التعريف بالرسالة
رسالة الحقوق هي: للإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما
السلام)، رابع أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، يلقب بزين
العابدين وسيد الساجدين وذي الثفنات والسجاد والزكي و...
ويكّنى بأبي الحسن.
ولد (عليه السلام) في المدينة المنورة يوم الجمعة الخامس من شعبان سنة 38
هـ()،
عاش مع جده أمير المؤمنين (عليه السلام) سنتين، ومع عمه
الحسن (عليهما السلام) اثنتي عشرة سنة، ومع والده الحسين
(عليه السلام) اثنتين وعشرين سنة.
تولى الإمامة يوم العاشر من محرم بعد شهادة والده سيد الشهداء (عليه
السلام)، واستمرت إمامته ما يقارب أربعًا وثلاثين سنة إلى
أن استشهد سلام الله عليه عن عمر ناهز السبع والخمسين سنة
في الخامس والعشرين من شهر محرم الحرام سنة خمس وتسعين
للهجرة ()
بواسطة سمٍّ دسَّ إليه (عليه السلام) في طعامه بأمر الوليد
بن عبد الملك، ودفن في بقيع الغرقد في المدينة المنورة
بجانب عمه الحسن المجتبى (عليه السلام).
تشتمل رسالة الحقوق على إحدى وخمسين حقًا، منها ما يهتم بتربية الإنسان على
الأسس الصحيحة التي تحكم علاقات الإنسان بربه سبحانه
وتعالى ثم بإخوانه المؤمنين ثم بنظرائه من سائر البشر ثم
بسائر من يحيط به مما لا بد من التعامل معه.
ومنها ما يهتم ببناء الإنسان من الداخل ويساعده على بناء ذاته ويعطيه شحنة
عقائدية وإيمانية ليسير في الخط الصحيح ويرقى إلى درجات
السمو الروحي والارتباط بالله عز وجل، وقد اهتمّت رسالة
الحقوق بالسلوكيات الشخصية وضبط الجوارح من اللسان والسمع
والبصر واليد والرجل وتوجيهها في الاتجاه الصحيح، بالإضافة
إلى تأكيدها على الالتزام بالأحكام الإلهية في مختلف
المجالات، فيمكن اعتبارها بحق أنموذجًا رائدًا لكل وثائق
وإعلانات حقوق البشر في العالم مع أنها جاءت قبلها بقرون
متمادية، فإنه (عليه السلام) وضع مواد قانونية يمكن
اعتبارها من أهم ما كتب حول الحقوق بل أول إعلان إسلامي بل
عالمي لحقوق الإنسان، تنطلق بالإنسان نحو عالم أفضل وأكمل
لأنها تعمل على تغيير المحتوى الروحي للإنسان، فإنها رسالة
توجّهت إلى النفس الإنسانية وعالجت أدقّ التفاصيل التي
ترتبط بسريرة الفرد وعلاقته بربه ومجتمعه وكل من حوله، وهي
تُعنى بسلامة المجتمع النفسية والروحية، وتُصلِح الأمة
روحيًا وفكريًا وثقافيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وإداريًا،
ففيها الحقوق التي ترتبط بأمر الحكم والدولة مثل حقّ
السلطان والرعية وكيف يُتعامل معهما حتى تقوم الدول وتنهض،
وحقوق أهل الملّة عامة وأهل الذمّة خاصة، والحقوق المالية
وغيرها مما يرتبط بتنظيم الحياة الاجتماعية، وكل ما يرتبط
بحياة عزيزة وكريمة للأمة بأسرها.
فهذه الدرّة الثمينة دستور عام يتضمن كل ما تحتاجه البشرية من حقوق، فلم
يترك (عليه السلام) حقًا من حقوق الله على عباده، أو حقوق
العباد مع أنفسهم أو حقوق العباد بعضهم على بعض إلا ذكره
ونبّه عليه، وقد قدّم الأهم فالأهم، وقد بدأها (عليه
السلام) بإجمال كالفهرس، ثم فصّلها حقًا حقًا.
سند رواية الرسالة
وقد رويت في الكتب المعتبرة وتلقّاها كبار المحدّثين بالقبول بإيرادها في
كتبهم، المؤلّفة للعمل، خصوصًا كتاب من لا يحضره الفقيه
الذي وضعه الصدوق عليه الرحمة ليكون حجّة بينه وبين الله
جلّ ذكره، وجميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها
المعوّل وإليها المرجع، وقد ذكرها في باب الحقوق، قال: روى
إسماعيل بن الفضل، عن ثابت بن دينار، عن سيد العابدين علي
بن الحسين قال: حقّ الله الأكبر عليك... الخ ()،
ورواها في الخصال في أبواب "الخمسين وما فوقه" بسنده عن
محمد بن فضيل، عن أبي حمزة الثمالي باختلاف يسير، وفي
الأمالي (المعروف بالمجالس) في المجلس التاسع والخمسون
مجلس يوم الجمعة الثامن عشر من شهر ربيع الآخر سنة ثمان
وستين وثلاثمائة بسنده عن إسماعيل بن الفضل، عن ثابت بن
دينار الثمالي، عن سيد العابدين علي بن الحسين بن علي بن
أبي طالب (عليهم السلام)().
ورواها الحسن بن علي بن الحسين بن شعبة الحراني في تحف العقول مرسلة إلى
الإمام (عليه السلام) مع تفصيل أكبر مما في كتب الصدوق تحت
عنوان: رسالته (عليه السلام) المعروفة برسالة الحقوق().
ورواها السيد ابن طاووس عن الشيخ الكليني في رسائل الأئمة (عليهم السلام)
قال: وروينا بإسنادنا في كتاب الرسائل: عن محمد بن يعقوب
الكليني، بإسناده إلى مولانا زين العابدين (عليه السلام)
أنه قال: فأما حقوق الصلاة، فأن تعلم أنها وفادة إلى الله
إلخ (مما يفيد أنها رسالة وجهت إلى بعض أصحابه (عليه
السلام))().
وعنونها النجاشي في رجاله برسالة الحقوق وأسندها عند ترجمة أبي حمزة
الثمالي (ثابت بن دينار) قال: وله رسالة الحقوق عن علي بن
الحسين (عليهما السلام)، أخبرنا أحمد بن علي قال: حدثنا
الحسن بن حمزة قال: حدثنا علي بن إبراهيم عن أبيه، عن محمد
بن الفضيل، عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين (عليهما السلام)()،
وذكرها في البحار نقلاً عن الخصال تحت عنوان جوامع الحقوق()،
وذكرها في الوسائل نقلا عن الصدوق في الفقيه تحت باب:
(جملة مما ينبغي القيام به من الحقوق الواجبة والمندوبة)()
وقد شرحت بعدة شروح وتناولها العلماء بالبحث والتدقيق .
نصّ
الرسالة
ونكتفي بذكر ما أورده الشيخ الصدوق عليه الرحمة في الخصال لوجود المقدمة
فيها التي لا توجد في الفقيه ولاختصارها عما في تحف العقول
لأن المجال لا يسع التطويل.
وسنوردها بحسب رواية الصدوق في الخصال في أبواب الخمسين وما فوقه بسنده عن
محمد بن فضيل، عن أبي حمزة الثمالي قال:
هذه رسالة علي بن الحسين (عليه السلام) إلى بعض أصحابه:
اعلم أن لله عز وجل عليك حقوقًا محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنة
سكنتها، أو حال حلتها أو منزلة نزلتها أو جارحة قلبتها أو
آلة تصرفت فيها. فأكبر حقوق الله تعالى عليك ما أوجب عليك
لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق، ثم ما أوجب الله عز وجل
عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك، على اختلاف جوارحك، فجعل عزّ
وجل للسانك عليك حقًا، ولسمعك عليك حقًا، ولبصرك عليك حقًا
وليدك عليك حقًا، ولرجلك عليك حقًا، ولبطنك عليك حقًا،
ولفرجك عليك حقًا، فهذه الجوارح السبع التي بها تكون
الأفعال.
ثم جعل عزّ وجل لأفعالك عليك حقوقًا: فجعل لصلاتك عليك حقًا، ولصومك عليك
حقًا، ولصدقتك عليك حقًا، ولهديك عليك حقًا، ولأفعالك عليك
حقوقًا.
ثم تخرج الحقوق منك إلى غيرك من ذوي الحقوق عليك، فأوجبها عليك حقوق أئمتك
ثم حقوق رعيتك ثم حقوق رحمك. فهذه حقوق يتشعب منها حقوق.
فحقوق أئمتك ثلاثة أوجبها عليك: حق سائسك بالسلطان، ثم حق سائسك بالعلم، ثم
حق سائسك بالملك. وكل سائس إمام()،
وحقوق رعيتك ثلاثة أوجبها عليك: حق رعيتك بالسلطان، ثم حق
رعيتك بالعلم فان الجاهل رعية العالم، ثم حق رعيتك بالملك،
من الأزواج وما ملكت الإيمان.
وحقوق رحمك كثيرة متصلة بقدر اتصال الرحم في القرابة وأوجبها عليك: حق أمك
ثم حق أبيك ثم حق ولدك ثم حق أخيك، ثم الأقرب فالأقرب
والأولى فالأولى.
ثم حق مولاك المنعم عليك، ثم حق مولاك الجارية نعمتك عليه، ثم حق ذوي
المعروف لديك، ثم حق مؤذنك لصلاتك، ثم حق إمامك في صلاتك،
ثم حق جليسك، ثم حق جارك، ثم حق صاحبك، ثم حق شريكك، ثم حق
مالك، ثم حق غريمك الذي تطالبه()،
ثم حق غريمك الذي يطالبك، ثم حق خليطك، ثم حق خصمك المدعي
عليك، ثم حق خصمك الذي تدّعي عليه، ثم حق مستشيرك، ثم حق
المشير عليك، ثم حق مستنصحك، ثم حق الناصح لك، ثم حق من هو
أكبر منك، ثم حق من هو أصغر منك، ثم حق سائلك، ثم حق من
سألته، ثم حق من جرى لك على يديه مساءة بقول أو فعل عن
تعمد منه أو غير تعمد، ثم حق أهل ملتك عليك، ثم حق أهل
ذمتك ()،
ثم الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال، وتصرف الأسباب.
فطوبى لمن أعانه الله على ما أوجب عليه من حقوقه، ووفقه لذلك وسدده.
1- فأما حق الله الأكبر عليك فأن تعبده لا تشرك به شيئًا، فإذا فعلت ذلك
بإخلاص، جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة.
2- وحق نفسك عليك أن تستعملها بطاعة الله عز وجل فتؤدي إلى لسانك حقه والى
سمعك حقه، والى بصرك حقه، والى يدك حقها، والى رجلك حقها،
وإلى بطنك حقه، والى فرجك حقه، وتستعين بالله على ذلك.
3- وحق اللسان إكرامه عن الخنى()
وتعويده الخير، وترك الفضول التي لا فائدة فيها، والبر
بالناس وحسن القول فيهم.
4- وحق السمع تنزيهه عن سماع الغيبة وسماع ما لا يحل سماعه.
5- وحق البصر أن تغمضه عما لا يحل لك، وتعتبر بالنظر به.
6- وحق يدك أن لا تبسطها إلى ما لا يحل لك.
7- وحق رجليك أن لا تمشي بهما إلى ما لا يحل لك فيهما، تقف على الصراط
فانظر أن لا تزل بك فتتردى في النار.
8- وحق بطنك أن لا تجعله وعاء للحرام، ولا تزيد على الشبع.
9- وحق فرجك أن تحصنه عن الزنا، وتحفظه من أن يُنظر إليه.
10- وحق الصلاة أن تعلم أنها وفادة إلى الله عز وجل وأنك فيها قائم بين يدي
الله عز وجل فإذا علمت ذلك قمت مقام الذليل الحقير، الراغب
الراهب، والراجي الخائف المستكين المتضرع، المعظم لمن كان
بين يديه بالسكون والوقار، وتقبل عليها بقلبك وتقيمها
بحدودها وحقوقها.
11- وحق الحج أن تعلم أنه وفادة إلى ربك، وفرار إليه من ذنوبك، وبه قبول
توبتك، وقضاء الفرض الذي أوجبه الله عليك.
12- وحق الصوم أن تعلم أنه حجاب ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وبطنك
وفرجك، ليسترك به من النار، فإن تركت الصوم خرقت ستر الله
عليك.
13- وحق الصدقة أن تعلم أنها ذخرك عند ربك عز وجل ووديعتك التي لا تحتاج
إلى الإشهاد عليها، وكنت بما تستودعه سرًا أوثق منك بما
تستودعه علانية وتعلم أنها تدفع البلايا والأسقام عنك في
الدنيا، وتدفع عنك النار في الآخرة.
14- وحق الهدي أن تريد به الله عز وجل ولا تريد به خلقه ولا تريد به إلا
التعرض لرحمة الله ونجاة روحك يوم تلقاه.
15- وحق السلطان أن تعلم أنك جعلت له فتنة وأنه مبتلى فيك بما جعل الله عز
وجل له عليك من السلطان، وأن عليك أن لا تتعرض لسخطه،
فتلقي بيديك إلى التهلكة، وتكون شريكا له فيما يأتي إليك
من سوء.
16- وحق سائسك بالعلم التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه،
والإقبال عليه، وأن لا ترفع عليه صوتك، ولا تجيب أحدًا
يسأله عن شيء حتى يكون هو الذي يجيب، ولا تحدث في مجلسه
أحدًا، ولا تغتاب عنده أحدًا، وأن تدفع عنه إذا ذكر عندك
بسوء، وأن تستر عيوبه وتظهر مناقبه، ولا تجالس له عدوًا
ولا تعادي له وليًا، فإذا فعلت ذلك شهد لك ملائكة الله
بأنك قصدته، وتعلمت علمه لله جل اسمه لا للناس.
17- فأما حق سائسك بالملك فأن تطيعه ولا تعصيه إلا فيما يسخط الله عز وجل
فانه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
18- وأما حق رعيتك بالسلطان فأن تعلم أنهم صاروا رعيتك لضعفهم وقوتك، فيجب
أن تعدل فيهم وتكون لهم كالوالد الرحيم، وتغفر لهم جهلهم،
ولا تعاجلهم بالعقوبة، وتشكر الله عز وجل على ما آتاك من
القوة عليهم.
19- وأما حق رعيتك بالعلم فأن تعلم أن الله عز وجل إنما جعلك قيّما لهم
فيما آتاك من العلم وفتح لك من خزائنه، فان أحسنت في تعليم
الناس، ولم تخرق بهم ()،
ولم تضجر عليهم، زادك الله من فضله، وإن أنت منعت الناس
علمك أو خرقت بهم عند طلبهم العلم منك كان حقًا على الله
عزّ وجل أن يسلبك العلم وبهاءه ويسقط من القلوب محلك.
20- وأما حق الزوجة فأن تعلم أن الله عز وجل جعلها لك سكنًا وأنسًا فتعلم
أن ذلك نعمة من الله عليك فتكرمها وترفق بها، وإن كان حقك
عليها أوجب فان لها عليك أن ترحمها لأنها أسيرك، وتطعمها
وتكسوها، وإذا جهلت عفوت عنها.
21- وأما حق مملوكك فأن تعلم أنه خلق ربك وابن أبيك وأمك ولحمك ودمك، لم
تملكه لأنك صنعته دون الله ولا خلقت شيئا من جوارحه، ولا
أخرجت له رزقًا، ولكن الله عز وجل كفاك ذلك ثم سخره لك
وائتمنك عليه واستودعك إياه، ليحفظ لك ما تأتيه من خير
إليه، فأحسن إليه كما أحسن الله إليك، وإن كرهته استبدلت
به، ولم تعذب خلق الله عز وجل ولا قوة إلا بالله.
22- وأما حق أمك فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحدا، وأعطتك من
ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحدا، ووقتك بجميع جوارحها، ولم
تبالِ أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى
وتظلك، وتهجر النوم لأجلك، ووقتك الحر والبرد، لتكون لها،
فانك لا تطيق شكرها إلا بعون الله وتوفيقه.
23- وأما حق أبيك فأن تعلم أنه أصلك، وأنه لولاه لم تكن فمهما رأيت في نفسك
مما يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله
واشكره على قدر ذلك ولا قوة إلا بالله.
24- وأما حق ولدك فأن تعلم أنه منك ومضاف إليك في عاجل الدنيا بخيره وشره،
وأنك مسؤول عما وليته به من حسن الأدب والدلالة على ربه عز
وجل والمعونة له على طاعته، فاعمل في أمره عمل من يعلم أنه
مثاب على الإحسان إليه معاقب على الإساءة إليه.
25- وأما حق أخيك فأن تعلم أنه يدك وعزك وقوتك، فلا تتخذه سلاحًا على معصية
الله، ولا عدة للظلم لخلق الله، ولا تدع نصرته على عدوه،
والنصيحة له، فان أطاع الله تعالى وإلا فليكن الله أكرم
عليك منه ولا قوة إلا بالله.
26- وأما حق مولاك المنعم عليك، فأن تعلم أنه أنفق فيك ماله وأخرجك من ذل
الرق ووحشته إلى عز الحرية وأنسها، فأطلقك من أسر الملكة،
وفكَّ عنك قيد العبودية، وأخرجك من السجن، وملكك نفسك،
وفرغك لعبادة ربك، وتعلم أنه أولى الخلق بك في حياتك
وموتك، وأنّ نُصرته عليك واجبة بنفسك، وما احتاج إليه منك،
ولا قوة إلا بالله.
27- وأما حق مولاك الذي أنعمت عليه فأن تعلم أن الله عز وجل جعل عتقك له
وسيلة إليه وحجابا لك من النار، وأن ثوابك في العاجل
ميراثه، إذا لم يكن له رحم مكافأة بما أنفقت من مالك، وفي
الآجل الجنة.
28- وأما حق ذي المعروف عليك فأن تشكره وتذكر معروفه، وتكسبه المقالة
الحسنة، وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله عز وجل، فإذا
فعلت ذلك كنت قد شكرته سرا وعلانية، ثم إن قدرت على
مكافأته يوماً كافأته.
29- وحق المؤذن أن تعلم أنه مذكر لك ربك عز وجل، وداع لك إلى حظك وعونك على
قضاء فرض الله عليك، فاشكره على ذلك شكرك للمحسن إليك.
30- وحق إمامك في صِلاتك فأن تعلم أنه تقلد السفارة فيما بينك وبين ربك عز
وجل، وتكلم عنك ولم تتكلم عنه، ودعا لك ولم تدع له، وكفاك
هول المقام بين يدي الله عز وجل، فإن كان نقص كان به دونك،
وإن كان تمامًا كنت شريكه، ولم يكن له عليك فضل، فوقى نفسك
بنفسه وصلاتك بصلاته فتشكر له على قدر ذلك.
31- وأما حق جليسك فأن تلين له جانبك، وتنصفه في مجاراة اللفظ، ولا تقوم من
مجلسك إلا بإذنه، ومن يجلس إليك ()
يجوز له القيام عنك بغير إذنك، وتنسى زلاته وتحفظ خيراته،
ولا تسمعه إلا خيرا.
32- وأما حق جارك فحفظه غائبا وإكرامه شاهدا ونصرته إذا كان مظلوما، ولا
تتبع له عورة، فإن علمت عليه سوءًا سترته عليه، وإن علمت
أنه يقبل نصيحتك نصحته فيما بينك وبينه، ولا تسلمه عند
شديدة، وتقيل عثرته، وتغفر ذنبه، وتعاشره معاشرة كريمة،
ولا قوة إلا بالله.
33- وأما حق الصاحب فأن تصحبه بالتفضل والإنصاف، وتكرمه كما يكرمك ولا تدعه
يسبق إلى مكرمة، فان سبق كافأته، وتودّه كما يودّك، وتزجره
عما يهم به من معصية، وكن عليه رحمة ولا تكن عليه عذابًا،
ولا قوة إلا بالله.
34- وأما حق الشريك فإن غاب كفيته، وإن حضر رعيته، ولا تحكم دون حكمه، ولا
تعمل برأيك دون مناظرته، وتحفظ عليه ماله، ولا تخنه فيما
عز أو هان من أمره، فإن يد الله تبارك وتعالى على أيدي
الشريكين ما لم يتخاونا، ولا قوة إلا بالله.
35- وأما حق مالك فأن لا تأخذه إلا من حله، ولا تنفقه إلا في وجهه، ولا
تؤثر به على نفسك من لا يحمدك، فاعمل فيه بطاعة ربك، ولا
تبخل به فتبوء بالحسرة والندامة مع التبعة ولا قوة إلا
بالله.
36- وأما حق غريمك الذي يطالبك ()
فإن كنت موسرا أعطيته، وإن كنت معسرا أرضيته بحسن القول،
ورددته عن نفسك ردا لطيفا.
37- وحق الخليط ()
أن لا تغره ولا تغشه ولا تخدعه، وتتقي الله تبارك وتعالى
في أمره.
38- وحق الخصم المدعي عليك، فإن كان ما يدعي عليك حقًا كنت شاهده على نفسك،
ولم تظلمه وأوفيته حقه، وإن كان ما يدعي باطلاً رفقت به
ولم تأتِ في أمره غير الرفق، ولم تسخط ربك في أمره ولا قوة
إلا بالله.
39- وحق خصمك الذي تدّعي عليه إن كنت محقًا في دعواك أجملت مقاولته، ولم
تجحد حقه، وإن كنت مبطلاً في دعواك اتقيت الله عز وجل وتبت
إليه وتركت الدعوى.
40- وحق المستشير إن علمت أن له رأيا أشرت عليه، وإن لم تعلم أرشدته إلى من
يعلم.
41- وحق المشير عليك أن لا تتهمه فيما لا يوافقك من رأيه، وإن وافقك حمدت
الله عز وجل.
42- وحق المستنصح أن تؤدي إليه النصيحة، وليكن مذهبك الرحمة له والرفق به.
43- وحق الناصح أن تلين له جناحك وتصغي إليه بسمعك، فان أتى بالصواب حمدت
الله عز وجل، وإن لم يوافق رحمته ولم تتهمه وعلمت أنه
أخطأ، ولم تؤاخذه بذلك إلا أن يكون مستحقا للتهمة، فلا
تعبأ بشيء من أمره على حال ولا قوة إلا بالله.
44- وحق الكبير توقيره لسنِّه، وإجلاله لتقدمه في الإسلام قبلك، وترك
مقابلته عند الخصام، ولا تسبقه إلى طريق، ولا تتقدمه، ولا
تستجهله، وإن جهل عليك احتملته وأكرمته لحق الإسلام
وحرمته.
45- وحق الصغير رحمته في تعليمه، والعفو عنه والستر عليه والرفق به
والمعونة له.
46- وحق السائل إعطاؤه على قدر حاجته.
47- وحق المسؤول إن أعطى فاقبل منه بالشكر والمعرفة بفضله، وإن منع فاقبل
عذره.
48- وحق من سرّك الله تعالى به أن تحمد الله عز وجل أولاً ثم تشكره.
49- وحق من ساءك أن تعفو عنه، وإن علمت أن العفو يضر انتصرت. قال الله
تبارك وتعالى {ولمن انتصر
بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل} ().
50- وحق أهل ملتك إضمار السلامة والرحمة لهم، والرفق بمسيئهم وتألفهم
واستصلاحهم، وشكر محسنهم وكفّ الأذى عنهم، وتحبّ لهم ما
تحبّ لنفسك، وتكره لهم ما تكره لنفسك، وأن تكون شيوخهم
بمنزلة أبيك، وشبابهم بمنزلة إخوتك، وعجائزهم بمنزلة أمك،
والصغار بالمنزلة أولادك.
51- وحق الذمة أن تقبل منهم ما قبل الله عز وجل منهم، ولا تظلمهم ما وفوا
لله عز وجل بعهده، ولا قوة إلا بالله وصلى الله على رسوله
محمد وآله ().
فهذه إحدى وخمسون حقا محيطة بك لا تخرج منها في حال من الأحوال يجب عليك
رعايتها، والعمل في تأديتها، والاستعانة بالله جل ثناؤه
على ذلك ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب
العالمين ()
مفهوم الحقّ
إذا عدنا إلى جذور هذا المصطلح نجده يعني الثبوت الذي لا يقبل التغيير.
فالحق لغة: هو الثابت الذي لا يجوز إنكاره من حَقّ الشيء يَحِقُ إذا وجب
وثبت.
وفي اصطلاح أهل المعاني: الحكم المطابق للواقع، وهو ينطبق على الأقوال
والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتمالها على ذلك،
ويقابله الباطل().
وللحق ثلاثة أركان على الأقل:
1- صاحب الحق: وهو من ثبت له الحق وهو الله سبحانه أو الإنسان أو...
2- من عليه الحق: وهو المكلف المدين بأداء الحق لغيره.
3- محل الحق: وهو الأمر الذي ينبغي القيام به على الوجه الذي رسمه تعالى
وعيّنه النبي والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين.
وقد استعمل الحق في القرآن في ذات الله تعالى إحدى عشرة مرة كما في آية:
{الملك الحق}()،
وقوله تعالى: {وأن الله هو
الحق المبين}()،
كما نُسب إلى أفعاله تعالى في أكثر من آية كقوله تعالى:
{إن وعد الله حق}()،
وقوله تعالى: {والله يقول
الحق}()().
فالحق أمر واقعي لا يتصور التغيير، ولا معنى للاعتبار الذهني فيه. ولكن
انتزع من لفظ الحق مفهوم أُطلق عليه كلمة الحق، واستعمل في
مجال العلاقات والسلوك، وتحول إلى حالة قانونية تنظم
علاقات الناس ببعضهم أفرادًا وجماعات وشعوبًا وحكومات كحق
الوالدين وغيرهم.
ويمكن أن يراد من الحق بمعناه العام الوارد في الرسالة: بأنه مجموعة من
القوانين والنصوص التي تنظم علاقات الناس بربهم وببعضهم.
ظروف الرسالة
الظرف الذي عاشه الإمام السجاد (عليه السلام) من أخطر المراحل التي مرت على
آل البيت (عليهم السلام) حيث عاش فاجعة الطفّ ومأساة
كربلاء بكل شجونها، والسبي وما أعقب واقعة الطفّ، حيث تجرأ
بنو أمية واعتدوا على حجة الله على خلقه، واستباحوا الدم
الطاهر وقتلوا أفضل الخلق على وجه الأرض في زمانه سيد
شهداء أهل الجنة، وسبط نبيهم محمد (صلى الله عليه وآله)،
وانتهكوا حرمة الإسلام، وحرمة رسول الله (صلى الله عليه
وآله)، فسبوا عقائل الوحي وأهل بيت النبوة، وانتهكوا كل
القوانين والنواميس، وحرمة الشرفاء والمقدسات، وضاعت قيم
الدين والأخلاق من أنفس الناس، وماتت الضمائر، فطغى بنو
أمية وتجبروا وتغطرسوا، وسادت شريعة الغاب، فارتكبوا
الموبقات من دون أي رادع يردعهم، وأغرقوا المجتمع
بالموبقات، وأشاعوا الفحشاء، وجاهروا بالشراب، وشجعوا على
الغناء الخليع، وأقاموا الحفلات المختلطة والماجنة حتى في
أقدس بقاع الأرض، مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله) التي
كانت تعتبر مركز الثقل للعالم الإسلامي، ونشروا الجهل
والفجور لان مصلحتهم كانت تقتضي سياسة التجهيل والتضليل
والظلم والترغيب والترهيب، وانتهاك الحقوق ونشر الفساد
ليسيطروا على المجتمعات والأمّة، ولم يكن هناك نظام وقانون
يخضعون له، بل كان القانون يخضع لمشيئتهم ورغباتهم .
ذكر سليم بن قيس تحت عنوان برنامج معاوية لإبادة الشيعة :
(إن معاوية كتب إلى عماله في جميع البلدان: انظروا من قامت عليه البينة أنه
يحب عليا وأهل بيته، فامحوه من الديوان ولا تجيزوا له
شهادة). ثم كتب كتابًا آخر: (من اتهمتموه ولم تقم عليه
بينة أنه منهم فاقتلوه). فقتلوهم على التهم والظن، حتى لقد
كان الرجل يغلط بكلمة فيضرب عنقه... وجعل الأمر لا يزداد
إلا شدّة، وكثر عندهم عدوهم وأظهروا أحاديثهم الكاذبة في
أصحابهم من الزور والبهتان()،
فنشأ الناس على ذلك ومضى على ذلك قضاتهم وولاتهم وفقهاؤهم.
وكان أعظم الناس في ذلك بلاء وفتنه القراء المراؤون
المتصنعون، الذين يظهرون لهم الحزن والخشوع والنسك،
ويختلقون الأحاديث ليحظوا بذلك عند ولاتهم ويتقربوا إليهم
ويصيبوا بذلك الأموال والجوائز. حتى صارت أحاديثهم تلك
ورواياتهم في أيدي من يحسب أنها حق وأنها صدق، فرووها
وقبلوها وتعلموها وعلموها وأحبوا عليها وأبغضوا... فصار
الحق في ذلك الزمان باطلا والباطل حقًا، والصدق كذبًا
والكذب صدقًا)().
وأشار الإمام السجاد في الصحيفة السجادية في دعائه يومي الأضحى والجمعة إلى
ذلك حيث قال (عليه السلام):
اللهم إن هذا المقام لخلفائك وأصفيائك، ومواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة
التي اختصصتهم بها، قد ابتزوها حتى عاد صفوتك وخلفاؤك
مقهورين مبتزين يرون حكمك مبدّلاً وكتابك منبوذاً وفرائضك
محرّفة عن جهات أشراعك، وسنن نبيك متروكة ()
وازداد الأمر سوءًا في زمن ولده يزيد "لعنه الله" الذي جاهر بارتكاب
الموبقات والرذائل والفجور وشرب الخمور... فلم يكتفِ بما
اقترف في واقعة كربلاء من الحرمات وسبي ذراري وعقائل
الوحي، بل اعتدى أزلامه وأعوانه على مدينة رسول الله (صلى
الله عليه وآله) بعد واقعة كربلاء، وأباحها لجنده لمدة
ثلاثة أيام، فقتل أكثر من عشرة آلاف من أهلها بالإضافة إلى
سبعماية من وجوه المهاجرين والأنصار وحفظة القرآن، واعتدوا
على النساء حتى افتضت أكثر من ألف بكر، ونهبت مدينة الرسول
(صلى الله عليه وآله) ولم يكتف بذلك بل أخذت البيعة من أهل
المدينة على أنهم عبيد وفيء ليزيد يفعل بهم وبأموالهم
وبذراريهم ما يشاء، ومن أبى منهم ضربت عنقه.
كل ذلك على مسمع من الإمام زين العابدين (عليه السلام)().
وبعد واقعة الحرة هاجم الكعبة وحاصرها وضربها بالمنجنيق وأحرقها بعد لجوء
عبد الله بن الزبير إليها فأحرقت وانهدمت، ولم يتراجعوا
إلا بعد أن وصلهم نبأ موت يزيد عليه اللعنة()
وكل ذلك كان يعايشه الإمام السجاد (عليه السلام) كما عايش (عليه السلام)
بعد يزيد معاوية بن يزيد، ومروان بن الحكم، وعبد الملك بن
مروان والوليد بن عبد الملك.
ومن الولاة: الحجاج بن يوسف الثقفي، وعبيد الله بن زياد، وهشام بن إسماعيل
والي المدينة. وغيرهم من حكام الجور والظلم، نعم عاش
الإمام (عليه السلام) وسط هذا المجتمع المريض وفي ظل هذه
الظروف القاسية والتي لا تحتمل والتي لا يمكن التغاضي
عنها، فقام (عليه السلام) برد الناس إلى الإسلام وإلى
تعاليمه السامية وقوانينه السمحاء التي تقتضيها الفطرة
الإنسانية والوجدان.
فبيّن لهم ما عليهم من حقوق ضمن رسالته الإنسانية الخالدة لتكون منارًا
للبشرية وللمجتمعات بأسرها، والتي تضمنت الحقوق الثابتة
لكل إنسان مهما كان عرقه وعنصره ولونه وجنسه ولغته .
الهدف السياسي والاجتماعي لرسالة الحقوق
كانت سياسة بني أمية تعمل على القضاء على الإسلام وتشويهه كما عرفنا سابقًا
من خلال الظرف الذي عاشه الإمام (عليه السلام)، فلم يبقَ
من الإسلام إلا اسمه ومن الدين إلا رسمه، ولم يراعوا أية
حرمة، وعطلوا القوانين والسنن وغيّروا كل شيء حتى الصلاة،
ولم يبقَ لديهم مما كان في زمن رسول الله (صلى الله عليه
وآله) إلا استقبال القبلة، كما روي عن الإمام الصادق (عليه
السلام) (لا والله ما هم على شيء مما جاء به رسول الله
(صلى الله عليه وآله) إلا استقبال الكعبة فقط().
ونسب إلى الحسن البصري أنه قال: لو خرج عليكم أصحاب رسول الله (صلى الله
عليه وآله) ما عرفوا منكم إلا قبلتكم().
فابتعد الناس عن الدين واختلط الأمر عليهم بسبب محدثي السلاطين، فاحتاجوا
إلى من يعرفهم على الإسلام والدين الصحيح، وبيان واجباتهم
وما عليهم من حقوق اتجاه خالقهم واتجاه بعضهم البعض، فلذا
كان لابد لحجة الله على خلقه الإمام زين العابدين ومن عنده
علم الكتاب، ومن أولى منه بذلك، من تذكير الناس بأيام الله
وردهم إلى منابع العز والشرف ومعدن العلم والحكمة، ومن
مداواة هذه النفوس ليخلصها من أمراضها ويعرفها حدودها
ويهديها إلى الحياة الحرّة الكريمة، وتربية النفوس على هذه
الحقوق الإلهية وتطبيقها عمليا ليصبح المجتمع مجتمعًا
رساليًا يتعامل بتعاليم الإسلام ويتأسى بخلق النبي وأهل
بيته صلوات الله عليهم، ويعطي كل ذي حق حقه، لأن الناس إذا
تلقّوا تلك المعارف وعملوا بتلك الحقوق وطبقوها واتبعوا
الله وحججه على عباده، ونبذوا سلاطين الجور وأهل البدع
والفجور، ساد في المجتمع المحبة والوئام والسلام والمؤاخاة
والقانون والنظام .
فقام (عليه السلام) بتأسيس مدرسته الفكرية، وقاد مشروع الإصلاح والتصحيح
استكمالا لنهضة والده سيد الشهداء (عليهما السلام) التي
أحيت دين جده وكشفت زيغ وفجور بني أمية وأهدافهم الشريرة
للقضاء على الدين، وهيّأت الناس للعودة إلى الدين الحنيف،
فتصدّى سلام الله عليه لنشر العلم والمعارف على عدة محاور،
فتارة من خلال دروسه التي كان يلقيها في مسجد النبي (صلى
الله عليه وآله)، وأخرى عبر أدعيته المفعمة بالدروس
والحكمة والمعرفة، وثالثة بواسطة رسالته العظيمة التي
تعتبر بحق دستوراً في السياسة، ومنهاجاً عاماً في الأخلاق
الاجتماعية، فاق كل دساتير البشر وقوانينهم، وعرفهم بما
عليهم من حقوق ترتكز إلى أصول التربية والأخلاق ونظم
المجتمع، ويفتقر إليها البشر في علاقاتهم في شتى المجالات
وعلى جميع الصعد، وقد ذكر الإمام (عليه السلام) حتى حق
السلطان وحق الرعية وحق أهل الملة عامة وحق أهل الذمة
وغيرها مما يرتبط بأمور الدولة والحكم وتنظيم الحياة
الاجتماعية، وقد عبر (عليه السلام) بالسلطان لان سلطته
ليست بولاية إلهية بل بالغلبة والقهر، وقد بين الإمام حقه
كمتسلّط على الرعية وأن عليه واجبات اتجاه رعيته فعليه أن
يتذكر نعم الله وحوله وقوته الذي لا حول ولا قوة إلا به،
وأن لا يظلم العباد، كما أن على الرعية أن تعرف حدود
التعامل مع السلطان ولا يسوغ لها تجاوزها رعاية للمصالح
العامة ولإنجاح مهمته في حفظ البلاد، وعليها أن تحذر بطشه
وسطوته فلا تعاديه حتى لا يلجأ إلى العدوان والبطش إذا لم
يهدد كيان الإسلام وشعائره.
وقد بيّن أمير المؤمنين (عليه السلام) أن الله قد جعل هذه الحقوق متكافئة،
قال (عليه السلام) في خطبة له في صفين:
ثم جعل الله تعالى من حقوقه حقوقًا فرضها لبعض الناس على بعض فجعلها تتكافى
في وجوهها ويوجب بعضها بعضا ولا يستوجب بعضها إلا ببعض،
فالوالي إذا لم يعدل لم يستحق الطاعة، فأعظم مما افترض
الله تبارك وتعالى من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق
الرعية على الوالي فريضة فرضها الله عز وجل لكل على كل،
فجعلها نظام إلفتهم وعزًّا لدينهم وقوامًا لسنن الحق فيهم،
فليست تصلح الرعية إلا بصلاح الولاة ولا تصلح الولاة إلا
باستقامة الرعية، فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقه، وأدّى
إليها الوالي كذلك، عزّ الحق بينهم، فقامت مناهج الدين،
واعتدلت معالم العدل، وجرت على أذلالها()
السنن فَصَلُح بذلك الزمان وطاب به العيش وطمع في بقاء
الدولة ويئست مطامع الأعداء، وإذا غلبت الرعية واليهم وعلا
الوالي الرعية، اختلفت هنالك الكلمة وظهرت مطامع الجور
وكثر الإدغال في الدين()،
وتركت معالم السنن فعُمِل بالأهواء وعطلت الآثار وكثرت علل
النفوس، ولا يستوحش لجسيم حد عطل ولا لعظيم باطل أثل()،
فهنالك تذل الأبرار وتعزّ الأشرار وتخرب البلاد وتعظم
تبعات الله عز وجل عند العباد().
المقارنة بين رسالة الحقوق وإعلان حقوق البشر
بعد عدة محاولات تمّت الموافقة في الأمم المتحدة على الإعلان العالمي لحقوق
الإنسان في 10 كانون الثاني 1948م وذلك بعد انتهاء الحرب
العالمية الثانية، ووقّع على ذلك الإعلان ثمانية وأربعون
عضوًا، وامتنعت عن التصويت آنذاك الأقطار الشيوعية (روسيا،
روسيا البيضاء، أوكرانيا، تشيكوسلوفاكيا، يوغسلافيا
وبولندة بالإضافة إلى إفريقيا الجنوبية والسعودية) وهو
مؤلف من ديباجة وثلاثين حقًا ([38]).
ثم صدر سنة 1966م في 16 كانون الثاني اتفاقان دوليان يتعلق الأول بالحقوق
المدنية والسياسية وسمي بالعهد الدولي الخاص().
ورغم تأكيد هذا الإعلان العالمي على الحريات وحتى عندما نصّ في المادة
التاسعة والعشرين على (رعاية المقتضيات الأخلاقية في إطار
مجتمع ديمقراطي) أراد بالأخلاق حرّيات الآخرين لا المعاني
الأخلاقية الرفيعة، التي تقتضيها الفطرة والوجدان الإنساني
وما يرتبط بإنسانية الإنسان لأنهم نظروا إلى الإنسان وكأنه
موجود مادي بلا روح ولم يراعوا كونه مخلوقًا متميزًا عن
غيره من المخلوقات، فقد أغفل الإعلان العالمي الحقوق التي
يحتاجها الإنسان بطبيعته وفطرته لكي تساعده على تكامله
واستحكام علاقته بربه وخالقه جل وعلا وبأرحامه وإخوانه بل
وبسائر ما يحيط به، والتي نصّت عليها الرسالة كالجانب
العقائدي والحقوق المرتبطة بالله تعالى والحقوق الاجتماعية
ذات الصبغة الأخلاقية كحقوق الأرحام من الوالدين والحثّ
على برهما وشكرهما لما قاما به اتجاه أولادهم وحق الولد
على أهله وتحمل المسؤولية اتجاهه وتربيته ومساعدة الأخوة
ونصرتهم وتقديم النصح لهم وتوقير الكبير وإجلاله، وعدم
التقدم عليه ورحمة الصغير والرفق به وحق الجار وحفظه غائبا
وإكرامه حاضرًا ومعاشرته معاشرة كريمة والستر عليه وإكرام
الصاحب ومعاملته بالانصاف والتفضل وتعظيم المعلم وتوقيره
واحترام مجلسه والاستماع إليه والإقبال عليه وتأدية
النصيحة للمستنصح ورحمته والرفق به بل إن الإسلام اهتم
بالنصيحة حتى اعتبر الدين النصيحة ()
وضبط الجوارح من السمع والبصر واليد والرجل والبطن والفرج
والحفاظ عليها وتوجيهها بالاتجاه الصحيح وغيرها من الحقوق
التي لم ينصّ عليها الإعلان العالمي بل حتى المادة السادسة
عشره من الإعلان والتي نصّت على أن للرجل والمرأة حق
التزوج وتأسيس أسرة، وأنهما متساويان في الحقوق أغفلت
الجوانب المهمة من حقوق الزوجة من إكرامها والرفق بها
والتذكير بأن الله تعالى جعلها سكنًا للزوج وأُنسًا له،
وأن لها حق النفقة عليه إلى غيرها من الحقوق التي لم يعرها
الإعلان العالمي أية أهمية وحتى الإعلان الإسلامي لحقوق
الإنسان والذي أُقر بعد عدة مؤتمرات للخارجيّة: (فاس،
إسلام آباد، بغداد، نيامي ()،
دكّا، صنعاء، عمان، الرياض، طهران، القاهرة) وثلاثة
مؤتمرات للقمّة في (الطائف، الدار البيضاء، الكويت)
ومجموعة من جلسات الخبراء. وبعد إحالته على لجنة قانونية
إلى أن أعدت الصيغة النهائية في مؤتمر طهران من 28 ـ 30 /
جمادى الاُولى / 1410هـ الموافق 26 ـ 28 كانون الثاني
1989م والتي تمّت الموافقة عليها نهائيّاً في المؤتمر
التاسع عشر لوزراء الخارجيّة في القاهرة، ويتألف من خمس
وعشرين مادة ()
ورغم اهتمامه بالجانب العقائدي والديني والعبودية لله
تعالى كما في المادة الأولى وحقوق الأرحام على بعضهم كما
في المادة السابعة وحق الدعوة إلى الخير والنهي عن المنكر
وفقا لضوابط الشريعة الإسلامية كما في المادة الثانية
والعشرين وأن كل الحقوق والحريات المقررة في ذلك الإعلان
مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية كما في المادة الرابعة
والعشرين الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو
توضيح أي مادة من مواد الإعلان إلا أنه أهمل حقوق الجوارح
وحقوق الأفعال والعبادات وكثيرا من الحقوق الأخلاقية
والاجتماعية كحق المعلم والمتعلم وحق الكبير وحق الصغير
وحق الجار والجليس وحق الشريك وحق الغريم وحق المستنصح
والناصح وحق المستشير والمشير وحق السائل وحتى حق الخصم
وغيرها من الحقوق.
بينما رسالة الإمام (عليه السلام) -(وإن كان لا يصح مقارنة كلام وقوانين
البشر بالقوانين الإلهية الصادرة عن حجة الله على خلقه سيد
الساجدين)- والتي صدرت قبل مئات السنين في القرن الأول
الهجري بينت كل ما تحتاجه البشرية من حقوق، فلم تترك حقاً
من حقوق الله على عباده، أو حقوق العباد بعضهم على بعض
ببيان رائع ومنطق لا يقبل الرد وأسلوب جذاب وأفكار صالحة
لكل الناس منبثقة عن حاجات المجتمع الإنساني فكانت هذه
الرسالة العظيمة والفريدة والوثيقة العالمية تعتبر بحق من
عيون التراث الإسلامي، فعلى كل مسلم أن يهتم بها ويدرسها
بدقة وعناية لا أن يمر عليها بشكل عابر وأن يسير على نهجها
في كل زمان ومكان لينال العزة والكرامة وسعادة الدارين،
وينبغي أن تنشر في وسائل الإعلام ليطلع عليها البشر قاطبة
لينهلوا من معينها الذي لا ينضب وليعرفوا أن إسلام النبي
وآل بيته (عليهم السلام) ليس دينًا ومعتقدًا فقط بل هو دين
ودولة ونظام سياسي واجتماعي متكامل.
نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا للعمل بهذه الرسالة المباركة والحمد لله رب
العالمين.
تمت المقالة
()
وقيل في 12 محرم ، وغير ذلك : نفس المصدر: 46/ 156
.
()
المحاسن ، للبرقي : 1/156، تحقيق جلا ل الدين
الحسيني المحدث ، دار الكتب الإسلامية ، طهران .
|