هلمَّ معي
لنـتلوا معلقة من المعلقات السبع أو العشر، أو شطرًا مما
تضمنته حماسة أبي تمام، فإن فهمناها وأدركنا خفاياها حكمنا
لأنفسنا بأننا نستطيع فهم الكتاب والسنة ولو بعد مراجعة
مفرداتها في قواميس اللغة، وإن عجزنا عن ذلك كان عجزنا
شاهدًا علينا، ووجب علينا أن نحكم على أنفسنا بأننا في هذا
العصر لسنا قادرين على فهمهما بدون تعلم ودراسة.
إن أشهر
المعلقات معلقة امرئ القيس، وإن أشهر بيت فيها مطلعها، حتى
أصبح مضرب المثل، فقيل أشهر من
[قفا
نبكي]،
وهو هذا:
قفا نبكي من ذكرى
حبيب ومنزل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
|
|
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
لما نسجتها من جنوب وشمــأل
|
وإذا كنا لا
نفهم معنى مفردات البيتين لغرابتهما بالنسبة لنا، وكان
يمكننا فهمها ببساطة إذا رجعنا إلى قواميس اللغة أو إلى
شروح المعلقات، فهل الرجوع إلى المعاجم من الأمور السهلة؟
وهل هي مبتذلة عند جميع من يتعلم من الكتاب والسنة؟ ولو
فرض ذلك كله، فهل يمكننا فهم جميع محتويات البيتين التي
أعطتهما طابعهما الأدبي الخاص الذي رفعهما في نظر بلغاء
العرب في الجاهلية إلى المستوى الأعلى؟
وما هي
الروائع التي لفتت انتباههم وأثارت إعجابهم؟ وهل يمكننا
معرفة السبب في تثنية ضمير الخطاب من قوله (قفا)؟ وهل
يمكننا معرفة الأسباب التي استدعت إعجاب فحول الأدب في صدر
البيت في العصور الإسلامية الذهبية حتى قالوا معجبين: إنه
وقف واستوقف، وبكى واستبكى
في كلمتين!
وهل كان
السبب في تثنيته أن معه رفيقين، أو لأنه كان معه مرافقين
لأنه ملك، والملك له وزيران أيمن وأيسر؟
وإذا كان
ملكًا وكان له وزيران، فمن الطبيعي أن يكون معهم خدم وحشم
وأعوان، فلماذا خص الوزيرين بالخطاب؟ فهل كان ذلك ترفعًا
عن خطاب السوقة، أو لأنهم ليسوا أهلاً لمشاركة الملوك في
أحاسيسهم؟
أو كان
السبب في تثنية الخطاب المحافظة على وزن الشعر، لأنه إذا
أفرد الضمير اختل الوزن، وإذا جمعه لم يكن مستعذب
التقاطيع؟
إنها كلها
أسئلة موجهة، ولكن إذا رجعنا إلى الأدب العربي وإلى واقع
العرب في زمانهم، وجدنا الأمر على خلاف ذلك، لأن ملوك
العرب لا يستوزرون حسبما نعرفه، وإنما يستعينون بمن حضرهم
من زعماء القبائل، ووجدنا تثنية الضمير مبثوثة في شعر
الجاهليين والمخضرمين والمولدين ممن لم يكن لهم خدم ولا
حشم ولا وزراء ولا نديمَين، وربما يرجّح تقليدهم لامرئ
القيس، ويكون امرؤ القيس استعمل ذلك
لأن
له نديمين أو وزيرين، والذي استقر عليه علماء الأدب نوعًا،
أن هذه التثنية كانت
لغةً لهم، سواء كان للشاعر صاحبان أو نديمان أو لم يكن،
فلفظ
(خليليَّ)
و(صاحبيَّ)
كثيرة فوق الحد في الشعر العربي، وصادرة حتى ممن لا خليل
له ولا نديم، وإلا لوجب على الباحث والشارح الفحص عن شخصية
الوزيرين و الصاحبين أو الخليلين اللذين عناهما الشاعر،
وإن لم
يفعل
كانت العملية الأدبية عملية ناقصة.
وإذا عرفنا
ذلك أو جهلناه، فهل نستطيع معرفة الصورة الشعرية
اللافتة
التي استدعته للوقوف والاستيقاف والبكاء والاستبكاء، والتي
عناها بقوله
[من
ذكرى حبيب ومنزل]،
ومن قوله
[لم
يَعفُ رسمها].
أجل إنها في
هذه الكلمات الأربع صورة معبرة عن حياة العربي بعد ارتحاله
بأجمعها، فإن العربي كان ولا يزال ينزل الصحراء، ويختار
منها البقعة السهلة الناعمة، ويتجنب الحزنة الوعرة
لوعورتها، والسهلة الرخوة لرخاوتها، لأن تحركاته مع مواشيه
مظنة لاستثارة الغبار والرمال وغير ذلك، ثم إذا نزل في
المكان ضرب أخبيته، وأفرد مضربًا واسعًا يجتمع فيه رجال
القبيلة للتحدث والتناشد والسمر والسهر، لحماية الظعن،
ولاستقبال الأضياف، ويثبت في عدة أماكن أخشابًا
في الأرض لتحتكّ به الإبل وتجتمع حولها، ويهيئ الأثافي
لقدوره، ويحفر نؤيًا([i])
ليكون مستقرًا للمياه المستعملة والتي تتجمع من المطر.
ثم إذا
تقذّر ذلك المكان أو قلَّ فيه الماء والكلأ، ارتحل عنه،
وتبقى آثار المضارب وما حولها صورًا مرتسمة في الأرض،
وتكون سعتها وانتشارها دليلاً على كثرة النازلين في تلك
البقعة، وتكون النفايات المتجمعة على مقربة من البيوت
دليلاً على ثرائهم إن كان فيها شيء من عظام الإبل والضأن،
ويكون عِظَمُ
الأثافي دليلاً على سعة القدور، كما أن ما يكون فاقدًا
لهذه الصفات يكون دليلاً على قلة النازلين وفقرهم.
فإذا
ارتحلوا، بقيت هذه الانطباعات ترفرف فوق البقعة، كما أن
انطباعات أقدامهم وأقدام مواشيهم وخيولهم أيضًا تنطق عنها
كثرة وقلة، وإذا كان الشاعر قد مكث وقتًا عند أهل محبوبته
كان له خباء مستقل فله ذكريات أخرى.
فالمنزل إذن
أعظم أثرًا في نفس الشاعر من الذكرى، لأنه أقرب للحس من
الخيال، ولما كان من شأن الرياح المتخالفة جنوبًا وشمالاً
أن تحمل الرمال من الصحراء وتملأ تلك الفجوات والخلل
الحاكية، قال الشاعر: إنه لم
يعف
رسمها ولم تتغير معالمها، حتى كأنهم ارتحلوا عنها قبيل
اجتيازه بها، فهو كالعطشان الذي يرجو ماءً فيجدها ساعة
ورده.
إلى هنا
أصبحنا نشعر أننا إذا قرأنا البيتين نفهمهما بصفتنا عربًا
بالوراثة فهمًا بسيطًا جدًا لا يثير الإعجاب ولا يلفت
الأنظار، أما إذا كنا نعيش مع آبائنا، ونحيط بما شرحناه،
وقدمنا في قوله
[لم
يعف رسمها]
تلخيصًا لواقعٍ يدعو للتأمل ويبعث على الحزن،
لوجدناه
من كلام العرب المبني على الخفة والاختصار.
ولعل هذه
الصورة لم ينقلها قبل امرئ القيس متكلمٌ بكلمتين، بل كان
إذا حدّث عنها نقلها أكثر مما فصلناه، ولمّا
استطاع امرؤ القيس تلخيصها بهذا التعبير القصير المبدع
استثار إعجاب السامعين وإكبارهم له.
يتبع =
ـــــــــــــــــ
([i])
كتاب العين ج8 ص392 : النؤي : تحفر حول الخباء.
|