العدد صفر :  2005م / 1425هـ

     رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال - الرؤية الحوزوية في طروحة التجديد

2 ـ البرهان الثاني: الذي سيق لإثبات ضرورة التجديد والتغيير في نفس الحكم في قسم الأحكام المعللة: أن الأحكام الشرعية كما هو مسلك العدلية, إنما شرعت لأجل المصالح والمفاسد في متعلقاتها, وبعبارة أخرى إن الأحكام الشرعية إنما شرعت لأجل معالجة حاجات الإنسان, وحاجات الإنسان على قسمين:

1 ـ حاجات ثابتة.    2 ـ وحاجات متغيرة.

ومقتضى انقسام الحاجات إلى حاجات ثابتة وحاجات متغيرة, انقسام القوانين أيضاً إلى قوانين ثابتة وقوانين متغيرة, فالقوانين الثابتة تتكفل معالجة الحاجات الثابتة والقوانين المتغيرة تتكفل معالجة الحاجات المتغيرة.

ويجاب على هذا الدليل: أننا لسنا أمام رفض مبدأ التجديد أو رفض مبدأ التغيير, بل إن التغير له ضابطة فأي حكم تابع لموضوعه تبعية المعلول لعلته التامة كما يقولون, فتغير الحكم منوطٌ بتغير الموضوع, وحينئذٍ فلا بد لنا من دراسة الموضوع بنحوٍ يستكشف منه قابلية الموضوع للتغير أو عدم قابليته وهناك عدة بنود وعدة خطوات من خلالها نستطع أن نكتشف قابلية تغير الموضوع وعدمها.

الخطوة الأولى: دراسة التبرير المذكور في الخطاب هل هو من قبيل الحكمة أو هو من قبيل العلة؟, فمثلا نحن استشهدنا بالآية المباركة {... فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى...}([1]) فهل كلمة {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} حكمة أم علة؟ فإن تغير الحكم بتغير معرضية الضلال إنما يتم لو كانت معرضية الضلال علةً تامةً للحكم.

أما لو كانت حكمة يعني إحدى العلل وإحدى الملاكات فلا يكون الحكم منوطاً بتغير الموضوع.

الخطوة الثانية: دراسة سنخ الحكم وأن الحكم هل هو من قبيل الحكم القانوني أو هو من قبيل الحكم الولايتي, حيث إن الحكم الولايتي قابل للتغير بتغير زمانه وبتغير مكانه وبتغير مناطه, أما الحكم القانوني فهو ممتدٌ في الزمان والمكان فلا بد من دراسة سنخ الحكم, وهل أن سنخ الحكم من قبيل الحكم القانوني أم أنه من قبيل الحكم الولايتي؟.

الخطوة الثالثة: وهي التفكيك بين العنوان الأولي والعنوان الثانوي, فمن الممكن أن يتغير الحكم نتيجة طروء عنوان ثانوي يحدد موضوعه سعةً أو ضيقاً, كما في كلمات بعض الفقهاء المعاصرين, حيث يستدل على الجواز للطبيب أو للمتعلم للطب أن يشَّرح جثة المسلم, فيعتبر أنه لولا فتح هذا الباب لكان المسلمون معتمدين في علم الطب على المجتمعات الأخرى, واعتماد المسلمين على المجتمعات الأخرى في أهم العلوم وأكثرها ضرورة  موجبٌ لوهن المسلمين وإذلالهم, فمن باب العنوان الثانوي وهو لزوم حفظ عزة المسلمين ولزوم استقلالهم واستغنائهم عن المجتمعات الأخرى الكافرة من هذا الباب يجوز تشريح جثة المسلم لاكتشاف بعض المعلومات الطبية التي تساعد على عزة المجتمع الإسلامي. فهذا الفقيه قدَّم عنواناً ثانوياً, حيث العنوان الأولي هو حرمة تشريح جثة المسلم فغيره بالعنوان الثانوي والسر في تغير الموضوع من العنوان الأولي إلى العنوان الثانوي هو طروء العنوان الثانوي.

الخطوة الرابعة: أيضاً من الخطوات التي من خلالها يحدد قابلية الموضوع للتغير وعدمه هو باب التزاحم حيث إن باب التزاحم بين المتساويين وبين الأهم والمهم يحدد موضوع كل من المتزاحمين ونتيجة تقديم الأهم على المهم أو الأسبق على اللاحق أو المقدور بالقدرة العقلية على المقدور بالقدرة الفعلية, كما هي الأبحاث في علم الأصول في المرجحات في باب التزاحم فهذه  المرجحات تساهم في تحديد موضوع الحكم المزاحَم وقابليته للتغير تبعاً لتقديم غيره عليه.

إذاً: نحن لسنا أمام رفض تغير الحكم بشكلٍ مطلق، بل مع تغيّره ولكن ضمن الضوابط العلمية والحوزوية والتي نعبر عنها بعنوان واحد وهو (دراسة موضوع الحكم لتحديد قابليته للتغير وعدمه وتبعا لذلك يتغير الحكم بتغير موضوعه).

وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

أسئلة حول المحاضرة:

1 ـ نرى أن بعض الأطروحات والكتابات التجديدية من طلاب العلوم الدينية وتحمل مستوى عالياً من الطرح, فما هي الضابطة لأي قراءة تجديدية نراها الآن في ساحتنا خصوصاً في ساحتنا الحوزوية؟.

الجواب: إن الكتابات التجديدية سواء كانت في ضمن الدائرة الحوزوية أو كانت ضمن الدائرة العامة يجب أن تعطى إلى أساتذة وفضلاء الحوزة لتحويلها بما ينسجم مع المناهج العلمية المبنية على الدليل والبرهان القطعي, وأما بقاؤها مجرد إستذواقات أو إستحسانات لا تستند إلى دليل أو برهان فحينئذٍ لا جدوى من ترويجها والتشبث بها دون خضوعها للمقاييس العلمية.

2 ـ السؤال يتمحور حول المقام الثالث وهو مقام الصياغة وبالشكل الأول الذي تحدثتم به عن موضوع صياغة المقررات الحوزوية بطريقة تؤدي إلى قطف الثمرة المرجوة بلغةٍ تتناسب مع العصر دون التخلي عن المحتوى والمضمون, والسؤال هو ألا يؤدي هذا إلى الانسلاخ عن التراث الفقهي والأصولي لعلمائنا الذي لا يمكن تحصيل وفهم أفكارهم إلا بانسجام الطالب مع عباراتهم وأسلوبهم, فكيف يمكن التنسيق والجمع بين الصياغة العصرية والمحتوى الذي لا يفهم إلا بالتعامل الطويل مع مقررات القدامى من علمائنا رضوان الله تعالى عليهم؟.

الجواب: قيمة التراث ليس بلغته بل قيمته بعمقه ودقته, فليس قيمة فكر المحقق الأصفهاني بلغته بل قيمة فكره في دقته وعمقه ومستواه لا بلغته التي طرحها في نهاية الدارية, وكذلك قيمة الشيخ الأنصاري (قده) بدقته وعمقه لا بلغته في كتاب الرسائل, وحينئذٍ فالذي يريد أن يناقش عبارات الأصفهاني (قده) يحتاج لعدة خطوات ولفترة طويلة ولكي يمكنه ذلك  يلزمه (فترة حتى يفهمه, ثم فترة حتى يجمع كلماته ثم فترة ليمكنه مناقشته) وهذا يحتاج لوقت كبير لصياغة كتبه من قبل أفاضل بأسلوب علمي وحديث وهو أمرٌ لا يؤثر على تراثه وعلمه.

هل المطلوب من طالب العلم فهم المطالب الطويلة الذي يراد منه سلوك طريق التحقيق في مباني طرق الاجتهاد حتى يتحصل من ذلك فقيه على درجة من النضج يطمئن من قدرته في تبيين التكاليف الشرعية للأمة, وفهم مطالب الأعلام حتى يحقق ذلك التجديد في التقريرات العلمية بأسلوب بسيط يساعده على الوصول إلى مراد الأعلام؟, أم أن المطلوب من طالب العلم هو الرقي في الترويض الذهني الذي يساعده في دقة التحقيق إضافةً إلى الوقوف على مقاصد الأعلام, فهل فكرة التجديد والتطوير تحقق ذلك المطلب الذي يرجوه الطالب أم لا؟.

الجواب: نعم إن الطالب يحتاج إلى فهم كلمات الأعلام نحو " الشيخ الأنصاري والنراقي والنائيني وصاحب الكفاية وغيرهم من الأعلام " ولكن إذا خططنا من الآن إلى خمسين سنة مقبلة  للحوزة وأسسنا كياناً لاستقراء " نظريات للمحققين وصياغتها بالأسلوب الأفضل والمتين وعرضها على فضلاء الحوزة لكي يقدموا ملاحظاتهم عليها بالحذف أو بالإضافة أو بالترتيب وغير ذلك " واستطعنا على الأقل لمدة معينة كخمس سنوات أن نكتب مقرراً في الأصول أو مقرراً في الفقه فإن ذلك سيخدم الطالب الذي سوف يأتي بعد عشرين سنة أو أكثر وسيجد أن الطريق أسهل وأيسر له مما نحن عليه الآن, ونفس الشيخ الأنصاري (قده) هل عاش هذه المشكلة التي نعيشها نحن؟ ماذا كان يوجد بين يديه من الكتب ألم يكن بين يديه كتاب المعالم أو كتاب الفصول وهذه واضحة البيان ولا تعقيد فيها, وكذا الحال في الذين عاصروا العلامة الحلي والشيخ المفيد فما هي الكتب الأصولية أو الفقهية التي تلقوها في عصرهم وأصبحوا من خلالها علماء ومجتهدين؟ هل كانوا يعيشون عقدة هذه الكتب كما نعيش فيها الآن؟ انهم لم يكونوا هكذا.

4 ـ ذكر الأستاذ سماحة آية الله السيد كاظم الحائري (دام ظله) أنه ينبغي على المستنبط أخذ وجود الحكومة الإسلامية بعين الاعتبار في طريقة استنباطه وذلك في مجلة فقه أهل البيت في العدد الأخير أليس ذلك من قبيل تطوير طبيعة الحكم في صياغته أو طريقته؟.

الجواب: هذا ليس من كلام السيد الحائري بل هذا الكلام للسيد الشهيد (قده) وهو مبحوث في مقدمته لكتاب فقه الإمام الصادق للشيخ مغنية (رحمهما الله) وتحدث الشهيد الصدر عن الفرق بين الفقه الاجتماعي والفقه الموضوعي. و ذكر هناك بأن الوسط الذي يعيش فيه الفقيه ويكتسب من خلاله المرتكزات, هذا الوسط يؤثر على الفقيه في فهم النصوص ويؤثر على تحديده للحكم الشرعي, فإذا كان الفقيه مثلاُ: في مجتمعٍ إباحي فإنه سوف يتأثرُ في مجال تحديد الحكم الشرعي, وكذا إذا كان الفقيه يعيش في ظل حكومةٍ إسلاميةٍ فإنه من الطبيعي سوف تكون فتاواه المتعلقة بالقضايا العامة أو بالأمور العامة متأثرة بما يحفظ هيبة وعزة الحكومة الإسلامية وهذا من مظاهر الفقه الاجتماعي الذي طرحه السيد الشهيد (قده).

5 ـ إن ظهور بينةٍ جديدة يمكن الاعتماد عليها بوضوح وبيان واضح في بعض الأحوال غير تام في الاعتماد عليها لأن الشارع قد يريد مصلحة أبعد من إثبات الواقع ببينة قاطعة, وهكذا قد عبدنا الشارع بقاعدة " الولد للفراش وللعاهر الحجر" وفي هذه الأيام يمكن من خلال الفحص الطبي المخبري للحمض الريبي(DNA) إثبات أو نفي الولد قطعاً, فقد تكون المصلحة أو المفسدة التي يقصدها الشارع هنا عدم انتشار الفاحشة ولا يرى أن من المصلحة إثبات أو نفي الولد قطعاً فكيف نستطيع أن نجدد مع مثل هذه المشاكل؟.

الجواب: هنا حدث خلط بين أمرين:

1ـ تارةً: يكون عندنا قاعدةً شرعيةً منصوص عليها في تشخيص القضية, كما في هذه القاعدة " الولد للفراش وللعاهر الحجر" لما يوجد من نصوص وروايات فنسير عليها.

2ـ وتارة: لا يكون عندنا نص كما في باب القضاء في بحوث العروة الوثقى للسيد الصدر في طرق إثبات النجاسة وقوله: " أن قوله (إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان) نحن إنما ندخل الأمارات العقلائية تحت هذا الحديث إما للتوسعة في عنوان البينة, حيث إن عنوان البينة المراد به عرفاً ما يوجب البيان والوضوح فيشمل هذه الأمارات والطرق العقلائية, وإما لأن المرتكزات العرفية ترى أن مناسبة الحكم للموضوع هنا تقتضي أن مناط حل الخصومة (كل ما يوجب كشف الواقع) سواء كان من البينة الشرعية أو من الطرق العقلائية, فهذا بحث فقهي مذكور في محله فلو أن الشارع الشريف ذكر لنا قاعدة تردعُ عن ذلك فهو, أما إذا لم يذكر لنا قاعدة رادعة أو مقيدة فلا مانع من ذلك.

6 ـ ألا ترون في الهيكلية الإدارية التي تحكم النظام الحوزوي دخالة كبيرة في التجديد على محاوره الثلاثة ولماذا تتغاضى عن هذه الأمور والمشاكل الإدارية التي تحكم الفكر الحوزوي؟.

الجواب: إن وجود إدارة  في الحوزة  واعية لقضايا الحوزة وهمومها ومشاكلها أمرٌ كيانيٌ وجيدٌ, ولكن هذا لا يعني أن يكون غياب الإدارة عائقاً أمام الوصول إلى التجديد, فالحوزة سابقاً لم تكن تخضع لإدارة ومع ذلك أنتجت مقررات جديدة كأصول المظفر ومنطقه وأصول الفقه المقارن وحلقات السيد الشهيد وأمثال ذلك مع عدم وجود إدارة ومع ذلك ساهم العلماء في صنع مقررات جديدة ومفيدة للحوزة.

انتهى المقال

ـــــــــــــــــــــ

([1]) البقرة: 282.

أعلى الصفحة     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية