العدد الثاني / 2005م  /1426هـ

     رجوع     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = صلاحيات الفقيه

لسان المعصومين(عليهم السلام)واحد

فلو ورد خاص، وورد بعده العام، وبعد أن عُمل بالخاص، نستكشف أن مضمون العام ثابت في الشريعة من حين زمان الخاص المتقدم، ولكن بيانه من قبلهم(عليهم السلام)تأخّر.

ولا نقول بأنهم قد عمَّموا الحكم لغير مورد الخاص، بل نقول إن الخاص المتقدم مخصِّص للعام المتأخر من الآن، ولكن بيانه قد تأخر.

فالعمومات والمخصِّصات، تقدمت أو تأخرت، فإن مضمونها ثابت، ومشرّع في ظرف واحد، وهو ظرف واحد، سواء أَكان الالتزام بالتخصيص أم بالنسخ، أي نسخ العام للخاص، أو العكس مثلًا، فإن ذلك مشرع من أول الأمر، وقد تأخر بيان بعضها عن بعض.

بل حتى لو التزمنا بأنهم هم شرّعوها متأخرًا إذا كان هذا الحق ثابتًا لهم، ولسنا بصدد بيان هذا الأمر، فهو على أي حال تشريع ثابت من الأول، أو قد أذن الله لهم به.

ولأجل ذلك يصح لنا أن ننسب مضمون حديث صادر عن إمام متأخر إلى الإمام المتقدم وإن لم يصدر منه هذا الحديث.

 نعم، ننسب المضمون الشرعي لألفاظ الحديث.

والسرّ في ذلك: أنهم جميعًا كمشرعين أو ناقلين للتشريع، بمنزلة متكلم واحد، لأن لسانهم وكلامهم جميعًا، لسان دين وحكاية شرع وشريعة.

ففي بعض الروايات عن أبي بصير قال: (قلت لأبي عبد الله(عليه السلام): الحديث أسمعه منك، أرويه عن أبيك أو أسمعه من أبيك، أرويه عنك قال: سواء، إلا أنك ترويه عن أبي أحب إليَّ، وقال أبو عبد الله(عليه السلام)لجميل: ما سمعته مني فارْوِه عن أبي )([1]).

وفي رواية حماد بن عثمان وغيره قالوا: (سمعنا أبا عبد الله(عليه السلام)يقول: حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين، وحديث الحسين حديث الحسن، وحديث الحسن حديث أمير المؤمنين، وحديث أمير المؤمنين حديث رسول الله، وحديث رسول الله قول الله عزوجل )([2]).

وفي رواية عن الرضا(عليه السلام)في حديث طويل قال: (أخبرني أبي عن آبائه عن رسول الله(صلى الله عليه وآله)قال: من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس..)

إلى أن قال: (يا ابن أبي محمود إذا أخذ الناس يمينًا وشمالًا فالزم طريقنا، فإنه من لزمنا لزمناه ومن فارقنا فارقناه، فإن أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة هذه نواة ثم يدين بذلك ويبرأ ممن خالفه، يا ابن أبي محمود احفظ ما حدثتك به فقد جمعت لك فيه خير الدنيا والآخرة)([3]).

 وغير ذلك من الروايات المتواترة التي يصعب إحصاؤها لكثرتها.

فالعموم الصادر عن الصادق(عليه السلام)، مقارن في تشريعه مع العموم الصادر عن أمير المؤمنين، بل عن الرسول(صلى الله عليه وآله)، فهو مخصص وإن تقدم بيان الخاص وتأخر بيان العام لمصلحة في التقديم أو مفسدة في التأخير، وكذلك العكس.

وهذه هي طريقة فقهاء الشيعة في كيفية الاستدلال واستنباط الأحكام الشرعية، ولم يخترعوا هذه القواعد وغيرها من القواعد الفقهية أو الأصولية كقانون وضعي استحسنوه، وإنما أخذوها جميعًا من روايات أهل البيت، معتمدين في ذلك على سائر العلوم النظرية التي لها مساس وتنفع في الوصول إلى النتيجة.

ليس للفقيه ولاية التصرف في حكم الله تعالى

وبعدما اكتمل دورهم(عليهم السلام)في هذا النحو من التشريع، وانتهى عصر التشريع، وتكاملت الشريعة في آخر مراحلها قبل غياب الحجة، أصبحت أحكام الشريعة واضحة عند الذين حملوها وسائر التابعين لهم والذين يأخذون منهم، وأصبحت المهمة مهمة التطبيق، بالإضافة إلى التبليغ المتواصل لما حملوه.

وكانت المسؤولية من قبل إمام العصر(عجل الله فرجه)أن يغيب إلى أن يأذن الله له بالخروج، وأن يجعل من قبله أولياء ونوابًا بأوصافهم، كما جعل في حضوره بأشخاصهم، فكان جعل الولاية من قبله.

كان هذا الجعل -الذي هو مأذون فيه من قبل الله تعالى- آخر حكم شرعي يصدر من المعصومين، فكانت هذه الولاية خدمة لأحكام الشريعة، وتحت سقفها، وقد جعلوا هذه الولاية للفقهاء، كما جعلوا لهم ولاية الإفتاء، ليصونوا الشريعة، ويقيموا حدودها ويؤدوا فرائضها.

فهي ولاية في التطبيق والتنفيذ، ورعاية مبادئ الإسلام، وشؤون الأمة، ليرجع الموالون إلى هؤلاء الفقهاء في كل ما يحتاجون فيه إلى الإمام، وفي كل ما من شأنه أن يكون له وليّ وكانت الولاية فيه للإمام حال حضوره.

فالفقهاء يتولون شؤونهم على ضوء الشريعة، لأنهم فقهاء وعارفون بالشريعة وكيفية تطبيقها، وعارفون بالإسلام كدين اجتماعي، هدفه البشرية جمعاء، ورحمة للعالمين.

فلا بد وأن ينظروا إلى الأفراد والمجتمعات الإسلامية، لتنظيم أمورهم على هدي الشريعة، لا على رؤيتهم ونظرهم في تغيير الأحكام بحسب الظروف إيجاباً ونفيًا.

ولذلك أمروا مواليهم بالرجوع إلى من يثقـون بدينهم وعلمهم، وحرصهم على الدِّين، وأمانتهم في توجيـه الناس لرضى الله تعالى، وصلاح شأنهم من خلال تطبيق الشريعة التي آمنوا بها.

وإذا احتاجوا في شأن من شؤونهم الدنيوية التي لها في الشريعة حكم شرعي يحتاج إلى وليّ، فالفقيه هو الولي.

حتى لو لم يكن هناك فقيه، فالمؤمنون -بعد فرض عدالتهم- لا ينقصون في الأمانة عن الفقهاء، بعد فرض معرفتهم بالحكم.

والمقصود بذلك أن الفقهاء لا يشرّعون، ولا يزيدون في الأحكام، شأنهم في ذلك شأن العدول عندما ينحصر الأمر بهم.

ولا نعني أن [عدول المؤمنين] لهم سعة ولاية الفقهاء، بل هناك موارد ثبت في الشريعة أنهم يتولونها، وذلك لا يعني أن الولاية مقدمة على هذا الحكم الذي يتولونه، بل معناه أنهم مع ولايتهم، لهم كرامة من الله في الدنيا والآخرة، بأن يكونوا خدمًا لهذا الحكم وتطبيقه.

فإذا لم تكن للأئمة(عليهم السلام)ولاية التشريع بعد اكتمال الشريعة من قبلهم، فكيف يمكن أن تكون الولاية التي يعطونها للفقهاء لها هذه السعة والصلاحية التي تتقدم على الأحكام الكلية الإلهية أو تعطلها مع أنها جعلت لأجلها !!

وليست الحكومة بذاتها هدفًا للشريعة حتى تكون الولاية بهذا الشكل، بل الحكومة جعلت في التشريع الإسلامي لتحكم بالإسلام وأحكامه، لا باسم الإسلام فقط وإن عطّلت بعض أحكامه أو جلّها، فإن تفسير الولاية بالعناوين التي تؤهلها للحكم والحكومة بمعنى الدولة، سوف تتلاشى معها بشكل تدريجي الأحكام، وتضيع الفرائض بنسبة من الضياع، فتفقد تلك الأحكام قداستها وقيمتها، وتصبح القيمة لعنوان الدولة مهما كانت أحكامها ما دامت تحكم باسم الإسلام.

يتبع=

 


 

([1]): الوسائل ب8 أبواب صفات القاضي ح11.

([2]): الباب السابق ح26.

([3]): الوسائل ب10 أبواب صفات القاضي ح13.