العدد الثاني / 2005م  /1426هـ

     رجوع     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = صلاحيات الفقيه

ونقول عوداً على بدء:

إذا لم تكن للولي المعصوم ولاية التصرف في تغيير وتبديل الحكم الذي حمله من قبل الله، فكيف يمكن أن يعطي هذه الصلاحية لإنسان يخطئ ويصيب، ويتأثر بالمؤثرات الخارجية، يتأثر بقناعاته التي يعذر فيها إن كانت مخالفة، ولكن هذه القناعات عندما تكون في صميم الأحكام الشرعية، فلا يكون معذوراً عندما تكون نتيجة الأخطاء هو خفاء الأحكام، أو اضمحلالها وتلاشيها على مر العصور.

إذا كان المعصوم، الذي يعلم الغيب، ويعلم ما يريده الله وما لا يريده، لا يملك الصلاحية المدعاة في سعة ولاية الفقيه من التقدم على سائر الأحكام، مع أن ولاية المعصوم لو تقدّمت فهو معصوم، فكيف تكون ولاية الفقيه مقدّمة !

وكيف يمكن للأحكام أن تعطي الفقيه ولاية ليعطل أحكام الله إذا اقتضت المصلحة المفروضة غير مصلحة تطبيق الشريعة !

وكيف يكون في تعطيل الحكم الشرعي مصلحة للإسـلام والمسلمين !

وهل مصلحتهم إلا في تطبيق الدين الإسلامي الذي يضمن جميع مصالحهم!

وكيف يمكن أن يعطي الإمام الولاية للفقيه ويضعه موضعًا قابلاً لأن يحكم بغير ما أنزل الله في كتابه وعلى لسان رسوله ولسانهم(عليهم السلام)! فيكون بذلك مصداقًا لكثير من الآيات والروايات التي تلعن من يغِّير أحكام الله ويحكم أو يفتي بغيرها.

فقد ورد -بالإضافة إلى آيات {ومن لم يحكم بما أنزل الله} المتعددة-: الروايات الدالة على ذلك من قبلهم(عليهم السلام).

ونتيجة المسألة:

أن الفقيه له الولاية في الفتوى والقضاء، وفي سائر الشؤون  العامة والخاصة التي تحتاج إلى الوليِّ وليس من يقوم بها، ومنها تنظيم أمور المجتمع المسلم، حتى بإقامة حكومة إذا كان الظرف مؤاتيًا لذلك، على أنَ تكون هذه الحكومة خاضعة بشكل كليِّ لأحكام الشريعة الإسلامية، حتى إذا كان ذلك أرش الخدش.

وبناء على هذا: فإنَّ حكم الحاكم حينئذٍ نافذ، ولا تجوز مخالفته، ولا يجوز نقضه من المجتهد الآخر، حتى لو كان هذا المجتهد الآخر هو المحكوم عليه.

وقد دلَّنـا على ذلك قوله(عليه السلام)فيما تقدم من الروايات: (فإذا حكم بحكمنا فلم يُقبل منه فإنما استخفَّ بحكم الله، وعلينا ردَّ، والرادُّ علينا كالرادِّ على الله وهو على حدِّ الشرك بالله).

فإن هذه الروايات صريحة في أنه إذا حكم الحاكم بحكم تجب إطاعته، ولا تجوز مخالفته لأنه حكم الله.

والمراد بحكمهم(عليهم السلام): هو الأحكام الواصلة إلينا من قبلهم(عليهم السلام)بالطرق المعروفة، وهي أحكام ظاهرية.

فحُكْم الحاكم: حُكْم ظاهري يجب العمل به، ويحرم نقضه، وهو نافذ على المجتهد الآخر أيضًا، فيما إذا كان حكمه مبنيَّـًا على وجود حق ثابت، أو حقيقة ثابتة يريد تنجيزها،  فيحكم حينئذٍ، حتى تبلَّغ هذه الحقيقة لمن لا يعرفها، كالحاكم بالهلال.

فحُكْمه حكم ظاهري ينظر إلى تنفيذ الواقع،  فيكون حجة مالم يقطع بخلافه.

الحكم الولائي

وأما الحكم الولائي الذي عليه عمل الملتزِمين بولاية الفقيه في وقتنا الحاضر، فقد فسروه: بأنه لا يجب أن يكون هناك واقع ثابت مُسبقًا، أو حقيقة ثابتة يريد الحاكم أن ينجزّها، بل يكون المقصود بحكمه: هو تنجيز حكم واقعي على الأمّة لم يكن موجودًا في الشريعة، ولَم يكن هناك إلزام بحسب التشريع الأولي، ولا ملاك الإلزام، وحتى لو كان فيه ملاك الإلزام، فإن مصلحة عدم الإلزام تزاحمه.

ومثَّلوا له: بما لو رأى الحاكم ضرورة تحديد الأسعار، فحكم بذلك.

وذكروا أن هذا ليس حكمًا ظاهريًا حتى يمكن افتراض الخطأ فيه، بل كان حكمًا واقعيًا على أساس إعمال الولاية،  إذا لم يكن فيه ملاك، أو كان له ملاك ولا يمكن  إيصاله عن طريق الشريعة إلا من خلال ولاية الوليِّ.

نقـول: إذا كان المقصود بهذا الكلام: أن حكم الحاكم يكشف عن وجود مِلاك للحكم الشرعي، وهو وجوب الالتزام بحكمه.

فبالإضافة إلى أن هذا دور واضح، فإنا لا نظن أحدًا يلتزم بذلك، لأن الملاكات لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يمكن استكشافها إلا عن طريق الحكم الثابت في الشريعة.

وأما أن نستكشف مِلاك الوجوب الشرعي الواقعي من حُكْم الحاكم، فهذا من أوضح أنحاء التشريع المحرَّم بالكتاب والسنة والضرورة.

 وإذا كان المقصود: أن المصلحة التي نظر إليها في حكمه، هي قوية إلى درجة تصحّ أن تكون مِلاكًا للحكم الشرعي:

فإن كان المقصود بذلك: أن هذه [المصلحة] تكون من العناوين الثانوية، التي يعلم برجحانها الشرعي إلى درجة الإلزام.

فهذا صحيح، ولكنّ حُكْم الحاكم حينئذٍ يكون تطبيقًا للحكم الشرعي على مورده غير المنصوص عليه بخصوصه.

وبعبارة أوضح: يكون حكمًا للعنوان حيثما وُجِد، وقد طـبَّقه الحاكم بنظره الاجتهادي على هذا المورد، فهو حُكْم أوليّ، ولكن على عنوان آخر، وبعنوان آخر، غير العنوان الذي كان ثابتًا له أولًا، فهو حكم كاشف أيضًا، ويصحّ تسميته حكمًا ولائـيًا، لأن الوليَّ هو الذي طـبَّقه على مورده، وهذا موجود في كثير من أبواب الفقه -إن لم يكن كلها-، كما لو ثبتت الحرمة لموضوع، ثم طرأ على هذا الموضوع عنوان الضرر، أو الاضطرار، أو الإكراه، أو نحو ذلك، فإن الحرمة ترتفع لا محالة.

وهناك موارد خاصة في الشؤون العامة، لا يستكشف الضرر الاجتماعي فيها إلا الفقيه الخبير، فيفتي برفع الحرمة،  أي يخبر بها، ويحكم على ذلك الموضوع بحكم العنوان الذي يراه بحسب اجتهاده منطبقًا على هذا المورد.

وكذلك رفع الوجوب، والحكم بحكم آخر بمقتضى عنوانه في موارد الضرر والحرج.. إلى غير ذلك من العناوين المسوِّغة لإعطاء الأحكام لموضوعاتها حسب عناوينها التي توجِب اشتمالها على عنوان المصلحة أو المفسدة، اللتين إن وجِدتا ترتَّب الحكم لا محالة.

وفي هذه الموارد، فالحكم أيضًا حكم كاشف، وهو حكم أولي ظاهري قابل للخطأ وانكشاف الخلاف.

بل إن أحكام الشريعة كلّها أحكام أولية، حتى هذه الأحكام الولائية.

ولا يسمى الحكم ثانويًا إلا بلحاظ أنه حكم آخر، أو حكم ثانٍ لنفس الموضوع، لتبدُّل عنوانه الذي يستوجب انتفاء المفسدة أو المصلحة منه.

فلا نقول أن هناك أحكامًا أولية وأحكامًا ثانوية، بل الأحكام كلها أوليه صادرة عن الشارع بنصّ خاص أو عام.

نعم، نقول: إن الحكم:

( تارة ): يكون للموضوع نفسه بعنوانه الأولي الطبيعي.

(وأخرى ): يكون للموضوع نفسه بعنوان آخر.

وأوضح مثالٍ له: الكذب، فإن موضوع الكذب هو الكلام الذي لا يطابق واقعًا ولا اعتقادًا للمتكلم، فهذا الموضوع محكوم بالحرمة.

فإذا كان هذا الكلام -مع كونه غير مطابق للواقع والاعتقاد- مما يترتَّب عليه مصلحة يجب تحققها في الشريعة، يصبح واجبًا، وكذا إذا ترتَّبَتْ على تركه مفسدة.

وأما إذا كان المراد بحكم الحاكم الولائي: هو نفس الحكم الواقعي الذي يراه الحاكم إلزامًا.

فهذا -بهذا المقدار- لا معنى له، لأن الحكم الواقعي حكم أُنشِئ على نحو القضيه الحقيقة، فإذا رآه الحاكم فعليًا لفعلية موضوعه، فهذا مثل القضاء، يكون حكمه فيه نافذًا، لأن رؤية الحاكم مقدَّمة على رؤية الآخر، فهو كحكم القاضي، إلا إذا اعتقد المكلَّف أن حكم الولي خاطئ ويحرم عليه الالتزام به، فهنا حيث إن نفوذ حكم الحاكم إنما هو في دائرة حفظ الأحكام الشرعية الإلزامية، فمن اعتقد بخروج حكم عن هذه الدائرة لخطأ الحاكم، وأنَّ الموضوع فيه حرمة لا وجوب، فلا يجب عليه الامتثال.

وما قد يقال: بأن قطع الحاكم موضوعي، فالحكم واقعي فعلي.

ففيه: أن قطع الحاكم طريقيّ إلى نفس الحكم الذي قطع به، فهو حجة عليه، ويجب عليه الإفتاء، ولا علاقة للمكلَّف به، ومثّلوا لذلك: بالجهاد، والتمثيل صحيح.

والنتيجة ما ذكرنا: تجب الإطاعة إلا مع الاعتقاد بالخلاف.

وعلى أية حال: فإن حكم الحاكم على جميع التقادير حكم ظاهري كاشف عن حكم واقعي مفروض الثبوت قبل حكمه، فإذا شك في صحته يجب تنفيذه، وإذا شك في خطأ مستنده يجب تنفيذه أيضًا.

وأما إذا علم بخطأ المستند: فلا يجب التنفيذ، خصوصًا إذا كان المستند حسيًا، كما في البينة التي تقوم عند الحاكم على الهلال، وكان المكلف يعلم بكذبها، أو عدم صحة شهادتها، سواء أكان حكم الحاكم على أساس أن البينة أمارة أم على أساس الولاية، لأن الحاكم على كل حال لا يحكم بمقتضى هذه الولاية إلا لتنفيذ الواقع، وحكمه في الحقيقة إخبار عن حجية البينة.

وأما حكم القاضي في المرافعات: فإنما هو للحكم بالعدل والحق، وليس حكمًا ولائيـًا، كما في سائر الأمور.

حتى لو سلمنا تفسير  الحكم الولائي بما ذكر، فهو لا يريد إيجاد حق، بل يريد الكشف عن الحق، ولكنّ حكمه نافذ حتى لو علم المظلوم أن الحكم مخالف للواقع.

نعم، لا يجوز للآخر الظالم أن يستفيد من هذا الحكم وهو يعلم بأن الحق عليه لا له.

والسبب في نفوذ حكمه تعـبُّدًا: هو الدليل الخاص الذي دلَّ على نفوذ حكمه حسمًا لمادة النزاع، ولا تُحسم إلا بنفوذ حكمه، مع بقاء حرمة الأخذ على المحكوم له، لعـلمه بالخلاف.

هذا كله من حيث المبدأ في أصل صلاحيات الوليِّ.

وأما من حيث الأمثلة:  فلا ينبغي جَعْلها مَوْضعًا للنزاع والنقاش، إذا خضعت للموازين المذكورة بدقة وإتقان.

ويستثنى من ذلك: الموارد التي هي ضرورية الثبوت، أو ضرورية الانعدام في الشريعة من قبل الشارع.

فإن مثل هذه الموارد، لا يمكن من الناحية الشرعية البحث عن عناوين لها لإخراجها عن أحكامها الثابتة، لأجل محاولة تعنونها بعناوين أخرى توجِب لها حُكْمًا آخر إثباتـًا أو نفيـًا:

وهي الموارد التي يعلم من مذاق الشارع، ومن مجموع فقه الشريعة: أنه لا يرضى بوجودها وصدورها حتى عمَّن لم يوضع عليه قلم التكليف، كالأموال والأنفس والأعراض، وقَـتْل النفس المحترمة بغير الحق الذي نص عليه القرآن الكريم أو السنة النبوية.

وكذا سائر المحرمات الأخلاقية الاجتماعية: كالزنى، واللواط، والسرقة، وغيرها، مما رتَّب عليه الشارع الحدود الرادعة القاسية.

فإن مثل هذه الأمور لا يصح التلاعب بها لإقناع الحاكم،كما لا يصح للحاكم أن يعنون مواردها بالعناوين التي تخرجها عن أحكامها.

وكذلك الحال في المباحات التي لم يجعل لها الشارع أحكامًا إلزامية تسهيلًا ومنَّـةً، فإنه لا يجوز إلتماس العناوين الملزمة لها، فإن الله تعالى رفع التسعة في حديث الرفع وإن كان في مواردها أحكام واقعية، تسهيلًا على العباد ومنَّـةً منه عليهم، ورفع الحرج عن الواجبات إلا ما استثني مِنَّـةً وتسهيلاً على العباد، وجعل المباحات لأنها مباحة بالأصل، إلا ما دلّ الدليل عليه.

فلا يجوز أن نعاند الله تعالى أو نشاركه في حكمه، ونتدخل في شؤون خَلْق الله سبحانه إلا من خلال الأحكام الشرعية.

والحكومة الإسلامية شرعية، ويعترف الشارع بها، وأَمَر بإقامتها لأجل صيانة تلك الأحكام وتطبيقها، فلا يمكن أن نتصور: أن مصلحة الدولة أو أشخاص الدولة، تستوجب جَعْل حكم أو إلغاء حكم، فإن هذا النحو من تحرّي المصالح، إن لم يكن شراكة مع الله تعالى في حكمه، فهو ردّ على أحكامه من حيث نعلم أو لا نعلم، والله العاصم والهادي إلى سبيل الحق والرشاد.

ونسأل الله عزَّتْ أسماؤه، أن يوفِّق علماءنا الأعلام في سائر الدول الإسلامية، وفي خصوص الجمهورية الإسلامية، للسير على كتاب الله تعالى وسنـَّة نبـيِّه(صلى الله عليه وآله)، والسعي باستمرار لرَفْع راية الإسلام، وخدمة المسلمين.

انتهى المقال