وبناء عليه
يصبح طرح السؤال التالي في هذا المقام وجيهًا، وهو:
إذا كان ابن
بابويه من هؤلاء الذين عمّروا، فلماذا لم يُشر إلى ذلك أحد
من علماء التراجم، ولم يروِ عن أحد من المشاركين له في
الطبقة تؤيد أنه كان من المعمّرين؟!
وإذا لم يكن
هناك جواب - كما هو حاصل فعلاً - فلا محيص عن الالتزام
بعدم صحة دعوى كونه من أصحاب الإمام العسكري (عليه
السلام)، وإلا لو كان لبان، وعليه لم يبقَ أمامنا إلا
الاعتراف بأن ولادته كانت في بداية النصف الثاني من القرن
الثالث، أي في زمن الإمام العسكري (عليه السلام) أو ما
قارب عصره.
وبالتالي من
كان عمره بضع سنين لا يخاطب عادةً بمثل هذه الكلمات التي
وردت في تلك الرسالة، وأما القول بأنه من مواليد سنة
230هـ، وأنه عاش قرنًا من الزمن وعاصر ثلاثة من الأئمة
المعصومين (عليهم السلام)([19])
بل وكان سفيرًا للإمام العسكري (عليه السلام) بقم ([20])،
وأن وصف الإمام (عليه السلام) له وهو في السن من الأحداث،
دليل على مقامه العظيم ([21]).
كل ذلك لا دليل عليه ولا الواقع يساعد على قبوله.
النقطة
الثالثة: في ذكر المصادر التي وردت فيها هذه
الرسالة.
إن أول مصدر
نسبت([22])
إليه هذه الرسالة هو كتاب الاحتجاج للعلامة أبي منصور أحمد
بن علي الطبرسي، وهو من أعلام القرن السادس، ولكن في
المطبوع منه - قديمًا وحديثًا - لا يوجد أي أثر لهذه
الرسالة فيه، مع أن طبعة دار أسوة في إيران قد حققت على
أربع نسخ قديمة، وقد صرّح العلامة الطهراني - في حاشية له
على ما ذكره أستاذه النوري في الخاتمة ([23])
- أنه لم يعثر عليها فيما وصله من نسخ الاحتجاج، وهذا كلام
مهم من متتبع خبير في هذا الفن.
ثم صرّح ابن
شهر آشوب المازندراني، المتوفى سنة 588هـ، بوجودها، ونقل
منها جزءًا من بدايتها وجزءًا من نهايتها باختلاف يسير في
كتابه مناقب آل أبي طالب([24]).
ونسب في
رياض العلماء([25])
وجودها إلى كتاب الدرة الباهرة من الأصداف الطاهرة
للشهيد الأول، ولكن ما هو مطبوع من الكتاب خال عن ذكرها
البتة، مع أنها محققة على عدة نسخ،وقد صرًح العلامة النوري([26])
أنه لم يعثر عليها في الكتاب، وموضع الكتاب لا يناسب
ذكر هكذا رسائل، قال العلامة المجلسي في بيانه لوثوق
المصادر التي اعتمد عليها عند وصفه للدرة الباهرة:" وهو
مقصور على إيراد كلمات وجيزة مأثورة عن النبي (صلى الله
عليه وآله) وكل من الأئمة (عليهم السلام) ([27]).
والذي يظهر
أن جميع من ذكر هذه الرسالة من المتأخرين اعتمد في النقل
على من سبقه، وأقدم من ذكرها - كما هي عليه الآن - هو
السيد القاضي نور الله المرعشي التستري، الذي استشهد سنة
1019هـ في كتابه مجالس المؤمنين([28])
وهو باللغة الفارسية، ولم يذكر السيد
القاضي المصدر الذي اعتمد عليه في نقله لها.
وبعد هذا كيف يمكن لنا أن نعتمد على هذه الرسالة ؟!
ثم من حق أي
باحث أو قارئ في هذا المقام أن يسال:
1- لماذا لم
يروِ هذه الرسالة نفس ابن بابويه عن الإمام (عليه السلام)
مباشرة في أي كتاب له على كثرة كتبه؟! ثم هذه منقبة ما
بعدها منقبة، فمن حقه أن ينقلها ويفخر بها، ويُعَرِّفَها
القاصي والداني، ولا وجه لكتمانها، خصوصًا أنها موجهة إلى
شيعة الإمام (عليه السلام) من ورائه، وبعد اختفائها لعدة
قرون تظهر ومن دون سند أو مصدر.
2- هب أن
الصدوق الأب، لم ينقلها، فما هو المبرر للصدوق الابن أن لا
ينقلها أو يشير إليها، وهو الراوي لتراث أبيه؟!
علمًا أن
الصدوق الابن لطالما افتخر - ومن حقه ذلك - أنه ولد بدعاء
الإمام الحجة (عليه السلام) عندما كتب أبوه إلى الإمام
(عليه السلام) في زمن السفير الثالث يسأله الولد، وقد مرّت
العبارة في ترجمة ابن بابويه من كتاب النجاشي.
3- لماذا لم
ينقل أحد ممن ترجم لابن بابويه من القدماء على كثرتهم أيّة
إشارة إلى هذه الرسالة ؟ مع أن من عادتهم أن لا يغفلوا من
كاتب الإمام وكتب إليه جوابًا على مسألة شرعية خاصة، فكيف
إذا كانت وصية من الإمام إلى أحد كبار العلماء، ومن ورائه
إلى جميع الشيعة ؟
4- إن متن
الرسالة - كما ستعرف - يتضمن عدّة مسائل تتعلق بعدة أبواب
من الفقه والعقيدة والأخلاق والآداب بالإضافة إلى ثلاثة
أحاديث تنسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله): الأول: يتعلق
بصلاة الليل، والثاني: بانتظار الفرج. والثالث: بالإمام
المهدي (عليه السلام)، فلماذا لم يستند إليها أحد من
القدماء في أيّ حكم من الأحكام الشرعية أو العقائدية أو
الأخلاقية ؟!
مع أن الشيخ
الصدوق الابن أكثر في كتبه - خصوصًا من لا يحضره الفقيه -
من النقل عن رسالة أبيه التي كتبها له، فلو كانت رسالة
الإمام ثابتة عنده لكان النقل منها أولى وآكد.
وأخيرًا،
يمكن أن يقال: إن هذه الرسالة أرسلها الإمام (عليه السلام)
إلى شخص آخر يتفق مع ابن بابويه باسمه واسم أبيه وكنيته،
وأنه من قم، فنسبت إلى ابن بابويه عن طريق الخطأ.
أقول: هذا
ممكن وقد يكون هو شيخ ابن بابويه أبو الحسن علي بن الحسين
السعدآبادي القمي، إلا أن الرجل لم يكن بهذه المنزلة
الرفيعة حتى يخاطبه الإمام (عليه السلام) بهذه الكلمات،
كيف ومن ذكره من قدماء علماء الرجال والتراجم لم يوثّقه
أصلاً، بل لم يمدح مدحًا يعتدّ به.
هذا
بالإضافة إلى عدة تساؤلات أخر تقدّمت حول أصل الرسالة لا
يمكن الإجابة عنها.
متن الرسالة
كما
وردت في: رياض العلماء([29])،
وروضات الجنات([30])ومعادن
الحكمة ([31])،
وخاتمة المستدرك([32]):
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله
رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والجنة للموحدين، والنار
للملحدين، ولا عدوان إلا على الظالمين، ولا إله إلا الله
أحسن الخالقين، والصلاة والسلام على خير خلقه محمد وعترته
الطاهرين...
أما بعد...
أوصيك يا
شيخي ومعتمدي "وفقيهي([33])"
أبا الحسن علي بن الحسين "ابن بابويه"([34])
القمي - وفقك الله لمرضاته، وجعل من صلبك أولادًا صالحين
برحمته، بتقوى الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإنه لا
تُقبل الصلاة من مانع الزكاة، وأوصيك بمغفرة الذنب، وكظم
الغيظ، وصلة الرحم، ومواساة الإخوان، والسعي في حوائجهم في
العسر واليسر، والعلم "الحلم" ([35])
عند الجهل، والتفقه في الدين، والتثبت في الأمور، والتعهد
"والتعاهد"([36])
للقرآن، وحسن الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
قال الله عز وجل: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ
نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ
أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ}([37])
واجتناب الفواحش كلها. وعليك بصلاة الليل، فإن النبي صلى
الله عليه وآله أوصى عليًا عليه السلام فقال: يا علي عليك
بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل، عليك بصلاة الليل، ومن
استخف بصلاة الليل فليس منا.
فاعمل
بوصيتي، وأمر جميع ([38])
شيعتي "بما أمرتك به" ([39])
حتى يعملوا عليه، وعليك بالصبر وانتظار الفرج، فإن النبي
صلى الله عليه وآله قال: أفضل أعمال أمتي انتظار الفرج،
ولا يزال([40])
شيعتنا في حزن حتى يظهر ولدي الذي بشّر به النبي صلى الله
عليه وآله حيث قال ([41]):
إنه يملأ الأرض قسطًا وعدلاً كما ملئت ظلمًا وجورًا.
فاصبر - يا
شيخي "ومعتمدي يا أبا الحسن عليّ" ([42])
- وأمر جميع شيعتي بالصبر، فإن الأرض لله يورثها من يشاء
من عباده والعاقبة للمتقين.
والسلام
عليك، "وعلى جميع شيعتنا" ([43])،
ورحمة الله وبركاته، وحسبنا الله ونعم المعين "الوكيل"
([44])،
نعم المولى ونعم النصير ([45]).
انتهى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[19] - لاحظ
مقدمة محقق كتاب الإمامة والتبصرة، ص36، مؤسسة آل
البيت (عليهم السلام)
[20] - لاحظ
كتاب النقض للقزويني ص209.
[21] - لاحظ
خاتمة المستدرك للنوري، ج3، الفائدة الثالثة،
ص278.
[22] -لاحظ
لؤلؤة البحرين، ص384، رقم 122 ؛ وروضات الجنات،
ج4، ص265 رقم 397 ؛ وخاتمة المستدرك، ج3، ص276.
[23] -
خاتمة المستدرك، ج3 ص276 من الهامش.
[24] - مناقب آل
أبي طالب، ج 4 ص425.
[25] - رياض
العلماء، ج4 ص7.
[26] - خاتمة
المستدرك، ج3 ص 278.
[27] - بحار
الأنوار، ج1، ص29.
[28] - مجالس
المؤمنين، ج1، ص453.
[29] - رياض
العلماء، ج4، ص7.
[30] -
روضات الجنات، ج4، ص265.
[31] -
معادن الحكم، ج2، ص265 رقم 109.
[32] -
خاتمة المستدرك، ج3 ص276.
[33] - هذه
الكلمة موجودة في كتابي روضات الجنات ومعادن
الحكمة.
[34] - هذه
الكلمة موجودة في كتاب معادن الحكمة.
[35] - هذه
الكلمة موجودة في كتابي روضات الجنات ومعادن
الحكمة،و"عند الجهل غير موجودة في معادن الحكمة"،
وفيه أيضًا "الأمر" بدل "الأمور".
[36] -
موجودة في الكتابين المتقدمين.
[37] -
النساء: من الآية114.
[38] - كلمة
"جميع" ليست في كتاب الروضات.
[39] - هذه
العبارة موجودة في خاتمة مستدرك الوسائل.
[40] - في
كتاب معادن الحكمة وخاتمة المستدرك: "تزال".
[41] - "حيث
قال"، هذه العبارة غير موجودة في روضات الجنات
ومعادن الحكمة.
[42] - هذه
العبارة موجود منها جزء في الروضات وجزء في خاتمة
المستدرك.
[43] - هذه
العبارة موجودة في الروضات والمعادن والخاتمة.
[44] - هذه
الكلمة في الروضات والخاتمة والواو بعدها غير
موجودة في الروضات والخاتمة.
[45] - من
عند "حسبنا".. إلى الأخير: غير موجودة في المعادن
ويوجد عوض عنها قوله "وصلى الله على محمد وآله".
|