السنة الرابعة / العدد الثالث عشر/ آب 2008 - شعبان 1429هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الدين الحق في نصوص أهل الكتاب

الشيخ حاتم إسماعيل

بداية

لا تزال مسألة مقارنة الأديان تثير الكثير من الإشكاليات حول الدين الحق، وقد سعى أتباع كل دين إلى نصرة دينهم، من خلال النصوص المقدسة لدى الدين الآخر، وتجلّت هذه الظاهرة بأبهى صورها بين الإسلام والمسيحية، نظرًا لانفتاح كل منهما على دعوة الناس للإيمان به واتّباعه.

إن من الطبيعي أن يستند المتأخر -في إثبات حقانيته- إلى نصوص الدين السابق، استنادًا إلى أن الدين السابق يشتمل -بشكل أو بآخر- على إرهاصات وبشائر تتحدث عن الدعوة التالية، ما دام الكل يربطون أنفسهم بالله تعالى، وأن الدين كله حلقة مترابطة يكمل بعضها بعضًا.

وهذا ما حصل في المسيحية، التي قامت ركائزها على قوانين ونصوص العهد القديم، وعمل المسيحيون على الاستفادة من هذه النصوص في إثبات صحة ديانتهم.

ونفس الأمر حصل بالنسبة للإسلام المتأخر عن الديانتين، فقد استند في الكثير من المواضع إلى نصوص العهدين لإثبات حقانيته أيضًا، لكن لا بمعنى أن صحة الإسلام متوقفة على تصديق تلك النصوص، بل بمعنى إلقاء الحجة على من يؤمنون بها، بعد ملاحظة الظروف التي أُنزل القرآن الكريم بها، وبيان وحدانية الدين عند جميع الأنبياء (عليهم السلام) .

بل لقد صرحت بعض الآيات القرآنية الشريفة أن أهل الكتاب يعرفون نبي الإسلام  (صلى الله عليه وآله)  كما يعرفون أبناءهم([1])، وأنهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل([2]).

موقف أهل الكتاب

وقد ثارت ثائرة علماء أهل الكتاب، وعملوا على تكذيب هذه الحقائق القرآنية، تارة بإنكار إشارة الأسفار المقدسة إلى النبي الأعظم  (صلى الله عليه وآله) ، والتصريح باسمه وصفته.

وأخرى بإثبات أن السيد المسيح  (عليه السلام)  هو الغاية، وبيده تكون النهاية، وأنه هو الذي يقيم دولة العدل في نهاية الأيام.

وثالثة من خلال إبراز بعض التناقضات المزعومة والموهومة في القرآن الكريم، أو العمل على الإنتقاص من شخص النبي الأعظم  (صلى الله عليه وآله) ، من خلال إبراز بعض المرويات التي ربما تُسيء إلى شخصه الكريم، وهي محاولات يائسة لا تخلو من تصرف وتلاعب غير أمين في هذه المرويات، وليِّ أعناقها علّها تخدم أهدافهم، أو تكون ذاتها من مرويات مسلمة أهل الكتاب أو ضعاف الرجال، والتي لا تثبت أمام النقد العلمي، ولا تتناسب مع السيرة القطعية للنبي الأعظم  (صلى الله عليه وآله) .

أهل الكتاب والنصوص الإسلامية

هذا في الوقت الذي نجد فيه بعض علماء اللاهوت، المسيحي على الخصوص، يعمدون إلى الإستفادة من النصوص الإسلامية في تثبيت أركان ديانتهم. وهذا في الحقيقة من المفارقات الغريبة، لأنهم ما داموا لا يعترفون بقدسية نصوصه، ولا يؤمنون بأنها من وحي السماء، فمن غير المنطقي أن تشكل مستندًا بالنسبة إليهم، يتمسكون به لإثبات مزاعمهم.

والجدير ذكره في المقام أن كثيرًا من استنادات علماء أهل الكتاب إلى القرآن الكريم وإن ظهرت في صورة المجادلة مع المسلمين، إلا أنها في حقيقتها استنادات تأسيسة، يراد بها تقوية معتقد المسيحيين في دينهم، وفاتهم أن ذلك لا يفيدهم شيئًا، لأن فرضهم عدم كون القرآن الكريم وحيًا من عند الله تعالى، وعدم صحة نبوة النبي  (صلى الله عليه وآله) ، سيُفقد هذا المستند أية قيمة تذكر، فلا بد من القول أن مثل هذا الاستناد إنما ينشأ من موقع الضعف، وهذا ظاهر.

ولا يُنقض على هذا الكلام، بأن الإسلام وعلماء المسلمين يستندون إلى نصوص العهدين، في إثبات بعض الحقائق الدينية الإسلامية التي صدع بها النبي الأعظم  (صلى الله عليه وآله) ، لأن الإسلام، وإن أثبت التحريف والتلاعب في نصوص العهدين، إلا أنه لم يفترض عدم صحة شيء منهما، لأن حقيقة التحريف لا تعني إلا التصرّف في الأصل، باللفظ أو بالمعنى، وعليه فيمكن الإستفادة من النصوص الباقية، بعد تمييزها وتمحيصها والتدقيق بها، وبعد افتراض أصل الصحة في أسفار العهدين.

وبهذا ينحل الإشكال الذي عمل بعض المسيحيين على إيراده على القرآن الكريم، حيث حاول الدكتور وليم كامبل، في جوابه على الدكتور موريس بوكاي، أن يثبت أن بعض الحقائق العلمية التي وردت في القرآن الكريم قد ورد مثيلات لها في نصوص العهدين، محاولاً بذلك إثبات صحة هذين العهدين من خلالها([3]).

ذلك أن الإسلام لا يقف موقف المعارض لهذه النظريات العلمية على فرض ورودها في أسفار الكتاب المقدس، انطلاقًا من اعتقاد المسلمين بأن أصل الوحي موجود فيه، فإن لازم ذلك أن يقبل المسلمون أن هذه الإشارات من بقايا الوحي الإلهي في الكتاب المقدس، ومن الظاهر أن المسلمين لا يعيشون عقدة تجاه هذه المسألة، كما هو الحال عند أهل الكتاب، بل تشكّل قرينة إثبات أخرى على صدق القرآن الكريم، وعلى أنه وحي من السماء، لفرض قدرته على التمييز بين الحقائق والأخذ بها، وطرح التلاعبات وتزييفها، خصوصًا بملاحظة عدم اطلاع النبي  (صلى الله عليه وآله)  على هذه الأسفار، فضلاً عن عدم وجود أية وسيلة في ذلك الزمان، يمكن أن يستند إليها في التمحيص سوى الوحي.

الأسفار القانونية ونصوص أهل الكتاب

إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه في المقام، هو: هل أسفار العهدين المسماة بالقانونية هي كل ما ورد من نصوص يمكن الإستناد إليها عند أهل الكتاب، أم أن هناك نصوصًا أخرى، من حقها أن ترقى إلى مستوى المقبولية والقداسة عندهم؟

من الواضح أن ملاك المقبولية والقداسة لا يخضع للأهواء والرغبات والانتقائية، بل يستند أولاً وبالذات إلى مطابقة الواقع والحقيقة، وإلى مدى قربه من المصدر والمنشأ.

وقد اعترف كثير من علماء أهل الكتاب بأن أسفار العهدين قد انتقيت انتقاءً من مجموعة كبيرة من الأسفار، والتي لا تقل أهمية بعضها على أقل التقادير عن أهمية الأسفار القانونية، أدخل بعضها في مجموعة الأسفار القانونية فترة من الزمان، ثم لم تلبث أن أخرجت منها، دون الاستناد إلى مبررات علمية أو موضوعية لهذا الإدخال أو الإخراج، مع العلم أن سائر الأسفار، خصوصًا أسفار العهد الجديد، متساوية -من حيث المبدأ- في الغاية التي كتبت لأجلها، ومن حيث جهالة مؤلفيها، إن لم نقل بأن مؤلفي المنحولات معروفون بنحو أدق من الأسفار القانونية.

كما أن قسمًا من هذه الأسفار -غير القانونية- لم تدخل في قانون العهدين أبدًا، إلا أنها ظلت معينًا مهمًا يستقي منه علماء اللاهوت، في اعتقاداتهم وعظاتهم وتعاليمهم على مدى الأيام.

بل نجد في الأسفار القانونية للعهد الجديد من استند إلى بعض هذه الأسفار، كسفر أخنوخ، الذي استند إليه كاتب رسالة يهوذا([4]).

وهذا يدل على مدى الأهمية التي كان علماء اللاهوت الأوائل يولونها لهذه الأسفار، بحيث صارت مستندًا أو مصدرًا، يستقي الكتاب المقدس معلوماته منها.

وتبرز في المقام إشكالية مهمة، تشير إلى السبب الذي جعل هؤلاء العلماء يهملون قسمًا من الأسفار المهمة، ويخفون قسمًا كبيرًا منها، حتى حرمت البشرية من مصادر هامة، يمكن الاستناد إليها والاستفادة منها في مقارنة الأديان، والوصول من خلالها إلى نتائج مرضية.

إلا أن من الطريف أن نجد بعض علماء اللاهوت المسيحي([5])، وفي مقام بيان سر قبول الأسفار القانونية دون سواها، يحاولون إثبات صفة القداسة على هذه الأسفار بأدلة واهية، لا تصمد أمام النقد والتحليل، من قبيل أن الكنيسة قد قبلت أسفار العهد القديم استنادًا إلى ممارسة المسيح والرسل والتلاميذ وخلفائهم.

مع أنه قد تقدم قبل قليل استناد هؤلاء إلى أسفار غير واردة في القانون، وهو تناقض صريح، فإن الاستناد إليها يتضمن صدقها في نفسها، ويجعلها مصدرًا من مصادر القداسة، فتكون أولى من القانونية في القبول والاعتماد عليها، وعدم قبولها يثير الشك في صدقية الأسفار القانونية نفسها، وبالتالي يبقى دينهم خاليًا من المستند أصلاً، ومعه لا يمكن القول بأنه دين مرضي عند الله تعالى، أو أنه قابل للخلاص في الآخرة..

إلا أنهم حاولوا سلوك طريق آخر في ما يرتبط بنصوص العهد الجديد، فقد افترضوا رجوعها إلى أصل رسولي، إما مباشرة أو بشكل غير مباشر. هذا مع اعتراف علماء اللاهوت عمومًا بعدم وجود مثل هذا الأصل بين أيدي الناس، ولا يوجد أي دليل حسي أو منطقي يؤكد مثل هذه الرابطة أو وجود هذا الأصل، مما يعني أنه مجرد أمر افتراضي، لا يرقى إلى مستوى الحقيقة القطعية والواقع الأكيد، الذي يؤدي إلى النجاة والخلاص، وقد عالجنا هذه المسألة في مكان آخر.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة، وهي التعمية على الحقيقة، وإخفاء نبوة النبي الأعظم  (صلى الله عليه وآله)  والحقائق الإسلامية، الموافقة للحقائق الكتابية، قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً}([6]).

قال أبو علي الفارسي في تفسيرها: أي تبدون بعضها وتكتمون بعضها وهو ما في الكتب من صفات النبي  (صلى الله عليه وآله)  وتعاليمه وتشريعاته والإشارة إليه والبشارة به([7]).

ومما يشير إلى هذه الحقيقة: ما ورد في قاموس الكتاب المقدس عند توصيفه سفر أخنوخ، من أنه مليء بأخبار الرؤى عن المسيا المنتظر، والدينونة الاخيرة، وملكوت المجد، حيث نقل بعض الأوصاف الواردة فيه للمسيا، وملكوته وطريقة حكمه، وهي لا تتناسب والعقائد المسيحية واليهودية القائمة([8]).

مخطوطات قمران

ولا بد من الإشارة هنا، إلى أن الإكتشافات المثيرة، من الكنوز المدفونة قرونًا متمادية، والتي ظهرت أخيرًا، خصوصًا تلك التي عثر على جزء مهم منها في مغاور قمران على البحر الميت، وغيرها من المخطوطات، قد أكّدت مضمون الآية القرآنية المباركة وغيرها من الآيات، كما تشكّل قرينة إضافية لصدقية القرآن الكريم في أخباره عن تلاعبات أهل الكتاب في نصوصه المقدسة.

إن المثير للإهتمام في مخطوطات قمران، هو أنها تعود في تاريخها، إلى عصر السيد المسيح  (عليه السلام)  نفسه، وبالتالي فهي أقدم من كافة نصوص العهد الجديد، من الناحية التاريخية.

وليس هذا فحسب، بل تشكل أقدم وثيقة مكتشفة لأسفار العهد القديم نفسه، لأن ما هو موجود منها بين أيدي الناس متأخر عن عصر السيد المسيح (عليه السلام)  قرونًا عدة، وهي -بحسب اعتقاد علماء اللاهوت عند أهل الكتاب -عبارة عن ترجمات للنسخة اليونانية للعهد القديم، والتي يعبّر عنها بالترجمة السبعينية، والتي يعود تاريخها إلى حدود القرن الثاني قبل الميلاد([9])، دون أن تكون الترجمة السبعينية موجودة بين أيدينا أيضًا.

إن هذه المخطوطات مكتوبة باللغة الآرامية والعبرانية، وبالتالي فهي أكثر أصالة في الحديث عن الأنبياء وأسفارهم من الترجمة السبعينية، لوضوح أن بني إسرائيل وأنبياءهم كانوا ينطقون بهاتين اللغتين دون اللغة اليونانية، مع أن المعلوم أن الترجمة مهما بلغت من الدقة والأمانة، فإنها لا يمكن أن تحاكي النص الأصلي في كافة أبعاده وخصوصياته.

بناء على ما تقدم، فإن النسخة المكتشفة في مغاور قمران للعهد القديم وغيره من الأسفار، أولى بالاعتماد والاهتمام والدراسة من النصوص القانونية للكتاب المقدس، التي يعتمدها علماء اللاهوت من أهل الكتاب، ومما يؤكد هذا المعنى أن النسخة المكتشفة للتوراة تتوافق في مضامينها مع النسخة السامرية للتوراة، والتي تخالف النسخة المعتمدة من اليهود والمسيحيين في كثير من الموارد([10]).

جماعة المخطوطات

وهذا الأمر يفتح باب السؤال عن الجماعة التي قامت بإخفاء هذه المخطوطات في تلك الكهوف، ومدى علاقتها بالديانة المسيحية أو اليهودية، ومدى إيمانها والتزامها الديني، ونمط عيشها، وسبب إخفائها لها، وغير ذلك من التساؤلات.

إن من المتسالم عليه بين الباحثين، أن الجماعة التي حفظت المخطوطات، هي من طائفة الأسينيين، وهي طائفة مجهولة على وجه العموم، فقبل ظهور المخطوطات كانت المعلومات عن هذه الجماعة ضئيلة جدًا، لم تزد عن محاولات تحليل الاسم وربطه بعالم الشفاء([11]).

وبحسب موسى ديب الخوري، فإنهم كانوا يعيشون في جماعات منعزلة متفرغين للعبادة، وأنهم كانوا معروفين بتقواهم وزهدهم، وتكتمهم عن الأسرار، وقدرتهم على الشفاء، والتخلص من الآلام والنجاسة بالتطهر([12]).

وأما بعد اكتشاف المخطوطات، فقد افترض العلماء ازدياد معرفتهم بهذه الطائفة، فربطوا بينها وبين أصحاب هذه المخطوطات، وبمقارنة الفترة الزمنية التي عاشت فيها هذه الجماعة، وبملاحظة اقترانها مع ظهور دعوة السيد المسيح (عليه السلام) ، فقد افترض وجود علاقة بين الأسينية ونشأة المسيحية([13])، بل طرحت إشكالية علاقة السيد المسيح (عليه السلام)  نفسه بهم، وأنه كان منهم ثم انفصل عنهم([14]).

يتبع =

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) سورة البقرة، آية:146

([2]) سورة الأعراف، آية:157

([3]) القرآن والكتاب المقدس في نور التاريخ والعلم.

([4]) عدد 14-15.

([5]) الكتاب المقدس بين العلم والإيمان، الأب بيتر مدروس، المكتبة البولسية 2004، ص20.

([6]) سورة الأنعام، آية: 91.

([7]) مجمع البيان،الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق السيد هاشم الرسولي المحلاتي، المجلد الثاني، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1379هـ ص333.

([8]) راجع: قاموس الكتاب المقدس، ص32.

([9]) الترجمة السبعينية هي أقدم ترجمة لأسفار العهد القديم من أصلها العبري إلى اللغة اليونانية، وهي التي تمت في سنتي282 ، 283 ق . م على يد اثنين وسبعين حبرًا من يهود مصر بأمر بطليموس فيلادلف، ومراعاة لعدد من قام بها سميت الترجمة السبعينية. (Versionde septane). راجع أهل البيت (ع) في الكتاب المقدس، كاظم النصيري، ص 30. (التحرير).

([10]) الفرق والمذاهب اليهودية منذ البدايات، عبد المجيد همو، دار الأوائل، دمشق، 2003، ص67.

([11]) كتابات قمران، الخوري بولس الفغالي، ج1، ص13.

([12]) مخطوطات قمران، دار الطليعة الجديدة، دمشق، 1998، ج1، ص7.

([13]) نفس المصدر السابق، ص44.

([14]) نفس المصدر السابق، ص64.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث عشر