العدد الثاني / 2005م  /1426هـ

     رجوع     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = صلاحيات الفقيه

فإن هذه المضامين من الروايات تدل بوضوح أنهم لا يحق لهم أن يفتوا أو يحكموا بغير ما أمرهم الله تعالى أن يحكموا به:

مثل: ما روي عن أبي جعفر(عليه السلام)، قال: (من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجلّ، ممن له سوط أو عصا، فهو كافر بما أنزل الله على محمد "صلى الله عليه وآله")([1]).

وقريب منه ما روي عن أبي عبد الله(عليه السلام): (من حكم في درهمين بغير ما أنزل الله عز وجلّ، فهو كافر بالله العظيم)([2])

وفي رواية الخثعمي: قال: (سمعت أبا عبد الله(عليه السلام)يقول: من عرف أنّا لا نقول إلا حقـًّا فليكتفِ بما يعلم منّا، فإن سمع منّا خلاف ما يعلم، فليعلم أن ذلك دفاع منّا عنه)([3]).

وعن أبي عبد الله(عليه السلام)قال: (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف)([4]).

وعنه(عليه السلام): (كل شيء مردود إلى الكتاب والسنة، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف)([5]).

ولا توجد سُنـَّة مخالفة للسنَّة، حتى السنَّة التي نصب فيها الفقيه وليـًّا، (من خالف كتاب الله وسُـنَّة نبـيِّه(صلى الله عليه وآله)فقد كفر)([6]).

وفي حديث عن الرضا عن آبائه قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (.. ومن دان بسماع من غير الباب الذي فتحه الله لخلقه فهو مشرك، والباب المأمون على وحي الله محمد(صلى الله عليه وآله))([7]).

فلم يخصِّصوا عامًّا ولم يقيِّدوا مطلقًا، ولا أوضحوا مبهمًا أو متشابهًا جزافًا، إلا بإذن الله تعالى وبمقتضى الوديعة والأمانة العظيمة التي حمّلهم الله تعالى إياها.

ولا يجوز لنا أن نقول نعلم أو لا نعلم، بأنهم استعملوا هذه الولاية بما يتنافى مع الحكم الشرعي الذي جاؤوا به وأمروا بتطبيقه.

وإذا ورد في بعض الروايات ما يوهِم ذلك، فهو تشريع صادر من زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله)أودعه الله والرسول(صلى الله عليه وآله)عندهم، ليظهروه وقت الحاجة لدوام الشريعة إلى يوم القيامة.

ولذلك يتعامل فقهاء الشيعة مع الروايات الواردة عنهم(عليهم السلام)بما يوهم أنهم حذفوا أو أضافوا، على أنها تشريع من قِبلهم أو نَقْل للتشريع الذي أُودع عندهم.

لذلك لا يجوز لنا أن نفترض أنهم عطّلوا حكمًا أو جاؤوا بحكم جديد غير ما شرع، لأن كل ما يصدر منهم من قول أو فعل هو تشريع.

وهذا معنى حجية السنة التي تعني قولهم وفعلهم وتقريرهم.

ونقول من باب المثال الذي لا يخفى على أحد: أنه لو ورد في القرآن الكريم حرمة الربا، ثم قالوا:  لا ربا بين الوالد وولده، فهذا لا يعني أنهم أنكروا حرمة الربا بينهما، ورأوا أن المصلحة أن لا يكون بينهما ربا محرم، بل يعني بيان ما هو الربا المحرم في القرآن، لأنهم(عليهم السلام)عدل القرآن، وهم القرآن الناطق.

وكما لو ورد في القرآن الكريم طهارة الماء وطهوريته، وأنه يحرُم شرب الماء النجس، وتحرم الصلاة في النجاسة، ثم صلى الإنسان في ثوب يعتقد طهارته، وبعد ذلك تبيَّن أنه نجس، فإذا سأل الإمام وأجابه: إن صلاتك صحيحة، ولم تأثم بشرب الماء، فليس معنى ذلك أنهم بدلوا حكم الماء الطاهر، بل قد فصّلوا الأحكام الشرعية الكلية على هذا النحو من الموارد الفقهية.

فلا أحد يدّعي، ولا يجوز أن يدّعي أحد: أنه وجَد فتوى مخالفة للشريعة صادرة من قِبلهم، أو أنه وجد حكمًا من أحكام ولايتهم ليس محكومًا بسقف الشريعة التي حملوها هم وتلقّوها ونشروها.

وفي أي مرتبة نضعهم إذا ادعينا عليهم التناقض في الأقوال والأفعال واختراع حكومة لا تخضع لشريعة الإسلام، ولا تستظل بسقفه الرفيع الواصل إلى حدود العرش.

الوجه في تأخير بيان أحكام النبي(صلى الله عليه وآله)إلى عهد الأئمة(عليهم السلام)

وعلى هذا الأساس نستضيء بهَدْيهم، ونستنبط الحكم من رواياتهم، وهكذا نفعل ونتعامل مع عمومات الكتاب والسنة في زمن الرسول(صلى الله عليه وآله)التي وردت مخصِّصاتها في زمن الأئمة(عليهم السلام)، وبعد حضور وقت العمل بتلك العمومات.

فهل نلتزم بنسخها ! فإن ذلك نسخ للقرآن.

أم نقول بأنها مخصِّصات وجِدت من زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وظرفها الشريعة الكاملة، وقد أَوْكل رسول الله(صلى الله عليه وآله)بأمر الله تعالى بيانها إليهم(عليهم السلام)!

وقد ورد في بعض الروايات: أن أحكامًا من تلك الأحكام التي جاء بها رسول الله(صلى الله عليه وآله)، بقيت عند صاحب الزمان(عجل الله فرجه)، وهو يبيَّنها بعد ظهوره، لأنها لذلك الزمان، كما أن العمومات التي لم تخصَّص في زمن رسول الله(صلى الله عليه وآله) كانت لزمان رسول الله(صلى الله عليه وآله)، ولم تخصّص، لأنه دَوْر تأسيس، ولم تحصل حاجة لهم بهذه المخصِّصات في علم الله ورسوله(صلى الله عليه وآله).

فإن هذا التأخير إلى زمانهم(عليهم السلام)لا يعني أن تشريعهم هذا تشريع، فضلاً على أن يكون تشريعهم مقدَّما على التشريع الإلهي.

كما لا يعني أن ولايتهم حكَمَتْ على كل الأحكام الأولية، بل ولايتهم كانت محكومة بسقف الأحكام الفرعية الكلية وخاضعة لها، وإلا فهي لَغْو ولا داعي لهذه الولاية، لأنها لو كانت فوق سقف الأحكام الشرعية، لكانت تأسيس دِين جديد غير الدِّين الذي بلّغوه ونشروه.

فلماذا لا تكون ولايتهم خاضعة لسقف الأحكام ماداموا هم أصحاب تلك الشريعة ولا يزالون موجودين إلى يوم القيامة !

لذلك لا يعني بيان الأحكام المتأخرة من قِبلهم، تقدُّمَها على الأحكام الأولية، وإنما تأخرت لمصلحة في التأخير، أو مفسدة في البيان المتقدم.

والوجه في ذلك: أن الأحكام الشرعية بأجمعها -بما فيها الولاية التي تعتبر الخادم الأمين لتلك الأحكام-، نقول: هذه الأحكام التي شرعها الله على لسان نبـيِّه الأكرم(صلى الله عليه وآله)ثابتة في الشريعة الإسلامية المقدسة من أول تشريعها، فظرفها الزماني هو ظرف الشريعة الذي انتهى بانقطاع الوحي ورحيل رسول الله(صلى الله عليه وآله)إلى ربه -تبارك وتعالى-.

ففي هذه المساحة الزمنية، لا تقدُّم ولا تأخُّر لحكم على حكم في هذا الظرف، وإنما التقدم والتأخر بين الأحكام في مراحل البيان والتبليغ، وكما قلنا بأن هناك أحكامًا مؤجلة إلى أن تظهر شمس الهداية بظهور الحجة(عجل الله فرجه).

 يتبع=


 

([1]): الوسائل ب5 أبواب صفات القاضي ح1.

([2]): الوسائل ب5 أبواب صفات القاضي ح2.

([3]): الوسائل ب9 أبواب صفات القاضي ح3.

([4]): الباب السابق ح13.

([5]): الباب السابق ح14.

([6]): الباب السابق ح16.

([7]): الوسائل ب10 أبواب صفات القاضي ح14.