العدد الرابع/ 2006م  /1427هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال =

البعد الأخلاقي

لقد تجسدت الأخلاق المحمدّية في واقعة الطفّ بأروع معانيها، فقد تعامل الحسين (عليه السلام) بالأخلاق الكريمة حتى مع أعدائه الذين أرادوا القضاء على الإسلام بما يمثّله من خلق رفيع، فأعاد الحسين (عليه السلام) إليه الحياة بتعامله وخلقه العظيم، وروى شجرته الطيبة من دمائه الزاكية ودماء آل بيته الطاهرين وأصحابه المنتجبين، فكان سلام الله عليه يحسن إلى المسيء ويعطي البخيل ويحلم عن المبغض والمعاند، وهو في أحلك الظروف وأصعبها، ورغم ما حلّ به وبأهل بيته من مظلومية ومصائب، لأنه قام من أجل إحياء دين جده المصطفى الذي حصر بعثته بإتمام مكارم الأخلاق، فقد جسّد ريحانة المصطفى صلوات الله عليه في هذه الملحمة معاني العزة والإباء والشجاعة والكرامة والإيثار والتفاني والثبات على المبادىء والصبر على النوائب والتضحية بالغالي والنفيس في سبيل الدين والوقوف بوجه الظلم والفساد، فقد كان همّه (عليه السلام) هداية الناس وإنقاذهم من الضلالة وحيرة الجهالة، وقد تأذّى (عليه السلام) لحال أولئك الناس الذين اجتمعوا من كل حدب وصوب لقتاله، لأنهم سيدخلون النار بسببه، وقد برزت هذه الأخلاق في عدّة محطات ومواقف من واقعة الطف, فقد جاء في بعض الروايات أنه لما جاء الحر بن يزيد الرياحي على رأس ألف فارس لمحاصرة الحسين وأخذه إلى الكوفة بأمر من ابن زياد، ودبّ العطش في جيشه وخيله، سقاهم الحسين ورشف خيلهم ترشيفًا، فقال (عليه السلام) لفتيانه: (اسقوا القوم وأَرْوُوهم من الماء، ورشّفوا الخيل ترشيفًا)، ففعلوا وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس، فإذا عبّ فيها ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا عزلت عنه وسقوا آخر، حتى سقوها كلها. فقال علي بن الطعان المحاربي: (كنت مع الحر يومئذ، فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين عليه السلام ما بي وبفرسي من العطش قال: (أنخ الراوية أي السقاء، ثم قال: يا ابن أخي أنخ الجمل، فأنخته فقال: اشرب، فجعلت كلما شربت سال الماء من السّقاء، فقال الحسين عليه السلام: اخنث السقاء - أي اعطفه-، فلم أدر كيف أفعل، فقام فخنثه فشربت وسقيت فرسي)(23).

 وفي ساحة المعركة أسرع إلى جون الحبشي مولى أبي ذر الغفاري عندما سقط شهيدًا على أرض كربلاء ليعانقه، كما أسرع إلى مصرع ولده علي الأكبر، ودعا له بأن يبيّض الله وجهه وأن يطيب ريحه وأن يحشره مع الأبرار ويعرّف بينه وبين محمد وآله صلوات الله عليهم، مجسدًا لقول جده (صلى الله عليه وآله) لا فضل لأبيض على أسود إلا بالتقوى ويحدث الباقر عن أبيه السجاد أنه كان يفوح من جسد جون رائحة المسك(24).

وكيف لا يكون كذلك وهو ريحانة المصطفى (صلى الله عليه وآله) وهو الذي حيّته جارية من جواريه بطاقة ريحان، فقال لها: أنت حرّة لوجه الله تعالى، فقيل له: تجيئك بطاقة ريحان لا خطر لها فتعتقها؟ قال: كذا أدّبنا الله، قال الله تعالى {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا }( سورة النساء 86.) وكان أحسن منها عتقها(25).

البعد العسكري

اتخذ الإمام الحسين (عليه السلام) عدّة تدابير عسكرية إجراءات وقائية لحماية أهل بيته والاستعداد لمواجهة الأعداء:

(الأول): التعبئة المعنوية التي وصل إليها أصحاب الحسين (عليه السلام)، فقد كان أنصاره يتمتعون برباطة جأش وروح عالية وإيمان بالمبدأ الذي يقاتلون من أجله لا يشوبه أدنى شك بعد أن اختزلتهم الطريق وبعد أن اختارهم من بين الكثيرين الذين التحقوا به في بداية المسير، ولم يكن (عليه السلام) يقبل كل أحد ليكون من أنصاره ولا حتى المعونة من أحد بمال أو فرس، كما يشهد لذلك قضية عبيد الله بن الحر الذي جاء إلى الحسين (عليه السلام) بعد أن استنصر القوم، فقال للحسين (عليه السلام): يا بن رسول الله، والله، لو نصرتك لكنت أول مقتول بين يديك، ولكن هذا فرسي خذه إليك فو الله ما ركبته قط وأنا أروم شيئا إلا بلغته، ولا أرادني أحد إلا نجوت عليه، فدونك فخذه، فأعرض عنه الحسين (عليه السلام) بوجهه، ثم قال: لا حاجة لنا فيك ولا في فرسك. {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}( الكهف 51) ولكن فرّ، فلا لنا ولا علينا، فإنه من سمع واعيتنا أهل البيت ثم لم يجبنا، أكبّه الله على وجهه في نار جهنم(26).

(الثاني): إصلاح السلاح، فقد قام (عليه السلام) مع أصحابه بشحذ السيوف وإصلاحها(27).

(الثالث): تقريب الخيام من بعضها وإدخال أطناب بعضها ببعض وجعلها على شكل هلال، بحيث يكون المقاتلون في وسط ذلك الهلال أمام الخيام، وحفر خندقًا من خلف الخيام وملأه بالحطب والقصب لإشعال النار فيه عند الشروع بالقتال لحماية الخيام والعيال وحتى لا يجد الأعداء منفذًا إليها إلا من جهة المقاتلين(28).

(الرابع): كان الحسين (عليه السلام) يستطلع التلال المحيطة بالخيام والمشرفة عليها مخافة أن يكمن فيها أحد ليتسلل منها إلى الخيام(29).

(الخامس): تنظيمه لأصحابه عند شروع المعركة، فجعل زهير بن القين على الميمنة وحبيب بن مظاهر على الميسرة وثبت (عليه السلام) مع أهل بيته في القلب، وأعطى الراية لأخيه العباس لأنه أشدّ المقاتلين بأسًا وأقواهم وأكفأهم لحملها(30).

البعد الزماني

إن يوم عاشوراء وإن كان يومًا واحدًا في حساب الأيام وهو العاشر من محرم سنة إحدى وستين للهجرة، لكنه يرمز إلى التاريخ برمته، فمقولة (كل يوم عاشوراء) توضح بما لا شك فيه أن هذا اليوم العظيم يُلقي بظلاله على كل أيام البشرية في كل عصر ومصر، وكلما مرّ الزمان وتجدّدت ذكرى المأساة نشعر وكأنها حدثت بالأمس، فذكرى الطف ليست حدثًا تاريخيًا عابرًا انقضى وأُسدل الستار عليه، بل هي واقعة حيّةً ولذا تجدها حاضرة على الدوام في الوجدان ويتم التذكير بها وإحياءها على مدار السنة وفي كل مناسبة حزينة وأليمة.

بل كانت هذه الذكرى حاضرة قبل حدوثها، فقد عرف بها الأنبياء وتأثروا بها من آدم إلى نبينا محمد (صلى الله عليه وآله)، ولعنوا يزيدًا، كما جاء في الروايات التي جمعها العلامة المجلسي في البحار وغيره(31).

البعد المكاني

وكما أن النهضة الحسينية لا ترتبط بزمان معيّن، فكذلك لا ترتبط بمكان معين، فلا يحقّ لنا أن نربط هذه التضحية العظيمة بالماضي فقط، وبيوم العاشر من محرم سنة إحدى وستين للهجرة، ولا أن نحدّها بأرض كربلاء، لأن الحسين (عليه السلام) وارث الأنبياء والأوصياء كما نقرأ في زيارة وارث، فهو وارث لكل الأنبياء الذين أرسلهم الله لنشر الدين والوقوف بوجه الطغاة وظلمهم، وبوجه عبادة الأصنام والشّرك، فلا يمكن لنهضة كهذه أن ترتبط بمكان أو زمان محدّدين، فعلى أيّ أرض كنّا وفي أيّة بقعة تواجدنا، علينا أن نطبّق تعاليم نهضة الحسين وأن نسعى وراء تحقيق أهداف تلك النهضة المباركة بأن نكون أباة الضيم، وأن نقف مع القسط والعدل في وجه الظلم والجور، وأن نكون أحرارًا لا نرضى بالذل والقهر، وأن يكون الدين في مقدمة أولوياتنا واهتماماتنا، فنضحّي في سبيله ونسترخص الغالي والنفيس من أجل نشر الدين وإحياء مبادئه والتحلي بأخلاق النبي وآله (عليهم السلام)، وأن نترجم الاهتمام بالصلاة والعبادات وبكل ما أمر الله تعالى على أيّ أرض كنا، وذلك بأن نُخلص في أعمالنا على أيّ أرض كنّا، وأن ندافع عن الحقّ في أيّة بقعة تواجدنا وأن نقوم بواجبنا في أي مكان حللنا وبذلك نكون قد حقّقنا مقولة كل أرض كربلاء ونكون قد وفينا بنزر قليل من وظيفتنا اتجاه ما قدّمه الإمام الحسين لهذه الأمة، لأنه مهما فعلنا - ونحن نعيش ببركة نهضتهم العظيمة - لن نَفيَ حقّ قطرة دم واحدة سقطت من أصحاب الحسين (عليه السلام)، فضلاً عن دمه الشريف الذي سقط منه، ومهما جهدنا فلن نَفِيَ تحمل سوط أو أنّة أو زفرة ممّا تحملته السبايا وعقائل الوحي من أجل إيصال النهضة إلى أهدافها ومبتغاها.

هذا.. وهناك أبعاد أخرى (كالبعد السياسي و المأساوي والأدبي وغيرها) مما لا يسعنا خوض غمارها كلّها في مقال محدود الصفحات، بل يحتاج بسط الكلام فيها إلى مجلدات.

انتهى المقال

ـــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

23- الإرشاد، للشيخ المفيد مؤسسة آل البيت: 2/79.

24- العوالم، الإمام الحسين (عليه السلام)، للبحراني: ص265.

25- لواعج الأشجان، للسيد الأمين، مطبعة بصيرتيك ص16.

26- الفوائد الرجالية للسيد بحر العلوم: 1/325 ؛ الأمالي للصدوق، مؤسسة البعثة، قم: ص219.

27- – تاريخ الطبري، الأعلمي:4/318.

28- تاريخ الطبري، الأعلمي: 4/319 ؛ الإرشاد، المفيد، تحقيق مؤسسة آل البيت: ص 232.

29- كلمات الإمام الحسين، الشيخ الشريفي، مطبعة دانش، قم: ص 406.

30- مناقب ابن شهراشوب، الحيدرية النجف: 3/250.

31- بحار الأنوار، مؤسسة الوفاء، بيروت، ط2: 44 /225 - 243.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الرابع    أرشيف المجلة     الرئيسية