيام الكوفة نشأت فيها "مدينة الرزق" أو "دار الرزق"، والتي ظهرت أيضًا في البصرة والفسطاط([13])، وهي عبارة عن مخزن وظيفته الحفاظ على أموال الصدقات والغنائم قبل أن توزع على الجند([14]).

تحوّلت هذه الدار إلى دار مضاربة اقتصادية فيما بعد، ولعبت دورًا مهمًا في حركة الاضطرابات والفتن التي عرفتها الكوفة. ومع تأسيس هذه الدار، نُصِبت سلسلة على رأس الجسر، لعبت دور "الكمرك" على عهد الساسانيين([15]).

إن قيام هذه الدار في مدينة الكوفة أظهر أهمية المدينة اقتصاديًا، كما ساهم في الرفع من شأنها عند السلطة الحاكمة المتواجدة في دمشق في العصر الأموي.

ومدينة الكوفة كانت غنيّة أيضًا بأسواقها، وتواجدت فيها محال الصيرفة والمسلِفون، ودكاك العبيد ومحلات المراهنين على الحيوانات العاملة...([16]).

وكان لحوانيت الصيرفة وأصحابها دور أساسي في المؤامرات والأحداث السياسية التي عرفتها المدينة، حيث إن عمل الصيرفة كان مربحًا، مما حوّل الصيارفة إلى قوة اقتصادية امتلكت زمام القدرة على التغيير السياسي، فعلى سبيل المثال، فإنّ الدعم الذي تلقاه الدعاة العباسيّون زمن حكم الأمويين كان من بعض صيارفة الكوفة، حتى أن أحد الصيارفة المدعو ابن مقارن تعهَّد للمنصور العباسي عام 145هـ [بالدّعة والطمأنينة في الكوفة]. مما يظهر قدرة هؤلاء في السيطرة على العامة من خلال شراء رؤوس القبائل([17]).

وأتقن الصيارفة في الكوفة عملهم حتى تحولوا إلى أشبه ما يكون ببنوك اليوم، وفي البداية كانت محال الصيرفة للنصارى الذين كانوا في الحيرة، وفي القرن العاشر للميلاد تلقّف فنَّ الصيرفة هذا جماعةٌ من يهود بغداد آخذين له من المدائن([18]).

وفي ذلك يقول المؤرخ لويس ماسينيون: [كانت الأقلية المسيحية هي التي تستطيع التحكيم بين الفُرُس ذوي المسكوكات الفضية والبيزنطيين أصحاب المسكوكات الذهبية، فعلى هذا كانت تجارة التبادل والصيرفة في أيديهم]([19]).

وبعدهم ظهر صيارفة من المسلمين كانوا على اتصال مع الصيارفة النصارى، ومن أبرز الصيارفة المسلمين:

- سدير بن الحكيم، كان من الشيعة الاثني عشرية، ومن أصحاب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام).

- معلى بن خنيس الأسدي، من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام)، وقد قتله صاحب الشرطة في مكة (في أيام داود بن علي والي بني العباس).

- بسام بن عبد الله، وقد قتل سنة 138هـ لتحزُّبه إلى إسماعيل ابن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ([20]).      

- المفضَّل الجعفي، وكان أحد الوكلاء للإمام جعفر الصادق (عليه السلام) ([21]).

الكناسة

كما عَرَفت الكوفةُ محلة أو سوقًا أو محطة تجارية، عُرِفت باسم الكناسة، وهي تقع في إحدى ضواحي الكوفة، حيث كانت تُرمى فيها أنقاض بني أسد، ومع مرور الزمن ازدادت أهمّيتها فتحوّلت إلى ميناء تجاري هام تجري فيها عمليات التصدير والاستيراد، وأصبحت ملتقى للأدباء والشعراء نظرًا للتجمع البشري الكبير فيها.

وفي هذا المكان نشأت سوق البزازين، التي كان يتم فيها شراءُ الحمير والبغال، والإبل والدواب، والعبيد، وإعادةُ بيعها.

وفي هذا المكان عَسْكَرَ الإمامُ علي (عليه السلام) قبل التوجه إلى صفين، وكذلك الإمام الحسن (عليه السلام) عند توجّهه لمحاربة معاوية، وكذلك فعل ابن زياد عند تجهيزه الجيش لحرب الإمام الحسين (عليه السلام)، وفيها عُرِض أيضًا جثمان زيد بن علي الشهيد([22]).

ومع الوقت تحوَّلت الكناسة إلى دُوْرِ سكنٍ عامرة للقبائل، وإلى منتدى أدبي في نفس الوقت([23]).

القبائل التي نزلت الكوفة بعد الإسلام

عند وصول جند المسلمين إلى العراق، ونزولهم في الكوفة، كانت مجرد أكوام وكتل من الأكواخ القصبية والخيام التي تمَّ نصبها مؤقتًا للجند والنساء اللاتي كنّ يرافقنهم. وظلت الكوفة على هذه الحال طيلة الخمسة أعوام الأولى، إلى أن بدأ المسلمون يشيدون مساكنهم من الآجر([24])، وعلى مدى ثلاثين عامًا بقيت تلك المخيمات والأكواخ مقسَّمة إلى سبع مناطق عسكرية، نسبة إلى المقاتِلة من القبائل، تبعًا للقيادات والتعبئة عند النفير والخروج للجهاد([25]).

وهذه القبائل هي:

1- كنانة وحلفاؤهم (الأحابيش) وجديلة، وكانوا أعوانًا للولاة من قريش أو الأمويين.

2- قضاعة وغسان وبجيلة وخثعم وكندة وحضرموت والأزد. وهم من اليمانيين، يقول ماسينون في تعريفهم([26]): [كانت السيادة فيهم لطائفتين، أولاً: بجيلة التي كان رئيسها جرير صديقًا خاصًا للخليفة عمر الذي كان قد خصّص لأفرادها عطاءً سنويًا]، وكندة التي التزمتها أسرة الأشعت بن قيس.

3- مذحج وحِمْيَر وهمدان، وهم من اليمن.

4- تميم والرباب وبنو العصر، من المضر.

5- أسد، وغطفان، ومحارب، ونمير، وضبيعة، وتغلب، وهم من ربيعة.

6- إياد، وعك، وعبد القيس، والحمراء.

7- طيء

هذه الفيالق، التي كانت تحصل على حصة من الغنائم والفيء، كان يتغير تعدادها تبعًا للسلطة الحاكمة، وتبعًا لولائها لهذا الحاكم أو ذاك.

ويُورِد المؤرخ ماسينيون أن هذه القبائل، عدا الحجازية منها، كانت تضمّ عناصر شديدة البداوة، سكان الخيم وبيوت الشَّعر أصحاب الإبل (بنو دارم من تميم)، أو عناصر من اليمنيين القدماء، ونصف الرّحالة، أو مَن قَدِم من الجنوب الشرقي مع جموع الإيرانيين، أما العناصر التي نزحت من اليمن وحضرموت وهم عرب، كانوا أكثر حضارة من الآخرين، وهم:

1- كندة وبجيلة (نصف متحضّرة).

2- مذحج، حِمْيَر، همدان، متحضّرة من سكان المدن والقرى اليمنية.

وقد لعبت هذه العناصر المتحضرة دورًا في تحضّر بقية العناصر، بعكس البصرة التي كانت تلك العناصر المتحضّرة قليلة فيها([27]).

موقف الكوفة من آل البيت (عليهم السلام)

يقول الشهيد السيد نور الله التُّسْتَري في كتابه إحقاق الحق: [إن قريشًا كانت كارهة للإمام علي (عليه السلام)، إلا من كان مؤمنًا منهم، فهو الذي قتل أبطال قريش وفلق الهامات من شجعانهم في غزوات النبي (صلى الله عليه وآله)، لذا فإنهم كانوا قد عصبوه بتلك الدماء، وطالبوا بالثأر -مع ما كانوا يحملون في قلوبهم له من الحقد والبغضاء- وهم لم يكونوا قد أسلموا إلا يوم فتح مكة، وأُرغموا على ذلك وهم كارهون (عدا المهاجرين منهم)، وبالتالي فإنهم كانوا يترقّبون الفرص للانقضاض عليه والأخذ بثأرهم].

ومع موت النبي محمد (صلى الله عليه وآله) انقلبوا وتآمروا على الإمام علي (عليه السلام)، وعندما بويع بالخلافة [صاروا يثيرون الفتن ويحدثون الخلاف، ثم تألَّبوا فجرّدوا السيوف في وجهه ووجه أبنائه...]([28])، وبالتالي فلم يكن مع الإمام علي (عليه السلام) في صِفِّين سوى خمسة من رؤساء قريش، بينما انضم الثلاثة عشر بطنًا من بطونها مع ألويتها إلى معاوية([29]).

أما أهل اليمن فإنّ موقعهم من الإمام علي (عليه السلام) كان مختلِفًا، وهذا يعود إلى كونهم أسلموا على يديه. وفي ذلك يقول ابن الأثير:

[في هذه السنة (العاشرة للهجرة) بعث رسول الله (ص) عليًا إلى اليمن، وكان قد أرسل قبله خالد بن الوليد إليهم يدعوهم إلى الإسلام فلم يجيبوه، فأرسل عليًا وأمره أن يعقل خالدًا ومن شاء من أصحابه (أي يعيدهم)، ففعل، وقرأ عليٌّ كتاب رسول الله (ص) على أهل اليمن، فأسلمت همدان كلها في يوم واحد، فكتب بذلك إلى رسول الله (ص)، فقال: السلام على همدان، يقوله ثلاثًا، ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام، وكتب بذلك إلى رسول الله (ص)، فسجد شكرًا لله تعالى]([30]).

بذلك نجد أن أهل الكوفة كانوا منقسمين إلى قسمين، أحدهما كان يكنّ الحقد والضغينة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، والآخر وهم اليمانيون كانوا معه، وهذا ما يوضح النصوص التي صدرت عن آل البيت (عليهم السلام) ، من مدح وذم تجاه أهل الكوفة، والتي منها ما ورد في المديح:

1- عن الإمام علي (عليه السلام) قال: الكوفة جمجمة الإسلام وكنز الإيمان وسيف الله ورمحه يضعه الله حيث يشاء، وأَيْمُ الله لَيَنْصُرَنَّ اللهُ بأهلها في مشارق الأرض ومغاربها كما انتصر بالحجاز([31]).

2- عن الإمام علي (عليه السلام) أيضًا مخاطبًا أهل الكوفة عند مسيره إلى صفين: [يا أهل الكوفة أنتم إخواني وأنصاري وأعواني على الحق، وصحابتي على جهاد عدوّي المحلين، بكم أضرب المُدبِر وأرجو تمام طاعة المُقْبِل]([32]).

وغيرها من نصوص المديح، وفي المقابل وردت نصوص أخرى تذمُّ الكوفة وأهل العراق، أبرزها:

1- ما ذكره اليعقوبي عن الإمام علي (عليه السلام) مخاطبًا أهل الكوفة يستحثهم للخروج لحرب معاوية بعد النهروان فتثاقلوا:

[أما بعد، يا أهل الكوفة أكُلَّما أقبل منسر من مناسر أهل الشام أغلق كل امرئ بابه وانجحر في بيته انجحار الضب والضبع الذليل في وجاره؟ أفٍ لكم! لقد لقيت منكم يومًا أناجيكم ويومًا أناديكم، فلا إخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء].

ويضيف اليعقوبي: [فلما دخل بيته قام عدي بن حاتم فقال: هذا والله الخذلان القبيح! ثم دخل إليه فقال: يا أمير المؤمنين، معي ألف رجل من طيء لا يعصونني، وإن شئتَ أن أسير بهم سرتَ؟ فقال علي: جزاك الله خيراً، يا أبا طريف، ما كنت لأعرض قبيلة واحدة لِحَدّ أهل الشام، ولكن اخرج إلى النخيلة! فخرج واتّبعه الناس، فسار عدي على شاطئ الفرات، فأغار على أدنى الشام]([33]).

ويقول في موضع آخر، وبعدما هاجم جيش معاوية أهل العراق وقتل منهم مقتلَة، قام الإمام علي (عليه السلام) خطيبًا فقال: [يا أهل الكوفة اخرجوا إلى جيش لكم قد أصيب منه طرف... فامنعوا حريمكم وقاتلوا عدوّكم. فردّوا ردًا ضعيفًا، فقال (عليه السلام): يا أهل العراق! وددت أن لي بكم بكل ثمانية منكم رجلاً من أهل الشام، وويل لهم، قاتلوا مع تصبرهم على جور، ويحكم! اخرجوا معي، ثم فرّوا عني إن بدا لكم، فوالله إني لأرجو شهادة، وإنها لتدور على رأسي مع ما لي من الروح العظيم في ترك مداراتكم كما تدارى البكار الغمرة، أو الثياب المتهتكة، كلما حيصت من جانب تهتكت من جانب]([34]).

ويضيف اليعقوبي: [فقام إليه حِجْرُ بن عدي الكندي فقال: يا أمير المؤمنين: لا قرَّب الله مني إلى الجنة من لا يحب قربَك... اندب معي الناس المناصحين... فتهلّل وأثنى على حِجر جميلاً...]([35]).

وفي موضع آخر، يخاطب الإمام علي (عليه السلام) أهل الكوفة قائلاً: [أيها الناس، إن أول نقصكم ذهاب أولي النهى والرأي منكم الذين يحدّثون فيصدقون، ويقولون فيفعلون، وإني قد دعوتكم عَودًا وبدءًا، وسرًا وجهرًا، وليلاً ونهارًا، فما يزيدكم دعائي إلا فرارًا، ما ينفعكم الموعظة ولا الدعاء إلى الهدى والحكمة، أما واللهِ إني لعالم بما يصلحكم، ولكن في ذلك فسادي، أمهلوني قليلاً، فوالله لقد جاءكم من يحزنكم ويعذّبكم ويعذّبه الله بكم، إن مِن ذُلِّ الإسلام وهلاك الدِّين أن ابن أبي سفيان يدعو الأراذل والأشرار فيجيبون، وأدعوكم، وانتم لا تصلحون، فتراعون...

فقام جارية بن قدامة السعدي فقال: يا أمير المؤمنين، لا عدمنا الله قربك، ولا أرانا فراقك، فنِعمَ الأدب أدبك، ونِعمَ الإمام واللهِ أنتَ، أنا لهؤلاء القوم فسرِّحني إليهم... ثم قام وهب بن مسعود الخثعمي....]([36]).

هكذا نلاحظ، أن أهل الكوفة لم يكن جميعهم ممن والى الإمام عليًا (عليه السلام) وشيعتُه، ففيهم المحبّ والمبغض، أي أنه لم يكن هناك إجماع في الكوفة على موالاة الإمام علي (عليه السلام).

وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد: [... بل وأهل العراق الذين هم جنده وبطانته وأنصاره فإنهم كانوا يعتقدون إمامة الشيخين إلا القليل الشاذ من خواص شيعته]([37]).

وبالتالي فإنّ جيش الإمام علي (عليه السلام)، كانت فيه ولاءات متعددة، وعناصر معاندة ومشاغبة.

يقول ابن أبي الحديد في ذلك: [... وبهذا ونحوه استدل أصحابنا المتكلمون على حُسْنِ سياسته وصحة تدبيره، لأنَّ من مُنِيَ بهذه الرعية المختلِفة الأهواء وهذا الجيش العاصي له، المتمرِّد عليه، ثم كسر بهم الأعداء وقتل بهم الرؤساء فليس يبلغ أحد في حُسْنِ السياسة وصحة التبليغ مبلغه...]([38]).

يضيف أيضًا: [... ومن تأمل أحواله (عليه السلام) في خلافته عَلِمَ أنه كان كالمحجور عليه لا يتمكن من بلوغ ما في نفسه، وذلك لأن العارفين بحقيقة حاله كانوا قليلين، وكان السواد الأعظم لا يعتقدون فيه الأمر الذي يجب اعتقاده فيه، ويرون تفضيل من تقدَّمه من الخلفاء عليه، ويظنون أن الأفضلية إنما هي الخلافة... ولا يرونه إلا بعين التبعيّة لمن سبقه، وأنه كان رعيّة لهم، وأكثرهم إنما يحارب معه بالحميّة وبنخوة العربيّة، لا بالدين والعقيدة، وكان (عليه السلام) مدفوعًا إلى مداراتهم ومقاربتهم ولم يكن قادرًا على إظهار ما عنده]([39]).

ويضيف: [فإنّ أصحابه كانوا فرقتين: إحداهما تذهب إلى أن عثمان قُتِلَ مظلومًا، وتتولاه وتبرأ من أعدائه، والأخرى -وهم جمهور أصحاب الحرب وأهل الغَناء والبأس- يعتقدون أن عثمان قُتِلَ لأحداث أوجبت عليه القتل، وقد كان منهم من يصرِّح بتكفيره. وكل من هاتين الفرقتين يزعم أن عليًا (عليه السلام) موافق لها على رأيها وتطلبه في كل وقت بأن يُبدي مذهبه من عثمان، وتسأله أن يجيب بجواب واضح في أمره، وكان (عليه السلام) يعلم أنه متى وافق إحدى الطائفتين باينته الأخرى وأسلمته، وتولَّت عنه وخذلته، فأخذ يعتمد في جوابه ويستعمل في كلامه ما يظن به كل واحدة من الفرقتين أنه يوافق رأيها ويماثل اعتقادها، فتارة يقول: "الله قَتَلَهُ وأنا معه". وتذهب الطائفة الموالية لعثمان إلى أنه أراد أن الله أماته وسَيُميتُني كما أماته.. وتذهب الطائفة الأخرى إلى أنه أراد أنه قَتَلَ عثمان مع قَتْلِ الله له أيضًا. وكذلك قوله تارة أخرى: "ما أمرتُ به ولا نهيتُ عنه:، وقوله (عليه السلام): "لو أمرتُ به لكنتُ قاتلاً، ولو نهيتُ عنه لكنتُ ناصرًا"، وأشياء من هذا الجنس مذكورة مروية عنه، فلم يزل على هذه الوتيرة حتى قُبِضَ، وكل من الطائفتين موالية له معتقدة أن رأيه في عثمان كرأيها. فلو لم يكن له من السياسة([40]) إلا هذا القدر -مع كثرة خوض الناس حينئذ في أمر عثمان والحاجة إلى ذِكْرِهِ في كل مقام- لكفاه في الدلالة على أنه أعرف الناس بها، وأحذقهم فيها، وأعلمهم بوجوه مخارج الكلام، وتدبير أحوال الرجال]([41]).

وبعد مقتل الإمام علي (عليه السلام) بايع أهل الكوفة وَلَدَهُ الإمام الحسن (عليه السلام)، وتبعهم في ذلك أهل البصرة والمدائن وباقي العراق والحجاز واليمن وفارس، وبعض كبار المهاجرين والأنصار، بينما رفض والي الشام معاوية ومَنْ معه مبايعته، كما لم يبايعه البعض، وهم من لُقِّبوا حينها "بالقعاد"([42]).

إلا أن الإمام الحسن (عليه السلام) وجد الناس قد تفرَّقوا عنه، وانقلب عليه معظم قادة جيشه، وكادوا أن يقتلوه([43]).

 فأُجبِر على القبول بالصلح مع معاوية، لينتقل بعدها الإمام الحسن (عليه السلام) إلى المدينة المنورة مع أهل بيته، حيث ما لبث أن قُتِل مسمومًا هناك...

وعندما سُئِلَ الإمام الحسن (عليه السلام) عن السبب الذي دفعه إلى تسليم الخلافة إلى معاوية، قال: [كرهتُ الدنيا، ورأيتُ أهل الكوفة قومًا لا يثقُ بهم أحد أبدًا إلا غُلِبَ...]([44]).

وهكذا نفهم ما حصل مع الإمام الحسين (عليه السلام) بعد أن أرسل أهل الكوفة في طلبه ومن ثم انقلبوا عليه.

وهكذا تظهر مدينة الكوفة عاصمة للقبائل العربية المختلفة الأهواء، التي تجمَّعت وبسرعة لخوض الحروب الكبرى ضد الفرس من جهة والبيزنطيين من جهة أخرى.

هذه المدينة التي قصدها الإمام علي (عليه السلام)، فكانت عاصمة الدولة الإسلامية، ومََقَرًًّا لخليفة المسلمين الذي حاول إعادة بناء الدولة الإسلامية على أُسس صحيحة بعد أن تلاعبت الأهواء بالدولة الفتيّة، وتزاحم أصحاب المآرب السياسيّة بهدف السيطرة على الخلافة، ومنهم معاوية بن أبي سفيان، لم تكن وفيَّة للإمام علي (عليه السلام)، بل انقلبت عليه وعلى أبنائه أحفاد الرسول (صلى الله عليه وآله).

هذا الغدر من قِبَل أهل الكوفة كان مضرب المثل حينها، حتى أن الأمويين أنفسهم تعاملوا مع الكوفيين على هذه الخلفية، فنجد معاوية يخاطبهم قائلاً: [والله إني ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا، ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمَّر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وانتم له كارهون]([45]).

وأيضًا عندما خاطب الحجاج الثقفي أهل الكوفة قائلاً: [إني أرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها] ([46]).

وهو ما ظهر حتى عند المنصور العباسي، الذي اتخذ من الكوفة العاصمة الأولى للدولة العباسية، إلا أنه سرعان ما نقل عاصمته إلى بغداد.

وهذا يدل على أن الحكّام أدركوا -أو أنهم كانوا يعلمون- أهواء أهل الكوفة وكيفيّة تشكّل قبائلهم وخلفيات زعمائهم، لذا تعاملوا معهم بالعنف والتهديد.

فالنتيجة أنه لا يصحّ الحكم على مدينة الكوفة حُكْمًا عامًا بالولاء أو الغدر، وإنما هم خليط متشعّب الأهواء والنزعات السياسية والقبلية، ومتعدّد المشارب، بين الموالين لآل البيت (عليهم السلام) كاليمانيين، والمعادين لهم كبعض القبائل الأخرى.

مضافًا إلى أنّ العالم الإسلامي -وفي بداية تشكّله- كان يتكوّن من السلطة الحاكمة التي كانت من قريش، والتي كان معادية أو تحمل الضغينة تجاه الإمام علي وأبنائه (عليهم السلام)، والعامة من القبائل التي كانت تسير وراء أهواء زعمائها وغاياتهم السياسيّة التي كانت تلتقي مع غايات ومصالح الحكّام بشكل عام.

هذا الواقع فرض نفسه مع استفراد معاوية بن أبي سفيان بالحكم وجعلها وراثة في صلبه، واستمرت مع بني مروان والعباسيين من بعدهم، حتى إن هذه الأُسر الحاكمة -من أمويّة وعباسيّة- كانت تسعى إلى السلطة فقط وبشكل كلي بعيدًا عن الدين، وهذا ما ظهر من خلال طريقة إدارتها للسلطة، فكانوا كالملوك لا كخلفاء الإسلام.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 

([1]) المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1987، ص 105.

([2]) ابن حوقل، صورة الأرض، بيروت: دار مكتبة الحياة، 1992، ص 215.

([3]) القزويني، آثار البلاد وأخبار العباد، بيروت: دار صادر، د.ت، ج1، ص251.

([4]) البلاذري، فتوح البلدان، بيروت: دار ومكتبة الهلال، 1988، ص270.

([5]) الزبيدي، تاج العروس، بيروت: دار الفكر، 1994، ج12، ص469.

([6]) الطبري، تاريخه، بيروت: دار الفكر، ط1، 1998، ج4، ص224-225.

([7]) الطبري، المصدر نفسه، ج4 ص225.

([8]) بروكلمن، تاريخ الشعوب الإسلامية، بيروت: دار العلم للملايين، ط15، 2002، ص108.

([9]) المرجع نفسه، ص116.

([10]) كي ليسترانج، بلدان الخلافة الشرقية، بيروت: مؤسسة الرسالة، ط2، 1985، ص101-102.

([11]) القزويني، آثار البلاد وأخبار العباد، مصدر سابق، ج1: ص359.

([12]) حسين البراقي، تاريخ الكوفة، بيروت: دار الأضواء، ط4، 1987، ص147.

([13]) ماسينيون، خطط الكوفة، ترجمة تقي بن محمد المصعبي، لندن، دار الوراق، ط1، 2009، ص41.

([14]) المرجع نفسه.

([15]) عبد المحسن شلاش، آبار النجف ومجاريها، مطبعة الراعي/النجف الأشرف 1366هـ/1947م.

([16]) حسين البراقي، تاريخ الكوفة، مرجع سابق، ص 148.

([17]) حسين البراقي، تاريخ الكوفة، مرجع سابق ، ص 148.

([18]) المرجع نفسه، ص 168.

([19]) لويس ماسينيون، خطط الكوفة، مرجع سابق، ص 44.

([20]) لويس ماسينيون، خطط الكوفة، مرجع سابق، ص 45-46.

([21]) المرجع نفسه.

([22]) المرجع نفسه، ص 150-149.

([23]) تاريخ الكوفة، المرجع السابق، ص 148-149.

([24]) ياقوت، معجم البلدان، ج4، ص 491.

([25]) لويس ماسينيون، خطط الكوفة، مرجع سابق، ص 18.

([26]) ماسينون، المرجع نفسه، ص 19-20.

([27]) ماسينون، المرجع نفسه، ص23-24.

([28]) السيد نور الله الحسيني المرعشي التستري، إحقاق الحق، بحث الإجماع، مكتبة المرعشي النجفي، ج1، ص40 و42 و45.

([29]) المرجع نفسه، بحث الإجماع.

([30]) ابن الاثير، الكامل في التاريخ، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط ، 1994، ج1 ص651.

([31]) محمد بن سعد الزهري (ت230هـ)، كتاب الطبقات الكبيرة، تحقيق علي محمد عمر، القاهرة: مكتبة الخانجي، ط1، 2001، ج8 ص128-129.

([32]) الطبري، تاريخه، بيروت: دار الكتب العلمية، ط1، 1407هـ، ج3، ص 117.

([33]) اليعقوبي، تاريخه، بيروت: دار صادر، د.ت، ج2 ص 195.

([34]) اليعقوبي، المصدر نفسه، ج 2 ص 195- 196.

([35]) اليعقوبي، المصدر السابق.

([36]) اليعقوبي، المصدر نفسه، ج4 ص 198.

([37]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 15 ص 185.

([38]) المصدر نفسه.

([39]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ج 7 ص 72.

([40]) لا يخفى أن هذا ما يراه ابن أبي الحديد، وقد أوردناه بلفظه وليس المقام مقام تقصي الحق في المسألة، وإلا كان خروجًا عن موضوع البحث (التحرير).

([41]) ابن ابي الحديد، المصدر نفسه، ج 7 ص 74.

([42]) ابن الأثير الكامل في التاريخ، مصدر سابق، ج 2 ص 445.

([43]) المصدر نفسه ج 2 ص 445.

([44]) المصدر نفسه، ج 2 ص 447-448.

([45]) انظر: المصنّف، ابن أبي شيبة الكوفي، ج7 ص251 .

([46]) انظر: تاريخ الطبري، ج5 ص41 .

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثامن والعشرون