تمهيد
كنت في
مقتبل العمر، وبُعيد بلوغي سنّ التكليف، عندما كنت سمعتُ
لأول مرّة برسالةٍ تنسب للإمام أبي محمد الحسن العسكري
(عليه السلام)، أرسلها إلى علي بن الحسين بن موسى بن
بابويه القمي، وأذكر جيدًا أنها كانت تطبع على أوراق
كبيرة، وتعلّق على جدران بيوت جماعة من محبي أهل البيت
(عليهم السلام)، لاعتقادهم أنها وصية من الإمام (عليه
السلام) إلى الشيعة بواسطة ابن بابويه، ولما اشتملت عليه
من مضامين مهمة، فهذه الأسباب الثلاثة اجتمعت في هذه
الرسالة لتُولِّد في نفوس الشيعة احترامًا خاصًا لها، حيث
إن المرسل هو الإمام الحادي عشر (عليه السلام) والمُرسَل
إليه أحد كبار علماء زمانه، والمضمون للرسالة.
وكنت وقتها
أعتقد - كغيري ممن لا يملك معلومات تاريخية تفصيلية- أنها
حقًا صادرة عن الإمام (عليه السلام)، وموجّهة إلى ابن
بابويه (رحمه الله)، وعندما تشرّفت بالانتساب إلى حوزة قم
المقدسة في أوساط العقد الثامن من القرن الماضي، طرق سمعي
ولأول مرة كلام من أستاذي سماحة السيد أحمد المددي دام ظله
فيه صحة هذه الرسالة، وقتها أصبت بالذهول لاعتقادي أن
الرسالة ثابتة ولا مجال للشك فيها.
وأذكر أني
عندما سألته عن سبب ذلك، أشار إلي بشكل مقتضب جدًا: أن ابن
بابويه لم يكن بذلك السن في حياة الإمام العسكري (عليه
السلام) حتى يخاطبه بهذه الكلمات.
ومنذ ذلك
الوقت وأنا أنظر إلى هذه الرسالة نظرة المشكك، حتى قرّرت
أخيرًا أن أحسم الأمر فيها، إما إثباتًا أو نفيًا، مع رغبة
وشوق أكيدين أن تجنح الأدلة نحو الإثبات.
الرسالة
تاريخيًا
عندما نريد
أن نحاكم مسألة أو واقعة علمية ما، فنحكم لها أو عليها،
فإن أول خطوة يجب اتباعها هي البحث عن تاريخها، وفي أيّ
مصدر وردت، ومن رواها، واعتمد عليها، وما شابه ذلك.
وما سأقوم
به هو اتباع نفس الطريقة الآنفة الذكر، فأقول:
بداية لا بد
من تحديد عصر الإمام أبي محمد العسكري (عليه السلام) الذي
يفترض أنه أرسل تلك الرسالة، وكذلك عصر ابن بابويه الذي
يفترض أيضًا أن الرسالة أرسلت إليه.
أما عصر
الإمام (عليه السلام) فإن ولادته كانت في العاشر من شهر
ربيع الثاني لعام 232 هجرية، واستلم مقاليد الإمامة بعد
استشهاد أبيه الإمام أبي الحسن علي بن محمد الهادي (عليهما
السلام) في الثالث من شهر رجب لعام 254هـ، وكانت شهادته
(عليه السلام) في الثامن من شهر ربيع الأول لعام 260
هجرية، فكل ما يصدر من الإمام (عليه السلام) وله ارتباط
بشأن من شؤون الإمامة، فلا بد أن يكون تاريخ صدوره في تلك
الفترة ما بين عامي 254 هـ و260هـ.
وأما عصر
ابن بابويه فلا بد من الإسهاب قليلاً فيه لتوقّف عدة
استنتاجات في هذا البحث عليه، وتوضيح ذلك في نقاط ثلاث:
النقطة
الأولى: أن ابن بابويه هو علي بن الحسين بن موسى بن
بابويه أبو الحسن القمي (والد الشيخ الصدوق)، المعروف بين
المتأخرين بالصدوق الأول أو الصدوق الأب، ترجم له الشيخ
النجاشي في كتابه فقال:
(... شيخ
القميين في عصره، ومتقدَّمهم، وفقيههم، وثقتهم، كان قدم
العراق واجتمع مع أبي القاسم الحسين بن روح رحمه الله،
وسأله مسائل، ثم كاتبه بعد ذلك على يد علي بن جعفر بن
الأسود، يسأله أن يوصل له رقعة إلى الصاحب (عليه السلام)،
ويسأله فيها الولد، فكتب إليه: " قد دعونا الله لك بذلك،
وسترزق ولدين ذكرين خيّرين" فولد له أبو جعفر وأبو عبد
الله من أم ولد... ومات علي بن الحسين سنة تسع وعشرون
وثلاثمائة...)([1]).
وذكره الشيخ
الطوسي في فهرسته بقوله:
(... كان
فقيهًا جليلاً ثقة...)([2])،
وكذلك في رجاله ([3])،
وكل من جاء من بعده ذكره بكل احترام وتبجيل وثناء وتجليل.
النقطة
الثانية: في الوقت الذي اتفق أكثر العلماء وأهل
التحقيق على تاريخ وفاته وأنه سنة 329 هـ، لم يشر أحد منهم
إلى زمن ولادته، شأنه شأن الكثير من الأصحاب، علمًا أن
تحديد سنة ولادته مهم جدًا لتوقف إثبات هذه الرسالة على
ذلك، فإذا فرض أنه كان من مواليد سنة 250 هجرية وما بعدها،
فحينئذٍ لا يمكن قبول هذه الرسالة، بينما لو ثبت أنه من
مواليد سنة 220 وما قاربها، يمكن حينئذٍ قبولها، اللهم إلا
إذا كان هناك مانع آخر.
وعدم ذكر
زمن ولادته في كتب التراجم والتاريخ لا يعني أنه مجهول
العصر والطبقة، لأننا لا نعدم طرق أخرى نستطيع من خلالها
أن نحدد عصره وطبقته.
وبنظرة
سريعة على مشايخه، ومن روى عنهم يتبيّن أنه روى عمن عاش في
أواخر القرن الثالث الهجري وأوائل القرن الرابع، فقد روى
عن جماعة، من أشهرهم:
1- أحمد بن
إدريس أبو علي الأشعري القمي، توفي سنة 306هـ.
2- حميد بن
زياد، توفي سنة 310 هـ.
3- سعد بن
عبد الله الأشعري القمي، توفي سنة 299 أو 301 هـ.
4- علي بن
إبراهيم بن هاشم القمي، كان حيًا سنة 307 هـ.
5- عبد الله
بن جعفر الحميري القمي، كان حيًا إلى ما بعد سنة 290 هـ.
6- محمد بن
الحسن الصفار القمي، توفي سنة 290 هـ.
هذه نماذج
من مشايخ ابن بابويه، وبحسب طريقة المحقق والمدقق الكبير
في هذا الفن السيد البروجردي في ترتيب طبقات الأصحاب،
فهؤلاء جميعًا من طبقة واحدة وهي الطبقة الثامنة، ويشاركهم
فيها أيضًا:
7- محمد بن
يحيى العطار القمي.
8- الحسين
بن محمد بن عامر الأشعري.
ولم يثبت
بطريق علمي أنه روى عمن كان قبل هذه الطبقة، اللهم إلا
دعوى يتيمة ذكرها السيد أحمد الخوانساري في روضات الجنات
([4])،
نقلاً عن بعض أفاضل المحققين، مفادها: أن ابن بابويه روى
عن الحسين بن سعيد الأهوازي، وهذه دعوى لا حظّ لها من
الصحة، ولا سبيل إلى إقامة الدليل عليها، ولا الطبقة تساعد
على ذلك، والمعروف والمعهود أن ابن بابويه يروي عنه
بواسطتين في عشرات الموارد.
ثم لو كان
في زمن الإمام العسكري (عليه السلام) قد بلغ مرتبة من
العلم والمكانة بحيث يخاطبه الإمام (عليه السلام) بقوله
"يا شيخي ومعتمدي وفقيهي" لكان من المفترض أن يروي عن عدد
من أصحاب ومعاصري الإمامين الجواد والهادي (عليهما
السلام)، فضلاً عن أصحاب ومعاصري الإمام العسكري (عليه
السلام)، وقد ثبت أنه لم يروِ مباشرة عن:
1- أحمد بن
إسحاق الأشعري القمّي، الذي كان وافد القميين إلى الأئمة
لأخذ المسائل والردود منهم، وتوفي بعد سنة 260 هـ.
2- أحمد بن
محمد بن خالد البرقي القمّي، توفي سنة 274 أو 280 هـ.
3- أحمد بن
محمد بن عيسى الأشعري القمّي، كان حيًا عندما توفي البرقي
المتقدم، وسار في جنازته.
4- إبراهيم
بن محمد الثقفي، صاحب كتاب الغارات توفي 283هـ.
5- الحسن بن
محمد بن سماعة الحضري، توفي سنة 263هـ.
6- الحسين
ين سعيد الأهوازي، كان حيًا سنة 254هـ.
7- سهل بن
زياد الآدمي، الذي كاتب الإمام العسكري (عليه السلام) سنة
255 هـ.
8- علي بن
الحسن بن فضال، كان حيًا حدود سنة 270 هـ.
9- الفضل بن
شاذان النيشابوري، توفي سنة 260هـ.
10- محمد بن
أحمد بن يحيى الأشعري القمي، صاحب كتاب النوادر، توفي حدود
سنة 280هـ.
11- محمد بن
الحسين بن أبي الخطاب، توفي سنة 262هـ.
12- محمد بن
علي بن محبوب الأشعري القمي، كان حيًا قبل سنة 274هـ.
وغيرهم ممن
كان في طبقتهم، فمن غير المعقول أن يكون ابن بابويه في زمن
هؤلاء الأعلام الذين حملوا العلم ونشروه في الآفاق،
وأكثرهم من مدينة قم، وجميعهم كانوا في زمن الإمام العسكري
(عليه السلام)، ثم لا يروي عن أحد منهم.
والقائل
بصحة هذه الرسالة لا بد وأن يلتزم أن ابن بابويه كان من
مواليد سنة 220 هـ، وما قبلها حتى يُقبل مخاطبة الإمام
عليه السلام له بـ" يا شيخي ومعتمدي وفقيهي" ولازم هذا
القول أن ابن بابويه عاش 109 سنوات أو ما يزيد، وهذا وإن
كان ممكنًا في نفسه، بيد أنه يفتقر إلى الدليل عليه،
والسبب في ذلك هو أن عادة علماء التراجم والرجال الإشارة
إلى من كان من المعمًرين، أو تجاوز عمره السن المتعارف
عليه في الرواية، وبنظرة سريعة على كتاب النجاشي نستطيع
الحكم على ديدنهم هذا بشكل واضح، فلاحظ ما قاله عند ترجمة
كل من:
1- إسحاق بن
الحسن العقرائي([5]).
2- أحمد بن
عبد الواحد بن عبدون([6]).
3- جعفر بن
محمد بن جعفر([7]).
4- حنَان بن
سَدير الصيرفي([8]).
5- بكر بن
محمد الأزدي([9]).
6- سُعدان
بن مسلم([10]).
7- عبد الله
بن سعيد الكناني([11]).
8- علي بن
حسان الواسطي([12]).
9- علي بن
علي بن رزين الخزاعي([13]).
10- محمد بن
الحسن بن شمون البغدادي([14]).
11- محمد بن
جمهور العمّي([15]).
12- محمد بن
خالد الطيالسي([16]).
13- محمد بن
الوليد البجلي الخزاز([17]).
14- محمد بن
معروف الخزاز الهلالي([18]).
فهؤلاء
جميعهم وصفهم النجاشي بأنهم من المعمّرين، وهذا فقط في
كتاب النجاشي، وعند غيره كثير من هذا.
يتبع =
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
[1]- رجال
النجاشي ص261 رقم 684.
[2] - فهرست
الطوسي، ص 273 رقم 393.
[3] - رجال
الطوسي ص432 رقم 34 باب من لم يروِ عن واحد من
الأئمة عليهم السلام.
[4] - روضات
الجنات: 5/339 رقم 542.
[5]- رجال
النجاشي، ص74، رقم 178.
[6]- المصدر
السابق، ص87، رقم 211.
[7]- المصدر
السابق، ص122، رقم 314.
[8]- المصدر
السابق، ص146، رقم378.
[9]- المصدر
السابق، ص108، رقم 273.
[10]-
المصدر السابق، ص192، رقم 515.
[11]-
المصدر السابق، ص217، رقم565.
[12]-
المصدر السابق، ص276، رقم726.
[13]-
المصدر السابق، ص276، رقم727.
[14]-
المصدر السابق، ص335، رقم899.
[15]-
المصدر السابق، ص337، رقم901.
[16]-
المصدر السابق، ص340، رقم910.
[17]-
المصدر السابق، ص345، رقم931.
[18]-
المصدر السابق، ص362، رقم 975.
مبلّغ ديني ومدرّس في الحوزة العلمية. |