مقدمة
من المسائل
الهامة والمثيرة للتساؤل، في قضية الإمامة، خصوصًا بالنسبة
للأئمة المتأخرين (عليهم السلام)، مسألة تولي الإمام شؤون
الإمامة، وهو في سن صغير جدًا، وقد بدأت هذه الظاهرة مع
الإمام التاسع من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو
الإمام محمد بن علي الجواد (عليه السلام)، والذي تولى
شؤونها ولم يتجاوز الثماني سنوات، وتلاه مباشرة، في هذه
الظاهرة، ولده الإمام علي الهادي (عليه السلام)، الذي تولى
الإمامة وهو في السادسة من عمره الشريف، ثم أعيدت الكرة
ثانية مع الإمام الحجة (عجل الله فرجه)، الذي ورث الإمامة
وهو في الخامسة من عمره الشريف، دون أن ننسى الإمام
العسكري (عليه السلام)، الذي تولى الإمامة بعد أبيه الهادي
(عليه السلام)، وهو في سن الرجولة، أي وهو في الثالثة
والعشرين من عمره الشريف، الأمر الذي يشكل خرقًا لما يبدو
وكأنه قاعدة لدى الأئمة المتأخرين.
والملاحظ في
هذه الظاهرة أمران جديران بالتأمل، والوقوف عندهما:
أحدهما:
توليهم وهم في سن الطفولة.
والآخر:
أن اللاحق تولى الإمامة وسنه دون سن السابق.
الطفولة
والإمامة
أما
الأمر الأول:
فإن المتعارف من سيرة الناس عبر التاريخ، أنهم لا يولون
كبير أهمية لصغار السن على العموم، ويرونهم قاصرين عن تولي
المناصب العالية، والمهام الخطيرة، ويسعون جهدهم لإزاحة من
هم أصغر سنًا منهم، سواء كان ذلك بحق أم بغير حق.
وقد تجلى
هذا التفكير بأوضح مظاهره، في تاريخ الإسلام من خلال تبرير
الجماعة إزاحة أمير المؤمنين (عليه السلام) عن موقعه، الذي
وضعه الله تعالى فيه ورسوله، فقد صرح عمر بن الخطاب بذلك
لعبد الله بن عباس، أثناء حوار دار بينهما، فقال: (يا ابن
عباس، أما والله، إن كان صاحبك هذا - أي علي (عليه
السلام)- أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله (صلى الله
عليه وآله)، إلا أنّا خفناه على اثنتين.
قال ابن
عباس: فجاء بمنطق لم أجد بدًا معه من مساءلته عنه، فقلت يا
أمير المؤمنين، ما هما؟
قال: خشيناه
على حداثة سنه وحبه بني عبد المطلب)([1]).
وحاوره مرة
أخرى، زاعمًا تعاطفه مع علي (عليه السلام)، فقال له: (يا
ابن عباس، ما أرى صاحبك إلا مظلومًا، قال ابن عباس: فقلت
في نفسي: والله لا يسبقني بها، فقلت: يا أمير المؤمنين،
فاردد إليه ظلامته، فانتزع يده من يدي، ومضى يهمهم ساعة،
ثم وقف فلحقته، فقال: يا ابن عباس، ما أظنهم منعهم عنه،
إلا أنه استصغره قومه، فقلت في نفسي: هذه شر من الأولى،
فقلت والله ما استصغره الله ورسوله حين أمراه أن يأخذ
براءة من صاحبك. فأعرض عني وأسرع فرجعت عنه)([2]).
وفي محاورة
ثالثة، يقول عمر لابن عباس: لقد كان علي فيكم أولى بهذا
الأمر مني ومن أبي بكر، وبعد جواب ابن عباس له قال عمر:
والله ما فعلنا الذي فعلناه من عداوة، ولكن استصغرناه،
وخشينا أن لا يجتمع عليه العرب وقريش لما قد وترها([3]).
وتجدر
الإشارة في هذه الحوارات إلى أن عمر بن الخطاب تارة ينسب
الاستصغار إلى القوم، في ما يبدو كأنه تبرئة لنفسه، وبيان
لقانون عام بين الناس، ولكنه لم يلبث أن أقر به وكان
المبادر إلى ذلك الزعم، لأن من المعلوم أن أهل السقيفة لم
يتجاوزوا خمسة أشخاص دعموا بيعة أبي بكر، بما فيهم أبو بكر
نفسه وعمر، ولكن ذلك خارج عن بحثنا فعلاً.
زعامة
المال
ثمة مقياس
آخر يراه الناس في من يحق له منصب الإمامة، أشار إليه
القرآن الكريم، حين طلب بنو إسرائيل من نبيهم أن يعين لهم
ملكًا، يقاتلون تحت لوائه، قال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ
مَلِكاً قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً
مِنَ الْمَالِ}([4]).
فقد بينت
هذه الآية المباركة أن نظرة عامة الناس إلى مسألة الحاكمية،
من خلال بني إسرائيل، لا تنطلق على العموم، من مبررات
موضوعية، يرونها في الولي، أو من فضائل وكمالات ذاتية،
يتمتع بها من له حق الولاية، رغم إدراكهم الوجداني أن
مسألة الاختيار منحصرة بيد المشرع، لا يحق للناس أن
يتدخلوا فيه، الأمر الذي أدركه الملأ من بني إسرائيل،
فطلبوا من النبي أن يبعث لهم ملكا، وأراد النبي أن يبين
لهم أن المسألة لا ترتبط باختياره هو، بل الله تعالى هو
الذي يختار دون سواه، ولذلك قال لهم في الآية المباركة
المذكورة {إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ
مَلِكاً}، فهم مع ذلك يرون مقومات الملك في مقاييس
أخرى غير المقاييس الإلهية، ومن أهمها المال الذي صرحت به
الآية الشريفة.
وهذا
الموضوع يستحق دراسة مستقلة، تبين أن الإمامة والولاية شأن
إلهي، بنص القرآن الكريم، لسنا بصددها فعلاً.
المقياس الإلهي للولاية
إن نظرة
الإسلام لهذه المسألة لا تتوافق مع نظرة الناس لها في كلا
المقياسين، وما يرتبط بالمقام هو المقياس الأول.
إن القرآن
الكريم صريح في بيان حقيقة أن عامل السن لا ينطوي على أية
أهمية، كما يتوهمه الناس عادة، في أكثر من مورد:
ففي شأن
يحيى (عليه السلام) يقول تعالى: {وَآتَيْنَاهُ
الْحُكْمَ صَبِيّاً}([5]).
ويقول تعالى
بحق السيد المسيح (عليه السلام)، عندما اتهم اليهود أمه
العذراء (عليها السلام) بالفاحشة: {فَأَشَارَتْ
إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي
الْمَهْدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ
آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً* وَجَعَلَنِي
مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ
وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً}([6]).
وقد بيّن
الإمام الرضا (عليه السلام) عدم أهمية السن في مسألة
الإمامة، عندما سأله صفوان عن الإمام بعده، فأشار بيده إلى
أبي جعفر (عليه السلام) وهو قائم بين يديه، وعمره إذ ذاك
ثلاث سنين، قال صفوان: فقلت: وهو ابن ثلاث؟ قال وما الضير
من ذلك، فقد قام عيسى بالحجة وهو ابن أقل من ثلاث سنين.
وعن الخيراني قريب منه([7]).
ولقد حرص
الأئمة (عليهم السلام)، ومنذ صدر الإسلام، على بيان حقيقة
موقف الإسلام من الإمامة وميزانها، وعدم أهمية عامل السن
فيها، إذا تمّت سائر المواصفات المعتبرة في شخصية الإمام
أو الولي، ولذلك نجد أنهم (عليهم السلام)، وفي مختلف
المراحل، كانوا يوجهون الأنظار إلى الأئمة الذين يلونهم في
حياتهم، وهم لا يزالون في سن الطفولة، ويسلّطون الضوء على
قدراتهم المعرفية في مختلف المجالات، وبصورة عملية، من
خلال تصديهم للإجابة عن الأسئلة، والمحاورة مع الآخرين،
ليتبين فضلهم وعلمهم، الأمر الذي كان له كبير الأثر في
وجدان الأمة الإسلامية كلها، وظهرت لها حقيقة (أنهم يزقون
العلم زقًا)، ترسّخت في أذهان عامة المسلمين.
الإمام
الكاظم
(ع) وأبا حنيفة
ويكفي أن
نذكر شاهدًا واحدًا على ما نقول، من حياة الإمام الكاظم
(عليه السلام) في زمان أبيه الصادق (عليه السلام)، فقد ورد
أن أبا حنيفة دخل المدينة المنورة مرة، ومعه عبد الله بن
مسلم، فقال له: يا أبا حنيفة، إن ها هنا جعفر بن محمد، من
علماء آل محمد، فاذهب بنا إليه، نقتبس منه علمًا، فلما
أتيا إذا هما بجماعة من علماء شيعته، ينتظرون خروجه أو
دخولهم عليه، فبينما هم كذلك إذ خرج غلام حدث، فقام الناس
هيبة له. فالتفت أبو حنيفة فقال: يا ابن مسلم من هذا؟.
قال: موسى
ابنه.
قال: والله
لأخجلنه بين يدي شيعته.
قال: لن
تقدر على ذلك.
قال: والله
لأفعلنه.
ثم التفت
إلى موسى (عليه السلام)، فقال: يا غلام، أين يضع الغريب في
بلدتكم هذه؟
قال (عليه
السلام): يتوارى خلف الجدار، ويتوقى أعين الجار، وشطوط
الأنهار، ومسقط الثمار، ولا يستقبل القبلة ولا يستدبرها،
فحينئذ يضع حيث يشاء.
ثم قال أبو
حنيفة: يا غلام ممن المعصية؟
قال (عليه
السلام): يا شيخ لا تخلو من ثلاث:
إما أن تكون
من الله، وليس من العبد شيء، فليس للحكيم أن يأخذ عبده بما
لم يفعله.
وإما أن
تكون من العبد ومن الله، والله أقوى الشريكين، فليس للشريك
الأكبر أن يأخذ الشريك الأصغر بذنبه.
وإما أن
تكون من العبد، وليس من الله شيء، فإن شاء عفا وإن شاء
عاقب.
قال عبد
الله بن مسلم: فأصابت أبا حنيفة سكتة، كأنما ألقم فوه
الحجر. قال: فقلت له: ألم أقل لك لا تتعرض لأولاد رسول
الله (صلى الله عليه وآله)([8]).
نظرة
في أبعاد الحادثة
تتضمن هذه
الحادثة أبعادا ثلاثة، على قدر كبير من الأهمية: الأول
يرتبط بالإمام نفسه ومعارفه وكمالاته النفسية، والثاني
يرتبط بموقف علماء الشيعة، وإقرارهم بعلمه واحترامهم له،
والثالث يرتبط بموقف خصومهم من الأمرين الأولين.
ما
يرتبط
بالإمام
(ع)
أما البعد
الأول: فيكشف فيه عن قدرة الإمام على التعامل مع القضايا
الفكرية والاجتماعية وغيرها، مهما كان صغيرًا في السن،
وأنه يعلم مختلف المسائل والأحكام، الأمر الذي يطرح مسألة
علمه على بساط البحث، إذ كيف يمكن للإنسان العادي أن يتوصل
إلى المعارف، وهو في سن الطفولة، مهما أوتي من قدرات ذهنية
وذكاء وقاد، وقد تجلى ذلك في التعبير عنه بأنه غلام حدث.
وقد أشار
الإمام الرضا (عليه السلام) إلى هذا المعنى، فقد ورد عن
معمر بن خلاد قال: سمعت الرضا (عليه السلام) وذكر شيئًا،
فقال: ما حاجتك إلى ذلك، هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي
وصيرته مكاني، وقال: إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن
أكابرنا القذة بالقذة([9]).
ويبدو أن
خروج الإمام الكاظم (عليه السلام) إلى الناس في تلك اللحظة
كان تدبيرًا حكيمًا، غايته بيان تلك الحقيقة سواء كان بأمر
الإمام الصادق (عليه السلام)، أم كان بمبادرة منه (عليه
السلام)، لأنه يصبّ في نفس الهدف والغاية، أعني بيان موقع
الإمامة في الناس، وإظهار الخصائص التي لا بد أن يتمتع بها
المرشح، لهذا المنصب الخطير بالممارسة، وإبراز الواقع
أمامهم، في ما يعد تمهيدًا منطقيا لتولي الأئمة المتأخرين
(عليهم السلام) مقاليد الإمامة وهم في سن مبكرة.
ولا يخفى ما
في هذا التدبير من حكمة يشتمل عليها سلوك الأئمة العام، من
خلال صيرورة تصديهم للمهمة الكبرى، في ما بعد، بعد عيشها
في وجدان الأمة واقعًا مأنوسًا لا غرابة فيه.
خصوصًا وأن
مسألة أبي حنيفة له تشتمل على فرعين معرفيين أحدهما نقلي،
يتوقف على مقدار ما تعلمه المرء من قوانين وتشريعات فقهية،
والآخر عقلي وهو يتوقف على قدرة المرء على تحليل المسائل
العقلية، واختيار ما يوافق العقل السليم منها، أي أنها
تكشف عن رجاحة عقله، وهما شرطان ضروريان لمن يتصدى لإمامة
الدين، كما لا يخفى.
مع
موقف
علماء الشيعة
وأما البعد
الثاني: فإن اهتمام علماء الشيعة به، وإجلالهم له، يكشف عن
عمق معرفتهم بشؤون الإمامة، وإدراكهم حق الإمام (عليه
السلام)، وهو كاشف عن شدة تواضعهم أمام الحق، كما يكشف عن
مدى ما يتمتعون به من تقوى، إضافة إلى قبولهم بما أمر به
الدين، وإن خالف أهواءهم، فإن من طبيعة العالم أن يرى
نفسه، في موقع الإجلال والتقدير من قبل الناس، خصوصا إذا
ترافق علمه مع تقدمه في السن، وبروزه في موقع اجتماعي
معين، مما يدعوه إلى إبراز موقعه نفسه، ويصعب عليه أن
يتقبل بروز الآخرين عليه، كما حصل من أبي حنيفة في هذه
الحادثة، أما أن يتواضعوا أمام هذا الغلام، ويقوموا
إجلالاً له وهيبة منه، فهو على قدر كبير من الأهمية،
خصوصًا إذا كان فيهم هشام بن الحكم، وهشام بن سالم، وأبو
جعفر الأحول مؤمن الطاق وأمثالهم، ممن ملأت سيرتهم
وقدراتهم المعرفية صفحات التاريخ، هذا من جهة.
ومن جهة
أخرى، إذا أخذنا بعين الاعتبار مدى ما يوليه علماء الشيعة
لأحكام العقل من أهمية، تبعا لما رباهم عليه الأئمة (عليهم
السلام)، دل ذلك على مدى تبحرهم في علم الإمامة، ومدى
انسجامها مع أحكام العقل، وأن إمامة من كان في سن الطفولة
ليست لا تصادم أحكام العقل فحسب، بل هي تتوافق وتنسجم
معها، وتؤكدها إذا استجمع الإمام الشرائط الخاصة بالمنصب
المؤهل له.
كما تدل من
جهة ثالثة، على قدرتهم الفائقة على دفع محاولات الخصوم
لإحراجهم، وهذا ما يشير إليه موقف أبي حنيفة، حينما أراد
إحراج الإمام أمامهم، فإن هذا الموقف إحراج لهم في
الحقيقة، إذ لو فرض نجاحه في مسعاه، لم يكن إحراجًا للإمام
نفسه، وتخجيلاً له كما زعم، لأن المفروض أنه لم يزل طفلاً
حينها، فتعود القضية ردا لمقولة الشيعة المعروفة، في أن
علم الإمام ليس كسبيًا، الأمر الذي يعني تزييف مقولتهم من
أساسها، وإبطال التعيين الإلهي للمنصب، كما لا يخفى.
مع
موقف الخصوم
وأما البعد
الثالث: فهو يدل على أن خصوم الشيعة كانوا على اطلاع كامل
ويقين راسخ في أن الأئمة (عليهم السلام) لا يجارون في
العلم والمعرفة، مهما صغر سنهم، كما يدل عليه جواب عبد
الله بن مسلم لأبي حنيفة، وتعليقه على ما حصل.
بل يدل على
أن أبا حنيفة نفسه، كان على معرفة واطلاع تامين، بأن
الإمام الكاظم هو الإمام بعد أبيه (عليهما السلام)، ولهذا
حاول أن يقطع الطريق على إمامته (عليه السلام) في ما يبدو
أنه لم يكن مقتنعًا بها، رغم معرفته بها واشتهارها.
بالإضافة إلى معرفته بعلم الإمام (عليه السلام) قبل
استقلاله بالإمامة فألقم الحجر.
وهذا يشير
إلى وضوح مسألة الإمامة في أذهان عامة المسلمين، ومعرفتهم
للأئمة بأشخاصهم، في أوقات مبكرة من حياتهم الشريفة، الأمر
الذي يشكل قرينة هامة على صحة الأحاديث الواردة عن النبي
الأعظم (صلى الله عليه وآله)، في بيان أسمائهم وأنسابهم
(عليهم السلام) حتى الإمام الثاني عشر (عجل الله فرجه).
المأمون
والإمام
الجواد
(ع)
إن خير شاهد
على وضوح المسألة في أذهان المسلمين، ما جرى بين المأمون
العباسي وبين أقاربه من العباسيين، عندما أراد المأمون أن
يزوج الإمام الجواد (عليه السلام) من ابنته أم الفضل، فخشي
العباسيون أن يذهب الأمر من أيديهم، فحاولوا إقناعه بعدم
المبادرة إلى ذلك، وكان من جملة ما ورد في الحوار أنه قال
لهم: (.. وأما أبو جعفر فقد اخترته لتبريزه على كافة أهل
الفضل مع صغر سنه والأعجوبة به في ذلك، فقالوا له: إنه صبي
لا معرفة له فأمهله ليتأدب ويتفقه في الدين ثم اصنع ما
ترى، فقال لهم: ويحكم إنني أعرَفُ بهذا الفتى منكم، وإن
أهل هذا البيت علمهم من الله تعالى ومواده وإلهامه). ثم
عملوا على امتحانه (عليه السلام)، فأعدّوا اجتماعًا بينه
وبين قاضي قضاة المأمون ( يحيى بن أكثم)، فأعد عددًا
كبيرًا من الأسئلة الصعبة بزعمه، راجيًا أن يُخجل الإمام
(عليه السلام)، فأجاب عنها الإمام جميعا، فتحيّر يحيى بن
أكثم وبان في وجهه العجز والانقطاع وتلجلج حتى عرف أهل
المجلس أمره، كما تقول الرواية([10]).
وهنا يبرز
دهاء المأمون ومكره، فهو يدبّر لأمر خطير بحق الإمام، ولكن
العباسيين لم يفهموا ما كان يرمي إليه، فأقنعهم بما يعلمه
علم اليقين، دون أن يبين مراده الحقيقي، خوفًا من افتضاح
أمره، وإن كانت النتيجة كلها بصالح الإمام (عليه السلام)،
فأثبت لهم مرة أخرى أن الإمامة لا تقاس بعامل السن والكبر
والصغر.
الحكمة من تنزل السن
وأما
الأمر الثاني:
فقد يرد إلى
الأذهان سؤال، وهو أن إثبات قدرات الإمام الذهنية والعقلية
والمعرفية، من خلال مناظرة، أو حوار بينه وبين الخصوم، قد
لا تكون كافية لتصدّيه لموقع الإمامة، ووضعها موضع
التنفيذ، على مستوى الواقع، خصوصًا إذا أخذنا بعين
الاعتبار قضية التنازل في السن من الثمان سنوات مع الإمام
الجواد (عليه السلام)، مرورًا بالست مع الإمام الهادي
(عليه السلام)، وصولاً إلى الخمسة مع الإمام الحجة (عجل
الله فرجه).
وتتجلى هذه
الإشكالية على المستوى العملي، في تقبل الناس لهذه
المسألة، وإن اقتنع العلماء بها على المستوى النظري،
خصوصًا وأن الناس يتأثرون، على العموم، بالأجواء العامة
المحيطة بهم، وبما تدركه عقولهم، وتؤثر به أهواؤهم
وعواطفهم، سواء كانوا من ضعفاء الشيعة أم من غيرهم، بلا
فرق بينهم من هذه الجهة.
استنادًا
إلى ما تقدّم من معرفة الأمة، وعلى الأخص علماؤها
وسياسيوها، بأسماء الأئمة (عليهم السلام) وأعيانهم، نظرا
لإخبارات النبي (صلى الله عليه وآله)، والأئمة أنفسهم
بذلك، حيث كان كل إمام يؤكد على من يخلفه من بعده،
بالإضافة إلى تواتر الأحاديث المبشرة بالإمام المهدي (عجل
الله فرجه)، الذي ( يملأ الأرض قسطًا وعدلاً بعدما ملأت
ظلمًا وجورًا)، اعتبر السلاطين والمخالفون أن هذا الإمام
(عليه السلام) سيهدد عروشهم ودولهم، ويقضي على أمجادهم
التي بنوها، على حساب المؤمنين والمستضعفين. لذلك لا بد
لهم من القيام بحرب استباقية، وإجراءات وقائية ضد هذا
الظهور المبارك، علّهم يفلحون في الإبقاء على مراكزهم،
ويمنعوا خروجه المبارك، إن لم يستطيعوا القضاء على شخصه
الشريف.
لقد أُخذت
هذه المحاولات والإجراءات الوقائية، منذ عصر المأمون
العباسي، ومن أتى بعده من خلفاء بني العباس، عبر وضع
الأئمة تحت الرقابة الشديدة، بحيث يتمكنون من معرفة كل
شاردة وواردة عن الأئمة (عليهم السلام)، بل ليتمكنوا من
عدّ أنفاسهم، إن استطاعوا ذلك، اتقاء للخطر المحدق بهم،
فإنهم، وإن تباينت مظاهر سلوكياتهم معهم وتنوعت، ابتداء
بالمكر والدهاء، من خلال إعطاء ولاية العهد صوريا للإمام
الرضا (عليه السلام)، ثم تزويج المأمون ابنته للإمام
الجواد، إلى وضع الإمامين العسكريين (عليهما السلام) تحت
الرقابة العسكرية المباشرة، من قِبل المتوكل العباسي ومَنْ
قبلَه وبعدَه، إلا أن كل ذلك قد هدف إلى تصفية قضية الإمام
المهدي (عجل الله فرجه)، لكن الأئمة (عليهم السلام)
استطاعوا إفشال هذه المخططات والمحاولات، بحكمتهم وحسن
تصرفهم مع السلاطين، دون أن يثيروا الشبهات حولهم من جهة،
ومع أتباعهم وشيعتهم من جهة أخرى، بما يضمن سلامة الطريق،
حتى أوصلوا مركب الإمامة إلى شاطئ الأمان والغاية
المنشودة.
وهنا يبرز
وجه الحكمة في عدم ظهور الإمام الحجة (عجل الله فرجه) إلى
العيان، وأهمية غيبته وإمامته في سن مبكرة، فإن نتيجة ذلك
وقوع الإرباك والحيرة لدى الحكام، واهتزاز عروشهم، لعدم
معرفتهم بطريق الخلاص منه، وانسداد السبل بوجههم، فلا
يعلمون ماذا يفعلون.
وهذا بخلاف
ما إذا كان (عجل الله فرجه) ظاهرا للعيان، أو طالت فترة
بقاء الإمام العسكري (عليه السلام) على قيد الحياة، فإن
ذلك يعني شدة المضايقات، التي سيتعرض لها هو وعائلته
وأتباعه، لبقاء الأمل عند الحكام في الوصول إليه وقتله،
مما يعني أن الإرباك والضياع سيطال الموالين للأئمة
وشيعتهم، وربما يضع الإمام (عجل الله فرجه) في دائرة الخطر
الداهم والمستمر.
ولما اقتضت
الحكمة الإلهية أن يتولى الإمام الثاني عشر مهام الإمامة،
في هذه السن المبكرة، كان لا بد من إقناع الناس بإمامته،
وبجدارته لهذا المنصب الخطير، على المستوى العملي، وإلا
أدى ذلك إلى ضياع الشيعة، واستقواء الآخرين عليهم، إما
سخرية منهم لصغر إمامهم في السن، وعدم إمكان قدرته على
القيام بمهام الإمامة وهو طفل، لعدم حصول أية سابقة لذلك
في تاريخ الإسلام، أو لإنكار وجوده أساسًا، خصوصًا وأنه لم
يكن ظاهرًا للعيان، بل كان بعيدًا عن أعين الحكام
وجواسيسهم، وكان يظهر أمام خلص شيعته ومواليه، وهذا من أشد
المحن التي تواجه الأمة، على الصعيدين النظري والعملي على
حد سواء، فكان التمهيد لذلك بتولي الإمامين الجواد والهادي
(عليهما السلام) مهام الإمامة في سن مبكرة. حتى إذا أثبتت
هذه التجربة نجاحها على الصعيد العملي، كان قبول إمامته
(عجل الله فرجه) طبيعيًا ومبررًا، وقاطعًا لحجة الخصوم.
ولعله لهذا
السبب، كانت البداية مع الإمام الجواد (عليه السلام)، وهو
في الثامنة من عمره الشريف، فإن في ذلك تخفيفًا للصدمة
التي ربما أصيب بها الناس، فإذا نجح في إمامته على أحسن
وجه، أمكن الانتقال إلى من هو أصغر سنًا منه.
وهذا بخلاف
ما إذا بدأت مباشرة بسن مبكرة جدًا، دون تهيئة النفوس
والعقول لقبول إمامته، فإنها ستواجه بالرفض والإنكار من
قِبَل شيعته قَبْل الآخرين.
وهذا ما
يفسر الحديث الوارد عن أبي يحيى الصنعاني قال: كنت عند أبي
الحسن الرضا (عليه السلام)، فجاء بابنه أبي جعفر (يعني
الإمام الجواد) وهو صغير، فقال: هذا المولود الذي لم يولد
مولود أعظم بركة على شيعتنا منه([11]).
حيث أن
الظاهر أن البركة التي يتحدث عنها الإمام (عليه السلام)،
هي أنه فاتحة الإثبات العملي، والتمهيد الجاد لقبول فكرة
الإمام المهدي (عجل الله فرجه) وإمامته، وهو صغير السن.
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1]
-
شرح
نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي، تحقيق محمد
أبو الفضل إبراهيم، ج2، ص57، وج6، ص50-51
[2]
-
شرح
نهج البلاغة، ج12، ص46.
[3]
-
الغدير، للعلامة الأميني، ج1، ص389.
[4]
-
سورة البقرة، من الآية:247.
[6]-
سورة مريم، آية:29-31.
[7]-
الفصول المهمة في معرفة الأئمة، ابن الصباغ
المالكي، ص261-262.
[8]-
الاحتجاج، الطبرسي، ج2، ص387-388.
[9]-
الفصول المهمة، مرجع مذكور، ص261.
[10]-
إعلام الورى بأعلام الهدى، الطبرسي، ص335-336.
[11]-
أعلام الورى، مرجع مذكور، ص332.
|