العدد صفر :  2005م / 1425هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

سلمان الفارسي صور ومواقف

الدكتور محمد كامل سليمان*

 

((أريد من أهل كل حرفة أن يختاروا شيخًا لهم، فإذا وقعت مظلمة على عامل أو فقير، فليشكُ لشيخ حرفته)) -سلمان الفارسي-.

 

إذ يلتقي العقل المستنير بالعلم الجمّ، وإذ يعانق الإيمان الصحيح المنهجية الدؤوبة، تجسيدًا لهذا الإيمان، تُطالعنا من بين سُجُف التاريخ شخصية الصحابي الجليل (سلمان الفارسي)، راضية مطمئنة.

ويضيء كهف الظلمة شعاع كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله): (لو كان الدين في الثريا لناله سلمان)([1]).

أعظم بهذه الشهادة يدلي بها النبي (صلى الله عليه وآله) بحق سلمان عليه الرحمة، فتشف فيما تشف عن مدى عمق عقيدة هذا الرجل ومدى التزامه الديني.

إن حكاية سلمان هي حكاية متمرّد على حياة الآباء والأجداد الوثنية، حكاية باحث عن الله، يلتزم خطّه العقائدي، لا يعبأ بالصعاب، ولا يتضعضع أمام النوائب، بل يدأب في سيره المضني، محاولاً أن يصل إلى مبتغاه الديني، فيقود الشراع بعزيمة ثابتة وتصميم مثابر مهما رغى الخضمّ وأزبد، ومهما عصفت الريح وثار الموج في وجه الشراع، ليحال بينه وبين إغذاذ السير ومواصلة الإبحار.

يظل على وفائه لعقيدته ومنهجيته، حتى وإن اقتضاه الإخلاص والوفاء أن يهجر دار الأهل والأحبة، أو يعاني الاسترقاق والتهديد بالقتل إن لم يحجم عن التزام إيديولوجيته، حتى يصل الشراع إلى الشاطئ المنشود.

وإذ يضع قدميه على اليابسة، لا يعتبر أن مهمته قد انتهت، فلا يستكين للراحة، ولا يركن للدعة، وإنما يكمل المشوار، ويعاود النضال، بنفس صدق العزيمة، وإخلاص النية، حتى يقضي في سبيل الله، فيستسلم للموت آمنًا مطمئنًا، تمامًا كمن يسحب غطاءه ليستسلم إلى حلم عذب جميل.

هذه الشخصية العظيمة كانت حياته سلسلة مواقف، كلّها عزّ وأمل وصراع، رافضة هدوء العيش الذي هو ذلّ وخنوع واستسلام.

وسنحاول أن نعرض لبعض تلك المواقف.

رفض عبادة النار:

هذه النار أنا أشعلها، وإذا تركتها بلا حطب تموت، فكيف أعبد ما أهبه أنا الحياة..

بهذه الكلمات، وفي مطلع تفتّحه على الحياة، واجه سلمان رحمه الله أباه الكاهن الذي كان يغذي النار بالحطب ليل نهار حتى لا يخمد لهيبها، فيذهب الإله، ويصبح الكون بلا خالق يرعاه ويشرف عليه.

فأوجس الأب الكاهن خيفةً من هذه المواجهة الجريئة، وأخذ الإفكل والرعدة رئيس الكهنة لهذا التمرد الذي يهدّد الجاه والسلطان، وما هو إلا أن يعرض على الفتى أعلى المناصب في محاولة لإغوائه.

ولكن الشاب المفعم بالعقيدة الإيمانية الصلبة، يصيح بأبيه وبرئيس الكهنة: ( دع هذا فإن الحطب الذي أحضره للحرق والرماد لا يمكن أن يكون إلهًا يعبد).

فيهدَّد بالقتل خشية أن يؤلّب الناس ويحرك العقول، فيزول السلطان ويهوي العرش.

وبناء على وساطة الأب يُجلد سلمان، ويُحبس في معبد ويوضع الحديد في قدميه، ويقيّد بالسلاسل، فيُترك حيًّا ميتًا، ويوضع في زنزانة يبقى مفتاحها مع رئيس الكهنة حتى لا ترى عينا سلمان النور.

ولكن المناضل الجريء يرضى بالسجن والعذاب، والقيود والسلاسل ولا يتزحزح عن إيمانه مهما بلغ الإغراء والإغواء تمادى..

والإله لا يمكن أن يتخلى عن عبد جعله نصب عينيه، وكان دائمًا ينشد رضاه، فتعمل عمّة سلمان التي قامت على تربيته بعد وفاة أمّه في طفولته، بناء على اقتراح سلمان، على أن تأتي بحدّاد تدفع له ما شاء في سبيل تخليص ابن أخيها، وإذ يخرج من السجن يلتحق بقافلة من تجار الشام تاركًا المناصب والمغريات، لا يريد غير وجه الله سبحانه.

ولما وصلت القافلة إلى حمص، اشتغل عند حاكمها الذي مات بعد شهرين، فيجتمع الناس لتأبين الحاكم والثناء عليه بالخير، فيقف سلمان وسط الجموع قائلاً : (يا أهل حمص، اسمعوا مني ثم اصلبوني، إن حاكمكم هذا كان ظالمًا، خزن الذهب وترككم جياعًا، ومعي الدليل أربعون جرة مليئة بالذهب.

إني أعرف كم تقاسون، ولكن هذا الحاكم قد نهب أموالكم في حياته، فلا تقدّسوه بعد مماته.

أيها الناس كم حاولت أن أمنع نفسي من هذا الحديث، ولكنها لم تحتمل الكذب والنفاق، فلقد ثار عليّ ضميري، ووجدت صوتًا قويًا يصيح في داخلي، يقول: أنت شريك الحاكم في الذنب إن لم تقل الحقيقة، وهذا هو الذهب أقدّمه دليلاً على ما أقول ).

وفي حمص سمع الرهبان أن نبيًا يبعث في أرض العرب، فيرتحل مع قافلة تجار قاصدًا مكة، طلبًا للنبي محمد (صلى الله عليه وآله) الذي كان قد شرع بدعوة الناس لنبذ الشرك والإيمان بوحدانيةٍ تنقذ الإنسان من هوة الجهل والاستعباد، فيعود الإنسان أخا الإنسان أحبّ أم كره، ويصبح الخلق كلهم عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله.

ولكن هؤلاء التجار تغلب عليهم نزعة الشرّ، فيرون في هذا المناضل أكلة سهلة وغنيمة سائغة، فينهبون أمواله، ثم يبيعونه في المدينة إلى رجل يهودي على أنه عبد رق، فينصاع لهذا المصير، ويعمل لليهودي، حتى إذا هاجر النبي إلى المدينة أسلم معه سلمان، فانهال عليه اليهودي ضربًا وتعذيبًا وهدّده بالذبح إن ظلّ على إسلامه، فيأبى هذا الإيديولوجي الانصياع غير مكترث بالقتل ـ مصرًّا على الذهاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله)، لأنه من أجله ترك الأهل والوطن وجاب بلاد الله.

وكاتب سلمان اليهودي على أن يدفع له مبلغًا من المال لقاء تحريره، فأعانه النبي والمسلمون على ذلك، حتى أعتق والتحق بالنبي (صلى الله عليه وآله).

مشورة سلمان بحفر الخندق:

كان الإسلام غرسة صغيرة بعد، لا تستطيع أن تقاوم العاصفة والصقيع المجمد، عندما تجمّع المشركون من كل لج، وتدافعوا كالسيل العرم، في محاولة لوأد الرسالة المحمدية في المهد، فينصح سلمان للنبي أن يحفر خندقًا حول المدينة يتحصّن به المسلمون، ولا تستطيع خيل الشرك عبوره.

نجحت الخطّة، وأتت المشورة ثمارها، إذ منع الخندق خيل الشرك من العبور سوى ما كان من عمرو بن عبد ودّ العامري الذي قحم بفرسه الخندق وراح يصول ويجول متحديًا متهددًا يدعوهم للمبارزة ؛ ولكنه عمرو، فأغضى المسلمون وما تجرأ أحد أن يقوم لمبارزته، سوى علي بن أبي طالب(عليه السلام)، وكان فتىً حدثًا يومذاك فرفع رأسه يقول: أنا له يا رسول الله، ومضى لفارس الجزيرة المعدّ بألف فارس، وما هي إلا لحظات حتى تصاعد الغبار كالظلمة الداكنة، يشق سجفها - كالسهم الضوئي- صوت أمير المؤمنين: الله أكبر الله أكبر ؛  فيتعالى صوت النبي (صلى الله عليه وآله) ودموع الفرحة تتلألأ في عينيه ( ضربة علي يوم الخندق تعدل عمل الثقلين).

هذا هو سلمان ابن الإسلام كما كان يحلو له أن يسمي نفسه، إمعانًا منه في رفض أيّ انتساب سوى الإسلام، كما أحرانا أن نتمثل نحن المسلمين، لنصبح أبناء الإسلام حقًا، وما أحوجنا أن نقتدي بهذا العظيم الذي اعتنق الإسلام، فأصبح يستهين بكل جبّار طاغية، فيتخطى وجهاء قريش ورؤساءها ليجلس قرب النبي (صلى الله عليه وآله)، حتى إذا احتجوا على هذا التخطي، وعيّروه بحسبه ونسبه، صاح بهم: (كنت عبدًا فأعتقني الله بمحمد، ووضيعًا فرفعني الله بمحمد، وفقيرًا فأغناني بمحمد، فهذا حسبي ونسبي).

وأكرم به حسبًا ونسبًا، وما أجدرنا بتبنيه على حقيقته التي علمناها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، لنحرر العالم مرة أخرى من رقبة الجهل والاستعباد، ولنعيد راية العدالة والرحمة خفّاقة في كل مكان.

وذلك إذا اختمرت العقيدة الإسلامية في نفوسنا كما اختمرت عند سلمان، الذي تمثل روحية الإسلام واعتنق إيديولوجيته، حتى غدا رائدًا من روّاد الإنسانية ومثالاً للحاكم الذي يواسي نفسه برعيته، كما كان حين وُلّي المدائن في عهد عمر بن الخطاب، وحتى كانت قولته لأبي الدرداء حين لامه على تردده في قبول الولاية على المدائن منهج الحاكم المثالي: إذ قال للعاذل: أتدري ما الظلمات يوم القيامة، إنه ظلم الناس لبعضهم البعض في الدنيا، ويعتبر الحكم امتحانًا، فيسأل الله أن يقويّه لمواجهة هذا الامتحان.

تأسيس النقابات:

وهكذا كان نصب عينه المثال النموذجي للحاكم المسلم، بل على مستوى الحاكمية ينبغي أن ننوّه بالدور النقابي الذي سنّه سلمان، إذ حين ولاه عمر على المدائن، جمع الفقراء والعمال وأرباب الصنائع جميعهم، وخطب فيهم وكانت رسالته فيهم هي رسالة الإسلام، إذ كان أول ما خاطبهم به:( اعلموا أن الإسلام حرّم كنز المال وبخس الأجير قدره، فإن للذهب بريقه وللمال سلطانه، إنني معكم وبابي دائمًا مفتوح لكم ).

ثم كان المخطط النقابي الذي وضعه، فكان أول من أنشأ النقابات، وذلك حين خاطب المجتمعين قائلاً:( أريد من أهل كل حرفة أن يختاروا شيخًا لهم، فإذا وقعت مظلمة على عامل أو فقير فليشك لشيخ حرفته)، وبعد أن وضع لهم الأسس  النقابية راح يحثهم على العمل وعدم التواكل (اعلموا أن الله يحبّ أن يأكل الفرد من عمل يده)، فكان هذا رفضًا لتحكم البيروقراطية، إذ عمد إلى القول (سأكون واحدا منكم إن خراجي كلّه للفقراء، وهو خمسة آلاف درهم، وسأعمل في صنع الخوص وآكل مما تكسبه يدي)، ولما تعجّب الناس قال لهم سلمان: ( هذا هو الإسلام الصحيح ).

هذا هو الإسلام كما وعاه وعمل به رجالات الإسلام العظام، تلامذة محمد(صلى الله عليه وآله)وعلي (عليه السلام).

فهل لنا أن نحاول الاقتداء والتمثل بهم، لنصبح أبناء الإسلام بحق، ولنصبح من أهل البيت على شاكلة سلمان، الذي فاخر به الرسول (صلى الله عليه وآله) فقال:(سلمان منّا أهل البيت)، (والذي أدرك العلم الأول وأدرك العلم الآخر، بحر لا ينزف)  بشهادة أمير المؤمنين(عليه السلام).

هذه قبسات من سيرة واحد من الذين اختمرت العقيدة الإسلامية في نفوسهم، الذين أعطوا المثال عن الإسلام الصحيح، ونحن لو سرنا على مبدئهم في مناصرة الحق وعدم التشبث بالمناصب، لبقينا على رساليتنا في حمل مشاعل الحضارة الإنسانية، (فالخلق كلهم عيال الله، وأحبهم إليه أنفعهم لعياله).

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*  باحث وأديب.

([1]) الاستيعاب من أسماء الأصحاب، تأليف ابن عبد البر، طبعة أولى سنة 1328هـ.

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية