السنة الخامسة / العدد الخامس عشر/ حزيران 2009 - جمادى الآخرة 1430هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

المرأة المسلمة والمشاركة السياسية

د. طلال عتريسي

 

أشارت الكثير من تقارير المؤسسات ومراكز الدراسات الإقليمية والدولية التي ازدادت وتيرةَ صدورها في السنوات القليلة الماضية، إلى واقع المرأة السيئ في البلدان الإسلامية. وقد استندت تلك التقارير إلى الأمية المتفشية في أوساط النساء تارة، وطورًا إلى القوانين التي لا تُنصف المرأة ولا تساويها بالرجل في المجالات كافة. وربطت بعض الندوات والمؤتمرات التي عُقدت حول هذه القضية بين التنمية الشاملة وبين مشاركة المرأة السياسية وغير السياسية.

فيَعْتبر على سبيل المثال أحد تقارير التنمية الإنسانية العربية الذي صدر عام 2002 : "أن التنمية التي لا تشارك فيها المرأة هي تنمية معرضة للخطر" .

وإذا كانت هذه الفرضية صحيحة من حيث المبدأ، فإن ما يحتاج إلى نقاش في هذا المجال الذي اخترنا البحث فيه هو البعد السياسي لمشاركة المرأة بما هو جزء أساسي من العملية التنموية الشاملة.

فالدراسات والتقارير ذات الصلة بهذه القضية تستند غالبًا إلى الإحصاءات التي تتحدث عن نقص أعداد النساء في المجالس والهيئات السياسية المنتخبة، وفي الوزارات والبرلمانات وسواها من مؤسسات تشريعية أو تنفيذية أو نقابية، للدلالة على غياب مشاركة المرأة السياسية أو على نقص تلك المشاركة. وغالبًا ما تعود تلك الدراسات إلى المقارنة بين واقع المرأة في البلدان الإسلامية، خاصة على مستوى المشاركة السياسية، وبين واقعها في بلدان أخرى آسيوية أو إفريقية أو أوروبية .. لتسجل بذلك الضعف أو التراجع في مشاركة المرأة في البلدان الإسلامية في الحياة السياسية.

وإذا كانت بعض القوانين لا تزال مجحفة بحق المرأة في أكثر من بلد من البلدان العربية أو الإسلامية لجهة السماح لها بالمشاركة في الاقتراع أو بالترشّح إلى المناصب السياسية المختلفة، وهذا ينسجم مع النقد الذي يوجه إلى واقع المرأة المسلمة، إلا أن بلدانًا أخرى بالمقابل أعطت منذ عقود طويلة المرأة حق المشاركة السياسية بمستوياتها المختلفة.

وقد سمح هذا الحق للمرأة بإيصال بعض النساء إلى مواقع القرار ولكن من دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير فعلي أو جذري في سياسات الدول أو الحكومات في البلدان التي سمحت للمرأة بتلك المشاركة. وهذا يعني أن هناك فروقات واضحة بين دولة وأخرى، في قوانينها وسياساتها تجاه المرأة.                                                                 

إلا أن ما لا تلتفت اليه التقارير والمؤتمرات الدولية التي تقيس مشاركة المرأة السياسية بأعداد النساء في هذا المجلس أو ذاك أن هناك أنواعًا أخرى من المشاركة السياسية المباشرة والمهمة، والتي لا يمكن رصدها بالجداول والإحصاءات، تقوم بها المرأة وتعتبر ركنًا مهمًا من أركان التنمية الشاملة التي تهدف المجتمعات إلى تحقيقها بالسبل كافة.

ولنأخذ بدايةً بعض المُسلَّمات "الدولية" التي تشير الى عدم الاستفادة من قدرات المرأة في البلدان العربية والإسلامية، والى عدم المساواة في المواطنة أو في الحقوق القانونية ... الناتجة عن المواقف والمعايير الاجتماعية المتحيزة ضد المرأة والتي تمنعها من التعلم ومن تحسين بناء قدراتها.

وتعتبر تلك المسلَّمات أن تزايد معدلات القراءة والكتابة عند النساء غير كاف إذ لا بد من تعديل تلك المعايير المتحيزة ضد المرأة، حتى تتم الاستفادة من قدراتها (في البلدان العربية والإسلامية) لأن مشاركتها السياسية والاقتصادية هي الأدنى في العالم.

ولكن هل يصح هذا المقياس في ضعف المشاركة الاقتصادية والسياسية على واقع المرأة عمومًا في البلدان العربية والإسلامية؟                                                     

وإذا كان من الصعب الحديث عن تجارب الدول الإسلامية المختلفة في هذا المجال وعن التحولات الاجتماعية والقانونية التي تحصل في تلك الدول باتجاه تعزيز تلك المشاركة. فإن السؤال الذي يُطرح هو إلى أي مدى ينطبق مفهوم المشاركة السياسية (على مستوى أعداد النساء) في  هذا الموقع أو ذاك على البلدان الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال؟

فهل يمكن على سبيل المثال أن نعتبر أن مشاركة المرأة الفلسطينية السياسية تقتصر على أعداد النساء في المجلس التشريعي أو في مجلس الوزراء، وهنّ قلة في هذين المجلسين؟

أم أن الواقع يفترض النظر إلى المسألة من زاوية أخرى تتجاوز هذا النوع من المجالس إلى ما تفعله المرأة يوميًا في مواجهة الاحتلال؟

فمن وجهة نظرنا نعتبر أن المرأة التي تصبر على فقدان الابن أو اعتقال الزوج، أو تصبر على الحصار، وتعيش التهديد بالقتل، والتهجير، هي امرأة تقوم بالمشاركة السياسية في أعلى مستوياتها. وهذا النوع من المشاركة تنخرط فيه عشرات الآلاف من النساء (في فلسطين ولبنان والعراق..)، وليس بضعة أفراد كما هو الحال في شروط المشاركة "الدولية" التي تحتسب الأرقام والإحصاءات والأعداد.. كما نعتبر أن الأم التي تصبر على تربية ابنها أو حفيدها، بسبب وجود والده في الأسر هي أمّ تشارك في العملية السياسية بشكل مباشر، حتى ولو لم تخرج من منزلها، ونحن نعرف أن صمود المرأة (الأم والزوجة والأخت والابنة..) هو أهم باعث لإرادة التحدي في مواجهة أي احتلال.

المشاركة السياسية إذًا ليست نموذجًا واحدًا يمكن تطبيقه وتعميمه على النساء كافة، بحيث يقال بأنها ضعيفة هنا ومرتفعة هناك وفقًا لبعض الأرقام التي لا تعبِّر عن حقيقة المشاركة الفعلية للمرأة في العملية السياسية.

والمشكلة في هذا المجال أيضًا أن الكثير من المنظمات النسائية العربية والإسلامية تذهب من حيث تدري أو لا تدري إلى تبنّي مفهوم "المشاركة بالأرقام" ذاته الذي تعمل المنظمات الدولية على هديه بدلاً من مفهوم المشاركة الشاملة الذي أشرنا إليه.

- إن معظم ما تدور حوله المؤتمرات المختلفة بشأن المرأة تشير باستمرار إلى قضايا المساواة وإلى ضرورة تغيير القوانين، لكي تحصل المرأة على حريتها الفردية، وتمنع العنف الذي تتعرض له.. إلا أن دور المرأة في القضية الوطنية يكاد يغيب تمامًا عن البحث في واقع المرأة الذي تنتقده التقارير الدولية، وهذا الدور يبرز غالبًا كما سبق وأشرنا إبان الإحتلال. وليس المقصود بذلك فقط أن تقاتل المرأة إلى جانب الرجل أو أن تلتحق بركب الاستشهاديين كما حصل في فلسطين، بل المقصود أن معيار التقييم سيختلف لتحديد مضمون مشاركة المرأة هل هي سياسية أم غير سياسية.

ومن وجهة نظرنا أيضًا أن تربية المرأة لأبنائها على الارتباط بتلك القضية الوطنية، وعلى الانتماء إلى هويتهم ودينهم وثقافتهم.. هو عين المشاركة السياسية وجوهر المشاركة في التنمية الشاملة التي يتحدث عنها الكثيرون.                                                              

- تدعو بعض الهيئات والمنظمات النسائية وغير النسائية بما فيها بعض الهيئات الدولية إلى اعتماد ما يسمى بنظام "الكوتا". أي تخصيص حصة للمرأة في هذا المجلس أو ذاك من المجالس النيابية أو الوزارية أو البلدية... وفي هذه الدعوة اعتراف ضمني بأن المرأة عاجزة عن الوصول إلى تلك المقاعد بإرادتها الحرة والمباشرة، وبأن علينا أن نحفظ لها تلك المقاعد حتى لا يستولي الآخرون عليها، علمًا بأن منطق "الكوتا" نفسه ينطلق من فكرة المساواة بين الرجل والمرأة.

والسؤال الآخر الذي يُطرح في هذا المجال أيضًا، هو لماذا هذه "الكوتا"؟ وهل المطلوب هو التغيير السياسي الذي تشكو منه مجتمعاتنا الإسلامية والعربية أم المطلوب هو مشاركة المرأة فقط من دون أي اعتبار لوظيفة هذه المشاركة في ذلك التغيير المرتقب ؟

إن ما يدعو إليه أنصار "الكوتا" هو تغيير واقع المرأة (من خلال تغيير واقع بعض النخب النسائية) في حين أن واقع المجتمع الذي تعيش فيه المرأة والرجل معًا تحت الظلم أو الاستبداد أو الفقر أو الاحتلال... لا تعيره الكوتا أي اهتمام، ولا تمت إليه بأي صلة. إذ ما هي الفائدة على سبيل المثال من تحديد حصة للنساء في هذا المجلس أو ذاك إذا كان البلد كله تحت الاحتلال؟ وما هي قيمة هذه الكوتا إذا كان النظام السياسي مستبدًا أو تابعًا؟ وهل سيساهم وجود بضعة من النساء في المواقع العليا في تغيير واقع المرأة السيئ تعليميًا واجتماعيًا وقانونيًا؟ وهل هذا ما حصل في التجارب المختلفة عبر العالم؟

إن الجوانب السيئة في واقع المرأة في البلدان العربية والإسلامية لن تتغير بمجرد "كوتا" تُخصص لبعض الفئات من النساء. فهذه الجوانب مصدرها غالبًا إما الأفكار وإما القوانين، ولا شك أن تأثير الأولى أقوى وأشد، لأنها تتضمن القيم والمفاهيم والثقافة والأبعاد الدينية التي تحاول التعبير عن نفسها من خلال القوانين.

ولهذا السبب يحصل الانقسام في كثير من الأحيان حول القوانين ذات الصلة بالقضايا الفكرية أو الاجتماعية، مثل القانون الذي يجيز حق المرأة في الاقتراع أو الترشيح أو القانون الذي يبيح "كل أشكال الأسرة" الذي بات واسع الانتشار في الغرب وترفضه بشدة الدول العربية والإسلامية، بسبب الخلفية الدينية التي تحرم أشكال الأسرة غير التقليدية مثل الأسر المثلية التي يتضمنها قانون "كل أشكال الأسرة".

- إنّ ما نحاول أن نخلص إليه هو التأكيد على وجود فروقات في أوضاع المرأة وحقوقها بين الدول الإسلامية، فهي مقبولة ومتقدمة في مكان وسيئة ومجحفة في مكان آخر. ولا يمكن اعتبار واقع المرأة واحدًا وموحدًا على امتداد العالم الإسلامي.                                      

- إنّ تغيير واقع المرأة لا يمكن أن يستند إلى أولويات ثابتة أو مقررة في أروقة الأمم المتحدة أو في غرف المؤتمرات الدولية والإقليمية، بل إلى الواقع الفعلي الذي تعيشه في هذا البلد أو ذاك، إذ قد يكون القضاء على الأمية هو الأولوية المطلوبة في مكان، والالتحاق بالتعليم العالي هو أولوية أخرى في مكان آخر، وإيجاد فرص عمل، أو تغيير القوانين، أو حق الترشح والاقتراع.. في أمكنة ومجتمعات أخرى، أي أن قضية المرأة ليست واحدة وإنما مختلفة ومتفاوتة.

- لا تنفصل قضية المرأة عن قضية المجتمع عمومًا، إذ يصعب القبول بفكرة تقدم المرأة (على مستوى القوانين أو المواقع السياسية والإدارية) واستمرار جمود المجتمع، لأن المرأة ليست قضية خاصة، فهي جزء من التحولات التي يمر بها المجتمع ومن الأطوار التي ينتقل اليها، ويصيبها ما يصيبه من التقدم والتأخر، ولهذا إن فرضية تغيير واقع المرأة لتغيير واقع المجتمع هي فرضية غير دقيقة، لأن المجتمع الذي يتقدم هو الذي  يتخلص مع تقدمه من كل أشكال التخلف أو الجمود سواء تجاه المرأة  أو  تجاه الأسرة، أو التعليم أو البحث العلمي، أو التنمية أو غير ذلك مما يؤشر إلى مستويات التقدم والتخلف.

- إنّ مشاركة المرأة السياسية لا يفترض أن تعني مشاركة بعض النساء في المواقع السياسية والإدارية، لأن مشاركة المرأة السياسية والاجتماعية هي ما تقوم به مئات الملايين من النساء في حياتهن اليومية، وأن اختصار المشاركة السياسية للمرأة على أعداد محددة يتم اختيارها وفقًا لـ"كوتا" معينة، هو ظلم بحق ما تبذله المرأة في مجالات الحياة الأخرى التي لا تقل أهمية على الإطلاق عن تلك المواقع التي يراد لها أن تصل إليها.

- إنّ رفع وعي المرأة السياسي هو أهم بكثير من اختيار بعض النساء للمشاركة في بعض المواقع السياسية، لأن هذا الوعي هو الذي يعطي تلك المشاركة مضمونها الحقيقي. وهذا يعني أن السماح للمرأة بالانخراط في الهيئات والمنظمات ذات الطابع السياسي والاجتماعي وبالمشاركة في الاقتراع وبالاهتمام بالقضايا الوطنية هو الذي ينقل المرأة من واقع التهميش إلى واقع المشاركة، ومن واقع الانغلاق إلى الانفتاح على كل قضايا مجتمعها والمجتمعات الأخرى والعالم.

وعندئذ تحقق مشاركة المرأة أهدافها المرجّوة والمتوقعة في المجالات كافة.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس عشر