السنة الرابعة / العدد الثاني عشر/ شتاء 2008 - محرم 1429هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الدماغ والنفس والثقافة

د. محمد الشامي

مقدمة

إدغار موران مفكّر فرنسي كبير وعالم اجتماع وفيلسوف يعمل في المركز الوطني للأبحاث العلمية في فرنسا. له كتابات قيّمة في علم الاناسة والفلسفة ونظرية المعرفة. يتميّز بدقة التحليل وسعة المعرفة، وهو في كتاباته ذو اتجاه مادي علمي.

وهذا النص هو ترجمة لأحد فصول كتابه (التعقيد الإنساني)([1])، وهي ترجمة بتصرّف، راعينا فيها تبسيط المطلب مع الحفاظ على المضمون الذي يريده الكاتب.

وقد ارتأينا ترجمة هذا الفصل لما له من أهمية علمية وفلسفية فيما يرتبط بوظيفة الدماغ وعلاقته بالنفس. وذلك من أجل إغناء الحوار وإثراء النقاش في هذه المواضيع الإنسانية المهمة، علمًا بأن أفكار الكاتب لا تعبّر بالضرورة عن رأي المترجم.

ترجمة النص

ثمة في الجنس البشري كليات أناسية معرفية ترتبط بطبيعة أدوات الحواس والدماغ، وبمنظومة التمثل والعلاقة بين النفس والدماغ (الاحتساب والتأمل)([2])، إنها أدوات المعرفة، ووسائط إدراكية تشتغل على المحيط الخارجي وتدمجه في نسقها ومنظومتها، وهي تستخدم في ذلك اللغة ذات المفصل المزدوج([3])، مما يُفعّل قدرتها على تكوين معرفة تجريبية ومنطقية وعقلانية ويطال إدراكها الرمز والأسطورة والسحر.

هنا ينبغي علينا إزالة إلتباس فكري كبير يتصل بمفهوم هذه الكليات، ذلك أن دماغنا الذي ظهر منذ ما يقرب المائة ألف عام، هو نفسه دماغ بوذا وليونارد والمسيح وموزار وأينشتاين، ودماغ أجدادنا البدائيين ومعاصرينا المتحضرين جدًا، وهو دماغ البيض والسود والصفر والعبيد والأحرار والرهبان والملحدين والحسبة والشعراء والفلاسفة والمهندسين، مما يعني أن وحدة الدماغ البشري هي التي تسمح بتعدد الأنفس وفرادة الأفراد، وحدة الدماغ البشري تعني وحدة اشتغاله وتعرفه على المدركات والمحسوسات، فآليته واحدة في اكتساب الخبرات وتحليل المعطيات، إنها آلية تتلازم مع التجربة الشخصية والمحيط الثقافي والاجتماعي، فقولنا أن الدماغ هو نفسه عند كل الإفراد يعني تكوينه ووظيفته المتنوعة والمعقدة، ولكنه يعني أيضًا فردية تجربته وثقافيتها واجتماعيتها (مما يعني أن الاختلاف الثقافي له مسوغاته فهو يتأسس من اختلاف الحقول المعرفية المرتبطة باختلاف الحقائق الإدراكية حيث تتفاعل الذات جدليا مع محيطها - المترجم).

يُقدَّر الدماغ عند الولادة بأربعين بالمائة من وزنه، ثم يبدأ بالنمو عبر تفرعات المحاور العصبية والشجيرات وتشكيلات المشابك العصبية وتكوين مادة الميالين حول المحاور([4])، ويحدث هذا كله بالضبط من خلال تفاعلات الفرد مع الوقائع المحددة في تجربته الشخصية وفي محيطه العائلي والثقافي والفردي، فالفرد فريد وراثيًا وفي تطبعه الوراثي([5]).

أي أن الكليات الأناسية تخلقُ بمعنى آخر شروط المعرفة الإنسانية الأساسية، وهي تتفاعل بإبداع مع ظروف نموها وفرديتها في آن معًا.

وهنا ينبغي إدخال الثقافة بشكل أساسي وليس سطحيًا، كما يجب القطع مع المفهوم الذي يعتبر الكليات الأناسية للمعرفة ثوابت تتعدل بحسب تنوع المتغيرات الثقافية والتاريخية والاجتماعية، بل على العكس إذ أن تعبيرات هذه الكليات تتلازم مع ظروف ثقافية خاصة، كما أن هذه الظروف الثقافية الخاصة ترتبط بتعبيرات هذه الكليات، أي أن عملية انبناء الكليات الأناسية ونموها التأريخي تتحقق ضمن العلاقة مع الثقافة المحيطة، وليس بانعزال عنها، فلا يمكن بالفعل للكليات الدماغية النفسية للمعرفة أن تتمظهر إلا من خلال شروط ثقافية واجتماعية خاصة ومحددة، أضف إلى أن المعرفة الإنسانية لم تتحصّل أبدًا من الدماغ وحده، ذلك أن الفكر ينبثق ويتشكل دماغيًا وثقافيًا من خلال التربية والتعلم ومن خلال اللغة التي هي إجتماعية بالضرورة، فتنطبع ثقافة المجتمع حرفيًا في الدماغ -أي أن الثقافة ترسم فيه طرقها ومسالكها وتقاطعاتها-.

إن الفكر هو في الكون والكون هو في الفكر –كما سيأتي فيما بعد-وبما أن المحيط الخارجي ثقافي دائمًا بالنسبة لنا، أمكننا القول بأن الثقافة هي في الفكر والفكر هو في الثقافة، والثقافة هي أيضًا في الدماغ وهي جزء منه وهو جزء منها.

ولقد اعتبرنا منذ البداية بأن المعرفة الإنسانية تحكمها حبكة إعلامية متعددة تتكون من مزيج مركب (متكامل، متنافس ومتعارض) يشبه حبكة إعلامية دماغية – وراثية، وحبكة إعلامية اجتماعية - ثقافية.

وهذا يعني بأن الحبكة الإعلامية الدماغية ضرورية للثقافة، ويعني أيضًا بأن الشروط الثقافية والاجتماعية هي قدرات داخلية ملازمة للمعرفة وليست محددات خارجية توجِّه هذه المعرفة، فالمجتمع في الأصل يحتّل الفكر بالتشارك ويديره بالتشارك، وهذا ما يجعلنا نفهم كيف أن النفس يمكن أن تستحوذ عليها آلهة وأساطير وأفكار([6]).

لا تظهر إنسانية المعرفة إذًا كإتحاد وثيق لحيوانيّتها وإنسانيتها بل كاتحاد وثيق لإنسانيتها وثقافيتها.

حدود وإمكانيات المعرفة

الارتباط والانقطاع والاتصال

تفترض المعرفة الإنسانية ارتباطًا وانقطاعًا واتصالاً في آن، والارتباط يعني انتسابًا إلى العالم نفسه، كما تفترض معرفة الأشياء المادية انتماءً إلى عالم المادة، والظواهر الحية انتماءً أحيائيًا، ومعرفة الظواهر الثقافية انتماءً ثقافيًا.

فمن دون الارتباط هنالك انقطاع مطلق ولا إمكانية إذًا للاتصال، ومع ذلك ثمة فصل بالضرورة ضمن هذا الارتباط وهو فصل بين الذات العارفة والعالم الممكن معرفته، أي ثمة ثنائية مسبقة لا يمكن قهرها، فإذا لم يكن هنالك انقطاع، فلا وجود عندئذ لموضوع معرفة ولا لذات عارفة، ولا وجود تاليًا لفائدة داخلية للمعرفة، ولا حقيقة خارجية لكي ندركها. وفي هذا السياق لا يمتص النشاط المعرفي الثنائية الإدراكية بل يُظهِرُها فهو يُحدث اتصالاً بين الذات العارفة وموضوع المعرفة بعد أن يكون قد فصلهما، إذًا تفصل المعرفة وتربط بين الذات والموضوع في عالم مشترك.

يبدو هذا الفصل - الاتصال جليًا منذ الاحتساب الخلوي، ثم ينمو في الحالة الإنسانية ليصبح فصلاً - اتصالاً بين النفس والعالم الخارجي.

وبنفس الطريقة، هنالك علاقة ارتباط وانفصال واتصال بين أفراد المجتمع تسمح بمعرفتهم المتبادلة، واقتسام وتبادل معارفهم واختبارها في آن معًا.

نجد هذا الانقطاع - الاتصال بشكل أكثر وضوحًا داخل الكائن العارف، وداخل معرفته بالذات، ففي الاتصال بين الدماغ وبقية أعضاء الجسم، ينتقي الحاجز "الوعائي - الدماغي" الجزئيات الصغرى للأوكسجين، ويمنع معظم الجزئيات الأكبر الموجودة في الدم من المرور إلى الدماغ فهي سامة للخلايا العصبية، لكن الأغرب من ذلك هو الفصل بين نفسنا ودماغنا، مع أنهما يشكلان الشيء نفسه، كما لا يستثني هذا السياق الفصل بين فكرنا وذاتنا الخاصة، إذ أن فكرنا([7]) لم يعلم إلا مؤخرًا بأنه يرتبط بالدماغ وليس بالكبد مثلاً، أو أي عضو آخر، كما علم فكرنا مؤخرًا أيضًا بأن جسمنا يتكون من عشرات مليارات الخلايا.

أخيرًا، إن الذات التي تريد أن تتعرف على نفسها، يجب عليها بطريقة ما أن تبتعد عن ذاتها لكي تصبح موضوعًا لمعرفتها، إذًا ينبغي للمعرفة الذاتية أن تعيّن الشروط الانفصالية لأية معرفة.

يتلازم في المعرفة انفتاح وانفلات في النظام الإدراكي في آن معًا، ويتطابق هذا الانفتاح - الانفلات مع ما هو حاصل في أي كائن آخر ذاتي وبيئي التنظيم مع محيطه الخارجي.

فالدماغ ذو منشأ خارجي (القشرة الجلدية) أي انفتاح، ولكنه ينمو داخل الجمجمة (الغلاف) لم يكن هذا الإخفاء فقط لتشييد حماية ضرورية لرأسمالنا التنظيمي والمذكراتي للدماغ ومعرفته، بل إنه أيضًا بناء مركز قيادة متمرس، يستطيع أن يراقب ويضبط المحيط الخارجي، ينفصل الدماغ عن محيطه ويتواصل معه بواسطة هوائياته الحواسية التي تفتحه على تموجات محيطه من جهة، ومن خلال سلوكه الفاعل الذي يأتمر بالدماغ من جهة أخرى (سلوك الكائن المدرك طبعًا).

فانفتاح الدماغ وانغلاقه إذًا متلازمان.

إن المعرفة الإنسانية هي الأكثر انغلاقًا بمعنى ما، لأن المحيط الخارجي لا يصل إليها إلا عبر ترجمة للترجمات وهي تمثلات وكلمات ونظريات وأفكار، إلا أنها الأكثر انفتاحًا على كل الأشياء وعلى الكون بالذات، من خلال ما يفتحها أي الفضول والتحقق والاتصال، ومن خلال ما يقفلها أيضًَا أي اللغة والنظريات والآراء، فالمعرفة الإنسانية إذًا مفتوحة فيما يوصدها، ومغلقة فيما يفتحها، ولكنها نتيجة لذلك تخاطر باستمرار بأسر نفسها في المعتقدات والآراء عندما تفقد الأفكار والنظريات اتصالها بمراجعها الدلالية...([8]).

إن غرابة الانفصال - الاتصال، والانفتاح - الانغلاق تزداد مع تطور المعرفة، إذ كلما كان التنظيم الإدراكي أكثر أصالة وفرادة وفردية وانغلاقًا على ذاته ومنفصلاً عن محيطه، كلما كان قادرًا على أن يصبح موضوعيًا وجماعيًا وشموليًا أي منفتحًا على الكون ومتصلاً به تاليًا، وكلما زاد الإنسان في اختلافه وهامشيته في الطبيعة كلما تنامت إمكانيته المعرفية.

وكلما كوّن الجهاز الإدراكي لنفسه عالمًا مستقلاً وفريدًا وجديدًا (ثقافيًا وفكريًا وتقنيًا) كلما أظهر قدرة أكبر على اكتشاف الكون... فلقد طوّر الجهاز الإدراكي بنيته الذاتية بالفعل، ونظّم نفسه وتنامى من خلال انفصاله عن العالم وعزلته عنه، ولكن لكي يدركه أكثر ويترجمه إلى معارف.

يمكننا اليوم أن نبحث في وضعية الارتباط - الانفصال - الاتصال الخاصة بالمعرفة الإنسانية، فنحن أولاد الكون عبر التكامل في جُزَيْئيّاتنا وذراتنا وجزئياتنا التي انبنت عبر خمس عشرة مليار سنة وعبر التشكل الكوني، وأصبحنا أكثر فأكثر انحرافًا وفرادة وأصالة وغربة وغرابة في المستقبل الكوني والأحيائي، فلقد انفصلنا عن الكون عبر بناء الثقافة وعالم الأفكار، وأصبحنا قادرين على معرفة هذا المستقبل وفهمه من خلال هذا الارتباط وهذا الانفصال المرتبطين.

إذًا، ثمة ارتباط بين زيادة البعد عن الكون وزيادة إمكانية معرفته، ويشكل الانفصال شرطًا للمعرفة وإعاقة لها في الوقت نفسه([9]).

أخيرًا، ليس الارتباط فقط هو مشاركتنا الكاملة في الطبيعة المادية لهذا العالم، بل إنه ايضا وجود الكل بوصفه كلاً في أصغر جزئية كونية التي هي نحن. فإذا كان النظام البيئي مسجّلاً بالفعل في التنظيم الحي، الذاتي - البيئي، فإن الكل الكوني هو الذي قد تسجّل بطريقة ما، في التنظيم الدماغي - للمعارف (طريقة مجهولة ولكنها تتيح المعرفة).

لقد بات الكون موجودًا في تنظيمي الإدراكي بطريقة ما ضمن صيغة الكل في الجزء والجزء في الكل، فأضحى هذا التنظيم الإدراكي في الوقت نفسه الشيء الأكثر فرادة وأصالة وغرابة في هذا الكون لذلك أصبحنا الكائنات الأكثر معرفة من غيرها في العالم.

إن مبدأ الارتباط - الانفصال – الاتصال، أي العلاقة الأناسية - الكونية تمهد للمعرفة وتسهلها وتحددها في آن معًا، أي أن إمكانية المعرفة تتضمن محدودية وإعاقة لها ( بناء ß ترجمة ßبناء ). فالمحصلة الأولى للانفصال - الاتصال - وللانفتاح – الانغلاق في كل أداة إدراكية، هي أن إدراكها للواقع يتم بشكل غير مباشر أي عبر الوساطة وهي ترجمة الإشارات والعلامات والرموز، فالعلامات والرموز هي إذًا الحقائق المباشرة التي يعالجها الجهاز الإدراكي إنها مجردة من الواقع لأنها ترجمة له علمًا أنه من خلال فقدان الواقع هذا تتوصل المعرفة إليه.

يحصّل الجهاز الإدراكي الإنساني معرفته من خلال بناء الترجمات ومعالجة الرموز والإشارات والعلامات، وهذه الترجمات هي التمثلات والمقالات والأفكار والنظريات، أي أن المعرفة الإنسانية ليست إلا ترجمات مبنية دماغيًا وفكريًا (فهي ليست تصويرًا فوتوغرافيًا بل توليف ذهني وإعادة تركيب بنيات الواقع من خلال الترجمة).

تُترجِم المعرفة الإنسانية إذًا إلى لغتها الخاصة، واقعًا ليس له لغة: فالإثارات الفيزيائية تُثير مستقِبِلاتِنا الحسية، كما أن التحولات والتيارات الإحيائية - الكهربائية - الكيميائية هي التي تُترجَم إلى تمثلات تُترجَم هي الأخرى إلى مفاهيم وأفكار.

إلا أن المثيرات الفيزيائية والتيارات الكهربائية والكيميائية والمستقبلات الحسية والدماغ والأعصاب هي بالذات تمثلات ومفاهيم (لأنها أدوات ترجمة ومعالجة فقط وليست الواقع الخارجي بعينه، المترجم).

أخيرًا إن واقعنا المباشر الوحيد هو تمثلنا للواقع، وواقعنا الوحيد الممكن إدراكه هو مفهومنا عن الواقع، من هنا كان الاتجاه "المثالي" في الشك بالواقع الخارجي بالنسبة للفكر، وفي اعتبار الفكر واقعًا وحيدًا مؤكدًا.

ولكننا لكي ندرك تمثلنا ومفهومنا وفكرنا، فإننا نحتاج إلى اللغة التي تسمح بصياغة مفهوم التمثل ومفهوم الفكر ومفهوم المفهوم - وإننا بحاجة أيضًا إلى كائن حي اجتماعي وذي دماغ لكي نفهم لغتنا. فنحن إذًا بحاجة إلى عالم ثقافي واجتماعي وأناسي وإحيائي وهو ما يفترض بالضرورة عالمًا ماديًا : إذًا نحن بحاجة إلى عالمنا، فتمثّلاتنا ومفاهيمنا هي إذًا ترجمات.

إن المبادئ الناظمة للمعرفة الإنسانية هي التي تسمح بالبناء الذاتي للموضوعية، وإن ذاتًا معزولة لا يمكنها بالطبع، بلوغ المعرفة الموضوعية إلا بشكل غير كامل، إذ تحتاج المعرفة الموضوعية إلى اتصالات بين الذوات ومواجهات ونقاشات نقدية (إن النمو التاريخي لهذه الإجراءات حول الموضوعية هو الذي أسس الدائرة الثقافية للموضوعية العلمية).

من العبث إذًا، البحث عن تأسيس المعرفة في الفكر أو في الواقع، فالمعرفة لا أساس لها بالمعنى الحرفي، بل لها مصادر متعددة حيث تولد من تداخلها، في دينامكية ارتجاعية لحلقة ينبثق منها الموضوع والذات في آن معًا:

تُحدث هذه الحلقة اتصالاً بين النفس والعالم، أي الفكر والعالم، فيتسجّل كل منهما في الآخر في تشارك تحصيلي حواري حيث يساهم كل منهما في لحظات وتعبيرات الحلقة. إذًا:

- تتحصل المعرفة الموضوعية في الدائرة الذاتية الموجودة في العالم الموضوعي.

- تتواجد الذات في كل المواضيع التي تدركها، ومبادئ الموضوعية موجودة في الذات.

- إن فكرنا موجود دائمًا في العالم الذي نعرفه، والعالم موجود بطريقة ما في فكرنا.

إذًا، تلك هي شروط المعرفة. ولكن أية معرفة؟ وأي واقع؟ إن معرفتنا تخلق إمكانية الوصول إلى موضوعية الموضوع، ولكنها مع ذلك لا تتمكن من إدراك "شيئية الشيء"، فهل تشكل حقائقنا المعرفية الواقع؟ ها نحن نعود إلى مثل الكهف: أي إذا كنا لا ندرك الأشياء مباشرة بل ترجماتها في صور (تمثلات) أو رموز (أفكار)، فهل تمثلاتنا وأفكارنا مجرد ظلال مسقطة على جدار الكهف حيث نحن مأسورون؟ وهل الظلال هي ملاجئنا الوحيدة التي يمكن أن يستحوذ عليها تعطشنا للمعرفة؟

الفكر في الكون، والكون في الفكر

كان "كانت" يرى: أنه لا يمكننا معرفة عالم الظواهر إلا إذا أعمل فيه فكرنا تدخله الناظم. لا تدمج المعرفة العقلانية (بحسب كانت) أشكال وبنيات العالم الخارجي في الفكر، بل على العكس، إذ أن الفكر يدرك من خلال فرض بنياته الخاصة على العالم، وهذا هو معنى ثورته الكوبرنيكية، فالزمن والبعد ليسا سمتين دخيلتين للواقع، بل هما أشكال قبلية الإدراك. فهما يسبقان التجربة ويشكلان جزءًا من بنيتنا الذاتية، كما أن الغائية والسببية هما بنفس الطريقة نوعان مسبقان للفكر. إذًا فالزمن والبعد والأنواع الأساسية (كمية-نوعية) علاقة نمط، تشير لنا إلى نمط معرفتنا بالواقع، وليس إلى نمط كينونة الواقع. إن أي استخدام للفكر وأي تحليل للمتعدد يفترضان مسبقًا وبالتلازم عملية توحيدية دائمًا من قبل الذات العارفة؟ أي "أنا أفكر" (وهو ما تصورناه بوصفه احتسابًا ß تأملاً ß احتسابًا).

تتعالى الذات إذًا بالتجربة الملموسة إلى نمطها المسبق في تشكيل المعرفة ويمكن للمعرفة أن تكون موضوعية بل ينبغي لها ذلك، غير أن الموضعية تخص علاقتنا بالعالم، أي تخص مدركاتنا الحسية للظواهر وليس العالم في ذاته، فهذا العالم لا يمكن الإحاطة به من قبل قدراتنا الإدراكية، ذلك أن بنيات الفكر تستطيع معرفة الظواهر، لأنها غير قادرة على الذهاب فيما وراء الظواهر أو إلى مبانيها، أي إلى الطبيعة العميقة للواقع.

يجدر بنا، قبل أن نعرض المشكلة الأساسية للواقع الذي يبدو أكثر واقعية كلما كانت معرفته أقل إمكانية؟ أن نسأل أنفسنا عن طبيعة العلاقة بين الفكر وعالم الظواهر.

لم يكن "كانت" يرى إلا الأثر التنظيمي للفكر الإنساني على الظواهر، دون أن يدرك احتمال وجود حلقة ارتجاعية توليدية بين تنظيم الفكر ونسق العالم الممكن معرفته، إنها المشكلة الأساسية والحال هذه، فمن أين تأتي بنياتنا الذهنية؟ ومن أين يأتي فكرنا القادر على إعلام (توجيه) التجربة؟ أَوَلم يكن مصدره العالم الطبيعي؟ أَوَلم يحدث تطور طبيعي - ثقافي شكّل الفكر المكوِّن؟

إن فكرة "كانت" الكبرى حول الفكر تظل عمياء فيما يخص الشروط غير الروحية للوجود ولفاعلية الفكر، تقودنا الكانتية فقط إلى أول تعبير لعجيبة الكون الأساسية وهي: (أن عالمنا قد أنتجه فكرنا).

ولكنه يجهل بأن فكرنا متحصّل أصلاً بالتشارك مع هذا العالم، إننا نعتقد في هذا السياق، بأنه حتى ولو كان هناك واقع فعلي وراء التنظيم الزمني - البعدي لعالم الظواهر أو إلى جانبه (وهو افتراض نقبل به كما سترى) فإن عالم الظواهر وإن لم يشكل الواقع كله، فهو واقع ما مؤكد، وأن النظام والتنظيم الزمني والبعدي هما سمات داخلية لهذا الواقع، من المحتمل إذًا أن تكون البنيات الإدراكية قد تشكلت وتنامت ضمن حوارية – ذاتية – بيئية - مكوّنة، حيث تكون قد تحصّلت مسبقات الإدراك والفكر، من خلال استيعابها لمبادئ النسق والتنظيم لعالم الظواهر، ومن خلال تكاملها معها وتحولها.

لقد رأينا بأن أي تطور حي يخضع لمنطق التنظيم الذاتي - البيئي الذي يدوِّن مبادئ التنظيم الكوني، داخل الكائن.

فنحن نعلم بأن تعاقب النهار والليل والفصول مندمج في التنظيم الداخلي للنبات والحيوان، ويمكننا أن نفهم الثبات الإدراكي للمعرفة الدماغية بنفس المعنى التكاملي، فالثبات الإدراكي يعتبر ثمرة لإسقاط ترسيمات الفكر المسبقة على المعطيات التي تقدمها خلايا شبكية العين، فتعيد إلينا هوية الشيء أو الكائن، إذ تستبدل ترسيمات الفكر المسبقة الأشكال الظاهرة والمتغيرة بأشكال وأبعاد دائمة.

إلا أن هذا الإسقاط ينبغي له أن يعتبر ثمرة لتكامل تنظيمي – ذاتي – بيئي في الجهاز الإدراكي ومن خلاله، لمبادئ الثبات والانتظام التي تمتثل لها الأشياء والكائنات تنظيميًا في عالم الظواهر، فالأشكال المسبقة في علم تطور الفرد هي بعدية في علم النِسالة:

إن المسبق الكانتي قد تحصّل من خلال التطور، فالمبدأ التنظيمي – الذاتي - البيئي يفسر ويبرر ويحدد وينقد ويتخطى المسبق الكانتي، إذ يسمح بعرض تطور خلاق، يدمج ويحول قدرات النسق والنظام البيئية والإحيائية المادية الكونية إلى قدرات نفسية - دماغية ناظمة للمعرفة.

هنا يمكننا تصور الصفة الهولوغرامتية (Hologrammatique)([10]) لتكامل النسق التنظيمي - الأحيائي والمادي - الكوني في الجهاز الإدراكي للفقريات واللبونات والبدائيين وصولاً إلى البشر، فلقد تأسّس الجهاز الإدراكي في العالم من خلال إعادة بناء الكون في داخله بطريقة ما، وقد شكّل نسقه الخاص وتنظيمه من خلال التكامل والتحوّل في نسق وتنظيم محيطه الخارجي والكون بشكل أوسع.

وإذا كان نسق العالم وتنظيمه قد تكوّنا في فكرنا، فذلك لأن فكرنا يفرض على حواسه القواعد والأشكال والترسيمات والأنواع المسبقة التي قد تحصّلت من استخراج مبادئ النسق الكوني وتنظيمه واستبطانها في فكرنا.

وذلك لأن نسق الكل وتنظيمه موجدان بطريقة ما في الجزء العارف الذي يمكنه إنشاء ترجمات مطابقة أو مماثلة لعالم الظواهر بشكل فريد وأصيل.

ليست الإضافات المنظمة والمؤسّسة للإدراك الحسي إسقاطات للفكر والدماغ فقط، بل إنها مبادئ وبنيات مماثلة أو مطابقة لتلك الموجودة في عالم الظواهر (بفضل الحوارية – التطورية – الذاتية – البيئية - الناظمة).

إذًا هذه المبادئ والبنيات قادرة على إنتاج تمثلات مطابقة بطريقة ما للظواهر، وإنتاج نظريات مماثلة بطريقة ما لنسق الظواهر وتنظيمها، فيمكننا القبول عندئذ بأن المعرفة الموضوعية تستطيع أن تضمن بعض السمات الداخلية للواقع الخارجي، وليس مجرد الإقرار بإمكانيتها، ونستطيع تاليًا أن نفهم بأن الصورة أو التمرير يمكنهما تكوين معرفة، فلا يجب علينا فقط لكي ندرك أن نرمز بل أن نتصور ونجرّد أيضًا، أي أن الواقع ينبغي له بالضرورة أن يتوهم في علاقات – رموز - تمثلات ومقالات وأفكار لكي يكون معلومًا، وتستطيع المعرفة من خلال توهمهما الوصول إلى الواقع، إلا أن هذا التوهم يجب أن ينتظم، ومن خلال هذا الانتظام "الواقعي" وفيه تتطابق المعرفة مع الواقع، إذًا يمكننا أن نفهم كيف أن جهازنا الإدراكي قد استطاع أن ينفصل وينعزل ويتمايز عن العالم الخارجي، بالتحديد من خلال دمجه في داخله، إن أصالة الجهاز الإدراكي لا يمكن فصلها عن قدرته على احتواء العالم في داخله بطريقة ما.

لقد صاغ "ليبنز" المفهوم الأول لحلقة العلاقة بين الفكر ومعطيات الحواس بقوله: ليس ثمة من شيء في الفكر لم يكن من قبل في الحواس، إن لم يكن إلا الفكر نفسه، ولكن يجب إعادة إدخال الفكر في الكون والكون في الفكر بفضل المبدأ الحواري – الارتجاعي - الهولوغراماتي، أي بتعبير آخر: إن عالمنا مأسور في أنفسنا ودماغنا المأسورين في كينونتنا التي هي مأسورة في عالمنا.


 

[1] - La Complexité Humaine- منشورات فلاماريون – فرنسا-2002.

[2] - الاحتساب والتأمل: يعني الاحتساب (computation) الحساب والمقارنة والمواجهة والفهم والتقييم... فهو فاعلية إدراكية، تعمل على الإشارات والرموز حيث تفصل وتربط وتحتوي على حاكمية معلوماتية ورمزية وذاكرة وعلى حاكمية حبكة إعلامية (logiciel) وهي مجموعة البرامج والإجراءات والقواعد والمستندات التي تعود إلى وظيفة المجموعة العلاجية لأية معلومة، وأما التأمل (cogito) فهو أن الذات تحتسب ذاتها فتفكر وتعي فكرتها، نشير في هذا السياق بأن الذات (الكينونة) تسبق فكرتها في الوجود، إنها تشعر بوجودها قبل أن تفكر ولكنها تحتاج إلى الفكر لكي تعي وجودها بما هو وجود حر منفصل عن الكون (المترجم).

[3] - المفصل المزدوج: هو سمة تميز اللغة الإنسانية، حيث تحتوي اللغة على جمل يمكن تفكيكها إلى عناصر صوتية خالية من المعنى، إلا أنه يصبح لها معنى متى جمعت (كلمات)، أما معنى الكلمة فيتحدد جزئيًا في النص، أي في الجملة التي تدرج فيها الكلمة، المعنى كامن في نسق الجمل والكلمات لذلك لكي ندركه ينبغي فهم القواعد اللغوية والمنطقية والثقافية والتاريخية (المترجم).

[4] - إن المحور العصبي هو جزء من الخلية العصبية يتصل بالخلايا الأخرى عبر تفرعات صغيرة وشجيرات وتشعبات لا تحصى ولا تعد، أما المشابك العصبية (synapses) فهي نقاط اتصال بين الخلايا العصبية وظيفتها نقل السيالة العصبية من خلية إلى أخرى وتعد بمئات بل آلاف المليارات، أما مادة الميالين (Mye´line) فهي مادة دهنية - بروتينية تنمو حول المحور فتشكل غمدًا يسهّل نقل السيالة العصبية (المترجم).

[5] - الوراثي هو المرتبط بالمورثات وهو الطراز العرقي (gen´otype) أما الطبع الوراثي (phen´otype) فهو مجموعة السمات الظاهرة لأي كائن عضوي أو خلية، وهذه السمات ناتجة عن تزاوج المورثات مع تأثيرات المحيط الخارجي (المترجم).

[6] - يتأسس الحقل المعرفي من تداخل حبكة إعلامية دماغية في حبكة إعلامية ثقافية، فالمعرفة فاعلية إدراكية يتشارك فيها الدماغ والثقافة في الأصل، فيتحقق الفكر من تداخلهما وتشكلهما بالتلازم.

إن الحبكة الإعلامية الثقافية الخاصة متعددة العناصر ومتنوعة ولا يمكن للذات الحرة أن تستفيد من المثاقفة إلا متى كانت حبكتها الثقافية مرنة ومطاطة ومتعددة الأبعاد، أي قابلة لاستيعاب الآخر وهضم ثقافته، وبالمقابل كلما كانت الحبكة الثقافية قاسية ومحدودة تصيب الذات بالتحجر الفكري والانغلاق الثقافي، فمتى كان المنهج منفتحًا ومرنًا - أمكن للنفس أن تتثاقف، وعندما يكون المنهج منغلقًا وقاسيًا تحولت النفس إلى العدمية والاطلاقية والتعسف.

نفهم في هذا السياق بان العولمة بمعناها الشامل تقدم أصلاً إلى الإحلالية الثقافية أي استبدال الحبكة الثقافية المحلية بأخرى، فالتهجين الثقافي يذهب إلى أبعد من ذلك أي إلى الاستبدال الكلي وتفكيك الهوية الثقافية المحلية واختراق الحقل المعرفي والإدراكي، وقد يعجز المعولم عن التفكيك الشامل فيلجأ إلى الفوضى الإدراكية فيحدث خللاً في بنيات المسلمات العقلية الثقافية ويبعثر مكوناتها ويفتتها، ويجعل منها فوضى كاملة على غرار فيروس الحاسوب الذي يعمل على ضرب نسق ومسالك ومنطق المجموعة العلاجية.

إن ضرب الثقافة من داخلها وتعطيل منطقها الداخلي وطرقها ومسالكها هي ما يتجلى في نشوء السلفية ونموها تحت الأعين العالمية ورعايتها أصلاً، فالشهادة تتحول إلى انتحار عدمي، والصمود معاندة دون فكر ودون هدف، والحروب الأهلية طريق للوصول إلى الغاية (المترجم).

[7] -

 (esprit) فكر - نفس، نجد في معجم لاروس الفرنسي مرادفات متعددة لكلمة (esprit) فهي تعني جوهرًا غير مادي، وفاعلية فكرية أو فكر...(المترجم).

[8] - من الجدير ذكره هنا في هذا السياق هو أن الدماغ ليس مجرد آلة تصوير تطبع الواقع على شاشة ما في ذاتنا، بل إن النفس تحتاج إلى أدوات ترجمة تلتقط تموجات المحيط الخارجي الفيزيائية والكهربائية لتعيد صياغته وتوليفه بما يتلاءم مع حقيقته، فالواقع موجود في نفسنا على شكل صور ذهنية وتمثلات في عقولنا تتطابق بطريقة ما مع هذا الواقع الخارجي، وهذا لم يكن ممكنًا لو لم تكن أدوات حواسنا ذات بيئة تؤهلها بتلقي المحسوسات والمدركات.

وإذا ما انفصلت الآراء والنظريات وحتى اللغة تمامًا عن الواقع الخارجي تحولت إلى حقائق مطلقة فاقدة صلتها بالمحيط فتحولنا إلى الغربة والاغتراب والانفصام والذهان والذهول عن الحقائق.

 فالسلفية مثلاً هي بمعنى ما انفصال الدلالات عن المدلولات، إنها نظرية انقطاع الزمني في صلته بالوحي، بحيث لا يصبح الزمن ذا معنى أو صلة بالأحداث ويصبح التاريخ بهذا المعنى تكرارًا لما سلف منذ عشرات القرون وتتجمد صور الأحداث عند قريش والقبائل العربية والمشركين وأهل الذمة والكفار، فالبشر من حولها لا يتصلون بتاريخهم المعاصر ومصالحهم الآنية بل يتحولون إلى صور ذهنية راسخة في الذاكرة، وتصبح السياسة عدمية وعبثا لا ترتبط فيها الدلالات بالمدلولات، وتفقد النفس قدرتها على استنباط الحلول من الواقع المعاش وهو استنباط يتم بالقسوة أو باللين ولكن بشرط ربط الأحداث بمسبباتها الآنية وتعقيداتها (المترجم).

[9] -يعتبر "إدغار موران" بان المعرفة تفترض بالضرورة انقطاعًا ما وانفصالاً بين المدرك والمدرك، وأن الوعي الذاتي لا يمكن أن يتحقق إلا إذا كان منفصلاً بطريقة ما عن النفس - الدماغ، فيصبح بمعنى ما غريبًا عن ذاته وظاهرة موازية، وإن نهاية الوعي المنقطع هي نهاية الوعي بكل بساطة تتضمن ازدواجية الوعي انقطاعًا وابتعادًا للذات عن ذاتها وعن مواضيع معرفتها، ويرتكز الوعي الذاتي على الاحتساب الذاتي والتأمل الذاتي.

أي أن الأنا تزدوج في ذاتي وتصبح (أنا أكون ذاتي) فيبدو أن توأمًا يسكن في ذاتي يفصل الأنا ويتمايز عنها وإن ظلّ واحدًا، والمزدوج هنا هو تحقيق الأنا في دائرة الفكر أي تحويل الفكرة الذهنية إلى كينونة، إن علاقة الذات مع توأمها يخضع لمبدأ الوحدة – الثنائية، والهوية - التمايز في كل معرفة وكل مفهوم وكل معالجة للذت بواسطة الذات، ولكن التوأم أي الثاني يُستبطن ويتوارى ويتروحن (روح - نفس) ويفقد صفته الجسدية والمادية، فالوعي الذاتي قد استبطن وأصبح روحيًا، لكنه يشتمل دائمًا على الوحدة الثنائية للأنا والحوار مع الذات والصوت الداخلي. (انظر كتاب المنهج، 3، معرفة المعرفة بالفرنسية، منشورات أسّي - سوي 1986، لإدغار موران، ص190 إلى 195). (المترجم).

[10] - الهولوغراماتي (Hologrammatique) : صورة تكون كل نقطة تحتوي على كل المعلومة حول الشيء المرسوم، ومبدأها يعني أن الكل مسجل بطريقة ما في الجزء، وليس فقط الجزء في الكل، فالخلية مثلاً تحتوي داخلها على مجمل المعلومة الوراثية مما يتيح عملية النسخ، والمجتمع ككل موجود في نفس كل فرد عبر الثقافة (المترجم).

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني عشر