العدد صفر :  2005م / 1425هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية       

ا     

النجف الأشرف والأدوار التي مرّت بها

السيد علي السيد حسين يوسف مكي*

النجف الأشرف البلد الأغر والموطن المقدّس، الذي تهفو له النفوس، وتشتد إليه القلوب، وتتطلع إليه الأبصار، رغبةً في زيارته والمقام فيه.

إنه الرمز المبارك الذي يرمز إلى اعتبارات كثيرة عند المسلمين عامة والشيعة خاصّة، وأهمها وأولاها أنه مدفن الإمام عي بن أبي طالب أمير المؤمنين وسيد الوصيين وإمام المتقين(عليه السلام)، الذي ضمّ جسده الطاهر في ترابه، فتبارك أرضًا وتشرّف مقامًا وتسامى عزًا وشرفًا وقدسًا.

والنجف كجامعة علمية، عرفها التاريخ منذ زمن بعيد، وسجّل لها أضخم حركة علمية تواصلت في عطائها وفي حركتها الثقافية الدينية وغيرها إلى يومنا هذا.

وبرغم المناوشة التي كانت تحاول جاهدة أن تصغّر مكانتها وأهميتها وتقلّل من دورها العلمي، وبرغم الظروف المختلفة والمتعبة التي تعرّضت لها النجف وجامعتها في السنين المتأخرة، والتي استهدفت تقليل الاهتمام بها وإبعادها وحذفها من جغرافيا الحركات العلمية والمؤسسات والمراكز الدينية المهمّة، ورغم كل هذه الأمور استمرّت النجف في عطائها وفي إثبات وجودها، ولم تسجّل تراجعًا أبدًا في حركتها وفي نشاطها العلمي والفكري.

وإذا كانت الجامعات العلمية التي تأسّست وقامت في البلاد العربية والإسلامية، والتي أضحت منارًة مشعًّة مضيئًة في الفكر الإنساني والعلوم الإنسانية والأخلاقية وغيرها، وأعطت الدعم الكامل لكل جهد علمي ولكل تحرّك فكري يرتقي بالإنسان إلى مراتب المعرفة السامية والعلم النافع، فإنّ النجف وحدها كانت تضاهي تلك الجامعات والمؤسّسات في حركتها وعطائها في مختلف العلوم الإنسانية.

وليس هذا ادّعاءً من القول أو مبالغةً فيه، فمن خلال اطّلاعي على كثير من المخطوطات -وكنت أهتم بهذه المخطوطات وسجّلت العديد من التقارير وتفاصيلها مع الملاحظات لمختلف العلماء- وجدت الكثير من العلوم كانت تدرّس في النجف، من الفلسفة والفلك وعلوم الهيئة والرياضيات والهندسة والكيمياء، هذا عدا ما هو المعروف والأساس في الدروس في النجف من دراسة الفقه والأصول والحديث والتفسير وعلوم القرآن، والعلوم العربية على اختلافها من النحو والصرف والمعاني والبيان، وعلم الكلام والمنطق لما لهما من أثرٍ كبير في ترسيخ العقيدة والتعرّف على الأدلة المتعلقة بذلك.

أما الطب: فوجدت اهتمامًا بذلك وخاصةً الطبّ اليوناني والتداوي بالأعشاب، ووجدت بعض المصنّفات في ذلك أيضاً، كما توجد ممارسة له من قبل بعض الأشخاص العارفين، وهذا ما يؤكّد بشكلٍ دقيق سعة الحركة العلمية في النجف وسعة آفاقها، وللتاريخ حركة واسعة أيضاً، سجّل فيه العلماء العديد من المؤلفات.

من هنا نعتبر أن جامعة النجف من أهمّ الجامعات في العالم الإسلامي، وليس الأزهر ولا جامعة القرويين في المغرب العربي بأكبر وأوسع في نشاطها وحركتها وفي عطائها.

إن (رسالة النجف) احتواء للماضي وللحاضر وللمستقبل.

الماضي: الذي كان الانطلاقة الواسعة والأساس في عالم الدراسة والعلم والمعرفة، حيث كانت البدايات للحركات العلمية والنشاط الفكري، وكفتيا ومراجعات وحوارات، وكذلك في الجمع والتقرير للمطالب التي كانت تكتب وتوضع كمنهاج للدراسة وكمرجع يعتمد عليه في التأسيس.

والحاضر: الذي أطلّ على الحوزات بنوع من التخطيط والبرمجة والمنهجية، بحيث أصبح الطالب يجد أمامه مراحل ومناهج للدرس، وللتنويع في الدارسة وأسلوبها وفي الخطوات التي يجب أن يعتمدها الطالب في بلوغه المقامات الدراسية والمراحل العلمية والتي تؤهّله لأرقى المراتب العلمية حتى الاجتهاد، وتسلّم منصب التدريس العام والمرجعية العامّة.

وأما المستقبل: فالنجف اليوم تستعدّ للتحرّك في اتجاه احتضان الأفكار والآراء والعلوم المختلفة، وتناقشها وتهذّبها وتعطيها الصورة التي تتوافق مع المبادئ والأسس الصحيحة والسليمة، وهذا المعنى وإن كان موجودًا في السابق، إلا أنه ليس بالمستوى الموجود حاليًا، والذي رافقته تطورات عديدة في التقنية وفي الوسائل وفي الظروف.

وإذا كانت السياسة قد لعبت دورًا في مرحلة من المراحل -تُقدّر بجيلين تقريبًا- لإيقاف هذا النشاط وهذا التحرّك، لأنها لا تريد أن يكون للنجف دور في تلك المرحلة ولا يكون لها صدى متميز أو صدى واقعي يتحرك مع الإنسان في كل أوضاعه وظروفه واحتياجاته، فإن النجف تحرّكت من خلال هجرة بعض رجالاتها في هذا الموضوع وغيره، ولهذا حديث طويل لسنا بصدد ه الآن.

وإذا حاولنا اليوم كما هو بالأمس أن نقرأ ما قدّمته النجف من علوم، أو ما طوّرته النجف من أفكار، وما نسفته منها، ونضع هذا الأمر في دراسة معمّقة، نحتاج إلى مباحث عديدة، إلا أن المهم في هذه النقطة أن نقول أن النجف استطاعت أن تحافظ على أصالة الفكر والعلوم الأساسية المعتمدة لدى المسلمين كمصادر للعقيدة وللتشريع وللأخلاق وللعلوم الأخرى، وتحفظها من أن تنالها أيدي التحريف والتزييف، وفي نفس الوقت تقرّر أيضاً حالات ومراحل وأسس التطور الإنساني الذي يجب أن يبقى له صفة الواقعية، والتي تتلاءم تمامًا مع الشرع ومع الإيمان والاعتقاد الصحيح.

وهذه نقطة مهمّة جدّاً استطاعت النجف أن تكون المرجع فيها، لأن التيارات التي هبّت رياحها على العالم الإسلامي وكانت تقصد الإسلام والمسلمين بالذات، وبدأت تلقي بذور الشرّ والتحريف والتزييف، في كل ما يتعلق بالعقيدة وبالشريعة وبالأخلاق وبالاقتصاد، وحتى الاجتماعيات، وجدت لها في بعض المناطق مكانًا تعشعش فيه.

إلا أن النجف -وليس هذا جديدًا عليها- استطاعت أن تقاوم هذه الأمور، ولذلك كانت وستبقى هي المرجع والأساس في ذلك.

هذه صورة سريعة عن النجف.

إلا أن الحديث الأساسي الذي أريد تسجيله في هذا الموضوع وعلى صفحاته هو (العهود الدراسية في النجف) :

لقد مرّت النجف بعهود متميزة ومهمّة، وأهمّ تلك العهود (العهد الأول)، الذي ينقل أن الشيخ الطوسي -رضوان الله عليه- هو المؤسّس له وللحركة العلمية الواسعة التي أعطت للنجف ذلك المعنى وتلك الأهمية.

فهل يا ترى إن الواقع كذلك، وأن الشيخ الطوسي هو المؤسّس أم لا ؟

هذه النقطة بالذات أقف عندها متأمّلاً، لأني وجدت من خلال قراءتي لهذا الموضوع، ولهذه الناحية بالذات، والأمور التاريخية الأخرى المتعلقة بالنجف: أن النجف كانت مركز علم، وكان لها مقام علمي قبل مجيء الشيخ الطوسي إليها، إلا أن مجيء الشيخ الطوسي أعطاها صفة المركزية والثبات.

أولاً: أنها كانت تسمى بـ(ظهر الكوفة)، والكوفة بلد واسع منتشر يتجاوز حدودها الحالية، بل كانت الكوفة عددًا من البلدان المجاورة، وكانت النجف ممرًّا إلى بلاد الحجاز وغيره من الأماكن المجاورة، وهذا ما يستفاد من روايات تشير إلى هذه الاستفادة.

وثانيًا: وجود ضريح الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام)فيه، وكان المؤمنون يتردّدون لزيارته ولو بالخفاء خوفًا من سلاطين الأمويين والعبّاسيين.

ويظهر أن البناء الذي على الضريح لم تكن بدايته من عهد الرشيد كما يشير إلى ذلك المؤرخون أو بعض المؤرخين، وإنما كانت هناك أبنية تعاقبت عليه قبل ذلك.

ففي رواية عن صفوان قال: (قلت للإمام الصادق(عليه السلام): يا سيدي أتأذن أن أخبر أصحابي من أهل الكوفة به ؟ فقال (عليه السلام): نعم، فأعطاني الدراهم وأصلحت القبر )([1]).

مما يشعر بأن الخوف الذي كان يسيطر على الناس من زيارة الإمام علي (عليه السلام) قد خفّت حدّته في زمان الإمام الصادق(عليه السلام)، وفي زمانه(عليه السلام)كانت الحركة العلمية في الكوفة على أوجها، وكان النشاط العلمي بالغ الأهمية، ومما يذكر من تعداد الحضور لدرس الإمام الصادق(عليه السلام) وبلوغ عددهم الأربعة آلاف كل منهم يقول: (حدثني جعفر بن محمد(عليه السلام)) يدلّ على ذلك.

ولقد كان من الطبيعي والوضع هذا وارتفاع الخوف عن زيارة ضريح أمير المؤمنين (عليه السلام) ومشهده وحضرته: أن يرغب الناس في الإقامة حوله، وهذه الرغبة خلقت الأجواء والعمل على توفير الظروف لجعل النجف مسكنًا وموطنًا، واستقطبت أوضاعًا تؤكّد السكنى فيها مثل بناء القبب والغرف.

ورد أن محمد بن زيد العلويّ الداعي الصغير صاحب طبرستان المتوفي سنة 287 بنى في النجف قبة وحائطًا وحصنًا فيه سبعون طاقًا([2]).

 ويظهر أن هذه الطاقات كغرف للسكن أو سكن الطلاب، وهذا ما يؤكد وجود سكن في النجف في فترات متقدّمة من الزمن، ومما يؤكّد ويؤيّد ما ذكرناه أن عضد الدولة البويهي -كما ذكر ابن طاووس في كتابه (فرحة الغريّ)([3])- يروي عن يحيى بن عليان الخازن بالقبر الكريم: أنه وجد بخط ابن البرسي المجاور بمشهد الغري على ظهر كتاب بخطّه ما معناه: أن عضد الدولة البويهي توجّه عام 371 هـ إلى مشهد الغريّ الشريف وزار الحرم الشريف وفرّق أموالا على القاطنين والساكنين هناك، ومنهم العلماء، فأعطى العلويين ألف وسبعماية درهم، وعلى المجاورين خمسماية ألف درهم، وعلى المترددين مثلها، وعلى الذين ينوحون على الحسين(عليه السلام)ألف درهم، وعلى الفقراء والفقهاء ثلاثة آلاف درهم.

ويقول ابن الأثير في تاريخه([4]): أن الدراسة في النجف بدأت منذ القرن الثالث الهجري، وبلغت أوج عظمتها في عهد عضد الدولة البويهي أحد الملوك البويهيين، حيث أطلق الصلات لأهل العلم ورجال الدين والمقيمين في الغريّ.

هذه النقاط التاريخية التي ذكرناها تؤكّد قدم الحركة العلمية في النجف الأشرف.

فالنجف إذن كانت قبل مجيء الشيخ الطوسي وهجرته إليها حاضرة علمية ومركزًا علميًا مقصودًا ومعروفًا، بل إن الشيخ الطوسي لم يهاجر إلى النجف بعد نكبته في بغداد على أيدي السلاجقة الذين كانوا يحملون من الحقد والضغينة والعداء المذهبي للشيعة ما لم يعرفه أحد إلا في الأيام المتأخرة([5])، إلا أن للنجف هذا المركز الديني والعلمي الواسع، والذي رأى الشيخ أنه من خلاله يمكنه أن يستعيض ما بناه في مدرسته ببغداد.

من هنا كانت الدراسة لهجرة الشيخ الطوسي إلى النجف والقول بأنه المؤسّس والرائد للحركة العلمية في النجف، وانتشار وذيوع ذكرها وصيتها بالشكل الذي يرتقي بها إلى العزّة والشموخ العلمي البارز، يمكن تفسيره بأن الشيخ الطوسي الرائد للتجديد والتطوير في الدراسة، وأنه أضفى على الدراسة في النجف وضعًا جديدًا كان له أثره عند طلاب العلم، الأمر الذي وجّه الأنظار إليه واعتبروه المؤسّس لحوزة النجف الأشرف وجامعتها.

وإذا لاحظنا ما كان يطرحه الشيخ الطوسي من علوم ومعارف، ومن تخطيط جديد، يمكن أن يستنتج منه الباحث: أن دور الشيخ الطوسي في النجف هو وضع برنامج جديد في كثير من الأمور العلمية، لأن الشيخ +بعد النكبة التي تعرّض لها وإحراق كتبه ودفاتره وذهاب كل ما لديه من مؤلفات ومصنفات، جعله يتحرك بأسلوب جديد ومنهج جديد في الحياة العلمية والمواضيع العلمية، وهذا ما تحكيه مباحثه وكتبه:

في الأصول مثل كتاب (العدّة).

وفي الفقه وتشير إليه مصنفاته (المبسوط).

وفي الحديث -ويشير إليه كتاب (التهذيب) و(الاستبصار).

وفي الرجال -ويحكيه كتاب (الرجال) و(الفهرست).

وغيره من المواضيع: (الفقه المقارن) و(التفسير).

وفي العقائد، وفي أمور أخرى -كما يحكيه كتاب (الآمالي).

ومن خلال هذا العرض البسيط والتطور في المفاهيم الدراسية يمكننا أن نقول: بأن الشيخ الطوسي رائد الحركة الفكرية والعلمية الجديد، ولقد بلغت الحوزة والحركة العلمية ذروتها في ذلك العهد، وتوافد الطلاب إليها من مختلف البلاد، الأمر الذي أعطاها الدعم والقوة، وهذا الوصف المتميز الذي بها أصبحت تضاهي الحوزات بل الجامعات الكبرى في العالم الإسلامي.

وبهذا يمكن أن نؤرخ للنجف (عهدها الأول) الذي بدأته.

ولا بد لنا من الإشارة إلى ناحية مهمة جداً، وهي: أن المنهجية التي تبنّاها الشيخ الطوسي والتي انتهج فيها المناقشات الواسعة لآراء الفقهاء والأصوليين، والموقف الواضح من العلماء الإخباريين، والتي استقطبت النشاط الفكري الإمامي الواسع، بحيث أحرزت هذا السبق الفكري، كانت كلها تدور في فلك الشيخ الطوسي، بمعنى أنها كانت تترجم آراءه ومبانيه.

ولعل هذا الجمود على آراء الشيخ الطوسي كان من باب حسن الظن بالرائد واعتقاد صوابيتها إلى درجة التقليد، وكانت موضع إكبار وتقديس، إلى درجة أنه سارت عليها النجف حتى بعد وفاته.

وهذا ما تؤكده قراءة وترجمة ولده المعروف بالشيخ أبي علي الطوسي، حيث انتقلت الزعامة له بعد أبيه الشيخ الطوسي، وبعد أن تخرج على يديه الكثير من العلماء والفقهاء وحملة الحديث من الشيعة والسنة إلا أن الملاحظ أن مناهج النجف ظلت كما هي، حتى قيل في هذا الشأن إنه لم يبق للإمامية مفتٍ على التحقيق بل كلهم حاكٍ، حتى انتقال الحوزة إلى الحلّة على يد ابن إدريس الحلي، وكما ستأتي الإشارة إلى ذلك في ذكر من تقلّد الزعامة العلمية في النجف بعد الشيخ الطوسي.

الحوزة في الحلة:

أقام ابن إدريس الحلي([6]) حوزة علمية في الحلّة، وابن إدريس من العلماء المعروفين، والذين اشتهر صيتهم وسمعتهم بين العلماء، وعرف بالفضل والمكانة العلمية السامية، حتى قيل عنه إنه فقيه أصوليّ بحق، ومجتهد صرف، وهو أول من فتح باب الطعن على الشيخ الطوسي  بنقد آرائه نقداً قاسيًا، يعرف هذا من خلال حملة العلامة الحلي على ابن إدريس ونقده، ورميه بقلّة الأدب !

وهذا التوجّه من ابن إدريس -أي نقد آراء الشيخ- جعل الحركة الفكرية تتحرك مشبعةً بروح التحرّر من قيود التبعية، ومن قيود الاعتبارات التي تجعل الطالب متوقفًا بعض الشيء، وهذا المعنى أيضاً جعل الحوزة العلمية تأخذ مسارًا وانفتاحًا جديدًا، الأمر الذي وجّه الأنظار إلى (الحلة)، واستلبت من النجف مكانتها، أو بعضًا من مكانتها، وأخذ الطلاب ورجال العلم والفقه يتوجهون إليها، أمثال الشهيد الأول والثاني وغيرهما من العلماء الأفذاذ.

لقد كانت أبرز سمات الحوزة في الحلّة هي الحوار المفتوح، وهذا المعنى يولّد عند الطلاب توجّهًا للعلم، وحركةً ونشاطًا علميًا، مضافًا إلى ذلك إنه يشعر بقيمة رأيه، الأمر الذي يدفعه لأن تكون آراءه -تمامًا- معتمدة على الحجة القوية، وعلى استيعاب المطالب الواسعة، وعلى المناقشة التي تؤمّن له الاطلاع على أكثر من رأي.

ولا شك أن هذا هو المعتمد في الدراسة العلمية في النجف، وقد يكون من أبرز خصائصها، فالطالب يجد أمامه أكثر من رأي، وكل رأي يعتمد الدليل والحجّة، ولا يتقيد بالرأي الواحد أبدًا، ولا يخضع في التفكير إلى جانب دون جانب، وإنما هو يعمل فكره.

فإن ارتضى ما بيّنه الأستاذ، لم يكن هذا جمودًا أو تقليدًا، وإنما ارتضاء للفكرة والرأي الذي طرحه الأستاذ، وطالما اتفقت الآراء.

وإن عارض أستاذه، لم يكن في ذلك غضاضة، لأن له الحرية في هذا المجال، وخاصة في المطالب العلمية وفي مراحل التخصّص التي يحتاج الإنسان فيها لأن يكوّن رأيه ويعتمد على حجة يعتذر فيها إلى الله سبحانه.

وإذا كانت حوزة الحلة قد نشطت في ظل هذا التحرّر الفكري والعلمي والحوار البنّاء، حتى أصبحت مركزًا علميًا مهمّاً، إلا أن هذا الأمر والتوسع لمركز الحلّة، والذي دام ثلاثة قرون تقريبًا، لم يؤثّر على النجف، ولم ينهِ دورها كحاضرة وجامعة علمية، فبقيت الدراسة متواصلة فيها، والحركة العلمية سائرة على نهجها، إلا أنه لم يبقَ لها ذلك البريق الوهّاج، ولا ذلك الشموخ الزاهي.

ويمكننا أن نسجل من خلال هذا التوسّع لحوزة الحلّة وانطلاقها: نهاية (الدور الأول) للنجف الأشرف، واستعدادها لـ(الدور الثاني).

وقد يعجب القارئ من عبارة (واستعدادها للدور الثاني)، ولكنه من خلال التتبع لوضع النجف والدراسة فيه وتعاقب الأساتذة الفضلاء الذين تولّوا الإشراف والقيام بشؤون التدريس ورعاية الحوزة ومركزيتها والمرجعية فيها، نجد أن هؤلاء لم يكن لدى أيّ منهم أيّ استعداد أو تفكير لأن يأفل نجم النجف أو تبتعد عن المسار الذي رسمته الأوائل لها.

ففي عقيدتي: إن الجهود لأجل بقاء هذا البلد مركزاً علميًا واسعًا تتظافر وتستقطب الإمكانات والجهود الأخرى من كل رجالات الشيعة لبقائها واستمراريتها على اختلاف جنسياتهم وبلادهم ولغاتهم، وكان هذا اهتمام الجميع من اللحظات الأولى حتى يومنا هذا، وحتى من ابن إدريس نفسه، لأن النجف من حيث موقعها ومن حيث مباركة الإمام(عليه السلام) لتربتها بدفنه (عليه السلام) فيها، كان لها هذا المقام وهذا الموقع، وجعل لدى العلماء التوجّه الدائم للمحافظة على هذا الأمر، ولم أجد في مصدر من المصادر ذكر أية محاولة لإنهاء النجف أبدًا !!

نعم في الفترة الأخيرة، وفي أيامنا التي عشناها في النجف، كانت محاولات لتحديد الوجود في النجف، أي تحديد مدّة إقامة الطلاب في النجف وجعله فترةً زمنيةً معيّنة لا تزيد عن الخمس سنوات، حاولته الدولة العراقية وفي أيام (صدام) وما قبله، لأن النجف كانت تشكل عقبة كبرى في طريق مشروعهم الطائفي.

وقد أثّر هذا القرار سلبًا على النجف، مضافًا للأساليب الأخرى التي كانت تشكل مضايقات وإزعاجات للطلاب لا تخلو من الإرهاب، فأدّت إلى هجرة البعض وانتقالهم إلى (قمّ المقدسة)، ومنهم من رحل إلى بلاده، وتابع البعض الآخر وجوده في النجف رغم كل شيء، وكل الظروف المتعبة والمهينة، بل والمسيئة للنجف ولمراجع النجف، كما حدث للسيد الخوئي رضوان الله عليه من صدّام وزمرته، وتعرّضه لمضايقات ومضايقات وإيذاء وامتهان لكرامته أكثر من مرّة، حتى تدخلت الأمم المتحدة وأرسلت مندوبًا لها للاطمئنان على أوضاع السيد الخوئي، ومع ذلك لم يخرج السيد الخوئي من النجف أبدًا، محافظة على النجف وعلى مركزيتها، وبعد وفاة السيد الخوئي رضوان الله عليه، تابع الموجودون -من العلماء الأعلام والفقهاء والمراجع وجميع من يهمّه أمر النجف- المسيرة، وحافظوا ببقائهم واستمرارهم في النجف، وعلى رأسهم السيد السيستاني في مواقفه البنّاءة والهادفة لاستمرار وحماية الأمّة العراقية، كل ذلك لتبقى النجف.

وهكذا بقيت النجف واستمرت بلدًا إسلاميًا يحمل مشعل الولاية والمحبّة لأهل البيت(عليهم السلام)، والفداء من أجلهم، ومركزًا علميًا يشعّ على الدنيا كلها من أنوار عليّ(عليه السلام) وقدسيته، والذي ينطلق ويؤخذ من كتاب الله وسنّة نبيه(صلى الله عليه وآله).

وإذا كان هذا حال المتأخرين كانت وهذه فكرتهم وهذه مواقفهم وأعمالهم، فكيف بالمتقدمين الذين لم يتعّرضوا لمثل هذه الظروف والذين بنوا النجف بجهودهم وعطائهم ومتابعتهم.

فالنجف لم تنته أبداً بمدرسة الحلة وحوزة الحلة التي دامت ثلاثة قرون، ولا انتزعت منها زعامتها ولا مركزيتها.

بل يمكنني أن أقول أن حوزة الحلّة شكّلت مثالاً يحتذى لطلاب النجف الذين يرجعون إلى بلادهم، فعليهم أن يقوموا بنفس التجربة والمحاولة، بتأسيس حوزات في بلادهم للمحافظة على آثار أهل البيت ونشر معارفهم وعلومهم، ولا أقل من أن تكون بداية للدراسة في النجف يكون الطالب قد تهيّأ لخوض الدراسة المعمقة والتخصّصية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* آية الله السيد علي مكي مرجع للشيعة في سوريا.

([1]) موسوعة النجف الأشرف ج6 ص35.

([2]) موسوعة النجف الأشرف ج6 ص35.

([3]) فرحة الغريّ ص 114.

([4]) تاريخ ابن الأثير ج8 ص 434.

([5]) من المؤسف جدّا أن نسمع أن القتل في العراق من السنّة المتطرفين أصبح يأخذ هذا الطابع الحاقد والجاهلي، يطلب أن يسب أمير المؤمنين(عليه السلام) للتمييز بين الشيعي والسنّي، فكم من قتيل ذهب بلا سبب وبلا موجب سوى العداء المذهبي الحاقد، ويتكلمون في الإذاعات ماذا فعلت المرجعية لقتلى ومواقف الأمريكان من الفلوجة وغيرها.

المرجعية الشيعية موقفها واضح، فهي لا ترى وجودًا للأمريكان في مثل هذا البلد ولا تستعين بهم على المسلمين ولا تقدّمهم عليهم، ولكن ما هو الدافع لهذا القتل العشوائي والحقد المذهبي، وكيف تريدون من النجف ومن المرجعية أن تقول ما تقول ؟‍‍!

([6]) وابن إدريس سبط الشيخ الطوسي.

أعلى الصفحة     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية