السنة الرابعة / العدد الثالث عشر/ آب 2008 - شعبان 1429هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

تتمة مقال = الدين الحق في نصوص أهل الكتاب

المصطفى ومعلم الحق

من الأمور الهامة في كتابات أهل الكتاب تعرضهم لأحداث آخر الزمان، وصفات النبي الذي سيحكم العالم طبقًا لشريعته، دون أن يكون لبني إسرائيل أية خصوصية فيه، بل المِلاك فيه هو الإنسان من حيث هو إنسان، [في يده توجد قوانين الكائنات كلها، وأنه هو الذي يسندها في كل حاجاتها. وأنه هو الذي خلق الإنسان لتكون له السيادة على الأرض]([45]).

[وكل ما كان قد أخفي عن إسرائيل إنما وجده الإنسان الذي بحث]([46]).

إن من أهم صفات هذا النبي أنه يعلم جميع الأشياء، التي حصلت مع سائر الأنبياء قبله، والأحكام والتشريعات التي جاؤوا بها، وما سيحصل في مستقبل الأيام، ففي تفسير حبقوق: [الذين سيغدرون في نهاية الأيام إنهم الأعداء الذين لا يؤمنون، عندما يسمعون بالأشياء كلها، التي تحصل للذرية الأخيرة، من فم الكاهن الذي أقامه الله، لكي يفسر كافة عبارات عبيده الأنبياء الذين بواسطتهم روى الله كافة الأشياء التي ستحصل لشعبه وللأمم]([47]).

ومعلم الحق هذا قد جعله الله يعرف كافة أسرار كلام خدامه الأنبياء([48]).

وعقاب الكاهن الذي ينكر تعاليم معلم الحق وأتباعه سيسلمه الله لأيدي أعدائه لكي يذل بضربة قاضية في مرارة النفس، لأنه كان قد تصرف بشكل زنديق تجاه مختاريه([49]).

وفي نهاية الأزمنة ستزول مملكة إسرائيل فيذهب نساؤها وأولادها وأطفالها الصغار أسرى، وأبطالها ووجهاؤها سيسقطون بالسيف([50]).

وأما الأبرار فهم الذين سيرثون الأرض: [إنهم هم الذين سيرثون الارض، وعليكم أيها الكافرون اللعنة، عندها سيعطي للمختارين النور والنعمة، وسيكونون هم الذين يرثون الأرض]([51]).

ومن الصفات التي أطلقت على معلم الحق أنه المصطفى، وهو لقب اختص به نبي الإسلام الأعظم  (صلى الله عليه وآله) ، دون غيره من الأنبياء، ففي سفر أخنوخ: [وفي هذا الموضع رأت عيناي مصطفى الحق والإخلاص، العدالة ستسود في زمنه،....، بحضوره لن تهلك العدالة أبدًا، ولن يفنى الحق بوجوده]([52]).

[أمامه سينحني ويسجد جميع سكان الأرض، سيمجدون ويمدحون ويباركون رب الأرواح، ولهذا أصبح المصطفى والذي كان قد أخفي بحضوره منذ ما قبل خلق العالم وحتى نهاية الدهر]([53]).

وقد تحدث كثيرًا في وصف عدالته، وقدرته، وحكمته، وقضائه بين الناس بالعدل، وسيطرته على كافة الشرائع، وأنه سيبين كل ما أخفي بفمه.

وشيء من ذلك لم يتحقق على يد السيد المسيح  (عليه السلام) ، فإنه بالإضافة إلى إعلانه أن مملكته ليست من هذا العالم، فقد امتنع عن القضاء بين الأخوين في قسمة الميراث بينهما، قائلا: [من أقامني عليكما قاضيًا أو مقسمًا؟]([54]).

كما امتنع عن إقامة الحد، الذي تفرضه الشريعة، على المرأة الزانية([55]).

بل نجد أنه لم يتعرض إلى تغيير الوضع السياسي القائم بأي شكل من الأشكال، ولم يعمل لذلك أبدًا، كما تقدمت الإشارة إليه، ومن المفروض أن المخلص سوف يأتي ليرفع كافة أنواع المظالم عن الناس عمومًا، فضلاً عن بني إسرائيل بحسب ما يفترضون له من مهام.

وأكثر من ذلك، فقد دفع الجزية لقيصر، وأعلن مقولته الشهيرة [أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله]([56])، وقد سبق له أن دفع الجزية مرة أخرى في بداية دعوته الشريفة، كما يبدو، حيث أمر بطرس أن يذهب ويلقي صنارة وأول سمكة تخرج يجد فيها جزية عنه وعن بطرس ليدفعها([57]).

وأعلن لتلاميذه بشكل صريح أنه لم يبين لهم كل شيء، لعدم قدرتهم على تحمله، وأن الذي يقوم بذلك شخص آخر: [إن لي أمورًا كثيرة أيضًا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق، فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه، بل كل ما يسمع يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية]([58]).

ولهذا بيّن  (عليه السلام)  لهم بأن ذهابه خير لهم: [لكني أقول لكم الحق إنه خير لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي]([59]).

وقال لهم في مقام آخر: [بهذا كلّمتكم وأنا عندكم، وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الأب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم]([60]).

مكان الدعوة الخاتمة

لقد ورد في الكثير من الأخبار الإسلامية أن أهل الكتاب -وخصوصًا اليهود منهم- كانوا يعرفون موطن بعثة النبي الأعظم  (صلى الله عليه وآله)  حق المعرفة، والقرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة، التي أشار إليها في قوله تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}، وهو يعني معرفتهم بكافة التفاصيل المرتبطة بشخصه الكريم، بما فيها منطقه ومنطلقه ومهاجره، كما هو الشأن في معرفة الأبناء والاطلاع على أحوالهم.

فقد ورد أن رجلاً يهوديًا من بني عبد الأشهل خرج إلى جيرانه قبل بعثة النبي الأعظم  (صلى الله عليه وآله)  بيسير، وأخبرهم بأنه يوشك أن يبعث نبي من ناحية مكة المكرمة([61]).

وورد أيضًا أن اليهود كانوا يجدون في كتبهم أن مهاجر النبي  (صلى الله عليه وآله)  بين عير وأُحد، فأتوا واستوطنوا في ضواحي المدينة المنورة([62]).

وقد يبدو هذا الكلام غريبًا بالنسبة لأهل الكتاب بعد ملاحظة أولية لأسفارهم، إذ قد يظهر للوهلة الأولى أنها خالية من مثل هذه الدلالات، نتيجة تلاعب النساخ والمترجمين بها، أو ربما يتصورون عدم دقة القرآن الكريم في نقله عنها.

إلا أن الملاحظة الدقيقة ومراجعة النسخ المختلفة للكتاب المقدس، تدل على صحة ما ورد في القرآن الكريم والأخبار الواردة في تاريخ المسلمين، ولا يبقى معها أي شك في صدق نبوءة القرآن الكريم، فقد أثبتنا في كتاب [وعد التوراة لمن] أن أورشليم المقدسة في العهدين هي مكة المكرمة وليست بيت المقدس، بحسب نصوص الكتاب المقدس نفسه.

ونضيف هنا:

ألف: أنه قد ورد في المزمور الرابع والثمانين قوله: [طوبى للساكنين في بيتك أبدًا يسبحونك، طوبى لأناس عزهم بك. طرق بيتك في قلوبهم، عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعًا. أيضًا ببركات يغطون مورة]([63]).

وفي نسخة التفسير التطبيقي للكتاب المقدس، يقول: [طوبى لأناس أنت قوتهم، المتلهفون لاتباع طرقك المفضية إلى بيتك المقدّس، إذ يعبرون في وادي البكاء الجاف يجعلونه ينابيع ماء، ويغمرهم المطر الخريفي بالبركات]([64]).

والمهم في هذا النص هو عبارة وادي البكاء ومورة، فقد بان الارتباك والحيرة لدى مترجمي ومفسري الكتاب المقدس، في التعامل معها وفهم معناها، وهو ما يظهر من خلال الترجمات المتعددة للكتاب المقدس.

ولهذا نجد أن بعض المفسرين بعد عجزهم عن تحديد موقع وادي البكاء، يفترضون أنه موقع خيالي، فقد ورد في التفسير التطبيقي للكتاب المقدس ما لفظه: [الأرجح أن وادي البكاء ليس مكانًا في الواقع، بل هو رمز لواد يابس يتحول بطريقة معجزية، بالأمطار إلى أرض خصبة]([65]).

إلا أننا بالرجوع إلى الترجمة الإنكليزية للكتاب المقدس المطبوعة في بروكلن، نيويورك عام 1984، نجد أن الكلمة هي Baca وهو نفس الإسم الوارد في قاموس الكتاب المقدس ص187، وفسرها بقوله [قد تعني البلسان] أي شجر الميس.

وهذا التفسير لا ينسجم مع ما تقدم عن التفسير التطبيقي من أنه واد يابس، والصحيح أنه اسم مكة المكرمة، فإن من أسمائها [بكة]، كما ورد في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}([66]).

وهذا التفسير يتوافق تمام التوافق مع قوله تعالى، حكاية عن ابراهيم  (عليه السلام) : {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ}([67]).

باء - وفي كتاب الخمسينيات نجد عبارة: [مظلتي ومعبدي الذي أقمته وسط الأرض حتى أضع فيه اسمي فيسكن فيه أو سيتخذون لأنفسهم مواقع عليا، وغياضًا مقدسة، وتماثيل منحوتة سيعبدونها، لكل تمثاله لضلالهم، وسيضمون بأطفالهم للشياطين ولكافة أعمال قلوبهم الضالة]([68]).

ومن الظاهر أن هذا النص لا ينطبق على بيت المقدس ولا على هيكلها المزعوم، إذ لم يتحدث التاريخ عن وجود أوثان فيه، ولا عن قوم عبدوها فيه، حتى في أزمنة سيطرة غير اليهود على بيت المقدس، فإنهم كانوا غالبًا يتركون لهم حرية التعبد فيه، كما يقول المؤرخون، وإن كان الجانب الأهم فيه هو أنه مركز المملكة سواء في عهد سليمان  (عليه السلام)  أو من أتى بعده من ملوك إسرائيل، كما لم يطلق عليه اسم المعبد في أي عصر من عصوره.

إن النص المذكور ينطبق تمام الإنطباق على الكعبة المشرفة في مكة المكرمة، فإنها رغم كونها أول بيت وضع للناس، كما صرحت به الآية القرآنية المباركة، فقد امتلأ في عصر الجاهلية بالأصنام التي كان الناس يعبدونها ويقدسونها، سواء في داخل الكعبة أو على سطحها أو حولها.

بالإضافة إلى ما تقدم، فإن النص قد تضمن إشارة مهمة إلى موقع المعبد المقدس، الذي نسبه الله تعالى إليه، وهو أنه واقع في وسط الأرض، وهي إشارة يجدر التأمل فيها والوقوف عندها، فبيت المقدس لا يقع في وسط الأرض، سواء احتسبنا الأرض خصوص العالم القديم، والذي يشكل الشرق الأدنى عمقه الجغرافي والسياسي، لقربها من البحر الأبيض المتوسط، والذي كان يعتبر نهاية العالم ببعض الاعتبارات، أو بالنسبة إلى اليابسة في الكرة الأرضية.

وأما مكة المكرمة فقد أثبت الدكتور حسين كمال الدين في بحث متكامل أنها تقع في وسط اليابسة من الكرة الأرضية، وذكر لذلك مجموعة من الأدلة المثبتة([69]).

وعليه فالعبارة الواردة في كتاب الخمسينيات تتحدث عن مكة المكرمة بلا شبهة.

وبهذا تظهر بعض الأسباب التي دعت أهل الكتاب إلى التلاعب بنصوصهم المقدسة، وتغيير مضامينها، وإخفاء بعضها وإحراق وتمزيق بعض آخر منها.

ويظهر أيضًا وجه آخر من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وإخباراته الغيبية، وكشفه حقائق لم تظهر إلا بعد قرون متطاولة من بعثة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله)  وصدعه بالرسالة الخاتمة.

(انتهى المقال)

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([45]) مخطوطات قمران، ج1 ص76.

([46]) نفسه ص88.

([47]) نفسه، ص284، وتجدر الإشارة هنا إلى أننا حذفنا بعض العبارات التي أضافها المحقق في بعض الموارد، إلا ما كان ضروريًا للسياق والمعنى.

([48]) نفسه، ص286.

([49]) نفسه، ص 287.

([50]) نفسه، ص304.

([51]) مخطوطات قمران، ج2 ص30

([52]) نفسه، ج2، ص53

([53]) نفسه، ج2، ص47

([54]) إنجيل لوقا:12/14.

([55]) إنجيل يوحنا:8/7.

([56]) إنجيل متى:22/17-21.

([57]) نفسه:17/27.

([58]) إنجيل يوحنا: 16/12-13.

([59]) انجيل يوحنا: 16/6-7.

([60]) إنجيل يوحنا:14/25-26.

([61]) الدر المنثور في التفسير المأثور، ج1 ص170.

([62]) تفسير العياشي، ج1 ص49.

([63]) عدد: 4-6.

([64]) نفسه.

([65]) ص1221، تعليق رقم: 6 / 84.

([66]) سورة آل عمران، آية:96.

([67]) سورة إبراهيم، آية:37.

([68]) مخطوطات قمران، ج2 ص172.

([69]) الأرض في القرآن الكريم، د. زغلول النجار، ص59.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث عشر