مقدمة
في هذا
العنوان نحاول أن نبحث عن الوجه الذي لأجله استقبح العرف
-بما هو عاقل مميز- العقوق، وكذا أن نلامس الوجه الذي
لأجله حرّمه الشارع المقدس ضرورة أن العقل مهما بلغ من
الصفاء والتمييز عاجز عن الإحاطة بتمام ملاكات الأحكام،
وينبغي لفت النظر قبل الغوص في هذه النقطة إلى مسألة الحسن
والقبح، ولو على نحو الإيجاز، فنقول :
ذكروا للحسن
والقبح معانٍ ثلاثة ()،
ثالثها وهو ما يراد بهما حين إطلاقهما المدح والذم، وتوصف
الأفعال الاختيارية بهما، وقع فيه النزاع بين العدلية
والأشاعرة في أن العقل هو الحاكم في حسن الأفعال وقبحها،
أو هو الشرع، فقالت العدلية بالأول، وقالت الأشاعرة
بالثاني، وقد قدم كل من الفريقين أدلته وحقق في محله فساد
رأي الأشاعرة وأدلتهم، لاستلزامها لكثير من المحاذير.
وما نريد
قوله وهو ما ثبت في محله أن هناك أفعالاً يستقل العقل
بحسنها وقبحها، ويقضي بهما من دون أن يستعين بالشرع ويرى
حسنها وقبحها مطردًا في جميع الفاعلين، وملاك قضائه في ذلك
ملاءمة الفعل أو منافرته للشخصية العُلوية المثالية التي
خلق الإنسان عليها().
هذا وقد قسم
القائلون بالحسن والقبح العقليين الأفعال من حيث الاتصاف
بهما إلى ثلاثة أقسام :
الأول : ما
يكون الفعل بنفسه علة تامة للحسن والقبح، وهذا ما يسمى
بالحسن والقبح الذاتيين مثل العدل والظلم، فذات العدل وذات
الظلم يكون علة تامة للحسن والقبح، فمتى ما كان العدل كان
حسنًا، ومتى ما كان الظلم كان قبيحًا.
الثاني : ما
لا يكون الفعل علة تامة، وإنما يكون مقتضيًا للاتصاف
بأحدهما لولا المانع من ذلك، فالكذب لو خلي ونفسه كان
قبيحًا لولا المانع من ذلك وهو دفع ظلم الظالم عن المؤمن
مثلاً.
الثالث: ما
لا يكون علة تامة ولا مقتضيًا في نفسه للاتصاف بأحدهما
وإنما يختلف باختلاف الجهات والعناوين الطارئة عليه، كضرب
اليتيم فإنه حسن للتأديب وقبيح للإيذاء.
ثم إنه بعد
هذا العرض نسأل ما يلي :
1 - هل إن العرف بما هو عاقل مميز يستقبح العقوق أو لا؟
2 - إن قلنا بأن العقوق قبيح فمن أي الأقسام الثلاثة هو ؟
وقبل الإجابة
عن السؤال الأول لا بد من لفت النظر إلى سؤال آخر مستبطن
فيه وهو أن العقلاء حينما يحكمون فما هو ملاك حكمهم، أي
أنه لا بد من وجود ضابطة إليها يكون مآل الأمر في حكمهم.
هذا وقد
ألمحنا فيما تقدم إلى أن هذه الضابطة هي العقل الذي يستطيع
أن يحسّن بعض الأفعال ويقبّحها من دون أن يستعين بشيء
ويكون حكمه عليها مطردًا في جميع الفاعلين، وملاك قضائه
ملاءمة الفعل أو منافرته للشخصية العلوية المثالية التي
خلق الإنسان عليها.
وبعبارة
ثانية نقول : إن المولى سبحانه وتعالى حينما أراد خلق
الإنسان أراد أن يكون هذا المخلوق على نموذج ونحو معين
يناسب الغاية التي لأجلها كان الخلق، ولذا ومن باب إتمام
الحجة عليه أودع فيه ما يضطره -لا بمعنى إلجائه- إليها،
فكان العقل، وكان مسددا تكويناً، وإلا لما كان مأمونًا في
شيء، ولعاد التساؤل يطرق الباب من جديد وأنه ما هو الملاك
في حكم العقل وما هي الضابطة في ذلك، وهذه الضابطة أيضًا
يعاودها السؤال المزبور وهكذا إلى ما لا نهاية، مضافًا إلى
الجهة الأخرى أعني الرسول إلا أن نحو التسديد فيه مغاير
لنحو التسديد في العقل كما حقق في محله، ومن هنا قيل :
(العقل شرع من الباطن والشرع عقل من الظاهر)، لا بمعنى
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، وإن كانت ثابتة على
نحو الموجبة الجزئية، وإنما بمعنى الحجتية، أي إن العقل
حجة ينبغي اتباعه كما الشرع، إلا أن هذا داخل باطن وذاك
خارج ظاهر، وقد ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام)
التصريح بذلك حيث يقول : (العقل شرع من داخل والشرع عقل من
خارج)().
وبناء لما
تقدم فقد أصبح واضحًا أن ملاك حكم العقل هو ما اودعه
المولى سبحانه فيه من معان تتوافق والغاية التي أرادها
المولى من خلق الإنسان.
إذا اتضح ذلك
نعود إلى الإجابة عن السؤال الأول وهو : أن العرف بما هو
عاقل مميز يستقبح العقوق أم لا ؟
فنقول : مما
لا إشكال فيه أن العرف يستقبح هذا الأمر وذلك بملاحظة أمور
:
الأمر الأول : وجوب شكر المنعم
وهو من
الأمور التي لا يشك بها أحد على الإطلاق مع قطع النظر عن
كون المنعِم منعمًا بالذات، أو كونه منعمًا بالعرض، فإن
العقل قاض بذلك حيث يرى بأن المنعِم له نحو تفضّل على
المُنعَم عليه، وأن عدم شكره والاعتراف بفضله وإنعامه جحود
وكفر بهما، مضافًا إلى أن عدم الشكر قد يجلب ضررًا ويمنع
منفعة، وهذا من الواضحات.
هذا ولا يقال
بأن أمر وجوب شكر المنعم مختص بالمولى سبحانه وتعالى لأنه
هو سبحانه المولى الحقيقي. لأنه يقال : بأن العبرة إنما هي
في وجود المولوية حتى لو كانت هذه المولوية اعتبارية،
فاعتبار الشيء اعتبار للوازمه، وإن كان هذا الاعتبار على
نحو الموجبة الجزئية، أي تابعًا لنظر المعتبر، فاعتبار
الأب مولى والزوج كذلك، اعتبار لمولويته وحق الطاعة له،
وإن كان هذا الاعتبار تابعًا لنظر المعتبر سعة وضيقًا،
فليست طاعتهما كطاعة الله سبحانه، بل لها مستوى معين
اعتبره المولى الحقيقي.
ومضافًا لما
تقدم، فإن الملاك الذي لأجله حكم العقل أو أدرك وجوب شكر
المنعم وباعتباره أمرًا فطريًا، هو نفسه موجود فيما نحن
فيه، أي أن للوالدين نحو تفضل، وإن كان في حيز الوجود ولو
عرضا، فكيف إذا تجاوز إلى حيز الحضانة والرعاية والكفالة
بكل مفرداتها.
ثم إن قضية
جلب الضرر ومنع المنفعة أيضًا موجود فيما نحن فيه، فمن
المعلوم أن عدم شكرهما مدعاة لجلب كثير من الآثار الشرعية
والوضعية السلبية ومنع كثير من الآثار الإيجابية.
هذا، وقد
نبّه الكتاب الكريم إلى ذلك بقوله :
{أَنِ اشْكُرْ لِي
وَلِوَالِدَيْكَ}()،
وأنّ شكرهما شكر له سبحانه، وأنه أحد أوجه شكره سبحانه لا
على نحو البدلية،،وذلك لما لهما من الفضل ولو بالعرض، ولما
للشكر من مدخلية في ديمومة الإنعام، وقد ورد الأثر في ذلك،
وأن بالشكر تدوم النعم.
الأمر الثاني : وجوب رد الإحسان بمثله
وهو من
الأمور التي جبل عليها الإنسان بفطرته التكوينية، ولذا كان
هذا الأمر من مدركات العقل العملي، إذ كما أن للعقل النظري
أوليات كاستحالة اجتماع النقيضين، فكذلك للعقل العملي
أوليات من أوضحها وجوب رد الإحسان بالمثل، وقد أشار القرآن
الكريم إلى ذلك بقوله :
{هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلَّا الإحْسَانُ}().
والذي هو أحد
مصاديق حسن العدل.
ومن هنا فقد
كان الرد على إحسان الأبوين بالإساءة مما يأنفه وبمجّه
الطبع البشري السليم النظيف من أدران المادة.
الأمر الثالث : الاعتراف بالجميل
وهو من
الأمور الفطرية الواضحة التي لا حاجة إلى إقامة الدليل
عليها، وإنكار الجميل ينبئ عن سوء السريرة، وتأباه الفطرة
النظيفة، لما يشتمله هذا الإنكار من معاني الغدر واللؤم
الممقوتين، بحسب الطبع السليم، والعقل يدرك هذا الأمر
دونما عناء.
هذا وإن
إنكار ما للوالدين من جميل، لهو من أعظم الأمور بشاعة
وفظاظة، لما يمثله هذا الإنكار من قلة وفاء ونكران لكل ما
يؤْثِر به الأبوان الأولاد ولو بحرمان أنفسهما في سبيل
المحافظة على حياة مولودهما ونشأته نشأة صالحة.
ثم إنه لا
يقال : بأنه يكفي للتدليل على قبح العقوق كونه ظلماً،
فالظلم علة تامة له، لأنه يقال : بأنه وإن كان ذلك حقًا،
إلا أننا أردنا أن نبيّن مفردات هذا الظلم، ولا تنافي في
البين يذكر، باعتبار أن عدم شكر المنعم من مصاديقه، وكذا
رد الإحسان بالإساءة، ونكران الجميل، وإن كان الظلم بحسب
الدقة أمرًا عقليًا، وبعض ما ذكرنا من أمور هي عقلائية،
إلا أن العرف لا يميز بينهما، وإن كان يميِّز إلا أنه لا
يفرِّق.
وبعد الفراغ
من الإجابة عن السؤال الأول، ننتقل للإجابة على السؤال
الثاني، وهو أنه إذا كان العقوق قبيحًا فمن أي أقسام القبح
هو ؟
الظاهر أن
قبح العقوق ذاتي، باعتبار أنه ظلم، وقد تقدم أن الظلم علة
تامة للقبح.
وما ربما
يتوهم من كونه اقتضائيًا إذ أنه لو كان ذاتيًا لاقتضى كونه
قبيحًا في كل الموارد، أي أنه لا يتخلف، والحال أننا نجد
أن العقوق في بعض الموارد حسن، لا أقل مما ورد عن أبي عبد
الله (عليه السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) :
أن رجلاً جاء إليه قال له : إن أمي لا تدفع يد لامس، فقال
: فاحبسها، قال قد فعلت، قال : فامنع من يدخل عليها، قال :
قد فعلت، قال : قيدها، فإنك لا تبرها بشيء أفضل من أن
تمنعها عن محارم الله عز وجل().
فإن المأمور
به فيها الحبس ثم التقييد، فلو كانا قبيحين ذاتيين
باعتبارهما مصداقين مختصين بالعقوق لاستلزم ذلك النهي
عنهما لا الأمر بهما، والحال أنهما مأمور بهما، فظهر من
ذلك كون قبحهما اقتضائيًا لنكتة التخلّف.
مدفوع : بأن
الاقتضائية تستوجب التخلّف حكمًا لا عنوانًا، أي أن
العنوان يبقى، إلا أن حكمه يتغير بحسب المانع وجودًا أو
عدمًا، فلا توجد ملازمة بين العنوان والحكم، فالكذب الضار
لو خلي ونفسَه كان قبيحًا لولا المانع من ذلك، وهو دفع ظلم
الظالم من المؤمن مثلاً فإنه حسن، فالعنوان وهو الكذب
الضار باق على كل حال، سواء تغير الحكم لوجود المانع، أم
لم يتغير لعدمه، وهذا ما يعبر عنه بالتخصيص.
وهذا بخلافه
في الذاتية، حيث توجد ملازمة بين العنوان والحكم وجودًا
وعدمًا، فإن الحكم يكون إذا كان عنوانه، ولا يكون إذا عُدم
عنوانه، فإذا تغير الحكم، فإن ذلك يكشف عن تغيّر العنوان،
فالحكم وهو القبح يكون إذا كان عنوانه وهو الظلم، وأما إذا
انقلب الحكم إلى الحسن فإن ذلك يكشف عن انقلاب العنوان من
الظلم إلى العدل.
وفي مورد
التوهم، القضية ليست قضية بقاء العنوان وهو العقوق وتغير
الحكم من القبح إلى الحسن، حتى نحكم بالاقتضائية، وبالتالي
الحكم بالتخصيص، وإنما لم يبق العنوان أصلا، بل انقلب إلى
عنوان آخر وهو البر، حيث إن الإمام (عليه السلام) في هذه
الرواية قال : (فإنك لا تبرها بشيء أفضل من أن تمنعها..)،
فجعل الحبس أو التقييد في مثل موارد الأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر من مصاديق البر لا العقوق، وبالتالي فإن القضية
قضية تخصص.
هذا ولكن قد
يقال : بأن الحكم بالقبح أو الحسن الذاتيين إنما يكون بسبب
العنوان نفسه، لا لأجل انطباق عنوان آخر عليه، بحيث لو خلي
ونفسه لم يستوجب ذلك، إذ الذاتي لا يعلل وهو الشيء القائم
بنفسه، فالظلم بعنوان نفسه يستوجب القبح، والعدل بعنوان
نفسه يستوجب الحسن، فلا يقال لِمَ كان الظلم قبيحًا،
وللعدل لمَ كان حسنًا، وهذا بخلافه في بقية العناوين،
والتي موردنا منها، فإن ما تعنون بالحسن أو القبح فيها ليس
هو بذاته تمام الموضوع، بل هو جزء الموضوع، ومن هنا صح أن
يقال : لماذا كان الكذب قبيحًا ليجاب بأنه لا يوجد مانع من
انطباق عنوان الظلم عليه.
والخلاصة :
أن الحكم إذا لم يمكن تعليله بأمر خارج عن ذاته كان ذاتيًا
وإن أمكن تعليله كان اقتضائيًا.
والحاصل : أن
موردنا من قبيل الثاني لا الأول، ضرورة أن الحكم فيه ممكن
التعليل، فيقال بأن العقوق قبيح لأنه ظلم، وعليه فإن قبحه
يكون اقتضائيًا لا ذاتيًا، فتأمل.
وكيف كان،
فإن مثل هذه الروايات يمكن تخريجها على كلا التقديرين، فإن
التزمنا بالقبح الذاتي نقول بالتخصيص، أي الخروج الموضوعي،
وانقلاب العنوان عما هو عليه، وبالتالي انقلاب الحكم تبعًا
لذلك العنوان، فنقول بأن هذا ليس بعقوق أصلاً، وإنما هو
بر، وبالتالي فهو حسن، وإن التزمنا بالقبح الاقتضائي نقول
بالتخصيص والخروج الحكمي، أي بقاء العنوان، وانقلاب الحكم
تبعًا لحكم المورد الأقوى الذي ورد فيه العنوان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1])المتتبع
لمعاجم اللغة لا يجد اختلافًا بين أصحابها حول
معنى العقوق، غاية ما في الأمر أن لكل مفردة من
مفرداتها خصوصيتها التي تسبق في الظهور، فالفرس
تعق ، يقال فرس عقوق، أي انعقّ بطنها، واتسع
للولد، والرمل عق أي انشق وخرق، ومنه قيل للبرق
إذا انشقّ عقيقة، والنهر عقيقة، والعصبة ساعة تشق
من الثوب، والوالد عقّ عن ولده إذا ذبح عن ولده
يوم أسبوعه، وقد عق أباه إذا خرج عن طوعه وأمره،
وعقّ والديه إذا قطعهما، ومنه انعقّ الغبار إذا
انشقّ وسطع.
ومما
تقدم يظهر معنى العقوق، فهو الشق والخرق والقطع
والفسخ، ويمكن القول كمعنى جامع بأنه المباينة
والمباعدة بين شيء أو أشياء على اختلاف أنحائها.
وبعبارة ثانية : المباينة والمباعدة بالنسبة للفرس
هي عينها في جميع ما تقدم من مفردات، إلا أن نحو
المباينة الحاصلة للفرس مغاير للنحو الحاصل في
غيرها كما لعله يستظهر ذلك مما تقدم.
هذا
لغة، وأما اصطلاحًا، فلا يوجد فرق بين المعنى
اللغوي والمعنى الاصطلاحي، إلا أنه اصطلاحًا مختص
بحالة المباينة والمباعدة بين الولد ووالديه أو
أحدهما، فعاقّ الوالدين من لا يبرّهما، والعقوق
جحود الجميل، وعقوق الوالدين إساءة الولد لوالديه
بالقول أو الفعل وإيذائهما أو إغضابهما بترك
الإحسان إليهما..
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المعنى متفق عليه بين
الأعلام، إلا أنهم لم يتعرّضوا لحالة المباينة
والمباعدة الحاصلة من الوالدين اتجاه ولدهما، ولذا
رأيتهم يسترسلون في الكلام عن المعنى الأول دون
الثاني، وإن كان المعنى الأول أكثر ورودًا في
النصوص لخطره وعظمه، باعتبار أن العقوق غالبًا
يترقب من جهة الولد لا من جهة الوالدين،فكان
طبيعيًا أن يكثر الأئمة سلام الله عليهم الإلفات
إليه ولكنهم لم يهملوا الجنبة الأخرى للعقوق، وإن
لم يثبتوا جميع ما اثبتوا للجنبة الأولى من آثار
شرعية ووضعية، ولم يضعوا هذه الآثار في الكفة
نفسها لتلك..
([2])
فتارة يطلقان ويراد بهما كمال النفس ونقصانها،
وأخرى يراد بهما الملاءمة والمنافرة للنفس، وكلا
الإطلاقين يقعان وصفًا للأفعال ومتعلقاتها.
|