إمامة
الإمام العسكري (ع)
من جهة
أخرى، اقتضت الحكمة الإلهية، أن تطول فترة حكم الإمام
الهادي (عليه السلام)، حتى يشب الإمام العسكري (عليه
السلام)، ويتولى شؤون الإمامة، وهو كبير في السن نسبيًا،
وفي هذا دفع لما يمكن أن يعيّر به الشيعة، من أنهم لم يبق
لديهم من الرجال من هو مؤهل لتولي منصب الإمامة، فقالوا
بإمامة الصبيان، وهذا يشكل جانبًا آخر، من جوانب الحرب
الفكرية والنفسية، ضد الشيعة.
من ناحية
أخرى، فقد طالت فترة انتظار الإمام العسكري (عليه السلام)،
قبل أن يرزق بولده المبارك، فقد عاش مع أبيه الهادي (عليه
السلام) حوالى ثلاث وعشرين سنة، وعاصر فيها كل الهموم
والمضايقات التي وضعت بوجه أبيه، من ضغوط نفسية، وإقامة
جبرية، ومنع الزيارات عنه وغير ذلك.
وبعد توليه
الإمامة بعد أبيه (عليه السلام) بحوالى السنة ولد الإمام
الحجة (عجل الله فرجه)، وكانت ولادته سرًا عن الناس، إلا
من خلص أصحابه وشيعته، نظرًا للمراقبة الشديدة التي كانت
تحيط به من قبل الحكام، الذين كانوا ينتظرون ولادته
المباركة، ثم يعمدون إلى قتله في مهده.
يضاف إلى
ذلك الفترة الطويلة التي أمضاها في السجن، لعلهم ينالون
بغيتهم منه، فخاب فألهم، وطاش سهمهم، فإنهم بعد فشل سعيهم،
ويأسهم من بلوغ مرادهم، وربما اطمئنانهم النسبي إلى عدم
ولادته (عجل الله فرجه) ولد الابن المبارك وترعرع في كنف
الإمامة والولاية، حتى الخامسة من عمره الشريف، ثم استقل
(عجل الله فرجه) بالإمامة بعد أبيه (عليه السلام)، فظهر
أمام الملأ حين الصلاة على أبيه (عليه السلام)، وكفى به
تكذيبًا عمليًا لمقولتهم، وتصديقًا لوعد النبي (صلى الله
عليه وآله)، وسائر الأئمة الطاهرين بخروجه الشريف.
إمامة الإمام الهادي (ع)
إن إمامة
الهادي (عليه السلام) مليئة بالإعجاز والكرامات، التي ظهرت
على يديه، لحفظ الإسلام، وخط الولاية، فهو رغم صغر سنه
استطاع أن يقلق سلاطين عصره، وأن يثبت قدرته الفائقة بوجه
جورهم وجبروتهم.
فقد بدأ
ولايته أيام المعتصم، الذي قتل أباه الإمام الجواد (عليه
السلام)، وأراد المعتصم أن يؤثّر على حياة الإمام الهادي
(عليه السلام)، فعهد إلى عمر بن الفرج، وأمره أن يذهب إلى
المدينة، ويختار له مؤدبًا بنفسه،على أن يكون المؤدّب
معروفًا بالانحراف والبغض لأهل البيت لعله يربيه على
بغضهم. فاختار الجنيدي لهذه المهمة، بإرشاد من والي
المدينة حينها، وعهد إليه أن يمنع الشيعة من زيارته
والاتصال به، وكان الجنيدي شديد البغض للعلويين، فقبل
المهمة بعد أن عين له راتبًا شهريًا.
وكانت
النتيجة أن أصبح الجنيدي من أتباع الإمام ومواليه، فقد
التقى به أحدهم مرة، وهو محمد بن جعفر، وقال له: (ما حال
هذا الصبي الذي تؤدبه؟). فأنكر الجنيدي ذلك، وراح يقول: (
أتقول هذا الصبي ولا تقول هذا الشيخ؟... إلى أن قال: ثم
إنه يملي أبوابًا أستفيده منه، فيظن الناس أني أعلمه، وأنا
والله أتعلم منه).
والتقاه مرة
أخرى فسأله: ما حال هذا الصبي؟. فأنكر الجنيدي ذلك، وقال:
( دع عنك هذا القول، والله تعالى لهو خير أهل الأرض، وأفضل
من برأه الله تعالى إلخ...الحديث([1]).
وهو الذي
عاصر أعتى عتاة بني العباس، وهو المتوكل، وأشدهم بغضًا
لعلي وأبنائه (عليهم السلام) ولشيعتهم، وبلغ من حقده وحنقه
عليهم، أنه كان إذا بلغه أن أحدًا يتولى عليًا (عليه
السلام) وأهله قصده بالدم والمال. وقد بلغت به الجرأة
والكراهة لهم أنه أمر بهدم قبر الإمام الحسين (عليه
السلام)، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يبذر ويسقى
موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه([2]).
معجزاته
وإخباره بالغيب
ونظرًا
لأهمية الموقف، وقطعًا لكل شك في قدرته وإمامته (عليه
السلام)، عند عامة الناس، فقد ظهر على يديه الشريفتين كثير
من المعجزات والكرامات، التي تبين علو مقامه (عليه السلام)
وجدارته بالموقع الذي يشغله.
فقد بدأ
ولايته الشريفة بإخبار إعجازي عن وفاة أبيه الإمام الجواد
(عليه السلام)، فقد كان في المدينة المنورة، وكان الإمام
الجواد في بغداد، فجاء مرعوبًا حتى جلس في حجر أم أبيها
بنت موسى، فقالت له: مالك؟ فقال لها: مات أبي والله
الساعة.
فقالت له:
لا تقل هذا.
قال: هو
والله ما أقول لك.
قالت:
فكتبنا ذلك، فجاءت وفاة أبي جعفر (عليه السلام) في ذلك
اليوم([3]).
ومن ذلك ما
أخبر به خيران الأسباطي، قال: قدمت على أبي الحسن علي بن
محمد (عليهما السلام)، فقال لي: ما خبر الواثق عندك؟ قلت:
جعلت فداك تركته في عافية، أنا من أقرب الناس به عهدًا،
عهدي به منذ عشرة أيام. فقال لي: إن أهل المدينة يقولون
أنه قد مات. فقلت أنا أقرب الناس عهدًا به. فقال: إن الناس
يقولون إنه مات. فلما قال لي أن الناس يقولون، علمت أنه
يعني نفسه. ثم قال لي: ما فعل جعفر؟ قلت تركته أسوأ الناس
حالاً في السجن. قال فقال لي: أما إنه صاحب الأمر. ثم قال:
ما فعل الزيات؟ قلت: الناس معه والأمر أمره. فقال: إنه شؤم
عليه. قال ثم إنه سكت، وقال لي: لا بد أن تجري مقادير الله
وأحكامه، يا خيران مات الواثق، وقد قعد جعفر المتوكل، وقد
قتل ابن الزيات. قلت: متى، جعلت فداك؟ فقال: بعد خروجك
بستة أيام([4]).
ومن معجزاته
(عليه السلام) أنه لما أشخصه المتوكل إلى سامراء، ذكر صالح
بن سعيد، فقال: دخلت على أبي الحسن (عليه السلام) يوم
وروده بسر من رأى، فقلت له: جعلت فداك، في كل الأمور
أرادوا إطفاء نورك، حتى أنزلوك هذا الخان الأشنع، خان
الصعاليك، فقال: ها هنا أنت يا ابن سعيد، ثم أومأ بيده،
فإذا أنا بروضات آنقات، وأنهار جاريات، وجنات بينها خيرات
عطرات، وولدان كأنهم اللؤلؤ المكنون، فحار بصري وكثر عجبي،
فقال لي: حيث كنا فهذا لنا يا ابن سعيد، لسنا في خان
الصعاليك([5]).
ومن الملاحظ
أن مختلف معجزاته وكراماته (عليه السلام)، كانت تكتسي
طابعًا دعويًا واجتماعيًا، يتبين من خلالها أنه أراد (عليه
السلام) تثبيت قلوب المؤمنين، وهداية المخالفين، ورد كيد
المتربصين به شرًا، كما يظهر ذلك من ملاحظة ما ذكره
المؤرخون منها.
حاله
مع المتوكل
رغم القيود
الصارمة، والمراقبة الشديدة، ومحاولات منع الشيعة من
الاتصال بالإمام الهادي (عليه السلام)، إلا أنه استطاع أن
يشكل ظاهرة مهمة في المدينة المنورة، بل في الدولة
الإسلامية في مختلف بقاعها، وهذا ما أخاف السلاطين
وأتباعهم.
فقد ورد أن
المتوكل العباسي أشخصه من المدينة المنورة إلى بغداد سنة
234هـ([6])،
ثم من بغداد إلى سر من رأى، فأقام بها عشرين سنة وتسعة
أشهر([7])،
ليكون تحت رقابته، بعدما بلغه من ميل الناس إليه فخاف منه([8]).
يقول يحيى
بن هرثمة، وهو الذي ذهب إلى المدينة وأشخصه منها إلى
المتوكل، قال: فذهبت إلى المدينة، فلما دخلتها ضج أهلها
ضجيجًا عظيمًا ما سمع الناس مثله، خوفًا على علي، وقامت
الدنيا على ساق، لأنه كان محسنًا إليهم، ملازمًا للمسجد،
لم يكن عنده ميل إلى الدنيا.
قال يحيى:
فجعلت أسكّنهم وأحلف لهم أني لم أؤمر فيه بمكروه، وأنه لا
بأس عليه. ثم فتشت منزله، فلم أجد فيه إلا مصاحف، وأدعية،
وكتب العلم، فعظم في عيني، وتوليت خدمته بنفسي، وأحسنت
عشرته([9]).
وهذه القصة،
إن دلت على شيء، فإنما تدل على مدى قدرة الإمام (عليه
السلام) على التأثير في النفوس، بحيث كان اعتراض أهل
المدينة أشبه بثورة ضد السلطة الحاكمة، حتى اضطر يحيى إلى
أن يحلف الأيمان لهم بأنه لا يريد به شرًا.
وقد حصلت
هذه الحادثة، والإمام (عليه السلام) في العشرين من عمره
الشريف، أو دون ذلك بقليل، إذ أنها حصلت في سنة 234هـ كما
تقدم، وأما ولادته فكانت سنة 214هـ، فاضطر المتوكل أن يظهر
التأسف على ذلك، والمبالغة في إكرامه.
ولكن ذلك لم
يكن نهاية المطاف، في ظلم المتوكل له ولأصحابه، فإنه بعدما
فرض عليه الإقامة في سامراء، ووضعه تحت الرقابة المشددة،
كثيرا ما كان يرسل شرطته وجلاوزته ليفتشوا منزله بحثًا عن
أموال أو سلاح، أو عن أي دليل يمكنه منه، ولكنهم يرجعون
خائبين، ويخرج الإمام (عليه السلام) منها ظافرًا.
محاولة
إحراجه علميًا
من جملة
الأساليب التي اعتمدها المتوكل العباسي، لإسقاط هيبة
الإمام (عليه السلام)، والتأثير على قواعده الشعبية،
محاولة إحراجه على المستوى العلمي، وإثبات ضعفه في المسائل
العويصة والحساسة، فقد قال المتوكل لابن السكيت: اسأل ابن
الرضا مسألة عوصاء بحضرتي، فسأله، فأجابه الإمام. فقال
يحيى بن أكثم: ما لابن السكيت ومناظرته، وإنما هو صاحب نحو
وشعر ولغة.
ثم رفع
قرطاسًا فيه مسائل، فأملى الإمام جوابها على ابن السكيت،
وأمره أن يكتبها، فلما قرأ يحيى بن أكثم أجوبة الإمام
(عليه السلام) قال للمتوكل: ما نحب أن نسأل هذا الرجل عن
شيء بعد مسائلي هذه، وأنه لا يرد عليه شيء بعدها إلا
دُونَها، وفي ظهور علمه تقوية للرافضة([10]).
وهذا اعتراف
صريح من ابن أكثم بعجزهم عن مجاراته (عليه السلام)، وأن كل
محاولاتهم العلمية ستبوء بالفشل، وستنقلب الأمور لصالحه
وصالح شيعته.
ويذكر
المؤرخون أن المتوكل كثيرا ما كان يعطي المبالغ الطائلة،
ويجعل الجعول الكثيرة لمن يستطيع إحراج الإمام (عليه
السلام)، حتى حاول الاستعانة بالمشعوذين للوصول إلى غايته.
في مقابل
ذلك نجد الإمام (عليه السلام) قد حرص على بيان قدراته
العلمية، في مختلف المجالات أيضا، حتى أنه كان يخاطب الناس
في لغاتهم الخاصة كأنه واحد منهم، مما كان يثير استغرابهم
وتعجبهم، وبالتالي توليهم له وإقرارهم بإمامته([11]).
تحركات
الإمام (ع)
لقد استطاع
المتوكل أن يؤثر على المؤرخين في نقلهم سيرة الإمام (عليه
السلام) وتحركاته، وبذلك وقع أكبر الظلم بحق هذا الإمام
العظيم، فلم يذكر التاريخ من تحركاته وأعماله إلا ما لا
يكاد يشفي الغليل، بالنسبة لتحركاتهم السياسية
والاجتماعية، وهذه الظاهرة نجحت بحق أبيه الجواد وابنه
العسكري (عليهما السلام).
إلا أن يد
الظلم والجبروت مهما عبثت بأقلام التاريخ، ومهما سيطر
الظلام على صفحات الواقع، لكنه لا يمكن أن يحجب نور الحق
وشمس الإسلام، فقد وردت بعض الشذرات القليلة، التي تتحدث
عن أعمال الإمام (عليه السلام) وحركاته، بحيث يمكنها أن
تسلط بعض الضوء وسط الظلام الدامس، خصوصًا تلك التي تتحدث
عن كراماتهم ومعجزاتهم، ذات الوجوه والظروف المختلفة، التي
كان الإمام يستفيد منها، في بيان الوجهة السليمة للدين،
دون أن يثير حفيظة الحكام وأحقادهم، بحيث يتمكن الباحث عبر
مراجعتها واستقرائها، من أن يكشف شيئا من جوانب الحق.
فقد قال
خطيب يلقب بالهريسة للمتوكل: ما يعمل أحد بك ما تعمله
بنفسك في علي بن محمد، فلا في الدار إلا من يخدمه، ولا
يتعبونه يشيل الستر لنفسه، فأمر المتوكل بأن لا يخدمه أحد،
ولا يشيل الستر بين يديه، فهبّ هواء فرفع الستر حتى دخل
وخرج، فقالوا: شيلوا له الستر بعد ذلك، فلا نريد أن يشيل
له الهواء([12]).
تشير هذه
الرواية إلى مدى قدرة الإمام (عليه السلام) على التعامل مع
الأحداث، فإن منطق الأمور يفرض، أن لا يكون هؤلاء الخدم من
أتباعه وشيعته بادئ الأمر، وهو ما يتضح بملاحظة مواقف
المتوكل منه ومن شيعته، ومحاولات التضييق عليه، وتشديد
الرقابة في سامراء، الأمر الذي يعني أنهم زرعوا في بيته
(عليه السلام) لمراقبته، وإحصاء جميع تحركاته، غير أنه
بحكمته وحسن تدبيره، استطاع أن يكسر الحصار المفروض عليه
بواسطتهم، والتواصل مع شيعته ومحبيه من خلالهم.
ومما يؤكد
هذه الحقيقة ما تقدم من حديث يحيى بن هرثمة عندما أشخصه من
المدينة بأمر المتوكل، بعدما فتش بيته رجاء أن يجد مالاً
أو سلاحا يأخذه به. كما نمي إلى المتوكل أن لديه مالاً
كثيرًا وسلاحًا يأتيه من شيعته في قم، وأنه عازم على
الوثوب بالدولة، فبعث إليه جماعة من الأتراك فهاجموا داره
ليلاً فلم يجدوا فيها شيئًا ورجعوا خائبين([13]).
هذا مع أن
هذه القصة كانت صحيحة، كما يحدث الفتح بن خاقان، الذي
أرسله المتوكل ليرصد وصول الأموال إلى الإمام (عليه
السلام)، فذهب إلى دار الإمام ورأى وصولها إليه بطريق
إعجازي، مما دفعه إلى الإيمان به واليقين بحقه([14]).
وكان الإمام
(عليه السلام) ينفق هذه الأموال على ضعاف المسلمين بسخاء
منقطع النظير، يرفع حاجاتهم ويحل مشكلاتهم، كما تحدثت كتب
التاريخ، وأفصحت عنه تارة بإبراز معجزاته، وأخرى ببيان
كراماته، كما تقدمت الإشارة إليه، ما يدل على ما كان يتمتع
به من قدرة على مواجهة الأحداث، والتعامل معها، بصورة لا
تثير الشبهات من جهة، وتخدم قضية الحق، وتوصل سفينة
الإمامة إلى الغاية المنشودة، رغم صغر سنة الشريف، والظروف
القاسية والقاهرة التي أحاطت به طيلة حياته الشريفة.
انتهى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]-
أعلام الهداية، ج12، ص80-81.
[2]-
الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج7، ص55.
[3]-
كشف
الغمة في معرفة الأئمة، الاربلي، ج4، ص22، تحقيق
علي الفاضلي، مركز الطباعة والنشر للمجمع العالمي
لأهل البيت، 1426هـ
[4]-
الإرشاد، الشيخ المفيد، ص329.
[5]-
مناقب آل أبي طالب، ابن شهر أشوب، ج4، ص442.
[6]-
تاريخ الطبري، ج9، ص83 طبعة عز الدين.
[7]-
تذكرة الخواص، سبط ابن الجوزي، ص359.
[9]-
نفس
المصدر السابق، ص 360.
[10]-
مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج4، ص435-437.
[11]-
يلاحظ مثلا: كشف الغمة في معرفة الأئمة، مرجع
مذكور، ج4، فقد ذكر فيه الكثير من الشواهد على
ذلك.
[12]-
مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج4، ص438.
[13]-
تذكرة الخواص، مرجع مذكور، ص360.
[14]-
مناقب آل أبي طالب، مرجع مذكور، ج4، ص444.
|