العدد السادس / 2006م  /1427هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

تحقيق العدد

مقام السيدة خولة في بعلبك .. مشهد مقدّس على طريق السبايا

تحدّثنا في العدد السابق عن السياحة الدينية في المقامات المنسوبة إلى الأنبياء والأولياء، وذكرنا أنه ربما اشتهرت نسبة مقامٍ أو قبرٍ إلى أحدٍ وتعاظَمَ اهتمام المؤمنين به رغم عدم توفّر الوثائق التاريخية التي تثبت صحة هذه النسبة سوى ما يشيع على ألسن الناس مما يتناقلونه عن أسلافهم، أو الاعتماد على رؤيا لبعض الصُّلَحَاء يعدّونها شاهد صدق، محتفّة بما يلمسونه من الآثار الروحية والكرامات.

وقد كان هدف المجلة من القيام بهذه التحقيقات هو إلقاء نظرة ميدانية على هذه المقامات للفت نظر العلماء والباحثين إليها بُغية إثارة البحث والتحقيق حولها لمعرفة القيمة الدينية والتاريخية لها، حتى يتم ترشيد الاستفادة منها، إذ لا تخلو كثير من هذه المقامات من الفوائد وإن لم تثبت النسبة بشكل قطعي، شريطة وضوح الحال لمرتاديها من المؤمنين .

وإليك أيها القارئ الكريم هذا التقرير الذي نحاول فيه إلقاء الضوء على جوانب مختلفة من المقام الموجود في مدينة بعلبك، والمنسوب للسيدة خولة بنت الإمام الحسين (عليه السلام)، وذلك من خلال ما توفّر لدينا مما نعرضه بين يديك .

إلا أنّا نترك القول الفصل في بيان حال نسبته إلى أهل التحقيق، إذ لم يتوفّر لدينا أيّ مصدر توثيقي يمكننا الركون إليه، فإننا رغم البحث لم نعثر على ما يثبت أن للإمام الحسين (عليه السلام) بنتًا باسم السيدة خولة، فلعلها إحدى بنات أهل بيته، أو من الأيتام الذين كان يتعهدهم (عليه السلام) من أيتام أصحابه - كما احتمله بعض الأفاضل من علمائنا المحققين ممن راجعناهم- .

    

مقدمة تاريخية

لم تنتهِ واقعة كربلاء في العاشر من محرم (61هـ - 681م) باستشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، وقَطعُ رأسه الشريف في ذلك اليوم كان تعبيرًا أكثر حسمًا ووضوحًا عن قرار سلطة الانحراف الأموية بقطع الإسلام عن أصوله المتمثّلة بالرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، لتتوالى من بعدُ فصول صراعٍ مرير بين نهج الانحراف ونهج العودة إلى الجذور.

ضريح السيدة خولة في بعلبك من معالم ذلك الصراع، فالسيدة خولة -والتي يشيع بين الناس أنها بنت الإمام الحسين (عليه السلام)- كانت في عِداد قافلة سبيِ مَن تبقّى من آل البيت إثر استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام)، تلك القافلة التي سارت بالنساء والأطفال، وبكل أنواع الإذلال والاضطهاد، من كربلاء إلى مقرّ حكم يزيد في دمشق، سالكة خط سير باتجاه شمال العراق بمحاذاة نهر الفرات لتدخل سوريا عن طريق معرّة النعمان ومنها إلى حلب فحماة فحمص، ومن ثمّ إلى مدينة بعلبك في لبنان.

وفي هذه المنطقة، وقبل مواصلة القافلة سيرها باتجاه دمشق، توفيت السيدة خولة وهي في قرابة السنة الثالثة من عمرها، فجرى دفنها في إحدى النواحي، وتمّ إخفاء معالم الضريح الشريف لاحقًا خوفًا من الاضطهاد الأموي فالعباسي الذي لاحق آل البيت بقتلهم أحياء، ونبش قبورهم وأضرحتهم أمواتًا.

ورغم إخفاء معالم الضريح المادية، إلا أن ناحية وجوده دون تحديد المكان بدقّة بقيت عالقة في النفوس وفي قلوب أنصار آل البيت وعقولهم، يتذكرونها جيلاً بعد جيل،كما يستذكرون الأنوار التي كانت تظهر فيه بين فينة وفينة من الزمن، تهبط على تلك الناحية تأكيدًا على قدسية المكان وكرامة من يضم في ترابه.

رؤيا

وفي الروايات المتناقلة على الألسن أن ملكية الأرض التي ضمّت قبرها الشريف انتقلت إلى رجل من محبي آل البيت، فرأى هذا في منامه أن طفلة تخاطبه وتطلب منه أن يحوّل ساقية ماء عن مكان محدّد في البستان لأنها مدفونة هناك، وقد تكرّر هذا الحلم في منام الرجل مرةً ثانية، إذ خاطبته الطفلة وعرّفته بشكل صريح عن نفسها بأنها خولة بنت الحسين، وطلبت منه الطلب نفسه، ثم تكرّر الحلم أكثر من مرّة، فما كان من هذا الرجل الذي احتار بالأمر إلا أن قصّ رؤاه على أحد الوجهاء من آل مرتضى، فقام هذا من ساعته مع بعض خواصّه بالحفر في المكان المشار إليه إلى أن اهتدوا إلى مكان القبر وعثروا على جسدها الشريف ولمّا يلحق به أيّ أذى بعدُ رغم تعاقب السنين منذ تاريخ الوفاة، فأخرجوه من مكانه وأزاحوه عن مجرى الماء وشيدوا فوقه قبّة صغيرة، ومنذ ذلك الحين أخذ الضريح يتحوّل إلى مقصدٍ مبارك يكثر زوّراه عامًا بعد عام من كل بلاد المسلمين.

وقد شهد المزار على مراحل متقطّعة أعمال تحسين وتوسعة قام بها الخيّرون من محبّي آل البيت.

فالمقام ببنائه القديم شيّده رجل من أولئك الأفاضل واسمه السيد حسن ابن السيد علوان، وكان قبل بدء التوسعة الجديدة عبارة عن غرفة مربعة سميكة الجدران وفي داخلها الضريح المبارك تحت صندوق خشبي مزخرف بآيات من القرآن الكريم، وقرب الضريح شجرة سرو ضخمة، تقول المرويّات أن الإمام زين العابدين قد غرس شتلتها للاستدلال بها على المكان.

وفي عام 1970م قام نفر من المؤمنين بحملة تبرّعات من أهالي مدينة بعلبك سمحت ببناء حسينية ومصلّى بمساحة 300 متر مربع في حرم المقام، وفي العام 1997م وبمبادرة من حزب الله بدأ مشروع ضخم لتوسعة جديدة كبيرة للمقام، وليكون من أهم المعالم الإسلامية البارزة في المنطقة، لكن المشروع سار ببطء نظرًا لضخامته ولقلّة الامكانات إلى أن لقي دعمًا مباشرًا من الجمهورية الإسلامية في إيران عام 2000م، إذ بدأت تتسارع وتيرة البناء فيه، لتنتهي المرحلة الأولى منه وقد أصبح جاهزًا لاستقبال عشرات الآلاف من الزوّار، وهذه التوسعة في مرحلتها الأولى شملت الطابق الأول السفلي حيث الضريح والذي بات بإمكانه استقبال عدد كبير من الزوّار.

إذن للدخول

(باسم الله بإذن الله وإذن رسوله وأنبيائه المرسلين والأئمة المعصومين، وبإذن صاحبة هذا المقام الشريف أدخل هذه الروضة المباركة وأدعو الله بفنون الدعوات،و أعترف لله بالعبودية وللنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) بالطاعة).

هذا الإذن المثبت على لوحة رخامية قرب الباب الرئيسي هو أول ما يطالعك قبل الدخول إلى القاعة الكبرى، التي تضمّ الضريح في الطابق السفلي، والذي تبلغ مساحته 1350 مترًا مربعًا، يضاف إليها ديوان استقبال ومكتبة بمساحة 150 مترًا مربعًا.

السلام

روعة البناء بجدرانه الممتدة والملبسة بالكاشي ذي الزخرفة الإيرانية الجميلة، الأعمدة المرتفعة والمتماثلة بألوانها، المرايا المعلّقة في السقف المظلِّلة للقاعة كلها، استغراق المصلين في صلاتهم، انسياب القانتين في أدعيتهم، غياب المتوسلين في دموعهم، كل هذه الرهبة وكل هذا الجمال الروحي والمادي عند الدخول إلى الروضة، يمهّدان الدرب أمام القلب ليأخذك مباشرة لإلقاء السلام على صاحبة الضريح وإعلان الولاء للنبي وآل بيته (عليهم السلام)، ليرتد السلام سلامًا وطمأنينة يتيحان لك من بعدُ أن ترى وتسمع وتلحظ حولك.

قفص الضريح من الذهب والفضّة، طوله أربعة أمتار وعرضه ثلاثة، بابه من خشب السنديان المعتّق، والى أمتار عدّة منه تخترق شجرة السرو العملاقة سقف المبنى الأول من المقام لترتفع عالية في السماء.

أما الطابق العلوي الذي لا يزال قيد الإنشاء، فيُعمل على إعداده ليكون مصلى بمساحة 800 متر مربع، على أن تُستكمل المرحلة الثانية من أعمال التوسعة بإضافة حسينية بمساحة 3000 متر مربع لاستيعاب الزوّار في المناسبات الدينية الكبرى كأيام عاشوراء وليالي شهر رمضان المبارك.

ووفق ما يقول المشرف على متابعة تنفيذ أعمال التوسعة الجديدة الحاج حسين نصر الله فإنه في يوم العاشر من المحرم يستقبل المقام قرابة مائة ألف من المؤمنين الذين يتجمّعون للانطلاق منه في مسيرة عاشوراء، كما يستقبل الآلاف يوميًا لإحياء شعائر هذه المناسبة التي تستمرّ أربعين يومًا، وكذلك الأمر عند إحياء ليالي القدر من شهر رمضان المبارك وإحياء المناسبات الجليلة الأخرى كيوم استشهاد السيدة الزهراء (عليها السلام)، إضافة إلى ما يقام فيه من محاضرات وندوات ومعارض إسلامية وفنيّة.

أما بالنسبة إلى الزوّار من خارج لبنان، فيقول الحاج نصر الله: إن زوّار المقام يتوافدون من مختلف الأقطار الإسلامية وبشكل خاص من إيران وباكستان والهند وبنغلادش ودول الخليج العربي، والزيارات لا تنقطع على مدار السنة، لكنها تكون كثيفة أيام الصيف إذ يقدّر عدد من يزور المقام من خارج لبنان حوالى مائة ألف زائر يأتون للزيارة والتبرّك، والتوسّل إلى الله والدعاء لقضاء الحوائج.

كرامة إلهية

أهالي منطقة بعلبك يعتبرون وجود مقام السيدة خولة على مدخل المدينة من الكرامات الإلهية التي منّ الله بها عليهم. يتبرّكون ويتوسّلون به إلى الله تعالى، ويعدّونه امتدادًا للمشاهد المقدّسة في مكة المكرمة والمدينة المنوّرة والنجف الأشرف وكربلاء وقم ومشهد ودمشق... حيث مدافن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) ومن كان معهم أو سار على ولايتهم من الأولياء والصالحين.

إن مسيرة السبي بعد واقعة كربلاء لم تترك هذا المَعلَم فقط على طريق عذابات وآلام السبايا قبل وصولهم إلى الشام، فعلى طول الطريق الممتدة تركت الرحلة آثارًا مقدّسة لآل بيت النبوة، سواء في أرض العراق أو سوريا أو لبنان حيث يوجد أيضًا في منطقة بعلبك أثر آخر مبارك وهو المكان الذي وضع فيه رأس الحسين الشريف عند وصول السبايا إلى المنطقة، وهذا المكان بني عليه لاحقًا مسجد يُعرف حتى اليوم باسم "مسجد ومشهد رأس الإمام الحسين (عليه السلام)"، وقصة بناء هذا المسجد تروي أن قافلة السبايا حين وصلت إلى هذا المكان ثار بعض المؤمنين المحبين لآل البيت على الجنود الأمويين الذين يحرسون القافلة في محاولة منهم لفك أسر السبايا وتخليص رأس الحسين الشريف من أيديهم، وهذا المسجد لم يبق منه اليوم سوى آثار خربة.

 

ضريح مقدّس وسروة أمينة

كان الرحّالة الإنكليزي الشهير "روبرت وود" قد ترك وثيقة مميزة تعتمد الصورة، فقد رسم الضريح الشريف عام 1757م أثناء زيارة قام بها إلى المنطقة، وقد ظهر الضريح فيها واضحًا وخلفه أعمدة بعلبك وهياكلها الرومانية، واللافت في هذا الرسم شجرة السرو التي انتصبت إلى جانب الضريح، وهي الشجرة التي تقول المرويات الشعبية المأثورة أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) قد زرعها، وهذه الشجرة لا تزال قائمة حتى اليوم كحارس أمين للدلالة على مكان الضريح.

وقد أورد الرحالة "وود" هذا الرسم في أحد أشهر كتبه وهو بعنوان : "The kuins Of Bualbek".

بناء القبور

ومسألة بناء قبور الأولياء والصالحين وتشييدها وتعظيمها - كما يقول مقدّم كتاب المزار للشهيد الأول([1]) - : "كانت مألوفة عند الأمم السابقة، فكتب التراجم والتاريخ تخبرنا بأن العديد من القبور قد اتخذت أماكن يتبرّك بها، بل إن القرآن المجيد يحدّثنا عن قصة أصحاب الكهف وأن الذين غلبوا على أمرهم قالوا {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً}([2])، فإذا كان تجليل أصحاب الكهف وغيرهم لأنهم آيات الله، فتجليل وتعظيم آل النبي (صلى الله عليه وآله) أولى وأوجب لأنهم أعلام آيات الله وأنهم الذين اختُصوا بالعصمة وبانتمائهم وانتسابهم إليه (صلى الله عليه وآله)".

ويضيف: " إن التوسّل والخضوع والتواضع أمام العتبات المقدسة التي يضم ثراها نبيًا أو معصومًا أو وليًا من الصالحين هو في حقيقته توسل وخضوع وتواضع للخالق تبارك وتعالى، وليسوا هم إلا وسيلة كالصلاة والصوم وبقية العبادات والطاعات التي يُتوسل بها إليه تعالى امتثالاً لقوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}([3])".

ــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - السيد محمد باقر الأبطحي الأصفهاني، في مقدمته على كتاب المزار للشهيد الأول، ط1، 1410هـ، قم، ص2-3.

[2] - سورة الكهف: من الآية21

[3] - سورة المائدة:35

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السادس    أرشيف المجلة     الرئيسية