السنة الرابعة / العدد الثاني عشر/ شتاء 2008 - محرم 1429هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

العنف الذي يستخدمه بعض الإسلاميين والعنف الممارس عليهم

العنف والإرهاب والتطرف

د. غسان طه

تحديدات مفهومية

يشير العنوان أعلاه إلى مفهوم مركزي هو العنف، تتنوع سياقاته بين فعل وفعل مضاد، جَنْبته الأساسية دول وفئات أو مجموعات تظهر بمظهر المتلقي او الفاعل للعنف كسلوك على نحو التطرّف.

ولارتباط هذا المفهوم بالتطرف، تفتح معالجته على إشكاليةٍ أخرى تتعلق بمدى تفارق العنف مع الإرهاب، وهي مهمّة قد يصعب الخروج منها، إذ ليس من تعريف محدد للإرهاب من الناحية القانونية الدولية، فيما يجد العنف له سندًا في بعض هذه القوانين.

يقتضي الأمر ضرورة الفصل بين المفهومين عبر المزيد من إمعان النظر وإخضاع المقاربة إلى حقول معرفية علّها تصل بالبحث إلى غاياته المنشودة، ومن بين هذه الحقول علم الاجتماع والأخلاق والفلسفة والقانون.

فالعنف هو كل استخدام للقوة والشّدة ضدّ الآخر، سواء كان فردًا أو جماعة بهدف إجباره على سلوك ما، وقد يكون مبررًا من الناحية الأخلاقية والقانونية، فيما الإرهاب يتجاوز الاستخدام الفيزيقي للقوة على نحوٍ تعسفي متطرف دون أن يجد له مسوّغًا أخلاقيًا أو قانونيًا، ويمكن له أن يتخذ سلوكًا عُنفيًا أو تهديدًا يحقّق فاعله غايته من خلال هذا الأداء([1]).

على هذا النحو يمكن الفصل بين المفهومين، وهو فصل لم يكن غريبًا عما جاء في الاستخدامات الدلالية لكليهما.

فوفقًا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974 والذي يذكر فيه شرعية كفاح الشعوب في سبيل التحرر من السيطرة الاستعمارية والأجنبية ومن القهر الأجنبي بكافة الوسائل ، بما في ذلك الكفاح المسلّح.

يتضح -من هذا التعريف- أنه ينطوي على جنبة قانونية تتصل بكفاح الجماعات أو التنظيمات تجاه عدو خارجي من أجل تحرير الأرض ودفع العدوان.

لذا، فالعنف قد يستحوذ في إحدى جنباته على حظوة قانونية دولية، لكنّ الإرهاب لم يقيّّد له ما لسلفه، وقد بذلت الأسرة الدولية جهودًا كبيرة من أجل وضع تعريف عالمي للإرهاب إلا أن مساعيها لم تنجح حتى اليوم، إذ جاءت على شكل اتفاقات دولية عَرَّفت هذا المفهوم، ولكنه بقي يعاني من الالتباس والغموض، ورغم هذا الغموض فثمة مجموعة من الأفعال الجرمية لا تحظى بموافقة قانونية كما درج عليه مفهوم العنف.

مع خلو مصطلح الإرهاب من تعريف موحّد، جاء القانون الوطني في حوالى ثلاث وخمسين دولة ليحدد الإرهاب عبر اتفاقات أرسيت خلالها بعض المبادئ والقوانين التي تتصل به، وأحد هذه القوانين هو القانون الفرنسي لعام 1986([2])، الذي حدّد الإرهاب بأنه خرق للقانون ويُقدم عليه فرد من الأفراد أو تنظيم جماعي بهدف إثارة اضطراب خطير في النظام العام عن طريق التهديد.

مفهوم التطرف

ثمة مصطلح آخر جرى استخدامه على نحو يتصل بمفهومَي العنف والإرهاب هو التطرف، دون أن يكون بينهما تفارقات تنحو نحو التمييز بين ما ينطوي عليه هذا المصطلح عما سبقه من خصوصية.

فواقع الحال -وكما في العلوم الاجتماعية- يرتبط التطرف بنحو التعاطي مع الآخر كمقدمة للعنف وللإرهاب، والتطرف ليس الإرهاب أو العنف نفسه، وإنما هو إحدى المقدمات التي يمكن أن تؤدي إلى العنف أو قد لا تؤدي إليه.

ذلك أن التطرف يعبّر عن أسلوب الشخص المنغلق في التفكير الذي يتسم بعدم القدرة على تقبّل أية معتقدات تختلف عن معتقدات الشخص أو الجماعة الأخرى، والفرد أو الجماعة المتطرفة تنظر إلى معتقدها على أنه صادق كل الصدق، ويصلح لكل زمان ومكان([3])، ولديها استعداد للدفاع عن معتقداتها وفرضها على الآخرين، حتى ولو استلزم الأمر استخدام العنف، فهو مَقَرّ لاستخدام العنف وليس العنف نفسه.

وليس بالضرورة أن نعبّر عن التطرف أنه: هو كل خروج عما أَلِفه الناس في سلوكهم ومعتقدهم وعاداتهم وتقاليدهم، وإلا لأصبحت النظريات العلمية والفلسفية ونتائج الدراسات والأبحاث والتجديد الثقافي تطرفًا.

كما أنه ليس بالضرورة أن يُوسَم بالتطرف كل جماعة أو فرد يعتقد بأن أفكاره صادقة كل الصدق وتصلح لكل زمان ومكان، وإلا فماذا عن الأديان السماوية في تطابقاتها مع ما ورد ذكره؟!

إذًا، التأسيس على أرضية مشتركة لهذا المفهوم يقضي ربطه بالانغلاق والتحفز نحو العنف كمقدمة للعنف.

على هذا النحو، فإن مساوقة هذا الاصطلاح –أي التطرّف- لما جاء في أدبيات العلوم الاجتماعية من تفسير للتطرف ليس دقيقًا وتامًا، بل مصطلح التطرف -بالمعنى الذي فسرناه- ، يمكن أن يندرج -من بعض الجهات- بما ورد في مصطلح العنف والإرهاب في الكتابات القانونية والحقوقية، وعليه يمكن أن نجد موردًا لتحديد التطرّف من الناحية القانونية والفلسفية في هذا الشأن ، وذلك وفقًا لقانون الحق الذي كرَّسته المواثيق الدولية حول المعتقد وإبداء الرأي مع عدم فرضه على الآخرين عن طريق الإكراه، وكل ما لا ينطبق على قانون الحق هذا مما هو من هذا القبيل يقع تحت دائرة التطرف.

على أية حال، فثمة مصطلحات ثلاثة ليس بينها تطابق أو تماثل تام، فالعنف والإرهاب والتطرف يختزن كل منها خصوصيته وتَمَايزَه مع عدم إلغاء جسور الالتقاء بينهما، فالتطرف بما هو انغلاق يعدّ مقدمة للعنف، وليس كلّ عنف إرهابًا.

والعنف يمكن أن يكون مقبولاً كالدفاع عن النفس والوطن وما شابه، ويمكن أن يكون مرفوضًا، وذلك حين يتجاوز حدوده القانونية، والتي استوى عرف العقلاء والتشريعات على عدم الموافقة عليه، أما الإرهاب فهو كل استخدام للقوة بلا مسوغ  .

احتكار العنف

يتضح من هذه التحديدات أن ثمة عنفًا يقع تحت دائرة المقبولية الحقوقية والقانونية وآخر يخرج عنها.

وغالبًا ما يقترن العنف بوجود سلطة أو قدرة تتيح لمن يقوم به إمكانية فعله، ولذلك فإن لوجود السلطة مدخلية في ظهور السلوك العنفي، والسلطة ليست مختصة بفرد أو جماعة أو جهة، لأنها يمكن أن تكون موزّعة بين جهات متعددة، وأحيانًا يرتبط العنف بالشعور بوجود سلطة على نحو منقوص يقضي الأمر بتوفير مستلزمات استكمالها، فيكون العنف أحد الآليات المتوسَّلة في هذا السبيل.

وبالانطلاق من توزّع السلطة بين جهات متعددة يمكن القول: أنها تبدأ من دائرتها الضيقة التي تتمثل بسلطة الفرد على نفسه أو إمرته على نفسه، لجهة التصرف بدفع ورفع كل ما يهدّد أمنه الذاتي باستخدام أسلوب العنف ، أو يكون استخدامه نابعًا من جرّاء الشعور بنقص في السلطة أو القدرة، وهناك العنف المستخدم بين الجماعات، وذلك حين تملك جماعات ما سلطتها التي تستخدم فيها قوتها العنفية، وتسخّرها للدفاع عن نفسها والاعتداء على الآخرين، نتيجة بعض التسويغات التي تجد فيها مقبولية ومشروعية لديها.

وهناك السلطة التي يكون العنف أحد جنباتها المستخدمة، وهو العنف الذي تلجأ إليه الدولة كسلطة([4])، وفي الاستخدامات الحديثة للعنف، يصبح هذا الأخير صفة محتكَرة للدولة كوظيفة لا يختص بها غيرها من جماعة اعتبارية أو حقيقية.

ويعدّ ذلك إحدى الوظائف التي ترافقت مع مسير تطور نشوء الدولة، وهو يسير مع المقتضيات المنطقية لهذا الأمر، فبدون حصره بجهة الدولة يعيد العنف المجتمعات إلى المرحلة التي تسبق نشوء الدولة التاريخي، أو إلى المجتمعات المجزّأة التي تتوزع فيها سلطة استخدام العنف على الجماعات التقليدية، والمستندة في تسويغ استخداماته إلى أحكام عرفية ترتبط بتقاليد وأعراف، دون أن ترقى إلى قوانين ومؤسسات راعية لوظيفته وآليات استخدامه.

ولذلك فإن الدولة أو سلطة الدولة كجهة، هي المخوّلة باستخدام العنف للفصل بين النزاعات أحيانًا، ولحماية الفرد من الاعتداء على أمنه الشخصي والمالي وعلى أرضه، سواء كان هذا التهديد ناشئًا من الداخل أو وافدًا من الخارج .

فبالاستناد إلى احتكار استخدام العنف من قبل سلطة الدولة كسلطة مخوّلة قانونيًا باستخدامه حصرًا، ليس هناك من مسوّغات لاستخدامه من قِبل الجماعات الداخلة في نطاقها، إلا إذا كانت هذه الجماعات توجد في المرحلة التي تفتقد فيها الدولة كيانها جرّاء تهديد خارجي كالاحتلال، أو جرّاء الحروب الأهلية، أو حتى مع وجود الدولة ولكن مع عدم قيامها بإحدى وظائفها الأساسية، وهي حماية أمن مواطنيها من التهديد.

على هذا الأساس، فالعنف بالنسبة لسلطة الدولة أصبح متأسّساً على فكرة "الحق" في البناء القانوني للدولة ككيان اعتباري يملك هذه الصلاحية، مما يعني أن عنفها يرتبط بالمشروعية، وكل ما عداه -خلا الدفاع عن النفس بحال تخلّي الدولة عن وظيفتها- يفتقد إلى مثل هذه المشروعية.

إن هذا التأسيس لمفهوم المشروعية في استخدام العنف، يؤدي في نهاية المطاف إلى سحب كل أشكال الحق الطبيعي من المحكومين أفرادًا أو جماعات في استخدامه.

غير أن هذا الإجراء يقود إلى إشكاليات تضع المشروعية القانونية والحقوقية أمام تساؤلات كبيرة، وهي تقع في مجملها حول التعسف الذي يمكن أن يساء استخدامه في حال وقوع سلطة الإمرة بيد دولة أيديولوجية، وأثناء ضعف الدولة وتراخيها في تحديث آلياتها الضبطية، أو جرّاء ركون سلطة الدولة إلى العنف وحده والتخلي عن القيام بوظائفها الأخرى التي باتت تملكها، والتي تتجاوز الأمن الشخصي للأفراد إلى الأمن الاجتماعي المتعلق بتأمين مستلزمات العيش الكريم الذي لا يتقوم بدون القيام بوظيفتها الاجتماعية، ووضع خطط اجتماعية وسياسية واقتصادية تضمن الحصول على مستلزمات العيش، وتضمن حرية الاعتقاد والتعبير والمشاركة، والحق في الحصول على العناية بالصحة والتعليم، وتحقيق الطموح والشعور بالانتماء إلى الوطن والدولة.

 من هنا فإن سلطة الدولة ليست في تماهٍ شديد مع العنف مع احتكارها له، ولكونها متماهية مع وظائف أخرى من شأنها الإسهام في خلق اعتراف الأفراد بها وإظهار الطاعة لها، وبدون هذه الطاعة تصبح مشروعية عنف الدولة او العنف من قبل سلطة الدولة معرّضة للتهديد بعدم الاعتراف والذي يمكن أن يقود بالتالي إلى عنف مقابل.

فمع القيام بوظائفها المتنوعة تحظى الدولة باعتراف مواطنيها بحق استخدامها للعنف وحصره بها ونزع هذه الوظيفة عن غيرها.

وبالرجوع إلى مظاهر التطبيق، نجد أن العالم الإسلامي يشهد استخدامات متنوعة من العنف تتجلى في عدة مظاهر: كالعنف اليوميّ المستخدم بحق الفلسطينيين من قبل العدو الإسرائيلي، والعنف المستخدم من قبل الدولة في قمع بعض الجماعات، ثم العنف الذي يتّخذ له تسمية دولية، وهو العنف الأصولي الموجّه ضد الدولة وضد أفراد وجماعات أخرى، تتناظر معها في الموقف والاعتقاد والتوجه المرحلي والمستقبلي.

صناعة العنف

تأسيسًا على الناحية الحقوقية، يمكن أن يكون للعنف جنبتان: إحداها تحظى بمشروعية قانونية، وأخرى تفتقد إليها، غير أن الإرهاب بما هو عنف، ليس ثمة من مقبولية تُشرعن استخدامه، لكن من جهة أخرى، ومع عدم الاستقرار على تعريف واحد للإرهاب، فإن مرجعية تفسير العمل العنفي في خانة الإرهاب، تخضع هي الأخرى إلى جملة من التفسيرات المتعارضة، بعضها يرتكز على تبريرات أيديولوجية، كما لدى الجماعات الأصولية، وأخرى مصلحية ترتبط بتوسله لتحقيق مصالح سياسية، وهو ما تقوم به الدولة تجاه رعاياها، أو ما تقوم به الدول في سعيها لمدّ سيطرتها خارج نطاقها الإقليمي، فالمجاهد يصبح إرهابيًا، والإرهابي يصبح مجاهدًا، والعمل الإرهابي لدى دولة ما يصبح مشروعًا على أنه ردة فعل، أو دفاع مشروع.

إن اختلاف المفاهيم والمعايير والتصورات سيُبقي موضوع الإرهاب محل مناقشة، ويفتح المجال في الانقسام حوله كما هو الحال راهنًا.

ومن خلال هذا الاختلاف في المفاهيم والمعايير ، يصبح تصنيف الأعمال المتسمة بالعنف ضمن دائرة الإرهاب وعدمه ، تابعًا لما يحاط به هذا العمل العنفي أو ذاك من تفسيرات وتأويلات تشريعية وحقوقية ، فإمعانًا في إضفاء المشروعية على بعض أعمال العنف بغية عزلها عن التصنيف في دائرة الإرهاب، ثمة سعي الى إحاطة هذه الأعمال بممهّدات تتجاوز ما هو مقنّن من تشريعات حول مسوِّغات العنف وآليات استخدامه، كالمبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية التي تُسخّر كل منتجات العصر الحديث من منابر الرأي وقنوات الدبلوماسية، وصناعة الرأي لأجل إسقاطها على بعض أعمال العنف (الإرهابي) الغير المقبول بحسب واقعه لا اجتماعيًا ولا أخلاقيًا ولا إنسانيًا، خصوصًا فيما يتعلق بالإرهاب الدولي -الذي يمكن أن تتجلى أبرز وجوهه بالتدخلات الأميركية، وممارسة العنف تجاه العالم الإسلامي، تغطية لمصالح مادية وضمانًا لمدّ ظلال الهيمنة وإبقائها- أو ما تقوم به الدولة ضدّ رعاياها كلما وجدت أن سلطتها تفتقد القدرة على التأثير وتتآكل من الداخل.

العنف الدولي

بين هذه الأحكام المعيارية نجد أن المقاومين للغزو السوفياتي لأفغانستان صنَّفوا في ذلك الوقت ضمن خانة المجاهدين ضد أمبراطورية الشرّ وفق المعايير الأمريكية، وهؤلاء هم أنفسهم صُنِّفوا فيما بعد إرهابيين حين نسب إليهم قتال الأمريكيين في العراق.

وعندما غزت الولايات المتحدة الغزو الأول للعراق عام 1991 سعت عبر الأمم المتحدة لاستصدار قانون من مجلس الأمن لتمرير الغزو، ومع الغزو الثاني للعراق أمكن للتبريرات المتصلة باقتناء السلاح النووي وغيره من الأسلحة المحرمة دوليًا كالجرثومية والبيولوجية بما يمثّله اقتناؤها من تهديد للأمن العالمي أن تساق كدوافع أخلاقية تشكل هدفًا نبيلاً يبرّر هذاالغزو ، ويؤمّن عزله عن التصنيف في دائرة الإرهاب ، ومع الإخفاق في العثور على السلاح تصبح المهمة أرقى من ذلك، وهي إحلال الديمقراطية بدل القمع والنظام القائم على الديكتاتورية.

وبإمعان النظر في خطاب الرئيس الأمريكي بوش الثاني، في معرض تنصيبه للولاية الثانية للرئاسة([5])، حدّد استراتيجية التعاطي مع الخارج وفق السعي لإرساء الحرية والعدالة والمساواة في البلدان التي تفتقر إليها، وهي مهمة تضفي الكثير من مزايا السموّ والرفعة لقضية ذات جنبة رسالية عالية، لا يتيسر القيام بها إلا من أمة وعت معنى الحرية وعاشتها، وتعمل لتلبي نداء الواجب الحضاري، وبذلك تكون هذه القيم المزعومة ممهدات أخلاقية لصناعة العنف، وتدفع عنه تصنيفه في دائرة الإرهاب.

أما التهديدات للأنظمة لكي تتجه نحو الديمقراطية، فإنها لا تقلّ بمحاكاتها للمبررات السالفة.

ويضاف إليها ما يشكّل توفير التغطية القانونية لبعض الممارسات الإرهابية التي لا تشذّ عن المصلحة الأمريكية، كالأعمال العنفية اليومية للكيان الصهيوني بحق الفلسطينيين، هذا على الرغم من صدور قرارات متعددة للأمم المتحدة بشأنها لا تجد سندًا داعمًا لضرورة مراعاتها أو تنفيذها، فيما قرارات أخرى -على غرار المطالبة بالانسحاب السوري من لبنان- تطرح بشكل ضاغط ومُلحّ من قبل المجتمع الدولي .

إن هذا الإهمال بضرورة تنفيذ القرارات الدولية الصادرة بحق الفلسطينيين المترافق مع غض النظر عن الممارسات الإرهابية من قبل إسرائيل، والإلحاح من جهة ثانية بضرورة تنفيذ القرارات الأخرى كالانسحاب السوري من لبنان ليس من شأنه أن ينتج سوى إضفاء المزيد عن اختلاف المعايير وازدواجيتها، وتوفير مناخات صناعة الأعمال العنفية التي يمكن تصنيفها في دائرة الإرهاب الدولي.

هذه الصناعة تمرّ عبر منظومة من الأفكار المرتكزة على دعامات مرجعية في المتخيل الإنساني لدى الشعوب، الملامسة لجوهر الإنسان في حريته، فيما هي ترتبط في الأصل بنوازع شريرة، فواجهتها المسطحة تشكل غلافًا ساترًا لهذا العمق، مستندًا على أفكار ودعائم قيمية([6]).

لم تكن تلك الأفكار -بوصفها أفكارًا متطرفة- وليدة التحولات التي طرأت على المسرح العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحلول الرأسمالية الأمريكية والغربية عمومًا، وإنما هي أسبق من ذلك بكثير، حيث تعود إلى العلاقة التي حكمت الغرب بالعالم الإسلامي، كعلاقة تميّزت بالتوتر ثم العدائية، لما عكسته الرؤية المتطرفة للغرب من أعمال عنفية.

فالتاريخ القريب الذي يعود إلى القرن التاسع عشر، شكّل بداية لعلاقة مأزومة بينهما، ولم يكن لأربعمائة سنة خلت -وهي تاريخ الإمبراطورية العثمانية في العالم الإسلامي- أن تشهد مثل هذه العلاقة إلا في نهاياتها، ثم مع زوال الحكم العثماني، فبداية القرن التاسع عشر هي بداية علاقة استعمارية لم تنجلِ أواخرها في ستينيات القرن العشرين، إلا لتدخل معها مرحلة جديدة من العلاقة التي حكمها الانقسام العالمي إبان الحرب الباردة، فعلاقات الاستعمار هي علاقات عنف، ولكن سبقها مرجعية ثقافية وفكرية، يمكن أن نطلق عليها نظرة الغرب الذاتية لنفسه ولموقعيته في العالم، هذه الموقعية تمظهرت وفق ما يطلق عليه بالأنوية الحضارية، أي الغرب كمرجعية للإشعاع الحضاري، حيث الذات الحضارية المتفارقة حضاريًا مع الآخر، دون أن يكون للآخر وزن حضاري.

ولقد قام هذا التفارق على نفي هذه الشعوب ووصفها بالتخلف والتقليد والهمجية، فهي تحتاج إلى الأخذ بيدها للسير على خطى الغرب، سيرًا استتباعيًا يراد له تأمين مستلزمات استمرار التدفق الحيوي للمواد الخام للصناعات الغربية، والإبقاء على العالم الإسلامي سُوقًا لتصريف المنتجات الغربية([7]).

 لم تتأسّس علاقات العنف بين الغرب والعالم الإسلامي على نفي الغرب للآخر وحسب، وإنما رفدت بما يتيح استمراريتها بعدما وُوجِه الغرب بصدمات رافضة للاستعمار، فكانت إسرائيل الكيان هي البديل العنفي المحتمل، إذا ما اختلت موازين العلاقة القائمة على ثقل أحد طرفيها لصالح الغرب.

لقد ساهم تثبيت قدرات الكيان الصهيوني وزرعه في المنطقة وتوفير الغطاء الدولي والإنساني لهذا الكيان، بكل ما تحويه أدبياته وعقائده من نفيٍ للآخر، ومن سجل عنفي ما زال يحظى بمقبولية تبريرية لدى الغرب عمومًا، والغرب الأميركي خصوصًا، فأدّى إلى التزخيم الشعوري والوجداني لدى الشعوب الإسلامية، المحمّلة بالشعور بالدونية الحضارية وبالاستلاب الوجودي لمقدراتها([8]).

مع كل التغيّرات التي حدثت بعد انهيار الاستقطاب الدولي، ورغم الطروحات حول حوار الشمال والجنوب والانفتاح الثقافي، فإنه يعاد إنتاج ما اختزنه تراث الغرب -وأمريكا خصوصًا- من أنوية حضارية، تُقدِم في المرحلة الراهنة أيضًا على نفي الآخر المحتاج -وفق العولمة- إلى تعميم دعوات الديمقراطية والليبرالية، والأخذ بكافة المستلزمات الثقافية السائدة في الغرب، دون أن تكون مرتكزة على دعوات حضارية، بقدر ما ترتكز على محاولات إعادة تشكيلٍ للمنطقة الإسلامية بآليات عنفية، مسخّرة ما توفره تكنولوجيا الإعلام وصناعة الرأي العام وأسلحة الدمار الشامل ([9]).

إرهاب الدولة

شكّلت العلاقة المأزومة بين الغرب والإعلام الإسلامي مناخات ملائمة لإنتاج أفكار تحرّرية هادفة للاستقلال ولبناء الكيانات الذاتية ولتقديم تجربتها الحضارية في هذا المجال.

لم ترتكز هذه الأفكار على مسوّغات اعتقادية دينية بقدر ما ارتكزت على أيديولوجيا قومية اشتراكية، بعضها زاوَج بينها وبين الإسلام لناحية الانتماء القومي الإسلامي، والآخر ذهب فيها حدًّا بعيدًا عن دائرة العروبة والإسلام وذلك بفضل المدّ الشيوعي آنذاك.

لقد أذن لهذه الدعوات في فرض سلطتها، وتثبيت أركان الدولة وفق ما سعت إليه هذه الأفكار من جاذبية تثويرية في ظل اختلال العلاقة مع الغرب الاستعماري، وما يهم في هذا المجال هو الولوج إلى مداخل العنف الذي اعتمدته العديد من هذه الكيانات تجاه الجماعات المتبنية للعنف والتي أصبحت توصف بالأصولية والجهادية والسلفية.

وبالرجوع إلى مسوّغات الحق القانوني لاستخدام العنف كآلية تحتكرها السلطة، فقد جرى استخدام هذه المسوغات وفق هذا المنظور -وفي كثير من الأحيان- بمعزل عن سائر الوظائف التي ينبغي للدولة الاضطلاع بها، فتنازُلُ الأفراد عن جزء من السلطة الذاتية وعن بعض الحريات لصالح الدولة ككيان اعتباري وفق نظرية العقد الاجتماعي إنما يكون من خلال دورٍ مقابل تقوم به الدولة وهو المحافظة على الأمن الفردي والجماعي وضمان حرية الرأي والتعبير، وهو ما لم يكن ليحدث في الكثير من الكيانات العربية.

لم تستطع هذه الكيانات ومن خلال خوضها أربع حروب مع العدو الصهيوني إرضاء نزوع شعوبها نحو رد الاعتبار واسترجاع الأرض ورفع التهديد، فيما الوحدة العربية والتنمية بقيت حلمًا منشودًا لدى أفرادها، وحرية الرأي لم تجد هي الأخرى سبيلاً نحو التطبيق، فالمشاركة في الانتخاب وتبادل السلطة وتشكيل المعارضة والمساهمة بتقديم المشورة في تعزيز دور الدولة، لم تلقَ سوى القمع بالعنف وبالتهديد بالسجن والنفي والتشريد بحجة الخيانة والمؤامرة والتدخلات الخارجية، وقد ساد ذلك حتى قبل نهايات القرن الماضي.

ومع حلول القرن الجديد، فإن اختلال العلاقة بين الدولة والخارج ساهم بالمزيد من تراخي الدور السيادي للدولة، مما ساهم في تعزيز الشعور بانعدام الوزن الوجودي لدى الشعوب الإسلامية تجاه الخارج وتجاه الدولة نفسها، الأمر الذي أدّى إلى المزيد من توفير المناخات التي توفّر إعادة الوشائجية الداخلية لمجموعات تتشكل وفق أيديولوجيا واعتقادات وفهم يعاد إنتاجه للتعاطي مع الواقع القائم.

العنف الأصولي

ارتبطت الأعمال (العنفية) ببعض الجماعات التي درجت الأدبيات المعاصرة على تسميتها بالجماعات الأصولية، علمًا بأن مصطلح الأصولية نفسه لا يرسو على تعريف دقيق، فالأصولية أصبحت تقترن بالتطرف والعنف والإرهاب.

ويجري تمييز الجماعات الأصولية عن المؤسسات الدينية المرتبطة بجهاز الدولة نفسها كأحد المؤسسات الموجودة فيها، والتي ترعى الشؤون الدينية للأفراد، كما يجري التمييز نفسه بينها وبين بعض الجماعات التي تسلك مسلكًا سياسيًا على نحو تطبيق مشروعها المتصل بالشريعة الإسلامية، لكنها لم تتوسل العنف آلية لتطبيق برنامجها المتصل بالعودة إلى الإسلام كأطروحة تصلح لإدارة المجتمع والسلطة.

وقد شهد العالم الإسلامي عدة نماذج من الجماعات (العنفية) وما يزال حتى وقتنا الراهن، تحت وطأة الكثير من الأعمال المستندة إليها، إذ لم تنشأ هذه الجماعات من الفراغ، وإنما ارتبطت بمجمل العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسة، ولكن ما يهم في هذا المجال هو مقاربتها في دائرة العنف الممارس عليها من قبل الدولة وعنفها المضاد.

فمنذ انهيار الخلافة العثمانية وصعود التيارات القومية والاشتراكية، ثم إخفاقاتها في منتصف القرن الماضي في تحقيق التنمية والوحدة ومناهضة الاحتلال الصهيوني لفلسطين، والشعور المتنامي بعدم القدرة على المشاركة السياسية، نمت هذه الجماعات عبر التشكيل الدولي لجماعة الإخوان المسلمين، ورغم العديد من ملاحظاتها حول الاختلاف بين الديمقراطية والشورى، تعمد بعض تشكيلاتها إلى المواءمة بين هذين المفهومين، فتسلل العنف إلى التيار الأول، دون أن يتاح له الاستمرار أو النجاح في تطبيق برنامجه.

غير أن إحدى المحطات الفاصلة في تاريخ هذه الجماعات، هو نشوء تشكيلات نمت في السجون المصرية في الستينات والسبعينات، فنسجت –بسبب التعذيب والضغوط، أفكارًا تكفيرية سعت إلى تكفير الدولة والمجتمع في آن معًا، وقد تجلّت أولى هذه المعالم مع كتاب سيد قطب "معالم على الطريق" الذي يرتكز على أولوية الحاكمية لله، بعد أن أعاد اكتشاف أفكار أبي الأعلى المودودي([10]). ووفق هذا المنظور، ليس ثمة من مشروعية لسلطة الدولة كسلطة تحتكر العنف أو كسلطة تحتكم إلى قوانين وتشريعات مستندة إلى أسس علمانية.

لقد أدّت هذه الأفكار المتأسّسة على عوامل موضوعية وذاتية في آن معًا إلى العديد من الصدامات، منها الصدام مع سلطة الدولة، التي عمدت بدورها إلى زجّ العديد من أفراد الجماعات (العنفية) في السجون، ومنعتها من العمل الصريح، فتحولت إلى العمل السري، مستكملة أعمال العنف الذي بتحوُّلِه تحوَّل أفرادها إلى قنابل بشرية، تنطوي على قدرة تدميرية هائلة لا تعصم الأبرياء والمدنيين حتى في المساجد وأماكن السكن والتجمعات العامة، الأمر الذي يضعها ضمن دائرة التصنيف بالتطرف والإرهاب، فوفقًا لمفهوم التطرف الذي يستند على صحة الاعتقاد، وعدم الحوار، ونفي الآخر، تصبح هذه الجماعات متماثلة معه، فضلاً عن التهديد لأمن المواطنين في الداخل والمُدرَج على أنه نوع من الإرهاب بحق الآمنين.

 من هنا، فإن التطرف في الأفكار يصبح ممهدًا لأعمال العنف لاقترانه بالتكفير وبالنفي، فلو اقتصر على مبدأ الحاكمية، وعلى حالٍ من التعبئة التي تؤدي إلى تسلله إلى مختلف الشرائح الاجتماعية، بحيث يسعى المجتمع إلى تطبيقه عبر وسائله الديمقراطية، أو عبر الثورة التي لا تتوسل العنف كأحد الآليات المستخدمة، حينذاك فلا مندوحة من الاعتراف الواقعي بها، فضلاً عن الشرعية الدولية التي ستعترف بها أيضًا.

أما لو توجهت هذه الجماعات في أعمالها (العنفية) لرد العدوان الخارجي ، الذي يشكل تهديدًا لأمن مواطنيها في حياتهم واقتصادهم ، فحينئذٍ يمكن تصنيف أعمالهم (العنفية) في دائرة المشروعية، استنادًا إلى المعيارية المزدوجة في تنفيذ القوانين الدولية، وذلك حين نجد أن الشرعية الدولية لم تستطع أن تردع عنهم العدوان الخارجي، فيكون هذا العنف الصادر من قبل هذه الجماعات هو (عنف مضاد) سوّغه قيام العدو بأعمال عنفية تجاههم، ولكن هذا يدخلها من جهة أخرى في دائرة العنف المضاد من الدولة نفسها كسلطة تحتكر أعمال العنف، بمعزل عن النقاش الذي يدور حول أهمية دور الدولة في تأمين مستلزمات الأمن لشعبها وحمايته من التهديد الخارجي، وهو بالأصل يجب الاضطلاع به انطلاقًا من النظرة الحقوقية المتأسّسة على هذا النحو.

والدولة حين تستعين بالخارج، أو حين تعقد اتفاقيات السلم مع العدو، بحيث يكفّ عن كونه يشكّل حالة من التهديد لمواطنيها، مما يعطيها مشروعية في تأمين مستلزمات اتفاقياتها، بحال تأسّست السلطة الآمرة لديها عبر المشروعية الشعبية، التي تتجلى بالانتخابات للمجالس التمثيلية كما هو حال الدول الحديثة، فحينذاك يصح القول: أن ثمة إرادة شعبية ارتضت سير الأمور على هذا المنوال، وإلا فمشروعية الاتفاقيات تكون مشروعية صورية وليست حقيقية.

أما في حال استمرار التهديد الخارجي، فتصبح الجماعات حينذاك مستندة إلى خياراتها في توفير الحماية لنفسها من التهديد، انطلاقًا من الحق القانوني للأفراد، وبدون التعرض لأمن المواطنين.

لكن هذه الجماعات حتى لو أسقطت العملية الديمقراطية من قناعاتها كمطلب وكآلية للوصول إلى السلطة، فإن آراءها تبقى في دائرة المشروعية ما لم تتوسل العنف آلية لتطبيقه في ظل عدم توفر الظروف الموضوعية، ويصبح برنامجها مفتوحًا أمام الوسائل الإقناعية كأحد الآليات التي تتصادم مع مفهومي [التطرف الإرهابي] كما مرّ في التحديدات السابقة لهذين المفهومين.

العنف والمقاومة "لبنان"

تعدّ الأعمال التي قامت بها المقاومة في لبنان أحد موارد الخلاف حول ما إذا كان عملها "العنفي" يقع تحت دائرة العنف المشروع أو يعدّ إرهابًا.

ومع سبق الإشارة إلى المواثيق الدولية التي تعطي للعنف مشروعيته ضد الاعتداء الخارجي، يصبح العمل المقاوم في لبنان مشروعًا، غير أن مشروعيته تعيد فتح النقاش من جديد بأنه لا يزال يقع تحت دائرة التصنيف كعمل عنفي غير مبرر من الناحية القانونية.

وتنطلق هذه التفسيرات من مبدأ أساسي يقوم على أساس نظرية الحق المكرّس للدولة في احتكار العنف وتوسله للدفاع عن مواطنيها، ما يعني أن التبرير القانوني للدفاع ضد التهديد الخارجي معطى للدولة، وإذا كان للشعب من خيار في اللجوء إليه فيتم ذلك مع غياب الدولة.

ولذلك فالمقاومة الفرنسية أثناء الاحتلال النازي هي مقاومة شعبية، تستند إلى مبررات متأسّسة على عدم وجود الدولة، وعلى انهيارها آنذاك.

فالدولة هي صاحبة القرار باستخدام العنف للدفاع عن شعبها، وفي حال القصور عن استخدامه ثمة جهة دولية تتمثل بالأمم المتحدة ومجلس الأمن تضطلع بدور استخدام وسائل القوة ، ومن بينها العنف لرد الاحتلال وعودة الحق إلى الشعوب.

وبذلك لا يعود لأية جماعة -في ظل وجود الدولة كسلطة- الحق في استخدام العنف، فوجود الدولة ينفي وجود جماعات (عنفية) من الناحية النظرية.

مع ذلك وُوْجِه الاحتلال الصهيوني للبنان بمقاومة (عنفية) من جماعات مسلّحة اتخذت شكل حرب العصابات، تزامن ذلك مع وجود الدولة كبنيان مادي، ولكن تزامن أيضًا مع استقالة تاريخية للدولة عن دورها، تمثلت في العجز عن الدفاع عن شعبها إزاء أعمال العنف المتكررة، التي قام بها الكيان الصهيوني.

إن العمل المقاوم في هذه الحالة لا يخرج عما درجنا عليه في النظرة الحقوقية المتأسّسة على حق الدفاع عن النفس من الناحية الفلسفية والقانونية، في ظل غياب سلطة العنف المحتكَرة للدولة، فلا يصح القول -والحال كذلك- إن الفعل العنفي للمقاومة يفتقد إلى المشروعية القانونية مع وجود الدولة، أو هو لا يشابه الحالة الفرنسية إبان الاحتلال النازي، أو الحالة الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي، لترافقه آنذاك مع عدم وجود الدولة كسلطة عنف، في حين هو خلاف ذلك في لبنان.

فصحيح أن الدولة بقيت ماثلة إبان صعود المقاومة، ولكن بنيانها ترافق مع غياب سلطتها (العنفية)، وتجاوزه إلى حال الانقسام اللبناني الذي لم يكن بمجمله رافضًا للاحتلال الصهيوني، ومعه فريق من أركان الدولة نفسها.

وفي ظل غياب سلطة العنف المحتكَرة من الدولة وبروز حالة الدفاع عن النفس انطلاقًا من المشروعية الحقوقية ، لا يعود العمل المقاوم مُصنّفًا في دائرة التعارض معها، لكونه يعبّر عن حاجة أصلية في الدفاع عن النفس.

لكن الإشكالية الأخرى التي تثار في هذا المجال، أنه مع عدم قدرة الدولة على استخدامها العنف، تأتي الشرعية الدولية المتمثلة في الأمم المتحدة لتحلّ مكان هذه السلطة المفتقدة، عبر استخدام الهيئة الدولية سلطتها الإكراهية لدفع الاحتلال، إلى جانب اللجوء إلى العنف عن طريق مجلس الأمن بحال عدم جدوائية الضغوط التي تتوسلها هذه الجمعية في البداية، مما يلغي مشروعية الجماعات التي تقوم بالعنف كبديل عن دور الدولة.

قد تصح هذه المقاربة من الناحية النظرية المستندة إلى النصوص، لكن المقاربة العملية تجعل التأسيس النظري لسلطة العنف الخارجة عن نطاق الجماعة (العنفية) متعارضة مع الناحية النظرية، مما يلغي مفاعيل القوة لدى النص لعجزه عن الاقتران بما يؤدي إلى تحقيق غاياته وأهدافه.

لقد تجلّى هذا العجز منذ صدور القرار الدولي (425) دون أن يسلك مسلكًا عمليًا في هذا المجال، مما أعطى الفعل المقاوم مشروعيته الحقوقية، فيما أضفت الناحية العملانية -المتمثلة بموافقة الدولة والشعب اللبناني على الفعل المقاوم بتهيئة مناخاته المساعدة- المزيد من القوة لهذه المشروعية.

وهنا سؤال يبرز نفسه ،وهو أنه مع صعود الفعل المقاوم نحو غاياته المتمثلة بتحرير الأرض، فهل يصبح الاستمرار بحمل السلاح مصنفًا ضمن دائرة الإرهاب، خصوصًا مع زوال الاحتلال واستعادة الدولة ركائز سلطتها، وغياب الانقسام اللبناني الذي تجلّى عبر الحرب الأهلية؟

إن العودة إلى المفاهيم المطروحة حول تحديدات معنى الإرهاب والعنف -كما ورد سابقًا- واستمرار حمل السلاح مع عدم وجود احتلال للأراضي اللبنانية، لا يفقد الأمر مشروعيته، ذلك أن حالة العداء بين الكيان الصهيوني ما زالت ماثلة، وأن خروجه من لبنان لا يعني أن الصراع قد بلغ حدًا انتفت معه كل مسوّغات استخدام العنف من قبل الكيان الصهيوني، كما أن خروج العدو من الأراضي وتطبيق القرار (425) سوف يعيد لبنان إلى اتفاقية الهدنة عام 1949، وهي هدنة تقف على طرفي الحرب والسلام، أو هي تجميد مؤقت للصراع وليست نهاية له، مما يعني أنه يحق لكلا الطرفين الاستمرار في التعبئة من قبل أحدهما ضد الآخر، والإبقاء على المشاعر العدائية، مع تجميد مؤقت للعنف ريثما تصل الأمور إلى حالة من التكيف بينهما.

وفي ظل واقع الحال هذا، يصبح اقتناء السلاح أحد عناصر القوة الرادعة في ظل بقاء موازين القوة على حالها خصوصًا وأن سلطة العنف المحتكرة للدولة تفتقد إلى القدرة الدفاعية مع استمرار مفاعيل الهدنة. ومع ما يمكن أن تؤول إليه المساعي الدولية لنزع فتيل العنف عبر ما يسمى العودة إلى تنفيذ القرارات الدولية، تبقى مشروعية السلاح ماثلة في الوقت الحاضر ، رغم العمل على ضرورة شيوع حالة من السلام.

ولكن حتى لو تم ذلك يبقى العنف كإرهاب خاضعًا للنقاش حول مرتكزاته الحقوقية ، لأنه وفقًا لاعتبار الإرهاب بأنه يمثل خروجًا على القانون بما يرتكز إليه من أعمال عنف وتهديد، يصح القول أن جنبته (العنفية) مجمّدة في حال توقيع اتفاقيات مغايرة لاتفاقية الهدنة، كما لو وقعت معاهدة سلام ، وحينئذ فيتحوّل هذا العنف الى إرهاب محض ، ليس له جنبة عنفية مسوّغة من الناحية الحقوقية ، ولكننا اذا نظرنا اليه من ناحية أخرى ، بما يمثله من تهديد بسبب استمرار الاستحواذ عليه من قبل جماعة ما فيبقى خارج هذا التصنيف ، أي خارج التصنيف بكونه خروجًا على القانون ، بل يبقى له من المسوغات الحقوقية والقانونية ما يجعله أمرًا مشروعًا ومقبولاً، وأهم هذه المسوغات:

-           إن حمل السلاح الدفاعي يبقى خارج دائرة الفعل (العنفي) لكونه استعدادًا وليس فعلاً.

-           إنه ليس سلاحًا مستخدمًا في الداخل بما يخرج الدولة عن حقها في استخدام سلطتها إزاء مواطنيها.

-    إنه لا يرتكز على أفكار متطرفة بما يعنيه التطرف من أفكار مجمّدة لا تعترف بالآخر في الداخل، سيما وأن العمل المقاوم في لبنان لم يُسخّر للّعبة الداخلية، لكونه ارتكز في التمثيل السياسي على مبدأ الديمقراطية التوافقية، المستندة إلى التنافس في أطر المؤسسات السياسية، مع اعتراف حزب الله -كأحد أهم تشكيلات العمل المقاوم- بأنه في عمله السياسي هو جزء من التشكيلة الاجتماعية الموجودة وليس كلها، ولا يسعى إلى تطويعها وفق مبادئ مجمّدة بقدر ما يرتكز على مبدأ رفض الطائفية السياسية للخروج من تصلّب الحالة الطائفية وتكلّسها، مما ينزع عنه فعل التهديد الداخلي ، ليغدو حالة دفاعية مقابلة للتهديد من قبل الكيان الصهيوني، سيما أن هذا الكيان ليس ثمة ما يؤشر إلى وجود حدود مرسومة له، فدستوره يخلو من هذا التحديد ويجعله مفتوحًا على قضم أراضي كيانات ودول أخرى، فيما سلاح التهديد النووي يبقى هو الآخر محتاجًا إلى مسوّغاته الحقوقية لدى هذا الكيان رغم حالة التظاهر بالعمل من أجل السلام.

-    إن اتفاقيات السلام حتى لو تمّ توقيعها لا يمكن أن تتخذ مفاعيل حقوقية مع عدم توفر التوازن في القوة، لأن السلام هو حالة تعقب الصراع عند عدم استطاعة أحد أطرافه الحسم لصالحه فتصبح المعاهدات حلاً بديلاً، غير أن ما يدور في الوقت الراهن يعبّر عن الحالة الإكراهية للسلام، بحيث يصبح استسلامًا مفروضًا يُبقي على اختلال الموازين واستمرار حالة التهديد.

ختامًا نقول : إن الشرعية الدولية مدعوّة لإعادة النظر في طبيعة دورها، بما يشكّل ضمانات للاعتراف وللاطمئنان إلى دورها الضامن إزاء التعرض للتهديد وللعنف، بعدما سجّلت المراحل التاريخية والراهنة، خضوعًا لمعايير القوة الدولية المتمثّلة بالولايات المتحدة الأمريكية، التي تفصح وبشكل علني عن تحالفها مع الكيان الصهيوني ومدِّه بكل مستلزمات القوة (العنفية).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] - فتحي المسكيني: الهوية والزمان، دار الطليعة، بيروت.

[2] - أمل يازجي: الإرهاب الدولي والنظام العالمي الراهن، دار الفكر، دمشق.

[3] - سمير نعيم أحمد: التطرف الديني في مصر، المستقبل العربي، العدد:1990-131.

[4] - برتران بادي: سوسيولوجيا الدولة، معهد الإنماء العربي.

[5] - خطاب الرئيس الأمريكي جورج بوش، السفير تاريخ : 22/01/2005.

[6] - عبد الله الشايخي: إرهاب الدولة في النظام العالمي المعاصر، المستقبل العربي، العدد226.

[7] - محمد حسين دكروب، الأنتربولوجيا، معهد الإنماء العربي.

[8] - المصدر نفسه.

[9] - سمير أحمد: المستقبل العربي، مصدر سابق.

[10] - محمد جمال باروت يثرت الجديدة، دار رياض الريس، بيروت 1994، ص183.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني عشر