مقدمة
إن من
المسائل الظاهرة التي لا لبس فيها، لكل من يسرح نظره في
الدين الإسلامي الحنيف، ويعمل بصيرته في نصوصه الشرعية،
كتابًا
وسنة، أنه نظر إلى الحياة والوجود نظرة واقعية وموضوعية،
استطاع من خلالها تنظيم حياة الإنسان على المستوى الفردي
والاجتماعي، على نحو يشمل جميع شؤون الحياة المتعلقة به،
وعلى المستوى الدنيوي والأخروي، فلم يرتضِ لأتباعه حياة
العزلة والابتعاد عن هموم الناس ومشاكلهم، بذريعة المحافظة
على الذات وتحصيل الآخرة، كما في بعض الديانات الأخرى،
التي توهمت أن خلاص النفس لا يتحقق إلا بإيذائها، كما لم
يرتضِ لهم الانغماس المطلق في مقتضيات عالم الدنيا ونسيان
عالم الآخرة، وما أعدَّ فيها من حياة طيبة للمحسنين، وقد
اشتهر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله:
"إعمل لدنياك
كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا".
الانسان في بعديه المادي والروحي
وقد اتفق
الفلاسفة الإلهيون، وأتباع الديانات السماوية، أن للإنسان
بعدين يشكلان جوهره وحقيقة وجوده، هما البعد المادي ويمثله
البدن وآلاته، والبعد الروحي وتمثله نفسه وعقله، وليس لأي
منهما أي غنى عن الآخر على صعيد الحياة الدنيا، والوصول به
إلى الغاية القصوى.
إن من الواضح
أن الوجود نعمة للإنسان تفضّل الخالق تعالى بها عليه،
وأراد منه أن يقوِّم هذا الوجود ويسير به في الاتجاه
الصحيح، الذي يحقق به كماله وذاته، قال تعالى:
"يا أيها
الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه".
وهذه
الملاقاة لا يمكن أن تتحقق له وهو في عالم المادة والبدن،
لأن المادة محدودة وقاصرة في ذاتها، في تغير وتحول دائم،
لا تستقر على حال، من هنا لا بد من عبور الموت ليصل
الإنسان إلى ذلك العالم، وهذا بحث فلسفي لا نريد الولوج
فيه.
إلا أن ما
يهمنا في المقام بيان أن الوصول إلى الكمال المطلق ولقائه
تعالى، لا بد وأن يمر في مراحل التطور في هذه الحياة
الدنيا، طالما أنه لا يزال متلبسا بلباس البدن، فبواسطة
البدن وآلاته يمكنه أن يتواصل مع ذاته، ومع العالم الخارجي
المحيط به، وأن يكتشف أسرار الكون.
ومن خلال هذا
التواصل والتأمل في مخلوقات الله تعالى، تتحقق له المعرفة
والإدراك الموصل إلى الحقيقة المطلقة، وبدون البدن وآلاته
وحواسه لا يمكنه التطور أبدا، وهذا يقتضي المحافظة على هذا
البدن، سعيا لتحقيق الغاية التي وجد من أجلها، وهذا يستلزم
أن يكون للبدن كمالاته أيضًا، التي لا بد من توفيرها، لأجل
الوصول إلى ما وراءها.
من جهة أخرى،
فإن البدن ما دام وسيلة وآلة لتحقيق الكمال، وليس غاية بحد
ذاته، فلا بد من معرفة الغاية والهدف الذي يعمل البدن من
أجله، إذ الغاية أشرف من الوسيلة على كل حال، وهذه الغاية
هي النفس أو "الأنا"، التي تحقق الكمال وتصل إليه، وفيها
تتحقق ذات الإنسان.
إن النفس
الإنسانية، بما فطرت عليه من سعي إلى الكمال، وبحث عن
الرفاه والراحة والدعة، تستحق أمورًا لا بد من تحقيقها
للوصول إلى السعادة الكاملة، وهي تتطلب تكاملاً بين النفس
والبدن.
فما هي حقوق
كل من النفس والبدن على ذات الإنسان، وهل من حدود تحكم
حركته وسعيه نحو الكمال؟
لا بد قبل
الدخول في تفصيل هذه الحقوق من تحديد النفس والبدن، وما هو
المراد بهما، ومعرفة ذات الإنسان، حيث إن البدن يشكل بُعده
الظاهر والمادي، والنفس تشكل البعد الباطن والمجرد، أي
إنما يشكلان البعد الدنيوي والأخروي إن صح التعبير . وهذان
البعدان هما المرادان بالشعر المنسوب لأمير المؤمنين (عليه
السلام):
أتحسب أنك جرم صغير
|
|
وفيك انطوى العالم الأكبر
|
حقيقة النفس
النفس حقيقة
الشيء وجوهره، وبهذا المعنى يقال شيء نفيس، ومصاديقها
متكثرة، حيث تطلق على الدم كما يقال: له نفس سائلة، والروح
كما يقال خرجت نفسه، والتنفس الذي هو الشهيق والزفير، وغير
ذلك.
ومرد هذه
المعاني إلى معنى واحد، هو أن جوهر الشيء وحقيقته هي التي
تميزه وتجعله كريمًا ونفيسًا.
وقد ورد عن
كميل بن زياد أنه قال: سألت مولانا أمير المؤمنين (عليه
السلام)، فقلت: يا أمير المؤمنين، أريد أن تعرفني نفسي.
قال: يا
كميل، وأي الأنفس تريد أن أعرفك؟
قلت: يا
مولاي! هل هي إلا نفس واحدة؟
قال: يا كميل
إنما هي أربعة: النامية النباتية، والحسية الحيوانية،
والناطقة القدسية، والكلية الإلهية.
ولكل واحدة
من هذه خمس قوى وخاصيتان:
فالنامية
النباتية لها خمس قوى: ماسكة، وجاذبة، وهاضمة، ودافعة،
ومربية، ولها خاصيتان: الزيادة والنقصان، وانبعاثها من
الكبد.
والحسية
الحيوانية لها خمس قوى: سمع، وبصر، وشم، وذوق، ولمس، ولها
خاصيتان: الرضا والغضب، وانبعاثها من القلب.
والناطقة
القدسية لها خمس قوى: فكر وذكر، وعلم وحلم، ونباهة، وليس
لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الفلكية، ولها
خاصيتان: النزاهة والحكمة.
والكلية
الإلهية لها خمس قوى: بهاء في فناء، ونعيم في شقاء، وعز في
ذل، وفقر في غناء، وصبر في بلاء، ولها خاصيتان: الرضا
والتسليم. وهذه التي مبدؤها من الله وإليه تعود، قال الله
تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي}()،
وقال تعالى : {يَا
أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى
رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً}()
، والعقل وسط الكل().
لقد شملت هذه
الرواية الشريفة كلا البعدين في الذات الإنسانية، أي
المادي والمجرد، حيث يشكل القسمان الأولان، وهما النفس
النباتية والحيوانية الحسية، بُعده المادي الذي هو البدن،
وبيّنت كمالاته وخصائصه التي يمكن للإنسان الاهتمام به من
خلال مراقبة الخواص، والعمل على تهذيبه وإيصاله إلى غايته
الكبرى.
بينما يشكل
الأخيران، أي الناطقة القدسية والكلية الإلهية، بُعده
المجرد، وهو الروح والنفس، والذي هو حقيقة الإنسان، التي
لا بد من أن يصل من خلال الاهتمام بها إلى هدف خلقه.
بين النفس والروح
وهنا تطرح
علاقة النفس والروح، وهل هما متباينتا الذات، أم متحدتان،
وعلى فرض الاختلاف والتباين فأي نوع من العلاقة التي تربط
بينهما.
بمعزل عن
إطالة الكلام والأخذ والرد في البحوث الفلسفية، فإن إرجاع
المسألة إلى الأصول اللغوية يدل على أن الروح والنفس بمعنى
واحد، وهو ما يستفاد من الرواية المذكورة آنفًا، حيث بيّن
أمير المؤمنين (عليه السلام) في النفس الكلية أنها مدلولة
لقوله تعالى : {وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِنْ رُوحِي}، وكذلك لقوله تعالى
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ}.
كما ذكر أحمد
بن فارس أن الروح مشتق من الريح، ولذلك يقال أراح الإنسان
إذا تنفس().
وقد ورد هذا
المعنى في روايات أئمة الهدى (عليهم السلام)، فعن محمد بن
مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز وجل
{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ
رُوحِي}، كيف هذا النفخ؟ فقال: إن الروح متحرك
كالريح، وإنما سمي روحًا لأنه اشتق اسمه من الريح، وإنما
أخرجه على لفظة الريح لأن الروح مجانس للريح، وإنما أضافه
إلى نفسه لأنه اصطفاه على سائر الأرواح، كما اصطفى بيتًا
من البيوت فقال بيتي...().
وفي باب نفس
قال، أي أحمد بن فارس،: "يدل على خروج النسيم كيف كان، من
ريح أو غيرها، ومنه التنفس: خروج النسيم من الجوف"، وفي
الحديث "لا تسبوا الريح فإنها من نفس الرحمن"().
ويستفاد وحدة
المعنى بين الروح والنفس، بحسب اصطلاح الحكماء، من كلام
الشريف الجرجاني في كتاب التعريفات أيضا، فليلاحظ.
ومهما يكن من
أمر، فإن الحديث عن النفس هو حديث عن الروح ببعض المعاني،
سواء في اللغة أم في الاصطلاح، وكذلك العكس.
كما أنه
استنادًا إلى الرواية المذكورة عن أمير المؤمنين (عليه
السلام)، فإن الحديث عن النفس وحقوقها هو حديث عن البدن
وحقوقه أيضًا كما سنرى.
بين النفس والبدن
أشرنا في ما
سبق إلى أن البدن يشكل البعد المادي للإنسان في الحياة
الدنيا، وأنه وسيلة للوصول بالإنسان إلى مراتب الكمال،
وبدونه تبقى النفس عاجزة عن الوصول إلى مبتغاها وغايتها.
ولهذا فإن المحافظة على البدن محافظة على النفس والإنسان،
فإن فقدان أي حاسة من حواس الإنسان الظاهرية الخمس، سيؤثر
سلبًا على معرفة الإنسان الكلية، المتعلقة بتلك الحاسة،
لأن من يفقد حاسة البصر مثلاً لا يمكنه إدراك الألوان،
مهما جهدنا في توصيفها له، ولهذا فإن إدراكه لها لا يرقى
إلى مستوى الواقعية والمباشرة، بل يبقى أسير التوصيف
والمقاربة الخارجية فقط، ولهذا قيل بأن من فَقَدَ حسًا
فَقَدَ علمًا.
إن الوصول
إلى الكمال وتحصيل السعادة الحقيقية متوقف على العلم
والمعرفة، وهذا من البديهيات التي لا جدال فيها ولا نقاش،
ولهذا أكثر القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من الحث
على تحصيل العلم، حتى حصر خشية الله تعالى بالعلماء دون
سواهم، فقال تعالى:
{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ})،
حيث إن غيرهم يسيرون على غير هدى ويخبطون خبط عشواء.
وهذا يعني أن
على الإنسان، في سيره التكاملي وسعيه نحو الله تعالى، لا
بد وأن يبقى مسلحًا بكافة ألوان المعرفة، وهو يقتضي
المحافظة على آلاتها ووسائلها، والتي هي الحواس الخمس
الظاهرة، ليتمكن من خلالها من الولوج في كافة الفروع
المعرفية، التي تحقق له الغاية المنشودة وهي الاتصال
واللقاء المطلق بالله تعالى.
إن هذه
المعرفة المتكاملة تستلزم المحافظة على النفس النباتية،
والتي فيها نمو الإنسان الجسدي وتحصيله القدرة والكمالات
البدنية، وكذلك النفس الحيوانية التي فيها نمو الإنسان على
مستوى الحواس الخمس الظاهرة.
وهاتان
النفسان هما اللتان تشكلان البعد المادي والجسدي للإنسان،
كما بيّنه أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديثه المتقدم
لكميل بن زياد النخعي.
فإن هاتين
النفسين هما المدخل الطبيعي للكمال الروحي والنفسي
للإنسان، وإذا كان كماله موقوفًا عليهما، بكافة قواهما
وخواصهما، فإن الوصول إلى الكمال موقوف على المحافظة على
كل قوة من قواهما، وخاصية من خواصهما كما تقدم.
ولازم ذلك أن
لكل قوة وخاصية من قوى النفس -أي النفوس الأربعة المذكورة
في كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)- حقوقًا يجب على
الإنسان مراعاتها والمحافظة عليها، وهو مسؤول بشكل مباشر
عن كل ما يتعلق بها من آثار إيجابية أو سلبية في حياته
الدنيا، لأن كل ذلك يؤثر عليه في عاجله وآجله على حد سواء.
حقوق البدن
لقد أولى
الإسلام أهمية خاصة لصحة البدن وسلامته، وجعل المحافظة
عليه واجبًا شرعيًا، ولا يجوز إهماله والتهاون فيه، فقد
ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لبعض أصحابه،
الذي أهمل بدنه وترك الاهتمام بشأنه: "يا عدي نفسه إن
لبدنك عليك حقا"().
وعن أمير
المؤمنين (عليه السلام) عندما شكى له العلاء بن زياد
الحارثي أخاه عاصم، لأنه لبس العباءة وتخلى عن الدنيا، قال
(عليه السلام) : عليّ به، فلما جاء قال له: يا عدي نفسه
لقد استهام بك الخبيث أما رحمت أهلك وولدك. أترى الله أحل
لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها"().
وكثيرة هي
الأخبار الواردة عن أئمة الهدى (عليهم السلام) التي تحث
على الاهتمام بالبدن وسائر الأعضاء، كالحديث الوارد عن
الإمام الرضا (عليه السلام) أنه قال: "اعلم يرحمك الله أن
الله تبارك وتعالى لم يُبح أكلا ولا شربًا إلا ما فيه من
المنفعة والصلاح، ولم يحرم إلا ما فيه الضرر والتلف
والفساد، فكل نافع مقوٍّ للجسم فيه قوة للبدن فحلال، وكل
مضر يذهب بالقوة أو قاتل فحرام"().
وعنه (عليه
السلام) في جواب مسائل محمد بن سنان، كتب: "حرمت الميتة
لما فيها من إفساد الأبدان والآفة...().
وعن الإمام
الصادق (عليه السلام) في أجوبة مسائل الزنديق قال: فلم حرم
الدم المسفوح، قال (عليه السلام): "لأنه يورث القساوة
ويسلب الفؤاد رحمته، ويعفن البدن ويغير اللون، وأكثر ما
يصيب الإنسان الجذام يكون من أكل الدم"().
وعن الإمام
الباقر (عليه السلام)، في جواب من سأله، لم حرم الله
الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر، قال (عليه السلام): "إن
الله تبارك وتعالى لم يحرم ذلك على عباده وأحل لهم ما سوى
ذلك من رغبة في ما أحل لهم ولا زهد في ما حرم عليهم، ولكنه
عز وجل خلق الخلق وعلم ما تقوم به أبدانهم وما يصلحها
فأحله لهم وأباحه، وعلم ما يضرهم فنهاهم عنه، ثم أحله
للمضطر في الوقت الذي لا يقوم بدنه إلا به، فأحله بقدر
البلغة لا غير ذلك. ثم قال (عليه السلام): أما الميتة فإنه
لم ينل أحد منها إلا ضعف بدنه وأوهنت قوته الخ...الحديث"().
هذا جزء يسير
من الأحاديث الكثيرة التي تُبيّن أهمية البدن ووجوب
المحافظة عليه، بل إن ملاك الحلال والحرام، بحسب هذه
الروايات وغيرها، دائر على العموم مدار صحة البدن وسلامته
ومرضه وسقمه.
وأما
الروايات الشريفة، التي تتحدث عن ضرورة المحافظة على كل
عضو من أعضاء البدن، والتي تبين كيفية ذلك، فخارجة عن حد
الحصر والإحصاء.
موقع النفس
أشرنا في ما
تقدم إلى أن النفس تحتاج إلى البدن في تحصيل كمالاتها في
عالم الدنيا، وليس لها غنى عنه في هذه الحياة، وقسّمها
أمير المؤمنين (عليه السلام) في الحديث المتقدم في صدر
البحث إلى أربعة أقسام، قسمان منها عبارة عن البدن
وكمالاته، وقسمان عبارة عن عالم الروح وكمالاته.
وما دامت
حاجات البدن ضرورية وأساسية في تحصيل كمالات النفس، وما
دامت الغاية القصوى للإنسان هي خلاصه وتحقيق سعادته على
المستوى الدنيوي والأخروي، فإن السعادة المنشودة موقوفة
على تحقيق هذه الكمالات النفسية والبدنية على حد سواء.
فقد ورد عن
الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال:
"جوارح
الإنسان وعروقه وأعضاؤه جنود لله مجندة عليه، فإذا أراد
الله به سقمًا سلطها عليه فأسقمه من حيث يريد به ذلك
السقم"().
إلا أن تحقيق
كمالات النفس والوصول بها إلى معارج السعادة والكمال موقوف
على معرفة نفسه وحاجاتها ومقتضياتها، وما ينفعها وما
يضرها، ومن هنا ورد عن أئمة الهدى (عليهم السلام) أن: "من
عرف نفسه فقد عرف ربه".
وقد بيّن
الإمام الصادق (عليه السلام) طريق معرفة النفس وحدودها،
وهو يظهر أن النفس بكمالاتها مرتبطة بشكل كامل بعالم
البدن، على نحو يؤدي إلى أن حصول أي خلل في قوى البدن
ينعكس بالضرورة على بعد من أبعاد النفس الإنسانية، وهذا
يدل على أهمية البدن والمحافظة على سلامته في الإسلام،
وبدونه لا يمكن تحقيق السعادة والخلاص.
يقول الإمام
(عليه السلام): "عرفان المرء نفسه أن يعرفها بأربع طبائع،
وأربع دعائم وأربعة أركان، طبائعه: الدم، والمرة، والريح،
والبلغم. ودعائمه: العقل - ومن العقل الفطنة - والفهم،
والحفظ، والعلم. وأركانه: النور، والنار، والروح، والماء،
فأبصر وسمِعَ وعَقِل بالنور. وأكل وشرب بالنار. وجامع
وتحرك بالروح ووجد طعم الذوق والطعم بالماء، فهذا تأسيس
صورته.
فإذا كان
عالمًا حافظًا ذكيًا فطنًا فَهِمًا عرف في ما هو، ومن أين
تأتيه الأشياء، ولأي شيء هو هاهنا، ولما هو سائر بإخلاص
الوحدانية والإقرار بالطاعة، وقد جرى فيه النفس وهي حارة،
وتجري فيه وهي باردة. فإذا حلّت به الحرارة أشر وبطر
وارتاح وقتل وسرق ونصح واستبشر وفجر وزنى واهتز وبذخ، وإن
كانت باردة اهتم وحزن واستكان وذبل ونسي وأيس. فهي العوارض
التي تكون منها الأسقام، فإنه سبيلها، ولا يكون أول ذلك
إلا الخطيئة عملها، فيوافق ذلك مأكل أو مشرب في إحدى ساعات
لا تكون تلك الساعة موافقة لذلك المأكل والمشرب بحال
الخطيئة، فيستوجب الألم من ألوان الأسقام"().
النفس في القرآن الكريم
لقد تحدث
القرآن الكريم عن النفس باعتبارها ميزان التفريق بين الخير
والشر، وأنها أساس الأعمال التي تسمو بالإنسان إلى أرقى
مراتب الارتباط بالله تعالى، أو التي تهوي به إلى دركات
الرذيلة التي تبعده عنه تعالى، بعدما زودها تعالى بالقدرة
على فعل كل منهما، تاركًا لها حرية الاختيار، قال تعالى:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا
* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ
مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}).
كما قسّمها
إلى ثلاثة أقسام باعتبار القوى التي تشتمل عليها، والملكات
التي تحصلها، وهي النفس الأمارة بالسوء، والنفس اللوامة،
والنفس المطمئنة.
النفس الأمارة بالسوء
والمراد بها
القوة الدافعة نحو الرذائل والسيئات، فهي التي تحسّن
القبيح وتقبّح الحسن، من خلال إشباع رغبات البدن، ويغلب
عليها شهوات البطن والفرج.
إلا أن ذلك
لا يعني أن وجود هذه القوى والشهوات أمر سيء فينا، بل إن
وجودها ضروري من حيث المبدأ، وذلك أن هذه القوى تشكل نحوًا
من كمالات البدن، التي لا يستقيم البدن أو النفس إلا
بإشباعها، لكن الكلام في كيفية هذا الإشباع، والسيطرة
عليه، من دون افراط أو تفريط، فإن الإفراط بها يهدم البدن
ويعيق تكامله، وكذلك التفريط بها لا يخلو من محاذير شديدة
قد تؤدي إلى أزمات نفسية ومشكلات اجتماعية تترتب عليها.
وقد عمل
الإسلام على تنظيم هذه القوى من خلال الشريعة المحمدية
المباركة، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا النوع، بقوله
تعالى: {إِنَّ النَّفْسَ
لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي}).
وهذه النفس
هي المقصودة بقوله (عليه السلام): "أعدى عدوك نفسك التي
بين جنبيك"()،
وهي التي حث النبي الأعظم على مجاهدتها ومخالفتها، وأطلق
على محاربتها اسم الجهاد الأكبر في الحديث المشهور عنه.
النفس اللوامة
قال تعالى:
{لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ
الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}).
وقد تكثّرت
الآراء في تفسير النفس اللوامة وبيان المراد منها، ولكن
الأوفق بحسب السياق والدلالة، هي ما يعبر عنه في هذه
الأيام بالضمير أو الوجدان الأخلاقي، حيث إن كلمة اللوامة،
صيغة مبالغة من اللوم، أي النفس التي تلوم صاحبها كثيرًا،
وهو ما يتأتى عند اقتراف الإنسان خطأً معينًا، أو معصيةً
تجاه نفسه أو خالقه تعالى، أو مجتمعه.
وذلك أن
الإنسان قد زُوّد في أصل وجوده بكافة القوى الخيرة
والشريرة، كما يدل عليه قوله تعالى:
{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا *
فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}.
إلا أنه لما
كان يسعى إلى الكمال بحسب جبلته وفطرته، وهو ما يتنافى مع
الرذيلة وأعمال الشر، فإن الفطرة تدفعه إلى الندم وملامة
نفسه عند اقتراف ما يخالف كماله المنشود بواسطة أفعاله.
ويستوي في
هذه الملامة أو عذاب الضمير كلٌ من المؤمن والكافر بحسب
الظاهر، وهذه النفس اللوامة هي التي تشكل الضمانة للإنسان
في طريق هدايته، ورجوعه عن الخطايا والموبقات، وعودته إلى
جادة الصواب.
النفس المطمئنة
وهي النفس
التي استقرت وسكنت نتيجة استقامتها وارتباطها بالله تعالى،
وطاعتها المطلقة له تعالى، بحيث يفنى العبد فيه تعالى، لا
يرى لنفسه أي خصوصية أو وجود بمعزل عن ربه عز اسمه، فلا
تصدر منه أية حركة أو سكنة إلا عن أمره تعالى، وهو ما
يجعلها مطمئنة وراضية مرضية، كما قال تعالى:
{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ
الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً
مَرْضِيَّةً *
فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي}
().
ومن الظاهر
أنه لا يصل إلى مستوى النفس المطمئنة إلا الأوحدي من الناس
كالأنبياء والأولياء، وأما أكثر الناس فإنهم يترددون بين
القسمين الأولين، أي بين من غلبت عليه النفس الأمارة، وبين
من بقي فيه شيء من النفس اللوامة، التي يمكن أن تحاسبه
وتلومه على اقتراف الخطايا، وتدفعه إلى العودة إلى جادة
الصواب قبل أن يقفل على نفسه أبواب الهداية والرشاد.
ولهذا نجد أن
أكثر الناس، يعيشون الأزمات والمشكلات النفسية والاجتماعية
وغيرها، بحثًا عن الراحة والسعادة، ولا يقدرون على
تحصيلها، خصوصا إذا لم يسلكوا طريق الهداية التي رسمها لهم
الإسلام الحنيف، بعد ما ظنوا من أنفسهم القدرة على تحصيلها
بمعزل عن التعاليم الإسلامية السامية.
وهذا ما
يدعونا إلى اختصار حقوق النفس على الإنسان، التي تؤهله
للوصول إلى ما يرجوه في عاجله وآجله.
حقوق النفس
ينبغي
الإشارة هنا إلى أن الحديث عن حقوق النفس ناظر إلى النفس
الإنسانية بمعزل عن تقسيماتها المتقدمة، بل نريد من خلاله
بيان ما يقتضي إصلاح النفس بمعنى الذات أي "الأنا" وهي
شاملة لكل الأقسام المتقدمة.
إنه لما كانت
النفس تنزع بطبيعتها إلى تحقيق ذاتها وتحصيل مصالحها،
وتنفر عما ينافي هذه المصالح والكمالات، فلا بد من أن
تتعرف على ما ينفعها وما يضرها قبل كل شيء، ولما كانت
قاصرة بذاتها عن الإحاطة بكل ذلك، وجب أن تستهدي بغيرها من
الوحي والعقل وتجارب الآخرين.
إلا أن الوحي
يشكل قمة المعارف الممكنة للإنسان لأنه لا مجال فيه للخطأ
والاشتباه، إذ إن تجارب الآخرين محفوفة بكثير من الأوهام
والقراءات الخاطئة والتطبيقات المنحرفة. كما أن العقل كثير
التأثر بعالم المادة وشوائبها، فيمكن أن تختلط عليه الأمور
فيظن أن ما يصلحه مضر له، وأن ما يضره مصلحة له، فيقع في
الاشتباه والخطأ أيضًا، ولا يعني ذلك عدم قدرة العقل على
الإدراك لو أمكنه التجرد الخالص، وهو أمر غير متيسر لكل
إنسان كما هو ظاهر.
من هنا كان
الوحي الإلهي، من كتاب وسنة، يشكل المعيار الأساسي في بيان
المصالح والمفاسد، التي تتعرض لها النفس في مسيرتها
الدنيوية.
ولا يخفى أن
ما يبيّنه الشارع المقدس، من تشريعات ووسائل تهذيب النفس،
سواء في الكتاب أو السنة، كثيرًا ما يبدو مخالفا لما يتطلع
إليه عامة الناس، فيحتاج الناس إلى معرفة هذه التشريعات
ومحاولة التفاعل معها، والعيش على طبقها من خلال الممارسة
السلوكية، بعد تحصيل القناعة بأن الشارع المقدس أعلم بما
يصلح الإنسان وما يفسده.
1- من هنا
يظهر أن أول حق من حقوق النفس على الإنسان هو تثقيفها
بالمعارف الإلهية والعقائد الحقّة وما فيه مصلحتها من سبل
الخير والهداية، سواء على المستوى الدنيوي أو على المستوى
الأخروي، ولهذا اشتهر على ألسنة العلماء أن "المرء عدو ما
يجهل" .
2- فإذا تمت
معرفة الإنسان بهذا الحق، وأمكنه أن يثقف نفسه بما يلزم،
يتجلى الحق الثاني لنفسه عليه، وهو العمل على وضع هذه
المعارف موضع التنفيذ العملي، وتطبيق هذه المعارف في واقعه
الحياتي، وهذا ما لا يتأتى له إلا برياضة النفس، ودفعها
إلى الالتزام بما عرفته على المستوى النظري.
ولما كانت
النفس الإنسانية تنزع بطبيعتها إلى المحسوس، نتيجة أنسها
بعالم المادة والبدن، فإن وضع المعارف موضع التنفيذ
والسلوك العملي يتطلب مجاهدة لهذه النفس، وسعيًا دائبًا
لقهرها وكسر شهواتها المختلفة، وقد اشتهر الحديث الشريف عن
النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال لأصحابه بعد عودتهم من
إحدى الغزوات: "مرحبا بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر، وبقي
عليهم الجهاد الأكبر، قيل: وما هو الجهاد الأكبر يا رسول
الله، قال: جهاد النفس"().
إلا أن كسر
شهوات النفس، لا يعني منعها من الظهور بالمرة، بل المراد
تنظيم هذه الشهوات على نحو يكون في صالح الفرد والجماعة
الإنسانية كلها، فإن هذه الشهوات، خصوصًا شهوة البطن
والفرج، وجدت لصالح الإنسان، وتنظيم حياته على الوجه
الأفضل والأكمل.
3- ولكن ذلك
لا يعني سهولة الطريق أمامه، وإلا لم يكن جهاد النفس
الجهاد الأكبر، بل لا بد أن يترافق السلوك العملي ورياضة
النفس، مع العمل على إصلاح السريرة، وهذا هو الحق الثالث
من حقوق النفس، وذلك أن السلوك العملي إذا اقتصر على إخضاع
الجوارح، بحسب ما يظهر للآخرين، فإنه يؤدي إلى الابتلاء
بالنفاق والرياء، من هنا لا بد للمرء من أن يُقَوِّمَ
الظاهر وأن يخضعه لموازين الباطن، ويكون ذلك بتنقية النفس
في ذاتها عن كل ما يشوب سلامتها ورقيها في درجات الكمال،
والأخلاق الحميدة والفاضلة.
4- ولما كانت
النفس الإنسانية تنزع إلى الشهوات، وكان لا بد من
مجاهدتها، بغية إصلاحها، استوجب ذلك مراقبتها ومحاسبتها
عند كل مفصل ومنعطف من سلوكياتها، لتقويم ما أعوج من
أفعالها، والانطلاق بها في تحصين ما حصله من خصال حميدة في
مسيرته التكاملية.
وقد وردت
الكثير من الأحاديث الشريفة، التي تحث على محاسبة المرء
نفسه في كل يوم، وأن أفضل أوقات المحاسبة ساعة النوم، فإنه
حين يخلد إلى الراحة والسكينة، يكون قد ترك يومه، بما فيه
من مشاكل ومحاسن، ليؤسس ليوم عمل جديد، فيكون هذا الوقت
أفضل الأوقات للمحاسبة، واستذكار ما فعله من حسنات، فيعمل
على إتمامها والاستمرار بها، وما فعله من أخطاء وقبائح،
فيعمل على تركه وإصلاحه.
وأخيرًا، لا
بد من الإشارة إلى أن النفس الإنسانية، مطواعة بفطرتها،
بمعنى أن الإنسان قادر على تربية نفسه وتهذيبها، من خلال
سلوكه وأعماله، فإذا حكّم عقله على نفسه انقادت وتجلّت
كمالاتها، حتى يصير السلوك ملكة فاضلة فيه.
وأما إذا
تركها لإشباع رغباتها وأهوائها، من دون محاسبة ومراقبة،
أدت إلى تقييد العقل عن التأثير فيها، وفي ذلك الخسران
المبين.
تمت
المقالة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|