السنة الحادية عشرة / العدد الثامن والعشرون / نيسان  2016م / رجب  1437هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

العلامة الشيخ حسن صادق (ره)

شاعر العربية وجبل عامل

د. حسن جعفر نور الدين

 

يندرُ ألا يكون أحد مشايخ "آل صادق" شاعرًا أو أديبًا أو عالمًا، فقد أصبحت هذه المقومِّات من صميم شخصياتهم، يتوارثونها أبًا عن جد، وهي في أساس جبلّتهم الفكرية والإبداعية، ولو كان علماؤهم -وهكذا سائر العلماء العامليين- يجيزون طباعة ما يبدِعون من قصائد، لكان لهم اليوم ثروة شعرية نقف عندها باعتزاز، ونِعمَ ما فعل ويفعل الأديب الأستاذ حبيب صادق -نجل المقدس الشيخ عبد الحسين صادق- في جمعِ هذه النتاجات وطباعتها، متعاونًا مع آل صادق الكرام، حتى لا تبقى هذه الدرر خبيئة في الأدراج أو الذاكرة، لأنها عندما تخرج من بين يدي صاحبها تصبح ملكًا للتاريخ وللأجيال.

ومن بين هؤلاء الشعراء المشهورين العلامة الشيخ حسن صادق المولود في النجف الأشرف سنة 1889م، عندما كان والده الشيخ عبد الحسين صادق من طلاب حوزة النجف آنذاك، ثم التحق بالحوزة الدينية التي أنشأها والده في الخيام عام 1901م بعد عودته من النجف سنة 1900م، ثم انتقل عام 1906م إلى النبطية مع والده وأفراد الأسرة بعد استجابة والده الشيخ عبد الحسين لدعوة أعيان النبطية وفي مقدمتهم الشيخ أحمد رضا والشيخ سليمان ظاهر، وذلك بعد وفاة إمامها السيد حسن يوسف مكي (ره).

وفي النبطية التحق الشيخ حسن بالمدرسة العلمية التي أنشأها إمام النبطية الراحل السيد حسن يوسف مكي، ثم جدّدها وتولى أمرها الشيخ عبد الحسين صادق فور إقامته واستقراره في النبطية، وفي سنة 1910م رحل الشيخ حسن صادق إلى النجف الأشرف لمتابعة دراساته الدينية، فدرس هناك على كبار المراجع والعلماء، منهم شيخ الشريعة الأصفهاني والسيد محمد كاظم اليزدي، وأخيرًا عاد إلى لبنان سنة 1927م، وعُقِدَ له أمرُ الإفتاء الجعفري في صيدا، جاعلاً من النبطية والخيام مركزَي نشاطه الديني والاجتماعي والأدبي حتى توفي سنة 1967م، ودُفِن إلى جانب والده في حجرة خاصة من مبنى الحسينية في النبطية.

العلامة الشاعر

اشتهر الشيخ حسن صادق بميزتَين طبعتا حياته وهما: الدِّين والشعر، فهو علاّمة بارز، ومن أبرز وأهم شعراء جبل عامل بل لبنان، وهذا ما تنطق به قصائد ديوانه الرائع "سفينة الحق"، وهو ما تبقّى مما كان للشيخ، حيث ضاعت وتلِفَت قصائد كثيرة، ولو لم يسارع الأديب الشاعر الأستاذ حبيب صادق بالتعاون مع أنسبائه، وخاصة الشيخ علي نجل الشاعر الراحل، لمَا كنّا اليوم أمام هذه التحفة الشعرية الجميلة.

يقع ديوان "سفينة الحق" في مِائتين وخمس وعشرين صفحة من القطع الكبير، مقسّمة على ستة أبواب، كل باب يتعلق بفنٍ من فنون الشعر، وقد افتُتِح بمقدمة للعلامة السيد محمد حسن الأمين، وتقديم للأستاذ حبيب صادق تضمَّن حياة الشاعر ودراسته الدينية ومكانته الشعرية.

والديوان درّة ثمينة حافلة بشتّى ألوان الشعر، وهي تكشف عن شاعرية مرهفة فذّة، فيها حسٌّ اجتماعي وإنساني عميق.

وكان الشيخ منذ يفاعته يحفل بالشعر ويهتم به، لذلك عُدَّ أحد أعلام الدين والأدب في جبل عامل منذ أن كان في الثلاثينات وحتى وفاته سنة 1967م يغرِّد أشعاره على منبر النادي الحسيني في النبطية في مناسبات شتى، خاصة في عاشوراء وأعياد المولد النبوي الشريف أو في خلواته الشخصية، مستجيبًا لقصائد تأتيه عفوَ الخاطر، ولا يجد نفسه إلا وهو يخطُّها بيدٍ تجيدُ صقل الحروف وصناعة الأشعار منها.

والواقع أن الدين والأدب حليفان تحملهما هذه العائلة العلمية، يدفعها حسٌّ اجتماعي وواجب ديني وأخلاقي لإقامة النشاطات، وأنا شاهد -على الأقل في العصر الراهن- على انعقاد كثير من حلقات التواصل والتعاضد بين جناحَي الوطن، مسلميه ومسيحييه.

ولعل الفترة التي نعيشها شهدت أكثر مراحل هذا التواصل الروحي الرائع، فغدَت النبطية اليوم في ظل علاَّمتها الحُجَّة الشيخ عبد الحسين صادق مدينة التسامح والتعايش الديني، وكان يقول لي الأديبان الراحل جورج جرداق وجورج شكور: أَحبُّ سويعاتنا عندما نكون في النبطية، حاملَين جروح الحسين وعلي، قصائد قلب ومحبة، صلة تعايش ونضال بين مكوِّنات الشعب اللبناني.

و"سفينة الحق" ديوان العلاّمة الشيخ حسن صادق أحد الإبداعات الرائعة الوطنية اللافتة، وساعة وقع بين يديَّ هذا الكتاب قررت أن أقرأه بصمت ووعي، إذ لم يصدف أن أقبلت على دراسة هذه الشخصية من جوانبها الأدبية، وهذا قصور مني أعترف به.

ساعة قرأت أول قصيدة من الديوان وعنوانها "يا نشء لبنان" أحسست بدافع قوي للمتابعة، فالشيخ (ره) كان يحترف الشعر وينهض عن قصائد للوطن والتاريخ والقيَم والدين، في لغة شائقة متينة وأداء جاذب، وصور موحية راقية، هكذا بدأ:

لا تبتئس حيث القِسِيُّ تحطم

 

 

ما في الكِنانة ما يروقك أسهم

 

ثم يندلق العطر من خوابي الزهر حتى آخر سهم في الكنانة، تمرُّ رهوًا هيّنًا على عناوين كمطالع النهارات، تنبلج عن صباحات مشرِقة تتحدث عن الذات والوطن والنبوة والحب والناس موتى وأحياء.

هو الشعر في ماضيه وحاضره، سِجِلُّ أحداثٍ تعتصر في الفكر والعقل والذاكرة والأحاسيس، ثم تنفتح على العالم كله بأشكال ونماذج وأنساق متجانسة تطرب وتحزن، تموت وتحيا، تحيي الروح وتُميتُها، تبعث على الأمل أو اليأس، تجرح وتضمِّد، هكذا أرى الشعر حتى في حديثه الجديد، وهكذا قصائد العلاّمة الصادق.

استوقفتني قصيدته العملاقة "سفينة الحق" وهي اسم على مسمى، وثيقة في الدعوة إلى التسامح الديني، وأمور الخلق، والقدر والقضاء، والسلم والحرب، وقضايا الوجود والحياة، والشرك والإيمان، والشرق والغرب، والبشر والملائكة، والحرية والعبودية، بل لعلها نادرة في الجرأة ووضوح الموقف، وهذه بعض من أبياتها([1]):

لا نعلم اليوم أين الغــــــد مرسـانـــــا
سفينة الحق حيث الشعب يخفرها
فكن لها أنت ربانًا يــســيّــرهــــــــــــــا
وما رميت ولكن الإله رمى
يا سيد الرسل ما للرسل مثلك من
فما لعيسى حواريون مثلهم
أما الإمام (عليٌّ) فهو أفضلهم
لولاه ما قام للإسلام قائمة
ولا بدت شجرات العلم وارفـ
خلائف لرسول الله ما طلعت
جاؤوا ثمانية من بعد أربعة
فهم أولو الأمر في تبيانه وهم الأنــ
يا ربّ صلِّ على المختـ
واحفظ سراة العلى والعرب قاطبة

 

 

لكن نسير وباسم الله مسرانا
هيهات يهدم منا الدهر بنيانا
بحكمة ويدين الأمر إن دانا
لولا يد الله ما كان الذي كانا
صحبٍ رجاح مقاديرًا وأوزانا
أشاوسٌ حلّقت للمجد عقبانا
طرًا وأسبقهم بالله إيمانا
ولا سمعت به دينًا ودَيّانا
ـة الظلال باسقة طلعًا وقنوانا
شمس على مثلهم في عصر أولانا
أئمة نصبوا للعدل ميزانا
ـوار ضاءت بساق العرش أزمانا
ـار والصحب زدهم منك رضوانا
واحفظ لنا الوطن المحبوب لبنانا


 

هكذا يتجلّى إيمانه العميق بالرسل وأئمة آل البيت ^، والأمة العربية ولبنان في أبيات تمتاز بالقوة وهيبة الرويّ وسلطان القافية، وهو إذ يشير إلى ذلك في أجواء بلاغية موحية، إذ تحتشد في القصيدة ألوان الطباق والجناس والرموز والكنايات التي تحدّد وجهة القصيدة وسمتها المعنوي والبلاغي، هكذا في هذه اللغة العذبة تتجلى عبقرية التسامح والإخاء في أداء شعري خلاب وانسيابي وارف، هي سجيّة هذا الشيخ الزاهد.

ويعبق في أنفي أريج "جزين" وصليبها الخلاق وشلالها المتوثب اللؤلؤي وشاعرها الملهَم "بولس سلامة" في قصيدة شيخ الزاهدين العلاّمة الشيخ حسن صادق "الصراط المستقيم" مكرِّمًا فيها شاعر الألم والكبرياء بعد أن نشر ملحمته الرائعة "عيد الغدير":

بسمة الصبح في معالم لبنان

 

 

انفحيني نسيمك العنبريا([2])

 

جميع ألفاظ هذا البيت ترمز إلى الحب والحنان والرواء والإجلال، وهي قيم أصيلة في شخصية الشاعر الفذ، ثم يهلُّ الطيب من قارورة العطر في عالم موسيقي ماتع، وإنساني محض، وتاريخي موثق، ووجداني صميم، من خلال قصيدة من أبياتها:

ضمّخي وفرةَ الزمان بأنفا
وأْذَني للهزارة في سرحة الـ
بولسُ الهاشميُّ إنَّ سريرًا
تصطفي أنت هاشمًا من قريشٍ
كل ندبٍ([3]) منهم إمامٌ من الـ
إيهِ يا ناسخَ القريض بمدح الآ
ما ترنمتَ فيه إلا أماط البَـ
إن قلبًا آثرْتَهُ عيسويًا

 

 

سِ الخُزامى تضوع نشرًا ذكيا
وادي طليقًا يُطارح القمريّا
صرت منه إخاله أمويا
وتوالي من وِلدِه العَلويّا
ـلّه على الخلق هاديًا مهديا
لِ بوركتَ شاعرًا عبقريا
ـسَماتِ العِذابَ من شفتيا
إِي وعيسى آثرْتَهُ أحمديّا

 

لعلها توأم قصيدة "سلامة"، تشيع منها الفخامة والريادة والجمالية، روي شائق، وهكذا قصائد الرسول وآل البيت تتسابق فيها ألفاظ الفخامة لتأخذ مكانها في سجل الخالدين، ثم يشير علاّمتنا إلى محبة "سلامة" للرسول وآل بيته المكرمين.

فما أجلَّ هذه النداءات تطلقها شفتا وقلب شاعر عشقَ آل البيت وكان أكثر الناس قربًا من واحة الحسين في النبطية قلبًا وجغرافيا، وهو في ما ورد شاعر الأريحية الخصبة والحجة القاطعة والمنطق السليم والسر الجهير، في أعماقه حنين إلى أمة موحدة.

وما أشد ما تنطق قصائده القومية موازاة بما نعانيه اليوم، ففي القصيدة التي ألقاها الشاعر سنة 1946م في حسينية النبطية في ذكرى المولد النبوي الشريف، وذلك بعد جلاء الجيوش الأجنبية عن أرض لبنان، ومطلعها([4]):

حاضر الأمر وماضيه سواء
نجتلي عيد جلاء رائعًا
تعزف الأنغام من أوتارنا

 

 

ما الأهازيج وهذي الخيلاء
فمتى عن صدأ القلب الجلاء
لحَّنتها بلغاها السفراء

 

يقول:

لم نقم بالقسط مما ساهمت
أرخصتها مُهَجًا غالية

 

 

فيه بالأرواح منا الشهداءُ
ولها منا الأكاليل جزاءُ

 

وتختلط الحكمة بالموعظة الوطنية الصادقة في حديثه عن جلاء الجيوش الأجنبية عن لبنان، رغم قناعة الشيخ الشاعر أن الجلاء كان اسمًا فارغًا من محتواه، وأن المستعمرين خرجوا من الباب ليدخلوا من الشباك مكرّسين استعمارهم البغيض، وهذا ما نجد تصويره في أبيات القصيدة، ومنها قوله:

لم تنلْ منَّا أمانيها فهل

 

 

هوّن الخطب عليها الخطباء

 

وقوله أيضًا:

فاغنموا ما طاب من دنيا المنى

 

 

لكم الشعب عبيد وإماء

 

أرأيت هذا الألم العميق مما آل إليه أمر الأمة والوطن من ذل وهوان.

وهو في هذا السياق يتمسك بخاتم الأنبياء الذي لم يؤذَ أحدٌ مثلُه من بني قومه:

يا نبيًّا مثله ما أُوذِيَتْ
حسبُكَ الله وما أودعته
كم تحمَّلتَ الأذى في نشرِها

 

 

أنبياءٌ بالهدى من قبل جاؤوا
سمحة غرًا معانيها قِواءُ
حيث لم يعرفْكَ صبحٌ أو مساءُ

 

الله الله يا شيخنا، وكأنك تدري حال أمتك، سيّان أمرها في الماضي والحاضر، وكم تحمل هذه الأبيات من وصف دقيق لحالها وحال الوطن عندما يعزف ألحاننا السفراء كما يعزفون اليوم تمامًا، مصادرة القرار والحرية، وأي جلاء هذا الجلاء.

وتجيش الروح القومية في نفس لا تقبل الهوان، ويا بلاد الشام اسعدي بشاعرك الأثيل، ألستِ ولبنان توأمَي روح وجسد، ينبضان في قلب واحد، وكأن "برَدى" من روافد "الليطاني" شيخ الأنهار([5]):

ما زرتُ "جِلَّقَ" واجتازت ركائبُنا
إلا وجاشت بي الأشجانُ صاخبةً
يشيم طرفي قبورًا أم نجوم سما

 

 

في ميسلونَ سقاها الغيثُ هتّانا
واستوحت الأملَ المنشودَ ذِكرانا
ضاءت بها أم لهذا الملك تيجانا

 

يكفيكِ محبةً لكِ قوله في قصيدة أخرى([6]):

مشت على ما قلت أزمان

 

 

يفديك يا جلق لبنانُ

 

 

إنها النخوة العربية يعضدها وقوفه إلى جانب مصر في معركة القناة سنة 1956م، مشيدًا بزعميها الخالد جمال عبد الناصر في معانٍ راقية موحية([7]):

جمال العروبة يا مشــحذ الْـ
وملهبَ فينا الحمية تغلي الْـ
وملقحها غارة بوركت
إذا ما يجسُّ العرين حما
وخضها بيعرب حربًا عوانًا
ألست من القادة الذائديـ
ألا إن تأميم مصر القنا
به يتقلص ظل الربيـ
فتمسي ولا من ظهيرٍ لها

 

 

ـعَزائم مرهفة الـمُـنْصُلِ
ـصدور بها غلية المرجل
شعوا أغامت سما الكرمل
كَ فَصُلْ صولة الأسد المشبل
إذا الوقت حان ولا تمهل
ـنَ عن حوضها بالقنا الذبَّل
ة بساعد قائدها الأمثل
ـبةِ صهيون عن شرقنا المعتلي
وتنساق في ذلة المثل

 

كان هذا حلمًا وما زال، أن يزول السرطان الصهيوني عن أمتنا ولكن..

أمنيات وأمانٍ كنا نحلم بها، ونتوقع حصولها، أمنيات بحجم الكرة الأرضية كانت تدغدغ نفوسنا، ثم تلاشت على صخور التمزق والهوان العربي عندما أَوْكَل العرب أمورهم إلى المستعمِر الأميركي وأصبحوا خدام أعتابه:

عَمِيَ العاهلُ الأميرِكي عن الـ

 

 

ـحقِّ فما بالُ شعبِهِ يتعامى

 

وأميركا الماضي هي أميركا الحاضر عدوة الشعوب والحرية.

وفي قصيدته "الشعر" التي ألقاها في الاحتفال الكبير الذي أقيم في الكلية العاملية تكريمًا للشاعر بولس سلامة إثر صدور ملحمته "عيد الغدير" ينتقد سماحة الشيخ ما نشكو منه نحن اليوم، من انصراف الساسة إلى أمورهم الشخصية وسعيهم وراء المناصب ليس إلا:

هذي ولاة الأمر حقًا لا الأولى
يروم سلطانًا ولو بسبيله

 

 

كلٌّ يحوك لرأسه إكليلا
محوَ العروبة كان ذاك قليلا([8])

 

وفي قصيدة ألقاها في ذكرى المولد النبوي الشريف سنة 1947م، يؤكد على موقفه، غياب العدل والقناعة وشيوع ظاهرة الطمع وحب السلطة لدى السياسيين، ويقارن بين أزمنة يصبو إليها وواقع يعيشه([9]):

أَزْمانُ أعلاق الفؤا
لم تُخْلِقِ الأيامُ جِدْ
وشجَتْ عروشًا بالصميـ
وكذا جذور الصيف يز

 

 

د كما علمتِ بها بواقِ
دَتها ولا جفو الفراقِ
ـم وما تعاهدها سواقِ
هو نبتُها من غير ساقِ

 

***

أَزْمانَ أنتِ مُناي من
ذا يحتسي معسولها

 

 

دنيا ملوَّنة الخِلاقِ
شهدًا وذا صابَ المذاقِ

 

ويعمُر الديوان بالقصائد الإيمانية المتعلقة بالله عز وجل وتعاليمه، أقتطعها من القصيدة السابقة نفسها، وعنوانها "ولاة الأمر" وما أكثر القصائد التي تلهج بمحبة الله والتوكل عليه والسير وفق تعاليمه([10]):

يا من إليه الأمر ير
أنت الذخيرة لي إذا
والمفزع المأمول إن
أظمًا، وحوضُك منهلٌ
وولاءُ آلك والوصيْـ

 

 

جع كله يوم المساق
ما التفّ بي ساقٌ بساق
ما حشرجت عند السياق
للواردين وأنت ساق
ـيِ مزيج لحمي والعَُراق([11])

 

وفي حياته المفعمة بالتقوى والوعي الوطني والإنساني، يخاطب شبيبة لبنان والنشء الذي سيتسلم السلطة والأمر فيما بعد، يخاطبه واعظًا موجّهًا محذّرًا من التفتت والانقسام، منبِهًا من الحسّ الطائفي محذّرًا منه، وكأنه كان يعلم ما سيصبح عليه الأمر فيما بعد، وجاء هذا في قصيدة ألقاها سنة 1942م في حسينية النبطية بمناسبة ذكرى المولد النبوي الشريف([12]):

يا نشءَ لبنانٍ ونورَ بطاحِه الـ
لكَ يا فداكَ أبٌ وأم في الغد الـ
فلتبنِ لكن من جديدٍ لا على
لا تلحظِ الماضي وما عاثت به

 

 

ـفيّاح يأرج بالرجاء ويبسم
آتي مقادير الأمور تُسلَّم
أسس الزعانفة الذين تقدموا
أيدي التفرّق أنت عنها تُكرَم

 

تلك هي وصاياه للشباب الناهض، أن يتحرك ويبني من جديد متجاوزًا الماضي ومسؤوليه، إنها الإرادة والرغبة في التجديد وتجاوز الماضي المترهّل.

ومن قصائده الدينية في ذكرى عاشوراء، يستعيد فيها تاريخ كربلاء ونضال الحسين (عليه السلام) في نونيةٍ بحرها الكامل([13]):

يا آل بيت محمد أنا عبدكم
بل إني عبد عبدكم وكل مشايع
إني فطرت على محبتكم وقد
ما إن ذكرت مصابكم وذكرت تنـ
وترنّم الطاغي يزيد وقوله:
إلا تخبَّطني الأسى وتقرّحت
أتعاقب الأيام تنسيني وقو
حسرى كما شاء العدو قد ارتدت

 

 

قرّّت بذلك إن قبِلت عيوني
لكم تولاكم ولاء يقين
شابت بحمد الله فيه قروني
ـعاب الغراب على ربى جيرون
"فلقد قضيت من النبي ديوني"
مني العيون وجنَّ فيه جنوني
ف عقائل للوحي عند لعين
ثوب المذلة ضافيا والهونِ

 

أما موشحاته فإنها أندلسية عربية كأنك مع ابن زيدون، فاسمعه في هذا النسيج من الموشّح المتنوّع الغني الموحي([14]):

طائر القبْج متى كان يصيدْ
قد قصصنا إثره بيدًا فبيدْ
جوهري الذات يأبى وردها
فهو مفطور على شاكلةٍ

 

 

ونسبناه وليدًا عن وليدْ
فوجدناه صريعًا بالوصيدْ
ولو انجرّ إلى حزّ الوريدْ
قد قضى الخالق فيها ما يريدْ

 

ومنه إلى باب الغزل، وما أكثر قصائده في هذا المضمار، قصائد فيها من البوح الشفّاف المتّزن، ومن الصوفية الظاهرة([15]):

إذا ما الليل مدّ رواق سجف
وأسفرت الكواكب زاهراتٍ
عطفت بناظري لبنات نعشٍ
بعيشك يا كواكب خبرينا

 

 

من الظلماء والتحف السكونا
فيُبهج حسن منظرها العيونا
أُمَثِّل حالة فيها وفينا
بما هو عندك الخبر اليقينا

 

غزلٌ راقٍ جميل، كغزل أجداده الشعراء الأقدمين، وهو من النوع التخيُّلي.

ونبقى مقصّرين في استقصاء مظاهر شعر علامتنا، فهي أكبر من أن تختصرها صفحات، أو تختزل بعرض مجتزأ قصير، إلا أني حاولت الإضاءة على ألوان من شعره، مكتفيًا بالقليل لعله يغني عن الكثير، أو يعبّر عن الشاعر وأنماط شعره وعالمه الأدبي، وهو في كل ما نظم شاعرٌ فذّ، بل من أبرز شعراء الوطن، وليس الجنوب فقط.

وهو يلفت أنظار القرّاء والمجتمع بشكل عام أنّ قسمًا كبيرًا من رجال الدين عندنا شعراء، بل منهم شعراء يشار إليهم بالبنان وتُحنى لهم الهامات، وفي طليعتهم هذا الشيخ الزاهد، وما ورد في ديوانه قليل من كثير مما كان لهم. إذ فُقد قسم كبير من قصائده وذلك ناتج عن موقف معظم رجال الدين الذين كانوا يتمنّعون عن طبع قصائدهم لظنّهم أن هذا يتناقض مع الوظيفة الدينية ورصانتها ودورها في التوجيه الديني والأخلاقي.

تلك هي الرحلة مع شيخ عاملة، حاولتُ قدرَ الإمكان الإضاءة على جانب من شخصيته الشعرية، وأرجو أن أكون قد وفّقت، وما توفيقي إلا بالله العزيز الحكيم.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) الديوان ص33.

([2]) الديوان ص111.

([3]) رَجُلٌ نَدْبٌ : سَرِيعٌ إِلَى الفَضَائِل.

([4]) الديوان ص47-51.

([5]) الديوان ص33.

([6]) الديوان ص66.

([7]) الديوان ص84.

([8]) المصدر نفسه ص115.

([9]) الديوان ص55.

([10]) الديوان ص55.

([11]) العراق: العظم أو ما جرّد عنه اللحم.

([12]) الديوان ص27 و32.

([13]) الديوان ص72.

([14]) الديوان ص140.

([15]) م50 ص101.

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثامن والعشرون