العددان السابع والثامن / 2006م - 2007م /1427هـ - 1428هـ

      رجوع     أرشيف المجلة    الرئيسية   

 

آية الله التبريزي ... في رحاب الله

آية الله العظمى الميرزا الشيخ جواد التبريزي.. في رحاب الله([1])

لا يخفى على المتتبع لتاريخ الطائفة الإمامية أن الله عز وجل قد أنعم عليها طيلة عصر الغيبة بالعلماء الداعين إليه والدالين عليه والذابّين عن دينه، ونحن في هذه السطور نحاول أن نرسم ملامح أحد هؤلاء الذين نذروا أنفسهم لخدمة الدين الحنيف، وهو المرجع الكبير آية الله العظمى الميرزا الشيخ جواد التبريزي (قدس سره)، الذي وفاه الأجل أثناء إعداد هذه العدد.

مولده

ولد (قدس سره) سنة (1345 هـ) في مدينة تبريز، التي برز منها الكثير من علمائنا الأبرار قدس الله أنفس الماضين وحفظ الباقين منهم، في اُسرةٍ كريمة عُرفت بالولاء لمحمدٍ وآله عليه وعليهم الصلاة والسلام، وكان والده الحاج علي من التجار في مدينة تبريز ومن المعروفين بالصلاح والتقوى.

فنشأ (قدس سره) في رعاية والديه العطوفين، حتى بلغ سن السادسة من عمره الشريف، فدخل المدرسة الأكاديمية، ثم وبعد إكماله المرحلة الثانوية فيها، ونظرًا لعشقه لطلب العلم وطموحه إلى المعالي، أخذ يقرأ بعض المتون في الصرف والنحو والمنطق والبلاغة، تارةً عند أحد المشايخ، وأخرى يقرأ هو بنفسه.

التحق بالحوزة العلمية في تبريز وكانت حوزةً عامرة آنذاك، وأخذ حجرة في المدرسة الطالبية، وكان معه في الحجرة المرحوم العلامة الشيخ محمد تقي الجعفري والذي كان يكبره بأربع سنين تقريبًا وشرع في قراءة الشرائع واللمعة والمعالم والقوانين والمطول وأتمّ السطوح عند علماء وفضلاء تبريز.

وكان عفيف النفس شريفها، فلم يكن يظهر ما به من عوز واحتياج إلى أحد وإن كان أقرب الناس إليه، حتى والديه، معتمدًا في ذلك على الله سبحانه وتعالى، وربما طوى ليله بنهاره لم يذوقا فيهما طعامًا، وهو في ريعان شبابه.

وقد حدّث بعض طلابه: إنه مر عليه يومان هو والشيخ الجعفري لم يذق فيهما طعامًا حتى ضعفا من الجوع، ولما جاء يوم الجمعة وبعد الظهر جاء أحد التجار إلى المدرسة وأعطى للطلبة مالاً لصلاة الوحشة، يقول: فأخذت شيئًا من ذلك المال وذهبت إلى السوق فوجدته مقفلاً، وبعد فحصٍ عثرت على طعامٍ بائت فاشتريته وأعددته بنفسي وأكلنا.

الهجرة إلى قم المقدسة

بعد أن أكمل السطح بجدّ وتفهّم رأى أن الحوزة الموجودة في تبريز لا تروي عطشه للعلم، فتاقت نفسه للرحيل إلى قم المقدسة، فسافر إليها، ونزل في حجرة في مدرسة الفيضية، والتي تعتبر مركز الدراسة في الحوزة في ذلك الوقت، ولا زالت.

وكان وصوله إلى قم في أوائل سنة 1364 هـ.ق وكان عمره الشريف وقتها 19 سنة، ولما استقر به المقام، شرع في مواصلة تحصيله العلمي، فحضر أولاً عند آية الله العظمى المرحوم السيد محمد الحجة الكوه كمري، فقهًا واُصولاً، ولمدة أربع سنين، وحضر في الفقه أربع سنين أيضًا عند الفقيه آية الله آغا رضي الزنوزي التبريزي، الذي كان من تلامذة المرحوم الخراساني (قده)، وأيضًا لازم من حين وصوله إلى قم درس المرجع الكبير الإمام البروجردي فقهًا واُصولاً ولمدة سبع سنين، وهي مدة إقامته في قم المقدسة.

وبدأ خلال هذه المدة بتدريس المقدمات، وكتاب اللمعة، والمعالم، والقوانين، ثم شرع بتدريس الرسائل للشيخ الأعظم (قده).

انقضت سبع سنين، والميرزا على هذا النهج حتى شرّفه الله تعالى بتلك النفحة القدسية والجنبة الروحية، فصار مجتهدًا قادرًا على استنباط الأحكام الشرعية، هذا وهو في العقد الثالث من عمره الشريف، إذ كان عمره آنذاك ستًا وعشرين سنة.

الهجرة إلى النجف الأشرف سنة 1371هـ.

كانت هجرته إلى النجف في حدود سنة 1371هـ. يحكى عنه أنه قال:

كنت جالسًا في ساحة المدرسة اُفكر في كيفية الذهاب إلى النجف، وإذا برجل على رأسي وقد بان عليه أنه من التجار، وكان يأتي في السابق إلى المدرسة حبًا منه لأهل العلم، والظاهر أنه كان يتابع نشاطي العلمي ويسأل عني من دون وجود علاقة بيننا.

جاء هذا الرجل وسلّم وقال: ما لك متفكرًا؟ وجلس إلى جنابي، فقلت له: أفكر في الذهاب إلى النجف، فقال: وما يمنعك من الذهاب؟ فأجبته: يمنعني أن السفر ممنوع وخصوصًا للشباب، وكان ذلك إبان رجوع الشاه بعد سقوط حكومة مُصدّق.

فقال الرجل: لا عليك، أعطني صورك وبعض المعلومات واترك الأمر لي، فعجب الشيخ من ذلك، لكن الله إذا أراد شيئًا هيأ أسبابه، فأعطاه ما يحتاجه وذهب الرجل.

وفي الصباح جاء إليه وذهبا معًا إلى قريب من مدرسة الحجّتية اليوم، وكانت تعتبر آخر قم في ذلك الوقت، وقريب منها يوجد موقف للسيارات التي تذهب إلى العراق، فاستأجر له كرسيًا في سيارة صغيرة مع ثلاثة أشخاص، وأعطاه متاعًا للسفر وودعه، فشكر له الشيخ جميله ودعا له كثيرًا.

وتحركت السيارة نحو العراق، وتوقفت بهم في الكاظمية لزيارة الكاظمين عليهما السلام، وبعد فترة توجه إلى كربلاء وتشرف بزيارة سيد الشهداء.

ثم توجه إلى النجف الأشرف لزيارة أمير المؤمنين عليه السلام. ولما وصل إليها نزل ضيفًا على صديقه المرحوم الشهيد آية الله الميرزا الشيخ علي الغروي التبريزي قدس الله نفسه الطاهرة، الذي كان قد سبقه بثلاث سنين في الهجرة إلى النجف، وكان يقيم في مدرسة الخليلي، ثم تهيأت له غرفة في مدرسة القوام الواقعة خلف مسجد الطوسي.

وبعد أن استقرّ به المقام في النجف، واصل نشاطه العلمي درسًا وتدريسًا، حتى عرف بالفضل، والتزم في تلك الفترة بحضور أبحاث السيد الخوئي (قدس الله نفسه)، لتسع سنين، ثم استعان به السيد الخوئي (قده)، لحضور جلسة الاستفتاء، في جملة فضلاء آخرين، ولازم مجلس استفتائه أكثر من عشرين سنة.

وقد انتقل بدرسه إلى مسجد الخضراء، فكان يرقى منبر أستاذه الخوئي ويلقي درسه بالكفاية وغيره من السطح على ما يقارب المائتي طالب.

العودة إلى إيران

وبعد وفاة السيد الحكيم بعام، شرع في تدريس الخارج فقهًا على مكاسب الشيخ، والأصول من أول الدورة، وهكذا، حتى سنة 1393هـ، حيث قرر العودة إلى إيران على إثر مضايقات الحكومة العراقية لأهل العلم، فقد ضاق صدره بما يراه من منكراتٍ وظلمٍ للمؤمنين على يد الظلمة في العراق.

فنزل قم المقدسة واحتف به طلابها. وشرع في درسه خارج المكاسب والاصول في بيته، ومن ثم في مسجد (عشق علي)، ولما كثر تلاميذه انتقل إلى حسينية ارك القريبة من داره إلى أن كثر حضّار الدرس كثرةً لا يسعهم المكان فانتقل إلى المسجد الأعظم بالحرم المطهر، حتى أصبح من أساطين الحوزة العلمية، وبلغ عدد تلاميذه أكثر من ألف طالب.

فعرف عنه سيطرته على صناعة الاستنباط والتطبيق، واستحضاره لمتون الكبريات الفقهية والأصولية بشكل متميز دقيق، سريع الالتفات لخصائص الفروع المختلفة عند المقايسة بينها.

مرجعيته

تصدّى للمرجعية بعد وفاة أستاذه السيد الخوئي قده، بعد طلب جمع من العلماء والفضلاء الذين رأوا فيه الجدارة والكفاءة العلمية والعملية لمنصب المرجعية، وأشاد بفضله الكثير من أساتذة الحوزة وفضلائها.

ثم إنه نظرًا لمرجعيته المترامية الأطراف والمتسعة في الآفاق، استعان بجماعة من أهل الفضل فأسس مجلس استفتاء يجيب على الأسئلة التي ترد عليه من مختلف الأقطار، والذي يحضره عدة من الفضلاء لتحرير الفتاوى وضبط مداركها ومبانيها.

وفاته

انتقل رحمه الله إلى جوار ربه، صابرًا، بعد مرض لازمه عدة سنوات، ليلة الثلاثاء في 28 شوال سنة 1427هـ، الموافق 20 تشرين الثاني سنة 2006م، وصلى على جثمانه الطاهر آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني، في تشييع مهيب، ودفن في حرم السيدة فاطمة المعصومة (عليها السلام)، بجانب ضريح آية الله العظمى الشيخ الأراكي وآية الله العظمى بهاء الديني (قدس سرهما).

بعض صفاته

المعروف عنه (قده) أنه كان قوي الشخصية، حذرًا فطنًا، ذا رقة ورحمة، زاهدًا في الدنيا، بعيدًا عن كل تكلّفات الحياة، ذا همة عالية، دائم التفكير في مطالبه العلمية، قلما تجده فارغًا.

وقد قال يومًا: إني ما عرفت التعطيل أربعين سنة، ليلاً نهارًا.

كثير التفكير بالموت، يقرأ وصيته دائمًا، لم تتغير حالته بعد أن أصبح مرجعًا.

دائم الاهتمام في رقيّ حال الطلاب وتحسين أوضاعهم، فإضافةً إلى دفعه رواتب شهرية إلى طلاب الحوزة العلمية وعلى نحو العموم، أسس مستوصفًا خيريًا وبنصف الأجرة للطلبة بالخصوص من دون مطالبتهم بإثبات هويتهم، وهو مجهز بكافة الأجهزة مع وجود كادر طبي متخصص، وتتوفر فيه سائر الأدوية.

شجاع القلب، شديد، لا تأخذه في الله لومة لائم، وخير دليل على ذلك وقوفه بوجه المنحرفين عن خط أهل البيت عليهم السلام وتصديه ورفعه لعلم الولاء رغم خطورة الموقف.

أسّس دارًا للنشر تعرف بـ(دار الصدّيقة الشهيدة)، هدفها نشر البحوث العقائدية وترويج الفكر الصحيح حتى من خلال شبكة الانترنت.

مؤلفاته

أ ـ في الفقه:

1 -7: رسائل عملية يرجع إليها المقلدون، وهي:

"توضيح المسائل" باللغة الفارسية - "مسائل منتخبة" - "منهاج الصالحين" يقع في جزئين: الأول في العبادات، والثاني في المعاملات - "صراط النجاة"، وهو عبارة عن أجوبة الاستفتاءات التي كانت ترد عليه، ومن ضمنها الاستفتاءات التي كانت ترد على السيد الخوئي بعد إضافة رأيه عليها - "مناسك الحج" - "استفتاءات في مسائل الحج" - "أحكام النساء في الحج والعمرة".

8: التهذيب في مناسك الحج والعمرة (مجلدان).

9: كتاب القصاص.

10: أسس القضاء والشهادة.

11: أسس الحدود والتعزيرات.

12: طبقات الرجال، بحث موسع في الرجال.

13: حاشية على العروة الوثقى.

ب ـ في الاُصول:

1: إرشاد الطالب في شرح المكاسب، أربع مجلدات (مطبوع).

2: دروس في مسائل علم الاُصول، على متن الكفاية، يقع في خمسة أجزاء.

ج ـ في العقائد:

1 ـ اعتقاداتنا.

2 ـ الأنوار الالهية في المسائل العقائدية.

3 ـ فدك.

4 ـ نفي السهو عن النبي (صلى الله عليه وآله).

5 ـ رسالة مختصرة في النصوص الصحيحة على إمامة الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام).

6 ـ رسالة مختصرة في لبس السواد.

7 ـ ظلامات فاطمة الزهراء (سلام الله عليها).

8 ـ عبقات ولائية.

9 ـ تنزيه الأنبياء.

10 ـ الشعائر الحسينية.

من وصية المرجع الراحل

 بسم الله الرحمن الرحيم

اللهم صل على محمد وآل محمد، وعجل فرجهم ، وأهلك أعداءهم.

 أنا الآن على أيديكم حال تشييع جنازتي أو موسدٌ في قبري،  على أيدي تلامذتي الأعزاء الذين بذلت جهدًا لنجاحهم ولم أعرف التعطيل يومًا، ولم أترك النصيحة لهم أبدًا، ولم أنصح نصيحة قبل أن أعمل بها.

 نصيحتي اليوم لجميع المؤمنين الغيارى هي الدفاع عن مسلّمات المذهب الحق، وأن لا يعطوا لأحد مجالاً للتشكيك وإلقاء الشبهات في أذهان العوام، خصوصًا في قضية الشعائر الحسينية، فإن حفظ المذهب في هذا العصر يتوقف على حفظ الشعائر الحسينية.

 أنصحهم أيضًا بالمثابرة على تحصيل العلوم الدينية، مقارنًا لطلب رضا الله والتقيّد بالتقوى.

 ولقد كنت طالب علم طول عمري، وصرفت كل أوقاتي - وخصوصًا زهرة شبابي - في الدرس، والتدريس، وخدمة الحوزة العلمية من أجل أن تبقى آثار خدماتي العلمية في تلامذتي

 أيها الطلبة الأعزاء، إن لواء هداية الناس بأيديكم، فلا تتوانوا عن طريق الهداية، ولا تقوموا بأي عمل يؤذي صاحب العصر والزمان، فإنه ناظر لأعمالنا ومُحَاسِبٌ عليها.

  أعزائي المؤمنين.. لا تنسوني من دعائكم كما كنت أدعو لكم، فإني أحد خَدَمة المذهب الحق الذين لم يسأموا يومًا من خدمة طريق أهل البيت (عليهم السلام) طلبًا لرضا الباري عز وجل.

 وأخيرًا أكرّر طلبي وتوصيتي لكم بالمحافظة على الشعائر الحسينية وتأييدها، ضمن رجائي منكم الدعاء لي في مواطن الدعاء ومظان الإجابة.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - هذه السيرة ملخص عما نشر على موقع آية الله العظمى الشيخ جواد التبريزي على الأنترنت.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع والثامن      أرشيف المجلة     الرئيسية