3- تعليق الجواب على نزول الأسباب
الأسلوب الآخر الذي اعتمده رسول الله (صلى
الله عليه وآله) في مجال ربط المجتمع الإسلاميّ بأسباب
النزول، هو ما كان يعمد إليه أحيانًا من تعليق جواب بعض
المشكلات على نزول القرآن()،
ولا يخفى ما لهذا الأسلوب من أثر إعلاميّ نفسيّ على الناس،
حيث يجعلهم -وبسبب حالة الانتظار التي يتركهم النبيّ (صلى
الله عليه وآله) فيها- أشدَّ ترسّخًا واعتقادًا بهذا الباب
-باب العلم بأسباب النزول-،
ومن
نماذج ذلك ما رُوي في شكوى زوجة أبي
قيس بن الأسلت على ابنه محصن، الذي أراد أن يرث نكاحها
كونها زوجة أبيه، بعد أن منع عنها إرثها من زوجها، فقد
أجابها الرسول (صلى الله عليه وآله): "ارجعي لعلّ الله
ينزل فيك شيئًا"، ثمّ أخبرهم لاحقًا بنزول الآية
{وَلا
تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤكُم مِنَ النِسَاء...}().
فنحن نعتقد أنّ لهذا الأسلوب نوعًا من
التأثير النفسيّ الذي يجعل المجتمع على تماسٍ مع أسباب
نزول الآيات، ويؤدّي إلى أن يعيش الناس في حالة ترقّبٍ
لنزول القرآن وفق أسباب، وهو ما سنلاحظه في فقرات لاحقة.
4- بيان وتوضيح الأسباب
اهتمّ النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
بجانبٍ آخر من جوانب أسباب النزول، وذلك حينما تولّى
بنفسه
أمر بيان وتوضيح
بعض الأسباب إذا ما كان ثمّة لبس أو إبهام في حقيقتها،
كما
في الآية {لا
تَجْعَلوا دُعَاءَ الرسُول بَيْنَكُم كَدُعَاءِ بَعضكُم
بَعْضا}.. إلى قوله تعالى..
{أَنْ
تُصِيبهُم فِتْنَة أو يُصِيبَهُم عَذابٌ أَلِيم}()،
حيث
ورد أنّ ابنته فاطمة الزهراء ÷ عندما سمعت
الآية، لم تعُد تنادي الرسول (صلى الله عليه وآله): يا
أباه، وصارت تناديه: يا رسول الله، فقال لها الرسول (صلى
الله عليه وآله): "يا بنيّة لم تنزل فيك ولا في أهلك من
قبل، وإنّما نزلت في أهل الجفاء..."().
ففي مثل هذه الموارد لا يرتبط الأمر بمجرّد
بيان الحوادث، بقدر ما يرتبط ببيان مفاهيم لها عميق الأثر
على تمييز الجماعات المحيطة بالنبيّ (صلى الله عليه وآله)،
وسيكون لذلك بلا شكّ أثر كبير على مستقبل مسيرة الإسلام
وأهله.
النتيجة
يتبيّن ممّا تقدّم أنّ النبيّ (صلى الله
عليه وآله) قد قام في هذه المرحلة بتسجيل بعض الأحداث
التاريخيّة وفقًا لأسباب النزول، ثم بيّن بعض الحقائق
فيها، وقد سعى إلى إيقاظ حسّ الأصحاب وتوجيههم في مجال حسن
الالتفات
إليها، لارتباطها بالآيات القرآنيّة، مستعينًا بأساليب
عديدة تخدم هذا الهدف، وتنمّي الشعور بأهميّة هذا الاطّلاع،
ممّا يكشف عن المنزلة الرفيعة التي تحتلها أسباب النزول
لدى رسول السماء(صلى
الله عليه وآله).
ثانيًا: اهتمام الصحابة في عصر الرسول(صلى الله عليه وآله)
هكذا كانت حركة النبيّ(صلى
الله عليه وآله)،
فكيف تلقّف الصحابة أسباب النزول؟ وكيف كان أثر حركته على
المجتمع؟
إذا كان من المتوقّع أن يظهر بوضوح اهتمامُ
الأصحاب بأمر الأسباب، سواء لطبيعة هذا الموضوع وجاذبيّته،
أم بسبب توجيهات النبيّ
(صلى الله عليه وآله)،
فإنّ الإشكاليّة التي يطرحها البعض تتمثّّل في كيفيّة رصد
حركتهم واهتمامهم، بعد أن اتسمّت حركتهم تجاه أسباب النزول
بالركود
والخفاء،
من غير أن تتّسم بأيّ
نَفَسٍ إعلاميٍّ أو صورة تظهر إلى العلن، ذلك أنّنا نتحدّث
عن مجتمع على تماسٍ مباشر بأسباب النزول؛ فقد كانوا "على
جانب كبير وفقهٍ واسع لهذا الباب [أسباب النزول]، كيف لا
وهم الذين أكرمهم الله بملازمة نبيّه، وكان الوحي يتنزّل
بينهم روّاحًا غدّاءً بآيات الله"()!
لكنّ الحق أنّ
كثيرًا من أسباب النزول كانت تقع في غياب الصحابة، وهذا
أمر طبيعيّ، فمن المعلوم أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله)
كانت له حياته الخاصّة ولم يكن المجتمع بكامله يرافقه
ويمشي خلفه وبين يديه أينما ولّى وجهه! وخاصّة في الحالات
التي كان يأتيه فيها وحي السماء().
من هذا المنطلق كان بالإمكان رصد حالة
الصحابة مع أسباب النزول، وتَبَيُّن جهاتٍ تُبرِز اهتمامهم
بها.
نعم، ما نسلّم به أنّ نزول كثير من آيات
القرآن بين ظهرانيهم، ومعاصرتهم لحياة الرسول (صلى الله
عليه وآله)، جعل ما ينقلوه من أسباب النزول قليلاً بالقياس
إلى الأجيال اللاحقة التي كانت متعطّشةً إلى الأسباب
وسائلةً عنها.
هذا، فضلاً عن فقدان الكثير من الوثائق،
التي قد ترتبط بأسباب النزول،
والعائدة
إلى ذلك الزمان.
والراصد لحركة الصحابة في هذا المجال يجد
أنّ
أبرز علامات وأمارات هذا الاهتمام
قد
تجلّى من
خلال
ترقّبهم لها من جهة، والترويج لها بين
أطياف المجتمع من جهة أخرى، ممّا يعطي أكثر من إشارة في
هذا المجال.
1- ترقّب نزول القرآن وفقًا لأسباب
يلاحظ المتابِع للفترة التاريخيّة المعاصرة
للوحي، أنّ الصحابة كانوا يعيشون حالة الترقّب لنزول
الآيات القرآنيّة وفقًا لأسباب، ممّا يشير إلى أنّ الناس
قد اعتادوا على أسباب النزول وباتوا يعيشون في أجوائها
بشكل راسخ،
بحيث صاروا يتوقّعون نزول آيات عند أحداث معيّنة.
من نماذج ذلك ما
ورد في قضيّة الرجل الأنصاريّ واستنجائه بالماء،
والحال التي كان عليها؛ فإنّه بمجرّد استدعاء النبيّ
(صلى الله عليه وآله)
له
"جاء الرجل وهو خائف أن يكون قد نزل فيه
أمر يسوء في استنجائه بالماء"()،
والمقصود بكلّ تأكيد أنّه جاء مترقّبًا
لما نزل فيه من القرآن عند حصول هذه الحادثة، وهذا ما
يُسمّى بأسباب النزول.
وكذلك ما نقله مقاتل بن حيّان،
من سؤال
أسماء بنت عميس
وترقّبها لنزول القرآن في النساء، عندما رجعت
من الحبشة، مع زوجها جعفر بن أبي طالب،
فقد
دخلت على نساء رسول الله (صلى الله عليه وآله)،
وقالت:
"هل نزل فينا شيء من القرآن؟، قلن: لا، فأتت رسول الله
(صلى الله عليه وآله) فقالت: يا رسول الله! إنّ النساء لفي
خيبة وخسار، فقال (صلى الله عليه وآله): وممّ ذلك؟!، قالت:
لأنّهنّ لا يُذكرن بخير، كما يُذكر الرجال، فأنزل الله
تعالى هذه الآية {إنّ
المُسْلِمِين والمُسْلِمَات، وَالمُؤْمِنِينَ
وَالمُؤْمِنَات}..إلى قوله
تعالى.. {أَعَدَّ
اللهُ لَهُم مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}()"
().
بل تجاوزت حالةُ ترقّبِ نزول الآيات وفق
أسباب معيّنة، الصحابةَ المخصوصين، لتعمَّ المنافقين، وهذه
الحقيقة يؤيّدها القرآن الكريم في بعض آياته، وذلك من خلال
إشارته إلى ترقّب المنافقين نزول القرآن في شأنهم، يقول
تعالى {يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ
سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ
اسْتَهْزِؤُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُون}().
ويعلّق صاحب الميزان على الآية بالقول:
"كان المنافقون يشاهدون أن جلّ ما يستسرّون به من شؤون
النفاق ويناجي به بعضهم بعضًا، من كلمة الكفر ووجوه الهمز
واللمز والاستهزاء أو جميع ذلك، لا يخفى على الرسول، ويتلى
على الناس في آيات من القرآن يذكر النبي (صلى الله عليه
وآله) أنه من وحي الله (...)، فهم كانوا يحذرون نزول سورة
يظهر بها ما أضمروه من الكفر و همّوا به من تقليب الأمور
على النبي(صلى الله عليه وآله)
().
كلّ هذا يؤكّد أنّ مسألة أسباب النزول قد
اتّضحت أولى معالمها،
بحيث كان الناس يعيشون حالة الترقّب والانتظار تلك، ولولا
اعتياد الصحابة على حدوث هذا الأمر واهتمامهم به لما كان
لتلك الحالة أن تَسْكنَ
وتَسْتوطنَ
نفوسَهم.
2- ترويج الأسباب
إلى ذلك فقد كان لبعض الصحابة دور في ترويج
الأسباب في المجتمع، فها هو الأشعث بن قيس يبرز ليقول في
الآية {إنَّ
الذِينَ يَشْتَرونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِم ثَمَنًا
قَلِيلاً...}():
"فيّ نزلت، خاصمت إلى رسول الله فقضى عليّ باليمين"()،
وكأنّه يقوم بحملة ترويجٍ لسبب نزول هذه الآية،
على أنّ اللافت هو
أنّ هذا السبب لا يحمل في طيّاته أيًّا من أمارات المدح!
وما كان هذا الأمر ليحصل لولا ارتباط المجتمع بأسباب
النزول بشكل أو بآخر.
كذلك ينقل مجاهد عن كعب بن عجرة أنه قال:
"لَفِيّ نزلت وإيّاي عنى بها {فَمَن
كانَ
مِنكُم مَريضًا أَو به أَذى مِن رَأسِه فَفِدية مِن صِيام
أو صَدَقة أو نُسك...}()،
قال: قال النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم وهو بالحديبية،
وهو عند الشجرة، وأنا محرم: "أيؤذيك هوامك؟" قلت: نعم، أو
كلمةً لا أحفظها عنى بها ذاك، فأنزل الله جلّ وعزّ:
{فَمَن
كان منكم
مَريضًا أَو بِه أَذى مِن رَأسِه فَفِدية مِن صِيام أَو
صَدقَة أو نُسك...}"().
كما يذكر الزركشيّ في البرهان، في ختام بحث
أسباب النزول وتحت عنوان فائدة، يقول: "روى البخاري في
كتاب "الأدب المفرد في بر الوالدين" عن سعد بن أبى وقاص
رضي الله عنه، قال:
نزلت فيّ أربع آيات من كتاب الله عز وجل:
كانت أمي حلفت ألا تأكل ولا تشرب حتى أفارق
محمدًا صلى الله عليه [وآله] وسلم، فأنزل الله تعالى:
{وان
جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما
وصاحبهما في الدنيا معروفًا}().
والثانية: أني كنت أخذت سيفًا فأعجبني،
فقلت: يا رسول الله هب لي هذا فنزلت عن الأنفال.
والثالثة: أني كنت مرضت فأتاني رسول الله
صلى الله عليه [وآله] وسلم، فقلت: يا رسول الله إني أريد
أن أقسم مالي، أفأوصي بالنصف؟ فقال: لا، فقلت: الثلث،
فسكت، فكان الثلث بعد جائزًا.
والرابعة: أني شربت الخمر مع قوم من
الأنصار، فضرب رجل منهم أنفي بلحى جمل، فأتيت رسول الله
صلى الله عليه [وآله] وسلم، فأنزل الله عز وجل تحريم
الخمر"().
لقد كان مدعاةً للافتخار أن يرتبط شخص من
الصحابة بسبب النزول، لذا كانوا يعمدون في مثل هذه الحال
إلى ترويجها، وهذا بغضّ النظر عن كون الآية
المرتبطة بهذا السبب قد نزلت مدحًا أو غيره، ممّا يكشف عن
مكانة
أسباب النزول في تلك الفترة والمرحلة من تاريخ الدعوة
الإسلاميّة.
خلاصة واستنتاج
إن البذور
الأولى لبحث أسباب النزول قد
غرسها
الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)
بنفسه
بين صحابته، وهذا ما تجلّى واضحًا في مواقفه وطيّات كلماته
(صلى الله عليه وآله)، وبذلك
يكون
(صلى الله عليه وآله) قد وضع اللبنة الأولى
في صرح هذا الباب، وذلك من جهة حثّ المسلمين على الاضطّلاع
بها.
وهذا لا يعني أنّ الرسول (صلى الله عليه
وآله) قد أعطى صورة هذا الموضوع كاملة، كما أنّه لم يجعله
بابًا مستقلاً من العلم تكون له أسسه الخاصّة والواضحة،
وإنّما قام بدور ترسيخ هذا الباب في النفوس وربط القرآن
بأسباب نزوله.
لا شكّ أنّ هذا الاهتمام من الرسول (صلى
الله عليه وآله) كان له هدفٌ يرتبط بمستقبل الأمّة
الإسلاميّة وارتباط الأجيال اللاحقة بالقرآن وأسباب نزوله.
وما يستوقفنا هو الإهمال الذي طرأ على هذا الباب في مراحل
لاحقة، ممّا يرسم أكثر من علامة استفهام، وهو الأمر الذي
لا بدّ من دراسته دراسة مستوفية، ولعلّنا نوفّق في مقالات
أخرى إلى استبيان حقيقة الأمر.
هذا بالنسبة لدور النبيّ (صلى الله عليه
وآله)، وأمّا تفاعل الصحابة مع واقع أسباب النزول فقد بدا
جليًّا
من خلال ردّة فعلهم تجاه هذا الأمر، ترقّبًا
وترويجًا،
فكانت نتيجة حركة النبيّ (صلى الله عليه وآله) في إطار
الأسباب أنّها
كانت تعيش في عمق وجدانهم.
على أنّ المُلاحظ هو قلّة الأسباب المنقولة
عن الصحابة، لا سيّما بالقياس إلى الفترات اللاحقة من
تاريخ الإسلام، ويعود ذلك إلى عدّة أمور، منها أنّه لم يكن
ثمّة أسباب شائكة تُثير اللغط في المجتمع، أو حالات ادّعاء
مخالفة للواقع، والتي تخلق في المجتمع جوًّا عامًّا من
السؤال والنقل؛
وذلك لأنّ الرسول(صلى الله عليه وآله)ما زال بينهم، وهو
المرجع في أمورهم، وسيرته واضحة للعيان بخلاف ما سنجده لدى
الأجيال اللاحقة()..
هذا فضلاً عن ضياع عدد كبير من الروايات المرتبطة بتلك
الفترة.
ومن الملاحظ أيضًا أنّه لم يَرِدْ، في جميع
الوثائق التي وصلتنا، اصطلاحُ "أسباب النزول"، سواء على
لسانه(صلى الله عليه وآله) أم على لسان أصحابه.
(انتهى
المقال)
|