السنة الرابعة / العدد الثاني عشر/ شتاء 2008 - محرم 1429هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تتمة مقال = زيارة عاشوراء فوق الشبهات*

 

ج ـ العامل الأدبي: وهو انسجام لغة الحديث وأسلوبه مع الأحاديث المسانخة له المعلوم صدورها، وهذا من الفنون المتعارفة لدى العرف العقلائي في توثيق النصوص، مثلاً قال ابن أبي الحديد: (وأنت إذا تأملت نهج البلاغة وجدته كله ماءً واحدًا ونفسًا واحدًا وأسلوبًا واحدًا كالجسم البسيط الذي لا يكون بعض من أبعاضه مخالفًا لباقي الأبعاض في الماهية، وكالقرآن العزيز أوله كوسطه وأوسطه كآخره وكل سورة منه وكل آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفن والطريق والنظم لباقي الآيات والسور، ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً وبعضه صحيحًا لم يكن ذلك كذلك. فقد ظهر لك بالبرهان الواضح ضلال من زعم أن هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين (عليه السلام))(38).

والنتيجة: إنه إذا اجتمعت هذه العوامل كلها أو بعضها أنتجت الوثوق بصدور النص، بل إن مقتضى دليل حساب الاحتمالات هو أن يؤدي تراكم هذه القرائن إلى تصاعد احتمال الصدور حتى يصل إلى حد اليقين والقطع فضلاً عن الاطمئنان.

وأما المقدمة الصغروية: إن ملاحظة زيارة عاشوراء يقود إلى الوثوق بل اليقين بصدورها عن الإمام الباقر (عليه السلام) وذلك بالنظر لتضافر عوامل الوثوق فيها، فالعامل الكمي تراه واضحًا جليًا في عدد المصادر التي أوردتها ونوعيتها من حيث كونها من المزارات المعروفة لعلماء الطائفة المعروفين بالتحقيق والتثبت والتدقيق، كابن قولويه، حيث أوردها في كتابه كامل الزيارات، والشيخ الطوسي، حيث أوردها في كتابيه مصباح المتهجد ومختصر المصباح، والشيخ محمد بن المشهدي، حيث أوردها في كتابه المعروف بالمزار الكبير، والسيد علي بن طاووس، حيث أوردها في كتابه مصباح الزائر، والعلامة الحلي، حيث أوردها في كتابه منهاج المصباح، والشهيد الأول، حيث أوردها في كتابه المزار، والشيخ إبراهيم الكفعمي، حيث أوردها في كتابه جنة الأمان الواقية وجنة الإيمان الباقية المعروف بالمصباح، والعلامة المجلسي، حيث أوردها في ثلاثة من كتبه (مزار البحار، وتحفة الزائر، وزاد المعاد)، و... ومن تأخر عنهم، فقد أورد هؤلاء الأعلام هذه الزيارة في كتبهم بتمام فقراتها وأجزائها مما يوجب الوثوق بصدورها.

كما أن العامل الروحي تراه واضحًا بارزًا من خلال سياق الزيارة، حيث يركز على روح التبرّي واللعن والرفض للظلم والظالمين، الذي هو من المبادئ القرآنية الواضحة لدى كل مسلم، كما أشرنا إليه في مقدمة الكتاب.

وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ}(39).

فزيارة عاشوراء تتضمن روح القرآن وهو طلب الطرد من رحمة الله.

والعامل الأدبي يجده المتأمل في فقرات هذه الزيارة وسياقها حيث يستشف من له خبرة بالأساليب الأدبية تجانس لغة الزيارة مع لغة الزيارات الأخرى المعلوم ثبوت بعضها كزيارة وارث وزيارة عرفة وزيارة النصف من شعبان، وتناغم أسلوبها مع أسلوب الإمام الباقر (عليه السلام) من خلال أدعيته وكلماته في مجال التربية الأخلاقية.

والمتحصل: إن التقاء هذه العوامل في زيارة عاشوراء منشأ عقلائي للوثوق والاطمئنان بصدورها عن الإمام الباقر (عليه السلام).

النقطة الثانية: لو أغمضنا النظر عما سبق وقمنا بالمقارنة بين نسخ المصباح الكبير للشيخ الطوسي لوجدنا جميع النسخ الموجودة فعلاً متوافقة على نقل فقرة اللعن المكرر مائة مرة وفقرة السلام المكرر مائة مرة، مضافًا إلى أن هاتين الفقرتين ذكرهما ابن قولويه في كامل الزيارات في نقله لزيارة عاشوراء، وتبعهما من تأخر عنهما في نقل هاتين الفقرتين.

وأما بالنسبة لزيارة عاشوراء المشهورة، وهي التي ذكرها الشيخ عباس القمي في مفاتيح الجنان، فقد وردت في عدة نسخ معتبرة من مصباح الشيخ (الطوسي):

منها: نسخة عتيقة يرجع تاريخها إلى زمان الشيخ الطوسي تم العثور عليها في مكتبة السيد البروجردي، وهي مشتملة على الفقرة المذكورة.

ومنها: نسخة المولى أحمد التوني، والتي ترجع بالمقابلة إلى المؤلف، وسيأتي الكلام عنها مفصلاً.

ومنها: نسخة ابن أبي الجود، والتي ترجع بالمقابلة إلى نسخة المؤلف، وسيأتي الكلام عنها.

ومنها: نسخة السيد ابن طاووس، التي ينقل عنها في كتابه مصباح الزائر، حيث إنه يعترف ضمنًا باشتمالها على الفقرة المذكورة، نعم استشكل في الفقرتين اللتين تكرران مائة مرة، وستأتي الإشارة إلى ذلك.

وفي المقابل هناك نسخة واحدة من نسخ المصباح الكبير مشوّهة، وهي النسخة الموجودة في المكتبة الرضوية وهي المعروفة بنسخة (الدوريستي) يرجع تاريخها إلى سنة 502 هجري قمري، والملاحظ على هذه النسخة أنه وقع فيها إما شطب على الفقرة المذكورة أو استبدال لها بفقرة أخرى أثناء النسخ، حيث إن الموجود فيها ما هذا نصه (اللهم خص أنت أول ظالم باللعن مني وابدأ به جميع الظالمين لهم)، فإنه من الواضح جدًا لمن له أدنى تأمل وخبرة بالكلام العربي عدم تناسق وتناسب كلمات هذه الفقرة، فإن بداية الفقرة من قوله (اللهم خص) إلى قوله (وابدأ به) متناسب، إلا أنه بعد ذلك ذكر فقرة (جميع الظالمين) وليس هناك انسجام بين الفعل وما بعده، باعتبار أن الفعل (ابدأ) إذا تعدى بالباء يقتضي أن يكون المفعول متعددًا ويتعلق الفعل بواحد أولاً ثم يتعلق بالآخر، وبما أن الفعل هنا متعلق بقوله (جميع الظالمين) فليس له أكثر من مفعول، مضافًا إلى أن الجميع يحتوي على كل الأفراد، فلا معنى للبداية به.

هذا مضافًا إلى أن من تأخر زمانه عن الشيخ لم يستشكلوا في هذه الفقرة أعني (اللهم خص أول ظالم باللعن مني...) كالسيد ابن طاووس الذي أخذ الزيارة عن الشيخ، حيث إنه ذكر في كتابه مصباح الزائر ما هذا نصه:

(قال علي بن موسى بن جعفر بن طاووس: هذه الرواية نقلناها بإسنادها من المصباح الكبير، وهو مقابل بخط مصنفه رحمه الله ولم يكن في ألفاظ الزيارة الفصلان اللذان يكرران مائة مرة، وإنما نقلنا الزيارة من المصباح الصغير، فاعلم ذلك).

فإنه بالنسبة لهذه الفقرة يعترف ضمنًا بورودها في نسخة المصباح الكبير، وكذلك غيره ممن نقل الزيارة عن مصباح الشيخ.

وأما بقية نسخ المصباح -كما ذكرنا- فهي مشتملة على هذه الفقرة، ولأجل ذلك فهذه النسخ في نقلها لفقرات اللعن لا معارض لها فيؤخذ بها، لأن المقابل لها وهو نسخة المكتبة الرضوية ليس ظاهرًا في نفي فقرة اللعن إن لم يكن ظاهرًا في حذفها، فلا يصلح للمعارضة.

ولكن لو سلمنا جدلاً بوجود النقص في النسخة المذكورة، فإن الترجيح للنسخ المشتملة على هذه الفقرة لعدة أمور منها:

أ ـ الشهرة الروائية: فإن من نقل الزيارة عن الشيخ نقلها بجميع فقراتها الثلاث (اللعن المكرر مائة مرة) ثم (السلام المكرر مائة مرة) ثم (اللهم خص أنت...) كالسيد بن طاووس في مصباحه والشيخ محمد بن المشهدي في مزاره والعلامة المجلسي في بحاره والشيخ إبراهيم الكفعمي في مصباحه، والشيخ عبد الله البحراني في مزار العوالم، وغيرهم الكثير ممن ألّف مزارًا وذكر فيه الزيارة عن الشيخ، فإن توافق الجميع في النقل موجب لاشتهار النسخ المشتملة على الفقرة المذكورة، فترجح على النسخة الأخرى، مع أننا بيّنا وجه الخدشة في تلك النسخة.

ب ـ المعاصرة لزمان المؤلف: فإن النسخة المشتملة على الفقرة المذكورة معاصرة لزمان المؤلف، وذلك بمقتضى المقابلة بين النسخ والذي يرجع في النهاية إلى نسخة المؤلف رحمه الله، ومن أهم النسخ المقابلة النسخة التي قام بمقابلتها المولى أحمد التوني حيث قام بالمقابلة على نسخة كانت لديه إلى أن تنتهي المقابلة إلى زمان المؤلف .

ونحن هنا ننقل لك نص كلامه :

قال رحمه الله : (هذا في المقابل بها، بلغت المقابلة بنسخة مصححة، وقد بذلنا الجهد في تصحيح وإصلاح ما وجد فيه من الغلط إلا ما زاغ عنه البصر وحسر عنه النظر، وفي القابل بها بلغت مقابلته بنسخة مصححة بخط علي بن أحمد المعروف بالرميلي، ذكر أنه نقل نسخته تلك من خط علي بن محمد السكون وقابلها بها بالمشهد المقدس الحائري الحسيني سلام الله عليه، وكان ذلك في سابع شعبان المعظم عمت ميامنه من سنة ثلاثين وثمانمائة، كتبه الفقير إلى الله تعالى الحسن بن راشد، وفيها أيضًا بلغت المقابلة بنسخ متعددة صحيحة، وذلك في شعبان من سنة إحدى وسبعين وتسعمائة، وكان واحد من النسخ بخط الشيخ العالم الفاضل محمد بن إدريس العجلي صاحب كتاب السرائر، وكان مكتوبًا في آخرها فرغ من نقله وكتابته محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس بن الحسين بن القاسم بن عيسى العجلي في جمادى الأولى سنة سبعين وخمسمائة (خلده الله تعالى) وعورض هذا الكتاب بالأصل المسطور بخط المصنف رحمه الله، وبذلت فيه وسعي ومجهودي إلا ما زاغ عنه نظري وحسر عنه بصري، والله الله من غيّر فيه شيئًا أو بدّل فيه حرفًا أو يُبدّل فيه لفظًا من إعراب وغيره، ورحم الله من نظر فيه ودعا له وللمؤمنين بالغفران، سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة، وكتب محمد بن إدريس العجلي، وكتب العبد الأقل عماد الدين على الشريف القاري الاسترآبادي في السنة المذكورة، ونحن حين قابلناه بذلك الأصل كان معنا مختصر المصباح بخط العالم العابد الورع علي بن محمد بن محمد بن علي بن السكون الحلي رحمه الله فكلما كتبنا عليه بخطهما فالمراد ابن السكون وابن إدريس، وكان الفراغ منها في أوائل شهر محرم الحرام من شهور سنة ثمان وستين بعد الألف من الهجرة النبوية عليه الصلاة والتحية، وكتبه الفقير إلى ربه الغني أحمد بن حاجي محمد البشروي الشهير بالتوني، حامدًا لله تعالى مصليًا على رسوله المصطفى وعترته الطاهرين) انتهى.

وكذلك نسخة ابن أبي الجود، وهي موجودة في مكتبة السيد المرعشي، والتي ترجع بالمقابلة إلى نسخة المصنف، حيث جاء في المقابلة ما نصه:

(قد قوبلت ـ كما على ظهرها بخط المقابل ـ مع نسخة عتيقة كان على ظهر الجزء الأول منها إجازة حيدر بن محمد بن زيد بن محمد بن محمد بن عبد الله الحسيني، في جمادى الأولى سنة (629) لربيب الدين حسن بن محمد بن يحيى بن علي بن أبي الجود بن بدر بن درياس لرواية المصباح، وذكر في إجازته أنه قرأ عليه بعضه واستجازه في رواية باقيه فأجازه وأخبره أنه قرأه على شيخه رشيد الدين أبي جعفر محمد بن علي بن شهر آشوب السروي، وهو أخبره أنه سمعه من لفظ جده شهر آشوب في صغره وأخبره أنه قرأه على مصنفه الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه الله).

كما أن النسخة الموجودة في مكتبة السيد البروجردي في قم المقدسة يرجع تاريخها إلى زمان المؤلف بحسب ما هو مكتوب على ظهرها، وكلتا هاتين النسختين مشتملة على الفقرة المذكورة، بينما النسخة الأخرى (وهي النسخة الرضوية) لا يوجد فيها شاهد على مطابقتها لنسخة المؤلف ولا لمعاصرتها، بل قامت القرائن على أنها متأخرة عن زمانه باثنين وأربعين سنة، مضافًا إلى القرينة المتقدمة الدالة على أنها مشطوب عليها أو مبدل فيها لظروف أبرزها التقية، وعليه فإن فرض تغيير أو تزوير -كما قيل- فهو في النسخة الفاقدة دون النسخة الواجدة.

فالمتحصل: هو حصول الوثوق بل الاطمئنان باشتمال مصباح الشيخ على الفقرة المذكورة.

النقطة الثالثة: بعد الفراغ من توثيق النسخ بدعوى الوثوق بعدم صحة النسخة الفاقدة، مضافًا لثبوت النسخة الواجدة، فإن نقل الأعلام المتأخرين للزيارة كصاحب البحار وغيره، حيث إنهم ينقلون مباشرة من نسخة المصباح ظاهرًا، بمقتضى أصالة الحسّ في نقله عن نسخة المؤلف التي وصلت إليه يدًا بيد وكابرًا عن كابر، كما أن هذا هو ظاهر عبارة المولى أحمد التوني أيضًا، فإن النقل المشتمل على الفقرة المذكورة مقدم على النقل الفاقد، بترجيح جانب الزيادة على النقيصة لا من باب الترجيح الظني، بل لنكتة نوعية في جانب الزيادة توجب أقربيتها للواقع، والوجه في ذلك أن نقل الزيادة لا يخرج منشأه عن أربعة احتمالات:

1- أن يكون من باب الغفلة، وهو منفي بأصالة عدم الغفلة.

2- أن يكون من باب التزوير، وهو منفي بالوثاقة.

3- أن يكون من باب التفسير والتوضيح، ونقله ضمن سياق فقرات الزيارة دون قرينة على أنه توضيح وتفسير مع التفات الناقل لترتب آثار عملية عليه مناف للضبط والأمانة.

4 - وهو المتعين، أن يكون النقل من باب الرواية.

بينما نقل النص مع النقص محتمل لمناشئ عقلائية واضحة، كأن يكون الحذف من باب التقية، أو يرد على الثاني ما أورد على الثالث في احتمال الزيادة، بل يرد عليه ما أورد على الثاني أيضًا من باب توهم الراوي أن باقي الفقرات دالة عليه، وكم لذلك من نظير في النصوص.

والخلاصة: هي ثبوت زيارة عاشوراء بتمام فقراتها وألفاظها، فالتشكيك في متن زيارة عاشوراء المباركة ابتعاد عن المنهج العلمي في التعامل مع روايات أهل البيت (عليهم السلام).

نسأل الله تعالى للمؤمنين الثبات على ولاية أهل البيت ومحبتهم والبراءة من أعدائهم إنه سميع مجيب.

ــــــــــــــــــــ

الهوامش

38- شرح نهج البلاغة 10: 128 و 129.

39- البقرة 159.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني عشر