العدد الثالث / 2005م  / 1426هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

ميزان التفسير وعدّة المفسر

الشيخ إبراهيم الأنصاري*

مقدمة:

ذكر سيدنا الأستاذ الطباطبائي (قدس سرّه) في مقدمة تفسيره القيّم (الميزان): أن المفسّرين باعتبار ما عندهم من المسلّمات العقلية أو النقلية، كل واحد منهم فسّر القرآن طبق مسلكه، فالمحدّثون نظروا إلى الأحاديث الموجودة بأيدهم - مع اشتمالها على الغثّ والسمين والأكاذيب والإسرائيليات والمتشابهات وغيرها - نظرهم إلى القرآن في حجيتها سندّا ودلالةً، مع ما في إسنادها من الدسّ والكذب والإرسال، وما في دلالتها من الإجمال والتشابه والسُّقط وغير ذلك، مضافًا إلى اشتمال مداليلها على مطالب منكرة مخالفة لصريح القرآن.

 فانجرّ الأمر إلى جعل القرآن تابعًا للحديث بعدما كان متبوعًا، والنظر إلى الحديث حاكمًا على القرآن بعدما كان شارحًا، وتبدلّه إلى مؤول بعدما كان مفسّرًا.

ثم جاء بعدهم أصحاب الكلام على اختلاف آرائهم فحملوا على القرآن ما لا يتحمّله من الآراء السخيفة والمتناقضة، على نحوٍ كأنّ القرآن عند أهل كلّ فرقة لم ينزل إلا لتأييد مذهبهم.

ثم دخلت الفلسفة اليونانية وبرع فيها جماعة من المسلمين فتعاملوا مع القرآن مثل من سبقهم من تأويل القرآن وتطبيقه على آرائهم.

وكذلك كان أمر المؤرخين والقصّاصين وغيرهم من أصحاب العلوم.

وفي القرون الأخيرة جاء جمع من المثقفين المتعبّدين بالآراء الجديدة والنظريات المادّية المبنيّة على الحسّ والتجربة وإنكار ما خالفها كائنًا ما كان، وبدأوا بتأويل القرآن على طبق ما تسلّموه من النظريات الجديدة، وتطبيقها على الآيات بالتكلّفات الباردة والتأويلات غير الملائمة.

وحاصل عمل الجميع عرضُ القرآن على آرائهم، مع أن الواجب عرض الآراء على القرآن.. إلى آخر ما ذكره (قدس سرّه).

تفسير القرآن بالقرآن، هل هو مجرد شعار ؟

أقول : من القديم شاع بين المفسّرين أنهم حين يشرعون بالتفسير، فإنهم ينتقدون السابقين بمثل ما ذكره سيدنا الأستاذ، ويدّعون لأنفسهم التخلّص عن هذا النقص، ولكنّهم بمجرد الخوض في التفسير يكرّون على ما فرّوا منه ويزيدون على السابقين في ما اعترضوا به عليهم.

كما أنه قد نسب البعض إلى سيدنا الأستاذ (قدس سرّه) أنه لم يلتزم بما تعهّده من تفسير القرآن بالقرآن، بل أراد تطبيق مسلّماته على القرآن تحميلاً عليه بما لا يتحمّله وتأويلاً لا تفسيرًا.

إشكال وجوابه:

لا ريب أن التفسير يحتاج إلى العلم وليس من شأن الجاهل أن يشتغل به لقوله تعالى {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}([i])،وغيرها من الآيات المخصِّصة لعلم القرآن بالعلماء والخواصّ ونفيه عن العموم كما سيأتي عن قريب.

كما لا ريب أن كلّ عالم عنده مسلّمات من العلم الذي تعلّمه سواء كان فقيهًا أو أصوليًا أو متكلّمًا أو فيلسوفًا أو غير ذلك.

كما لا ريب في أن ما نراه من المسلّمات عند خصمنا، يراه هو من البرهانيّات أو البديهيات، وبالعكس، بمعنى أن ما هو من الأمور الثابتة البرهاينة عندنا، ينظر إليها الخصم بنظر الشكّ ويراها جدليات أو مسلّمات أو مغالطات.

فالمفسّر إن لم يعتمد على ما عنده من العلوم واكتفى بالترجمة الظاهرية لا يكون ما ذكره تفسيرًا، أو لا يكون تفسيرًا علميًا، بل يكون شيئًا شبيهًا بالترجمة، وإن أراد التجزئة والتحليل في تصوّرات القرآن، والإثبات والنفي في تصديقاته، فهذا لا يكون خارجًا عن الاعتماد على ما عند المفسّر من العلم، لأن المقدّمات التي يستعملها في كشف المجهولات التصورية أو إثبات التصديقات القرآنية ونفيها كلّها مقدّمات ثابتة في العلم السابق عليه، وتكون الاستعانة بها في كشف مجهولات القرآن مستلزمة لتطبيق القرآن على آراء ذلك العلم من فقه أو أصول أو فلسفة أو كلام أو حديث أو غيرها، فيكون تفسيرًا بالرأي.

فكيف يمكن التوفيق بين هذين الأمرين ؟

المعيار لتمييز الحق عن الباطل:

ولكن يمكن الجواب على هذا الإشكال بأن المفسّر إذا بحث في كل واحدة من المقدّمات التي سبقت تفسيره بحثًا موضوعيًا، ثمّ جعله مبنىً للبحث الذي يترتب عليه، وهكذا... فهذا البحث لا يكون جدليًا ولا مغالطيًا، كما أنه لا يكون من قبيل تطبيق القرآن على الرأي، بل هو تطبيق للرأي على القرآن، إذ كما أنه لا ينافي حقيّة الحقّ مخالفته لرأي المفسّر، لكن موافقته لآرائه ليس علامة للباطل، ولا مظنّة له.

وهذا هو الجواب بصورة إجمالية، وأما الجواب التفصيلي فيتضح من خلال عدّة نقاط، وهي :

أولاَ: الحقّ الذي تقتضيه المباني والضروريات الثابتة في مذهب الشيعة بل مطلق العدلية، أن الخالق العادل الحكيم الذي أنزل الدين ليتديّن به الناس ويعملوا به لو جعله على نحوٍ أمكن خفاؤه على أكثرية الناس أو على جماعة كثيرة معتدّ بهم خصوصًا العلماء المنصفون، فهذا ينافي حكمته تعالى من إرسال الرسل وإنزال الكتب وتشريع الشرائع والأحكام.

بل كان مقتضى حكمته أن يجعل في باطن كل شخص من العقل وفي خارجه من الشرائط الاجتماعية ما يمكّنه من الخروج من الكفر والباطل في الجملة والاهتداء إلى الحقّ كذلك تحفظًّا على غرضه من الدين.

ثانيًا: إن مقتضى عدله تعالى أن ينصب من الطرق الظاهرية والباطنية ما يوصل طالبيه إليه ولا يخيب أمل الراجين والمخلصين في طريقه، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان!

وثالثًا: على فرض عدم اقتضاء الحكمة ، التي هي مقبولة عند جميع الفرق الإسلامية حتى الأشعرية ، وعدم تمامية التمسك بالعدل المتسالم عليه بين جميع الفِرَق عدا الأشعرية، فمقتضى اللطف الذي تعتقده الإمامية وجوب نصب الطرق والمسهّلات والمقرّبات التي توصل طالب الحق إليه، سواء كان بالخواطر النورانية أو بالإلهامات المعنوية أو بغير ذلك من الوسائل الخارجية.

رابعًا: إن مقتضى قوله تعالى {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}([ii])، وغيره من الآيات والروايات المتواترة أنه تعالى يساعد طالبي طريقه ويوصلهم إلى الحقّ نوعًا، بحيث لا يغيب الحق عن الأكثرية ولا يكون المحجوبون عن الحقّ والقاصرون من الجُهّال كثيرين، بل تبقى جماعة قليلة جهّالاً قاصرين، وأما أكثرية الذين راموا الحق وسعوا في طلبه، فإنهم يصلون إليه، ويهتدون إلى الغاية الحقيقية من خلق العالم.

فمن كان من أهل العلم وبحث عن أصول الدين وفروعه وعن المذاهب والآراء بحثًا موضوعيًا، لا يحجب عنه الحق، وينفتح له الباب ويلج فيه، وبالنتيجة يحصّل المقدمّات والمباني التي يجعلها أصولاً موضوعية ومبادي تصورية أو تصديقية لتفسيره، ويكون تفسيره مضافًا إلى كونه علميًا وتحقيقيًا، مصيبًا موضوعيًا ومبنيًا على الإنصاف وواصلاً إلى الحق والحقيقة ومصونًا عن الانحراف والضلالة،

وهذا الإشكال والجواب يأتيان في جميع العلوم .

مواد المعاني وصورها أو غايتها؟

وذكر سيدنا الأستاذ الطباطبائي (قدس سرّه) أنّ فهم كلامه تعالى لا يمكن مع الجمود على المعاني المأنوسة المادّية.

ونحن نبيّن مراده بذكر مقدمات:

المقدمة الأولى: إن الدّاعي الأصلي إلى وضع الألفاظ، هو الحاجة الاجتماعية إلى التفهيم والتفهّم، والاجتماع إنما تعلّق به الإنسان ليستكمل به في الأفعال المتعلقة بالمادة ولواحقها، فوضعت الألفاظ علائم لمسمّياتها التي نريد منها غايات وأغراضًا عائدة إلينا.

بيانه: أن الغرض من وضع كلمة [الميزان] مثلاً تفهيم ما يحصل به الغرض من الميزان، وهو تعيين مقدار الشيء، ولكنه في الأزمنة السابقة كان الميزان بشكل خاص مع مادّة مخصوصة، بحيث صار أنس الذهن بالمادّة المخصوصة سببًا لنسيان المعنى الأصلي المتقوّم بالغرض، بحيث إذا ذكرت هذه الكلمة يتبادر إلى الذهن الشّكل الخاص والمادة المخصوصة التي كانت رائجة حينذاك.

المقدمة الثانية: إن هذا الأنس يصرف المعاني إلى الفرع ويُنسى المعنى الأصلي الذي كان مبنيًّّا على الأغراض، بحيث لو وُجد مصداق آخر محصّل لذلك الغرض ولكن بمادّة أخرى أو بدون المادة بأن صنعوا ميزانًا آخر بمادة جديدة، أو استعملوا كلمة [ السمع] و[البصر] في موردٍ لا وجود للعين المادي والأذن فيها ، فإن الأذهان العادية تستغربه وتستنكره، فلو لاحظنا مواد المعنى ربما تصل التغيّرات إلى حدّ لا يبقى شيء من مواد المعنى ولا هيئته باقية في المصاديق الجديدة.

فإن كان الموضوع له هو الشيء في غايته، كان انطباق اللفظ على الشيء في مادته الجديدة ممكنًا لبقاء الغرض في المصداق الجديد، وإن كان الموضوع له المادّة والهيئة، فبين المعنى الجديد والقديم تباين كامل، فلا معنى لتطبيق الاسم عليه.

المقدّمة الثالثة: إن طريقة المفسّرين تختلف، فبعضهم يُفرط في تفسير الألفاظ بالجهات المادّية والغفلة عن الجهات المعنوية والأغراض مثل الأخباريين وغالب الأدباء واللغويين، فإما يأخذون بالمعاني المادية فيقعون في التشبيه والتعطيل والكفر والزندقة، أو يفسّرون القرآن بمعانٍ مضحكة، أو يحكمون بكون أكثر الآيات متشابهة، لعدم ظهور معانيها بناء على مبانيهم المادية وعدم فهمهم للتفسير الصحيح أو عدم قبولهم له.

ثم إنه قد فرّع على هذه المقدّمات أن المفسّر له أن يختار أحد الطريقين :

الأول: أن يبحث عن الموضوع المبحوث عنه في الآية بحثّا علميًا موضوعيًا عميقًا، ثم يأتي إلى تفسير الآية ويحملها على المختار في بحثه.

الثاني: أن يفسّر القرآن ويستوضح معنى الآية من سائر الآيات المشابهة أو المشتركة معها ويشخّص مصاديقها ويجعل بعضها مفسّرًا للبعض، وهذا هو التفسير الصحيح الذي يرتضيه القرآن دون الأول.

يتبع =

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  أستاذ العقائد في الحوزة العلمية في قمّ المشرفة.

[i] - العنكبوت الآية 43 .

[ii] - العنكبوت من الآية 69.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث    أرشيف المجلة     الرئيسية