السنة الخامسة / العدد الخامس عشر/ حزيران 2009 - جمادى الآخرة 1430هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الحرية الحقيقية

الشيخ أكرم جزيني

باختصار

الحرية الحقيقية تكمن في العبودية الحقيقية لله تعالى، تلك العبودية القائمة على الحب والرضا وعرفان الجميل، لا على القهر والإجبار والتسلط..

عبودية الله التي تحرر الإنسان من تلك الأصنام المنتشرة في طول الأرض وعرضها..

والتي تحرر الإنسان من سلطان المال والجشع والغطرسة..

وتحرره من سلطان الأهواء والشهوات والمطامع..

فكم من مملوك ينحني أمام ألف إله وإله من آلهة الأرض الخسيسة المزيفة، وهو يظن نفسه حرًا لأنه يرفض الانحناء أمام شريعة السماء ؟!

إن الحرية الحقيقية لا يمكن الحصول عليها إلا عند رفض كل تلك الآلهة المزيفة التي لا يمكن التخلص منها إلا بالعزيمة المستمدة من عبودية الله تعالى.

المدخل

من كلام لإمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول فيه: إن قومًا عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قومًا عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قومًا عبدوا الله شكرًا فتلك عبادة الأحرار([1]).

ثلاثة أصناف من عباد الله تشابهت مظاهر عباداتهم، واختلفت دوافعهم:

أما الصنف الأول: فقد نصب أمام عينيه صورة النعيم الذي أعده الله لعباده يوم القيامة، وعبد الله رغبة في الحصول عليه، فهو يقدِّم شيئًا ليقبض شيئًا آخر، وهذا المنطق هو منطق المعاوضة، ومنطق المعاوضة منطق تجاري، وعليه فعبادة هذا الصنف روحها التجارة، ولكنها تجارة مع الله تعالى.

وأما الصنف الثاني: فقد نصب أمام عينيه صورة الجحيم الذي أعده الله للعصاة من عباده، فعبد الله خوفًا من الدخول فيه، فهو يقدِّم شيئًا ليفتدي به من شيء آخر، همُّه الخلاص، وسمته الضعف والخوف، وروح عبادته ممزوجة بالخوف من العقاب.

وأما الصنف الثالث: فهو الذي كلما وقع نظره على شيء أو خطر على فكره شيء انطلق بفكره إلى عظيم قدرة الله وجزيل نِعَمِه، فلا يرى شيئًا إلا ويرى الله معه وقبله وبعده وفيه، قد شغله حبُّ الله عن حبِّ الجنة، وشغله رضى الله عن الخوف من النار، وصار كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم)([2]).

وتتميز هذه الأصناف عن بعضها بأن الأول يزداد رغبة في العبادة كلما اطَّلع على أجر يرغب فيه، والثاني يزداد رغبة كلما اطلع على عقاب يخشى منه، وأما الثالث فرغبته مستقرة في أوجها، يشعر دائمًا بالتقصير، كلما شكر الله بعبادة شعر بأن التوفيق لهذا الشكر يحتاج إلى شكر جديد، قلبه مع الله على الدوام، وروحه معلقة بقربه ووصاله، قد طرح جلباب البشرية وراء ظهره، فلا يرى عظيمًا إلا الله ومن كساه الله ثوب العظمة، فهو خير الثلاثة.. ولذا نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول في موضع آخر:  (ربِّ ما عبدتك خوفًا من نارك ولا طمعًا بجنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)([3]).

عبادة الله عبادة الحب والرضا

أن عبادة الله وطاعته ليست طاعة القهر والإجبار، بقدر ما هي طاعة الحب والرضا وعرفان الجميل للخالق البارئ المصوِّر المنعم المتفضل.. الذي خلق كل شيء وسخَّره لخدمة هذا الإنسان العاجز الضعيف،  {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ الإنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ}([4]).

كما أن عبادة الله لا تقوم على الجهل والغفلة، بل على العلم و المعرفة و التفكر و التدبر، فـ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآياتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}([5]).

وبالرغم من كل تلك الآيات التي تزيد على أنفاس الخلائق، وكل تلك النعم التي تفوق حد الإحصاء، تجد أصنافًا من الناس ابتليت بعمى البصيرة، فجحدت وأنكرت، وعطَّلت أفكارها، وأخمدت أصوات الفطرة التي تنادي بتوحيد الله تعالى، وصمَّت آذانها عن صوت الحق وهو يناديهم:  {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ * أَمَّنْ جَعَلَ الأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ}([6]).

ولكنهم كما يقول أمير المؤمنين (عليه السلام): لو فكروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة، والبصائر مدخولة، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر، وسوى له العظم والبشر ؟!([7]).

وبعد هذا نقول أإذا تحلل الإنسان من كل القيود والضغوط الداخلية والخارجية، وتوجَّه لشكر المنعم الذي جلَّت نعمه عن العدِّ و الإحصاء، وجسَّد ذلك الشكر بصور من العبودية، وبالطريقة التي شرَّعها الله من صلاة وصوم.. وغيرها.. فهل تكون تلك العبودية من مظاهر القهر والإجبار أم من مظاهر الحب وعرفان الجميل ؟!!

إن الذي نراه هو أن القهر والإجبار من سمات آلهة الأرض، وأن التحلل من عبودية تلك الآلهة، والتوجه إلى عبادة الخالق المنعم المتفضل يجسد في الحقيقة أروع أمثلة الحرية، كما سيبدو جليًا عند معرفة المعنى الحقيقي للحرية.

معنى الحرية

إن لفظ  (الحرية) لفظ مشترك يُطلق تارة على غير المملوك، وأخرى على غير المكره، وعليه فالمملوك ليس حرًا، والمكره أيضًا ليس حرًا .

الحرية بالمعنى الأول

أما الحرية بالمعنى الأول وهي المقابلة للمملوكية، فلا تتحقق إلا بالانعتاق من كل ما من شأنه التملك، والتملك ليس حكرًا على الأشخاص فحسب، فالأهواء تتملك، والمخاوف تتملك، والهواجس تتملك، والمال يتملك، والدنيا تتملك، والسلطة تتملك.. وغيرها من الأمور التي تسيطر على الأفكار و القلوب والرغبات.. كلُّها تتملك..

ملكية الأهواء والشهوات

أما ملكية الأهواء والشهوات فإنها لا تحتاج إلى مزيد من الشرح والإيضاح.. ينقل أنه: لمَّا دخل أبو مسلم الخراساني  (مرو)، قال لأهلها: هل في بلدكم حكيم ؟ قالوا: نعم، فلان المجوسي. فقال: عليَّ به، فقال له أبو مسلم: لمَ لقَّبت نفسك حكيمًا ؟ فقال: لأنَّ لي إلهًا، ولا أصبح يومًا إلاَّ وضعته تحت قدمي. فقال أبو مسلم: عليَّ بالسَّيف. فقال المجوسي: مهلاً أيُّها الأمير، ألستم تقرؤون في كتابكم:  {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ} ؟ قال: نعم. قال: فإنِّي أدوس الهوى تحت قدمي لئلاَّ يغلبني. فقال: ما قلت إلاَّ حقًّا([8]).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام):  (كم من عقل أسير تحت هوى أمير)، وعنه (عليه السلام):  (عبد الشهوة أذل من عبد الرق)، وعنه (عليه السلام):  (عبد الشهوة أسير لا ينفك أسره)([9]).

إذًا فالأهواء والشهوات تتملك كتملك الأشخاص وربما أشد، لأن الانعتاق منها قد يكون أصعب ! فكم من شهوة أسهرت صاحبها الليالي، وكم من شهوة رمته في الشوارع، وكم من شهوة كسته ثوب المذلة.. وكأنه عبد مأمور لسيد جائر.. بل كم من شهوة قتلت صاحبها ؟!

فهل من العقل بعد كل هذا أن يُقال أن العبودية لله فيها قهر وإجبار، وعبودية الأهواء والشهوات هي رمز الحرية ؟!!

ملكية المال

أما ملكية المال فإنه يُحكى أن ملكًا دعا زاهدًا إلى قصره وراح يحادثه، ويسأله عن حياته، والزاهد يجيب، فأُعجب الملك به، ورغب في صحبته، وقرر ترك حياة الترف التي تخيم على قصور الحكام، والانطلاق مع ذلك الزاهد، وبعدما انطلقا وقطعا مسافة بعيدة عن القصر، تذكَّر الزاهد عصاه التي نسيها في قصر الملك، فأصر على العودة للإتيان بها، وحاول الملك إقناعه باستصلاح غيرها من أي مكان آخر، فلم يقبل الزاهد، فعادا أدراجهما، وهنا رجع الملك عن قراره، وعزف عن رفقة الزاهد قائلاً، أنت لست أهلاً للصحبة، فقد تركتُ مملكة لأصحبك في زهدك، ورفضتَ أنت أن تتخلى عن عصا؟!.

ومن الحِكَم القيِّمة:  (ليس الزهد أن لا تملك شيئًا ولكن الزهد أن لا يملكك شيء)([10]).

إذًا فالمال أيضًا قد يملك صاحبه.. فكم من إنسان أقلقته أمواله خوفًا عليها من التلف أو السرقة، وكم من إنسان فرض عليه ماله لباسًا معينًا ومسكنًا معينًا وسلوكًا معينًا، وكم من إنسان تحكَّم به ماله، فزرع فيه الغرور، وأخرجه من الواقع إلى الخيال، بل كم من إنسان كان إنسانًا عندما كان فقيرًا فلما اغتنى صار طاغوتًا تسيِّره الأموال شمالاً ويمينًا ؟! وكم.. وكم..

ولكن.. هذا لا يعني أنه ليس هناك أناس استطاعوا أن يكتسبوا جنان الخلد بأموالهم التي يملكونها لا التي تملكهم. ولذا نجد الإمام الحسين (عليه السلام) يقول: مالك إن لم يكن لك كنت له، فلا تبقِ عليه فإنه لا يبقي عليك، وكُلْهُ قبل أن يأكلك([11]).

وهنا نسأل أيضًا هل من العقل أن يُقال أن العبودية لله والتحلي بمكارم الأخلاق فيها قهر وإجبار، أما عبودية المال وما يرافقها من قلق أو غرور أو طغيان هي من مظاهر الحرية ؟!!

ملكية المخاوف

أما ملكية المخاوف فتظهر في سلوك الخائف حيث يُصبح مشلول الفكر، يتصرف بشكل لا إرادي، وكأن شيئًا آخر بدأ يحرِّكه، يُنقل أن عمرو بن العاص دخل على معاوية ضمن مجموعة من أنصاره وكان يريد أن يحط من قيمة معاوية فقال لهم: لا تبالغوا في احترام معاوية، فإذا دخلتم عليه فلا تسلِّموا عليه بإمرة المؤمنين بل قولوا: السلام عليك يا معاوية.

وفي المقابل كان معاوية يقول لأصحابه: هذا عمرو بن العاص قد جاء بقومه، وأظنه يحقرني عند أصحابه، فلنعمل شيئًا نفشل خطته، وكانت الخطة تقضي بأن يقف عشرون رجلاً على الباب وعندما يدخل أصحاب عمرو بن العاص يأخذون كل واحد منهم يهزئونه ويرهبونه.

فدخل الأول وهو محمَّل بوصية عمرو بن العاص ومرَّ بعملية الترهيب، وانتهى إلى حالة الهلع والخوف، فلما رأى معاوية وهو مشلول التفكير، فبدلاً من أن يقول له  (السلام عليك يا معاوية) كما هي وصية عمرو بن العاص، وبدلاً من أن يقول له:  (السلام عليك يا أمير المؤمنين) كما يقتضي البروتوكول الأموي، قال له:  (السلام عليك يا رسول الله)([12]).

وهنا أيضًا نسأل هل الخائف المشلول الفكر نتيجة الإرهاب الذي يمارسه بعض من يرون أنفسهم أحرارًا فيما يفعلون يكون حرًا، والعابد لله المغمور برحمته يكون مقهورًا ومرغمًا ؟!

ملكية السلطة

وأما ملكية السلطة فإنها تفرض على مملوكها سلوكًا عنيفًا يندفع من خلاله لفعل أي شيء في سبيل الحفاظ عليها، وفي هذا السياق يُنقل أنه عندما خرج الإمام الكاظم (عليه السلام) من مجلس هارون العباسي الذي عقده في مدينة النبي (صلى الله عليه وآله) وكان المأمون حاضرًا وقد شاهد كل مظاهر المبالغة في الحفاوة والإجلال والإعظام التي كان يقدمها هارون للإمام (عليه السلام)، تقدم المأمون من أبيه وسأله قائلاً: يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته، وأجللته، وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له ؟!

فقال هارون: هذا إمام الناس وحجته على خلقه وخليفته على عباده.

فقال المأمون: يا أمير المؤمنين أو ليست هذه الصفات كلها لك وفيك ؟!

فقال هارون: أنا إمام الجماعة في الظاهر بالغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنه لأحق بمقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) منِّي ومن الخلق جميعًا، ووالله لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك ([13]) فإن الملك عقيم ([14]).

وهنا نسأل أيضًا: من هو الحر؟ الإمام الكاظم (عليه السلام) المجلل بالهيبة والعظمة التي انحنى أمامها هارون، أم أن الحر هو هارون المطوق بشهوة الملك والسلطة التي قد تدفعه لقتل ابنه إذا نازعه ؟!

ملكية الطمع

أما ملكية المطامع فقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: لا يسترقَّنَّك الطمع وقد جعلك الله حرًّا، وقال (عليه السلام): عبد المطامع مسترقٌّ لا يجد أبدًا العتق([15]).

فكم هو الفرق واضح بين عمر بن سعد الطامع بملك الرَّي، المردد:

 

أأترك ملك الرَّي والرَّيُّ مُنيتي
 

أم أصبح مأثومًا بقتل حسين
 

 وبين الحر الرياحي الراغب في جنة الله تعالى، القائل إني والله أخيِّر نفسي بين الجنة والنار ووالله لا أختار على الجنة شيئًا ولو قُطِّعت وحُرِّقت ؟؟

ثم أي منهما هو الحر الحقيقي أذاك الذي خاطبه الحسين (عليه السلام) هو وجيشَه قائلاً: ويلكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحرارًا في دنياكم ، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عربًا كما تزعمون. أم هذا الذي وضع الحسين (عليه السلام) خده على خده وخاطبه قائلاً: والله ما أخطأت أمك إذ سمَّتك حرًا، أنت حرٌّ في الدنيا وسعيد في الآخرة ؟!

لقد تنكر الحرُّ الرياحي لعبادة أصنام الأرض يزيد وابن زياد، ورغب بما عند الله الواحد الأحد، فيما جثا ابن سعد أمام تلك الأصنام الخاوية، وانحنى أمام مطامعه الخسيسة !!

ملكية أصحاب النفوذ

وأما ملكية أصحاب النفوذ فتعرفها من سلوكيات المرابطين على أبوابهم، فكم من شخص يدَّعي الحرية، وهو يرابط ليل نهار على أعتاب سلطان هنا أو زعيم هناك، طمعًا بشيء من فتات الدنيا.. فيطرق أبواب المخلوقين وينسى باب الخالق.. ويؤثر حياة الذل تحت النعال، ويخلع ثوب العزّ الذي أعدَّه الله لأوليائه !! ولست أدري ألأجل القناعة أم النفع يندفع هذا الإنسان ليبيع دنياه و آخرته بدنيا غيره ؟! وينسى الخالق الذي كرَّمه وأحسن صورته، قال تعالى:  {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ}([16])، وقال تعالى:  {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}([17])، وقال تعالى:  {لَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} ([18])، وقال تعالى:  {يَا أَيُّهَا الأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}([19]).

ثم إن كان هذا المرابط عند أبواب السلاطين يبحث عن العزَّة  {فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} ([20])، وإن كان يبحث عن الملك فـ {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ([21])، وإن كان يبحث عن الهيبة، فإن من خاف الله أخاف الله منه كل شيء، وإن كان يبحث عن الكرامة، فـ{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ([22])، وإن كان يبحث عن الرزق فـ {فِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ}([23])، وإن كان يبحث عن النصير فـ {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}([24]).

أو ليست كل هذه الأصناف مستعبدة، حتى ولو كانت تتبجح بالحرية ؟!!

الحرية بالمعنى الثاني

وأما الحرية بالمعنى الثاني وهي المقابلة للإكراه، فيجدها كل إنسان من نفسه عندما يتصرف باختياره وملء إرادته، وهي الحرية الشاملة لكل من حرية الفكر، وحرية الرأي، وحرية التعبير، وحرية الانتماء، بل وحتى حرية العقيدة، قال تعالى:  {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} ([25]).

فموقف الشارع من الناس أنه:  {يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ([26])، ويستعمل معهم أسلوب اللِّين، فقد أمر الله نبيَّه موسى (عليه السلام) أن يذهب هو وأخوه هارون إلى فرعون ويخاطباه بأسلوب ليِّن:  {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى}([27]).

وقد عاتب الله تعالى نبيه إبراهيمَ (عليه السلام) عندما أراه ملكوت السماوات والأرض، وأشرف إبراهيم (عليه السلام) على بعض العصاة، فدعا عليهم فهلكوا، وتكرر منه ذلك الدعاء فقال له الباري جلّ وعلا كما جاء في الحديث القدسي:  (يا إبراهيم، اكفف دعوتك عن عبيدي وإمائي، فإنِّي أنا الله الغفور الرحيم، الجبار الحليم، لا تضرني ذنوب عبادي، كما لا تنفعني طاعتهم، ولست أسوسهم بشفاء الغيظ كسياستك، فاكفف دعوتك عن عبيدي وإمائي، فإنَّما أنت عبد نذير لا شريك في المملكة، ولا مهيمن عليَّ ولا على عبادي... يا إبراهيم خلِّ بيني وبين عبادي فأنا أرحم بهم منك، خلِّ بيني وبين عبادي، فإني أنا الجبار الحليم، العلام الحكيم، أدبرهم بعلمي، وأنفذ فيهم قضائي وقدري) ([28]).

فهل بعد كل هذا ما يُعدُّ قهرًا وإجبارًا في عبودية الله تعالى ؟! وهو الذي قرَّر بأن الأصل في الأشياء الإباحة والحلية، وجعل دائرة الحلال التي يمرح فيها الإنسان رحبة الأكناف، وقد قال تعالى:  {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا}([29]).

نعم إن المحرمات التي حذَّر الشارع من مواقعتها هي عبارة عن طائفة محصورة من الأعمال الرديئة، والتي هي في حقيقتها ليست قيودًا للحرية بقدر ما هي سياج لحريات الآخرين، أو إرشاد للإنسان حتى لا يستعمل حريته في إيذاء نفسه.

فالتكاليف الشرعية التي حصرها أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوله:  (إن الله افترض عليكم فرائض فلا تضيِّعوها، وحدَّ لكم حدودًا فلا تعتدوها، ونهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها..) ([30])، ما شُرِّعت إلا للحفاظ على عناوين الحرية التي يحق لغيرك أن يتمتع بها كما يحق لك أن تتمتع بها، فعندما تتجاوز حدودك بدعوى حريتك، وتتعدى على حدود غيرك، فإن الشريعة تضع لك حدًا للحفاظ على حرية غيرك... كما تضع لك حدًا في تصرفاتك مع نفسك، فلا يحق لك أن تجلب لها الضرر بدعوى الحرية، فلا ضرر ولا ضرار في الإسلام، كما لا يحق لك أن تُذل نفسك وتهينها، ففي الحديث عن الإمام الصادق (عليه السلام): إن الله عز وجل فوَّض إلى المؤمن أموره كلها، ولم يفوِّض إليه أن يُذلَّ نفسه، أما تسمع لقول الله عز وجل:  {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}([31]).

ولا بد هنا من وقفة تأمل مع بعض الأحكام الشرعية، وما ذُكر في وجوه تشريعها، والتي نستعرضها على سبيل المثال لا الحصر:

1- وجوب الصلاة: فقد ذُكر في وجه تشريعها أنها:  (تنزيه من الكبر)  (تنهى عن الفحشاء والمنكر)  (حصن من سطوات الشيطان)  (تنزل الرحمة).. وعند ترجمة هذه العناوين تجدها تصب في خانة التسييج لحرية الآخرين ودفع الأذية المادية أو المعنوية عن النفس، وتحصينها، وجلب المنافع لها.

2- حرمة شرب الخمر: الذي يضر بسمو النفس ومقامها، وأحيانًا كثيرة يتعدى شارب الخمر حدود النفس ليضر بالآخرين، فقد يضرب، وقد يقتل دون وعي، وقد يردي نفسه من مكان خطر وما إلى هنالك، فشُرِّع التحريم تحصينًا للنفس وحفاظًا على حرية الآخرين.

3- حرمة السفور والتبرج: قال تعالى:  {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ}([32]) الأذية هي العنوان البارز في الآية المباركة، والجلباب هو الحائل الذي يحول دون تعرض النساء والفتيات للأذية الجسدية أو المعنوية، خاصة في المجتمعات التي تفشَّت فيها الرذائل والتي لا تسلم فيها المرأة من الأذية بنظرة أو بكلمة نابية أو بتحرش أو باعتداء.

كما أن الجلباب هو حرز للمرأة يحول دون استغلال الشيطان لها في الإغواء والإضلال، حيث أنها الوسيلة الأبرز من بين الوسائل التي يستغلُّها، فها هو يتبجح ويقول:  (النساء هنَّ حبالتي ومصائدي وسهمي الذي لا أخطيء به، وبهن أوقع في المهالك، ولولاهن ما قدرت على إضلال أدنى آدمي فهنَّ رجائي وعصمتي وسندي وثقتي وغوثي)([33]).

فشرّع الحجاب صيانة للنفس من الأذية ومن استغلال الشيطان، وللحؤول دون إيقاع الآخرين في مصائد الشيطان المتربص.

ختام

إن الحرية الحقيقية لا يجدها الإنسان إلا في العبودية الحقيقية لله تعالى التي تحطِّم كل قيود العبوديات المزيفة، كعبودية الأصنام والأشخاص والأموال والسلطات والأهواء والشهوات والمخاوف..

وبالجملة يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابنه الإمام الحسن (عليه السلام):.. وإياك أن تغتر بما ترى من إخلاد أهل الدنيا إليها([34])، وتكالبهم عليها، فقد نبَّأك الله عنها، ونعت لك نفسها، وتكشفت لك عن مساويها، فإنما أهلها كلاب عاوية، وسباع ضارية([35])، يهر بعضها على بعض([36])، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها..

سلكت بهم الدنيا طريق العمى، وأخذت بأبصارهم عن منار الهدى، فتاهوا في حيرتها، وغرقوا في نعمتها، واتخذوها ربًا فلعبت بهم ولعبوا بها ونسوا ما وراءها، ورويدًا يسفر الظلام..

إلى أن يقول (عليه السلام): وأكرم نفسك عن كل دنية وإن ساقتك إلى الرغائب، فإنك لن تعتاض بما تبذل من نفسك عوضًا، ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرًا..([37]).

وفي وصيَّة من إمامنا الصادق (عليه السلام) لسفيان الثوري: يا سفيان من أراد عزًّا بلا عشيرة، وغنى بلا مال، وهيبة بلا سلطان، فلينتقل من ذلِّ معصية الله إلى عزِّ طاعته([38]).

تمت المقالة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) نهج البلاغة باب المختار رقم 239.

([2]) نهج البلاغة خطبة المتقين.

([3]) بحار الأنوار ج67 ص 186.

([4]) سورة إبراهيم آية 32 34.

([5]) سورة آل عمران آية 190 191.

([6]) سورة النمل آية 60 63.

([7]) نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده ج 2 ص 116. ط1 ، 1412هـ ، قم .

([8]) المستطرف في كل فن مستظرف.

([9]) الأحاديث الثلاثة من ميزان الحكمة ج4 ص 3479.

([10]) ميزان الحكمة ج4 ص 2990.

([11]) ميزان الحكمة ج4 ص 2990.

([12]) طرائف الحكم للمدرسي.

([13]) يقصد أنه لو نازعه السلطة لقطع رأسه.

([14]) الاحتجاج ج2 ص 166.

([15]) ميزان الحكم : 1/582 ؛ عيون المواعظ ، الواسطي ، ص340 ، ط1 ، دار الحديث .

([16]) سورة الإسراء من الآية 70.

([17]) سورة غافر من الآية 64.

([18]) سورة التين آية 4.

([19]) سورة الانفطار آية 6-8.

([20]) سورة النساء من الآية 139.

([21]) سورة المائدة من الآية 120.

([22]) سورة الحجرات من الآية 13.

([23]) سورة الذاريات من الآية 22.

([24]) سورة البقرة من الآية 107.

([25]) سورة البقرة آية 256.

([26]) سورة الأعراف آية 157.

([27]) سورة طه آية 44.

([28]) الاحتجاج ج1 ص 36.

([29]) سورة البقرة من الآية 29.

([30]) وسائل الشيعة ج11 ص 206.

([31]) وسائل الشيعة ج11 ص 424، والمقطع القرآني من سورة المنافقون من الأية 8.

([32]) سورة الأحزاب من الآية 59.

([33]) بحار الأنوار ج60 ص 229 من حديث طويل يتحدث عن حوار بين النبي يحيى (عليه السلام) وإبليس (لع).

([34]) أي سكونهم إليها.

([35]) همها الافتراس.

([36]) أي يعوي وينبح.

([37]) نهج البلاغة ، وصية الإمام علي (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن (عليه السلام).

([38]) الخصال للصدوق ص 169.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس عشر