السنة الخامسة / العدد الخامس عشر/ حزيران 2009 - جمادى الآخرة 1430هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

ل

معالم مكة المكرمة

الشيخ يوسف رغدا

مقدمة

قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}([1]).

إن لمكة المكرمة مكانتها السامية وموقعها الإيماني الفريد لدى المسلمين جميعًا، وذلك لأنها تحتضن أقدس المقدسات الإسلامية، وتنضح بأغلى الذكريات الحلوة والمرّة في تاريخ انطلاقة الإسلام الأولى، كما تختزن الكثير من أسرار بقاء هذا الدين، وإليها تهوي أفئدة كثيرين من الناس، وتتلاقى في رحابها آمالهم، وتنطلق في آفاقها أرواحهم.

ومن الواضح أن وقوف الإنسان المسلم والمؤمن الواعي على الإسلام، وعلى مواقع شعائره، وثوابت أعلامه، من شأنه أن يعطيه المزيد من الوعي والثبات، وأن يشحنه بكثير من المعاني الروحية السامية، الأمر الذي لا بد أن يكون له دور رئيس وحساس في بناء الشخصية الإسلامية حيث تصبح جذور الشجرة الإيمانية أكثر ثباتًا ورسوخًا، وفارع أغصانها أكثر بسوقًا وشموخًا، وأن هذه الآثار والمعالم لم تعد ملكًا للعرب أو لأهل الجزيرة بل غدت لكل المسلمين، ثم لكل طلاب الحق والحقيقة ولجميع رواد الفضيلة في العالم بأسره.

وإذا كانت مكة المكرمة التي تحتضن الكعبة الشريفة، والمسجد الحرام، ومعالم الإسلام الأولى، ومواقع شعائره، إذا كانت كذلك، فمن الطبيعي أن يتشوق الناس كلهم إلى الاطلاع على ما فيها من آثار وشعائر وأعلام ومنائر، وإلى معرفة لمحة تاريخية عن هذا البلد الشريف، فجاء في هذه المقالة والصفحات القليلة ما يلبي هذه الرغبة، ويستجيب لهذا الطموح، فاشتملت على نبذة تاريخية لمكة المكرمة التي لها موقع مهم في تاريخ الإسلام.

الموقع الجغرافي لمكة

تقع مكة المعظّمة غرب جزيرة العرب ونجد، يحدّها من الشمال المدينة المنورة، ومن الشرق نجد والرياض، ومن الجنوب اليمن، ومن الغرب جدة، يبلغ ارتفاعها عن سطح البحر (330م) تقريبًا.

تقع هذه المدينة في وادٍ مائل من الشمال إلى الجنوب منحصر بين سلسلتي جبال تكادان تتصلان ببعضهما من جهة الشرق والغرب والجنوب، أعني على أبواب مكة الثلاث، ولذا لا تُشاهد أبنيتها للقادم عليها إلا وهو على أبوابها.

والحرم الشريف بين هذه البيوت مائلاً إلى الجهة الجنوبية مما يلي جبل أبي قبيس، يتلوها شرقًا شِعب بني هاشم ويسمونه شعب علي (عليه السلام).

أسماء مكة المكرمة

لمكة المكرمة أسماء كثيرة، وقد عُني الناس بجمعها، يقول الفاسي في كتابه شفاء الغرام: [ولم أرَ لأحد في ذلك مثل ما رأيت لشيخنا العلامة اللغوي قاضي اليمن مجد الدين الشيرازي، ولكنه أغربَ فيما ذكر، وفاته مع ذلك أسماء أخرى. يقول مجد الدين الشيرازي: ومن أسماء مكة شرّفها الله تعالى: العروض ؛ والسيل ؛ مُخرَج صدق ؛ البيّنة ؛ المعَاد ؛ أمّ رحم ؛ أمّ زحم ؛ أم صُبح ؛ أمّ القرى ؛ البلد ؛ البلدة ؛ البلد الأمين ؛ البلد الحرام ؛ الرّتاح ؛ الناسة ؛ التاشة ؛ حرم الله تعالى ؛ بلد الله تعالى ؛ الباسّة ؛ قادان ؛ البساسة ؛ وطيبة ؛ القادسي ؛ المقدسة ؛ قرية النمل ؛ نقرة الغراب ؛ قرية الحُمس ؛ صلاح ؛ الحاطمة ؛ كَوثى ؛ سبوحة ؛ السلام ؛ العذراء ؛ تادرة ؛ الوادي ؛ الحرم ؛ النَّجز ؛ القرية ؛ بكّة ؛ مكة ؛ العُرش ؛ الحُرمة ؛ البيت العتيق ؛ القادسية ؛ المسجد الحرام ؛ النابية ؛ أم روح... الخ ، وبعض هذه الأسماء مأخوذة في القرآن الكريم .

معاني بعض أسماء مكة

اختلف في مكة بالميم وبكة بالباء، أهما بمعنى واحد أم بمعنيين ؟ وعلى القول الثاني اختلف القائلون به:

فقيل: بكة موضع البيت، ومكة القرية.

وقيل بكّة موضع البيت، ومكة الحرم كله.

وقيل بكّة ما بين الجبلين، ومكة الحرم كله.

وقيل بكة الكعبة والمسجد الحرام، ومكة ذو طوى.

وقيل بكة البيت، وما حواليه مكة.

1- مكة

قال تعالى في سورة الفتح:

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ...}([2]).

اختلف في معنى تسميتها مكة، فقيل: لأنها تمكُّ الجبارين، أي تُذهب نخوتهم.

وقيل: لأنها تمكّ الفاجر عنها أي تخرجه.

وقيل: لأنها تجذب الناس إليها.

وقيل: لقلة مائها، أي مكّ الثدي أي مصّه لقلة حليبه.

2- بكة

قال تعالى في سورة آل عمران :{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ}([3]).

واختلف في معنى تسميتها بكّة:

فقيل: لأنها تبك أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها أي تدقّها، والبكّ الدق.

وقيل: سميت بكة لأنها لا يفجر بها أحد إلا بكّت عنقه.

وقيل: لازدحام الناس بها، قاله ابن عباس.

3- أم القرى

قال تعالى: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا}([4]).

واختلف في سبب تسميتها بذلك:

فقيل: لأن الأرض دحيت من تحتها.

وقيل: لأنها أعظم القرى شأنًا.

وقيل: لأن فيها بيت الله، ولما جرت العادة بأن الملك وبلده مقدمان على جميع الأماكن سمي أمًّا لأن الأم متقدمة.

وقيل: لأنها قبلة تؤمّها جميع الأمة.

4- البلد

{لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}([5]).

والبلد في اللغة الصدر، قال ابن عباس: هي مكة، وهي صدر القرى.

وفي آية أخرى على لسان النبي إبراهيم (عليه السلام): {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}([6]).

وفي آية أخرى: ورد ذكر البلد على لسان إبراهيم (عليه السلام) بمعنى مكة: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ}([7]).

5- البلد الأمين

{وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}([8]).

قال الفاكهي فيما رواه بسنده إلى ابن عباس في قوله تعالى{وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} قال: يعني مكة.

6- الباسّة

سميت مكة الباسّة لأنها تبسّ من ألحد فيها، أي تهلكه، أي تحطّه.

7- الحرم الآمن

ورد في القرآن الكريم في موضعين: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}([9]). وفي آية أخرى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا}([10]).

مكة قبل الإسلام

يقول ابن إسحاق: إن غبثان من خزاعة وَلِيَت البيت، وكانوا يتوارثون ذلك كابرًا عن كابر،حتى كان آخرهم حُليل بن حبشية بن سلول بن كعب بن عمرو الخزاعي.

ثم إن قصي بن كلاب (الجد الأعلى للنبي (صلى الله عليه وآله)) خطب إلى حُليل بن حبشية ابنته حُبّى، فرغب فيه، فزوجه، فولدت له عبد الدار، وعبد مناف، وعبد العُزّى، وعبدًا، فلما انتشر ولد قصي، وكثر ماله، وعظم شرفه، هلك حُليل، فرأى قصي أنه أولى بالكعبة، وبأمر مكة من خزاعة وبني بكر، وأن قريشًا قُرعة إسماعيل (القرعة: نخبة الشيء وخياره) بن إبراهيم، وصريح ولده، فكلّم رجالاً من قريش وبني كنانة، ودعاهم إلى إخراج خزاعة وبني بكر من مكة، فأجابوه، فأتاهم قصي بن كلاب بمن معه من قومه من قريش وكنانة، وقضاعة، عند العقبة، فقال: لنحن أولى بهذا منكم، فقاتلوه، فاقتتل الناس قتالاً شديدًا، ثم انهزمت صوفة، وغلبهم قصي على ما كان بأيديهم من ذلك، وانحازت عند ذلك خزاعة وبنو بكر عن قصي، وعرفوا أنه سيمنعهم كما منع صوفة، وأنه سيحول بينهم وبين الكعبة وأمرِ مكة، فولي قصي البيت وأمر مكة.

وجمع قومه من منازلهم إلى مكة، وتملّك على قومه، وأهل مكة، فملّكوه، إلا أنه قد أقرّ للعرب ما كانوا عليه، وذلك أنه كان يراه دينًا في نفسه لا ينبغي تغييره، فأقرّ آل صفوان وعدوان والنسأة، ومرّة بن عوف على ما كانوا عليه، حتى جاء الإسلام، فكان قصي أول بني كعب، كانت له الحجابة([11])، والسقاية([12])، والرفادة([13])، والندوة([14])، واللواء([15]).

فحاز شرف مكة كله، واتخذ لنفسه دار الندوة، وجعل بابها إلى مسجد الكعبة، ففيها كانت قريش تقضي أمورها.

ثم إن قصي بن كلاب هلك، فأقام أمره في قومه وفي غيرهم بنوه من بعده، ثم إن بني عبد مناف بن قصي وعبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلاً، أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدي بني عبد الدار بن قصي مما كان قصي جعل إلى عبد الدار، من الحجابة واللواء والسقاية والرفادة.

ورأوا أنهم أولى بذلك منهم لشرفهم عليهم وفضلهم في قومهم، فتفرّقت عند ذلك قريش، فكان صاحب أمر بني عبد مناف: عبد شمس بن عبد مناف، وذلك أنه كان أسنّ بني عبد مناف، وكان صاحب أمر بني عبد الدار: عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار.

ثم تداعوا إلى الصلح، على أن يعطوا بني عبد مناف السقاية والرفادة، وأن تكون الحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار كما كانت، ففعلوا ورضي كل واحد من الفريقين بذلك، فلم يزالوا على ذلك حتى جاء الله تعالى بالإسلام، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما كان من حلفٍ في الجاهلية فإن الإسلام لم يزده إلا شدة).

فولي الرفادة والسقاية هاشم بن عبد مناف، وذلك أن عبد شمس كان رجلاً سفّارًا قلّما يقيم بمكة، وكان مُقلاً ذا ولد، وكان هاشم موسرًا.

وكان هاشم فيما يزعمون أول من سنّ الرحلتين لقريش: رحلتي الشتاء والصيف، وأول من أطعم الثريد بمكة، وإنما كان اسمه عمرًا، فما سمي هاشما إلا بهشمه الخبز بمكة لقومه، ثم هلك هاشم بن عبد مناف بغزّة، من أرض الشام تاجرًا، فولي السقاية والرفادة من بعده المطلب بن عبد مناف، وكان أصغر من عبد شمس وهاشم، وكان ذا شرف في قومه وفضلٍ، وكانت قريش إنما تسميه "الفيض" لسماحته وفضله، ثم هلك المطلب بردمان من أرض اليمن، فولي عبد المطلب بن هاشم السقاية والرفادة بعد عمه المطلب، فأقامها للناس، وأقام لقومه ما كان آباؤه يقيمون قبله لقومهم من أمرهم، وشَرُف في قومه شرفًا لم يبلغه أحد من آبائه، وأحبّه قومه وعظم خطره فيهم.

ثم لما هلك عبد المطلب بن هاشم وليَ زمزم والسقاية عليها بعده العباس بن عبد المطلب، وهو يومئذ من أحدث إخوته سنًا، فلم تزل إليه حتى قام الإسلام فأقرّها رسول الله (صلى الله عليه وآله) على ما مضى من ولايته([16]).

المسجد الحرام قبل الإسلام

كان المسجد الحرام عبارة عن فسحة واسعة حول الكعبة المعظمة، ولم يكن حول الكعبة المعظمة دور مشيدة، أو جدر محيطة بالمسجد الحرام، حيث كانت القبائل التي قطنت مكة، من عمالقة، وجرهم، وخزاعة، وقريش وغيرهم، يسكنون في شعاب مكة ويتركون حول الكعبة المعظمة احترامًا لها وتعظيمًا لشأنها، فلا تجترئ أن تبني بجوار الكعبة المعظمة دارًا ولا جدارًا.

فلما آل الأمر إلى قصي واستولى على مكة، وعلى مفتاح الكعبة من خزاعة، بعد أن دارت بينه وبينها حرب شعواء، جمع قصي قومه بطون قريش وأمرهم أن يبنوا بمكة حول الكعبة بيوتًا من جهاتها الأربع، حيث كانوا يقطنون ظاهر مكة وشعابها، وكانوا إذا أرادوا دخول مكة لا يدخلون على جنابة ولا يقيمون بها إلا نهارًا، فإذا أمسوا خرجوا إلى الحل، فقال لهم قصي: (إن سكنتم حول البيت هابتكم الناس ولم تستحل قتالكم والهجوم عليكم...)، فبدأ هو أولاً وبنى دار الندوة في الجانب الشمالي الذي هو الآن فسحة باب الزيادة، ثم قسّم قصي باقي الجهات بين قبائل قريش.

فبنت قريش دورها حول الكعبة وشرعت أبوابها إلى نحو الكعبة المعظمة، وتركوا للطائفين مقدار مدار المطاف وجعلوا بين كل دارين من دورهم مسلكًا شارعًا فيه باب يسلك منه إلى المطاف وجعلوا بناء الدور مدورة ولم تكن مربعة الشكل، حتى لا يكون بينها وبين الكعبة شَبَه في البناء من جهة التربيع، لكون الكعبة المعظمة مربعة، وجعلوا ارتفاع عموم تلك الدور أقل من ارتفاع الكعبة حيث لا يجرؤون على بناء دار أعلى من الكعبة احترامًا وتعظيمًا لها، ولذلك كانت الكعبة ترى من عموم أنحاء مكة المكرمة، لأنها كانت أعلى من عموم الدور التي بنيت حولها.

وسمي كل من بنى حول الكعبة المعظمة بيتًا من قبائل قريش (قريش البواطن) ثم تكاثرت البيوت بتكاثر السكان وكثرة النسل حتى تعلقت الدور بشعاب مكة في العصر النبوي.

هذا حاصل ما ذكره الأزرقي، والفاسي، وقطب الدين الحنفي في الأعلام، وغيرهم من مؤرخي مكة المكرمة عن أصل المسجد الحرام وصفته ووضعيته وسعته في العصر الجاهلي قبل الإسلام.

ومنه يُعلم أنه لم يكن قبل الإسلام ذكر للمسجد الحرام، وإنما كل ما كان هو مدار الطواف حول الكعبة، وذلك لأنه لم يكن في التشريع الجاهلي صلاة يؤدونها حول الكعبة، وإنما كان المعتاد عند العرب في جاهليتها الطواف حول الكعبة فقط، غير أنه كانت لهم مجالس حول الكعبة في الصباح والمساء، يستظلون من الشمس بظلها، ويتتبعون الأفياء في مجالسهم، وكان المسجد الحرام أو مدار المطاف في الزمن الجاهلي أشبه بمجلس عمومي يجتمع فيه عموم الناس ويتذاكرون في مصالحهم.

وذلك بخلاف دار الندوة، فإنه لا يسمح بالدخول فيه إلا لأناس مخصوصين بموجب شروط مخصوصة، فلما جاء الإسلام وانبثق نوره واعتنقه أفراد من أهل مكة كان من أسلم منهم يستخفي بصلاته عن المشركين في داره وفي شعاب مكة لئلا يؤذوه، وذلك قبل الهجرة، ولم يصلِّ أحد منهم حول الكعبة إلا نادرًا كما وقع ذلك من النبي (صلى الله عليه وآله)، ثم هاجر من مكة كل من يستطيع الهجرة من المسلمين إلى الحبشة فرارًا بدينه من إيذاء قريش لهم، ثم هاجر من بقي فيها مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من المسلمين إلى المدينة إلا من حبس منهم.

وخلت مكة المكرمة من المسلمين بعد الهجرة وأصبحت مجردة من كل من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ويقيم الصلاة غير المستضعفين منهم.

ومكثت مكة على هذا الحال إلى عام الفتح سنة ثمان من الهجرة، فلما فتح رسول الله (صلى الله عليه وآله) مكة منع المسلمين من الهجرة بقوله (لا هجرة بعد الفتح) فصار بعد ذلك يقيم المسلمون صلاتهم حول الكعبة جهارًا.

غير أنه كان سكان مكة قليلين جدًا وهم عبارة عن عدد وجيز، لأن معظم أهلها قد التحقوا بعد الهجرة بالجيوش الإسلامية لأداء فريضة الجهاد، والذب عن دين الإسلام، وكبح جماح أعدائه وبالأخص زمن فتح فارس والروم، ولذلك لم يكن احتياج إلى توسعة المسجد الحرام، لأن سعة مدار المطاف كان كافيًا لصلاة المسلمين المقيمين بمكة، ولم يقع فيه ضيق على المصلين يلجئهم إلى توسيعه، ولهذه الأسباب لم يقع في المسجد الحرام زيادة ولا سعة، ولا تغيير ولا تبديل في العصر النبوي وزمن أبي بكر.

وأطلق في العصر النبوي على مدار المطاف (المسجد الحرام)، وجاء ذكره في القرآن المجيد بهذا الاسم في قوله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}([17]).

وأما حدود مدار المطاف الذي كان يطلق عليه المسجد الحرام في صدر العصر الإسلامي الذي هو عصر النبي (صلى الله عليه وآله) فيحده من الجهة الشرقية بئر زمزم، وباب بني شيبة، ويحده من الجهة الغربية حافة المدار الذي عليه أساطين النحاس، ثم حصلت توسعة للمسجد الحرام عدة مرات، أهمها:

1- توسعة عمر بن الخطاب سنة 17 هـ.

2- توسعة عثمان بن عفان سنة 26هـ.

3- زيادة عبد الله بن الزبير سنة 65هـ.

4- زيادة عبد الملك بن مروان سنة 75هـ.

5- زيادة الوليد بن عبد الملك بن مروان سنة 91 هـ.

6- زيادة أبو جعفر المنصور العباسي سنة 137هـ.

7- زيادة محمد المهدي العباسي سنتي 160-164هـ.

8- زيادة دار الندوة سنة 281 هـ.

ثم حصلت زيادات عديدة من قبل الملوك والأمراء والسلاطين.

وفي ظل الحكومة السعودية سنة 1368هـ أمر الملك عبد العزيز بتوسعة المسجد الحرام، وبعد التوسعة صارت مساحته 180 ألف متر مربع، وفي ظل حكومة الملك فهد سنة 1409هـ حصلت توسعة للمسجد الحرام إلى أن وصلت مساحته إلى 230 ألف متر مربع.

فضل مكة على غيرها من البلاد

وحسبك بفضل مكة أن فيها بيت الله الذي رضي بحط الأوزار عن العباد بقصده في العمر مرة، ولم يقبل من أحد منهم صلاة إلا باستقبال جهته، وهي قبلة المسلمين أحياءً وأمواتًا، وفيها ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله).

وورد جملة من الأخبار حول فضلها، منها: ما رواه الترمذي وابن ماجة من حديث عبد الله بن عدي ابن الحمراء الزهري أنه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو واقف على راحلته بمكة، يقول لمكة: (والله إنك لخير أرض الله، وأحبّ أرض الله إليّ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت)([18]).

ومنها: ما صححه عن ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال لمكة: (ما أطيبك وأحبك لي، ولولا قومك أخرجوني منك ما سكنت غيرك ).

وروى سعيد بن عبد الله الأعرج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (أحب الأرض إلى الله تعالى مكة، وما تربة أحب إلى الله عز وجل من تربتها، ولا حجر أحب إلى الله من حجرها، ولا شجر أحبّ إلى الله من شجرها، ولا جبال أحبّ إلى الله من جبالها، ولا ماء أحب إلى الله من مائها)([19]).

وقال في خبر آخر: (ما خلق الله تبارك وتعالى بقعة في الأرض أحب إليه منها، وأومأ بيده إلى الكعبة، ولا أكرم على الله عز وجل منها، لها حرّم الله الأشهر الحرم في كتابه يوم خلق السماوات والأرض)([20]).

فضل الصلاة في مكة

إن الصلاة في المسجد الحرام في مكة أفضل من الصلاة في غيره من المساجد، ويدل على ذلك جملة من الأخبار، نقتصر على عدة أخبار منها:

عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، قال: (الصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة ألف صلاة).

ومنها: عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: (سألته عن الرجل يصلي في جماعة في منزله بمكة أفضل أو وحده في المسجد الحرام ؟ فقال: وحده) ([21]).

ومنها: عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): صلاة في مسجدي هذا تعدل عند الله عشرة آلاف صلاة في غيره من المساجد، إلا المسجد الحرام، فإن الصلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة)([22]).

آداب دخول مكة

الغسل

عن الصادق (عليه السلام): (إن الله عز وجل يقول في كتابه {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}([23])، فينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلا وهو طاهر، قد غسل عرقه والأذى وتطهّر ).

التواضع والخشوع

روى أبان بن تغلب: كنت مع أبي عبد الله (عليه السلام) مزاملة فيما بين مكة والمدينة، فلما انتهى إلى الحرم نزل واغتسل وأخذ نعليه بيديه، ثم دخل الحرم حافيًا، فصنعت مثل ما صنع، فقال: يا أبان من صنع مثل ما رأيتني صنعت تواضعًا لله محى الله عنه مائة ألف سيئة، وكتب له مائة ألف حسنة، وبنى الله عز وجل له مائة ألف درجة، وقضى له مائة ألف حاجة).

الدخول من أعلاها

عن يونس بن يعقوب: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): (من أين أدخل مكة وقد جئت من المدينة ؟ فقال: ادخل من أعلى مكة، من عقبة المدنيين، واخرج من أسفل مكة من ذي طوى).

عن ابن قداح، عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) قال: (سألته عن دخول الكعبة، قال: الدخول فيها دخول في رحمة الله، والخروج منها خروج من الذنوب، معصوم فيما بقي من عمره، مغفور له ما سلف من ذنوبه).

استحباب دخول البيت

عن الصادق (عليه السلام): (لا بد للصرورة أن يدخل البيت قبل أن يرجع، فإذا دخلته فادخله بسكينة ووقار، ثم ائت كل زاوية من زواياه ثم قل: اللهم إنك قلت {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، فآمنّي من عذاب يوم القيامة. وصلِّ بين العمودين اللذين يليان على الرخامة الحمراء، وإن كثر الناس فاستقبل كل زاوية في مقامك حيث صليت، وادع الله واسأله، ولا تدخلها بحذاء، ولا تبزق فيها، ولا تمتخط فيها).

أما الكعبة من الداخل، فشكلها مربع، مشطور الزاوية الشمالية، وهي التي على يمين الداخل، وبهذه الشطرة باب صغير اسمه باب التوبة، يوصل إلى سلم صغير يصعد به إلى سطحها، وبوسطها من الداخل ثلاثة أعمدة من العود القاقلي، عليها مقاصير ترتكز على حائط الميزاب من جهةٍ، وحائط الحجر الأسود من أخرى، وقطر كل عامود نحو ثلاثين سنتمترًا، ويغطي سقف الكعبة وحوائطها من الداخل كسوة من الحرير الوردي، عليها مربعات مكتوب فيها (الله جل جلاله)، وفي قبالة الداخل من الباب محراب كان يصلي فيه النبي (صلى الله عليه وآله)، ويحيط ببناء البيت من الداخل إزار من الرخام المجزع على ارتفاع مترين.

فضل النظر إلى الكعبة

من تتبع أنواع العبادات وفضلها يرى أن الله تعالى جعل من جنس كل عادة عند الإنسان عبادة، ومن نوع كل مألوف مباحًا، نعم فمجرد النظر إلى وجه العالم جعله عبادة، وكذلك النظر إلى الكعبة المعظمة، وقد ورد في ذلك الأخبار والأحاديث:

منها: عن معاوية بن عمار، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (إن الله تبارك وتعالى جعل حول الكعبة عشرين ومائة رحمة، منها ستون للطائفين، وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين ).

وروى حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (النظر إلى الكعبة عبادة، والنظر إلى الوالدين عبادة، والنظر إلى الإمام عبادة).

وعنه أيضًا (عليه السلام) قال: (من نظر إلى الكعبة لم يزل تكتب له حسنة، وتمحى عنه سيئة، حتى ينصرف ببصره عنها).

وعنه (عليه السلام) قال: (قال أمير المؤمنين (عليه السلام) : إذا خرجتم حجاجًا إلى بيت الله فأكثروا النظر إلى بيت الله...).

فضل الإنفاق بمكة

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (مكة حرم الله، وحرم رسوله (صلى الله عليه وآله)، وحرم أمير المؤمنين (عليه السلام)، الصلاة فيها بمائة ألف صلاة، والدرهم فيها بمائة ألف درهم).

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): (النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله عز وجل بسبعمائة ضعف ).

عن الإمام علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: (... درهم ينفقه الرجل في الحج يعدل ألف درهم ).

ثواب من صلى بمكة

عن علي بن الحسين (عليه السلام): (من صلى بمكة سبعين ركعة فقرأ في كل ركعة بـ(قل هو الله أحد) و(إنا أنزلناه) وآية السخرة، وآية الكرسي، لم يمت إلا شهيدًا ).

ثواب من صام يومًا في مكة

عن علي بن الحسين (عليه السلام): (صيام يوم بمكة يعدل صيام سنة فيما سواها، والماشي بمكة في عبادة الله عز وجل).

ثواب من ختم القرآن بمكة

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (من ختم القرآن بمكة لم يمت حتى يرى رسول الله (صلى الله عليه وآله) بمكة، ويرى منزله في الجنة ).

فضل التسبيح بمكة

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (تسبيح بمكة يعدل خراج العراقين، ينفق في سبيل الله ).

أجر الساجد بمكة

عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (الساجد بمكة كالمتشحط بدمه في سبيل الله).

أجر من مرض بمكة أو صبر على حرها

قال النبي (صلى الله عليه وآله) : من مرض يومًا بمكة كتب الله له من العمل الصالح الذي كان يعمله عبادة ستين سنة، ومن صبر على حرّ مكة ساعة تباعدت عنه النار مسيرة مائة عام، وتقرّبت منه الجنة مسيرة مائة عام).

ثواب النائم بمكة

عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: النائم بمكة كالمتشحط في البلدان ).

كراهة الإقامة بمكة

عن الإمام الصادق (عليه السلام): (إنه كره المقام بمكة، وذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخرج عنها، والمقيم يقسو قلبه حتى يأتي في غيرها).

حدود الحرم والمواقيت

قال تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ}([24]).

اعلم أنه يحيط بالكعبة ثلاث دوائر:

الأولى: دائرة المسجد، وتكلمنا عنه مفصلاً.

الثانية: دائرة الحرم.

الثالثة: دائرة المواقيت.

فلا يعدو امرؤ الدائرة الثالثة قاصدًا مكة إلا إذا أحرم، وأما دائرة الحرم فجعلها الله مثابة للناس وأمنًا، بل أمن فيها الحيوان والنبات، فحرّم التعرّض لصيدها ومنع قطع شجرها وحشيشها، وقد نصبت عليها أعلام في جهاتها الأربع، وأول من نصب علامات على حدود الحرم إبراهيم الخليل (عليه السلام) بإرشاد جبرئيل (عليه السلام) تعظيمًا للبيت وتشريفًا، وبعده إسماعيل (عليه السلام)، ثم قصي بن كعب بن كلاب.

وقيل إن عدنان أول من وضع أنصاب الحرم ، ونصبتها قريش بعد ذلك، والنبي (صلى الله عليه وآله) بمكة قبل هجرته، ونصبها النبي (صلى الله عليه وآله) عام الفتح، ثم عمر، ثم عثمان، ثم معاوية، ثم عبد الملك بن مروان، ثم المهدي العباسي، ثم أمر الراضي بعمارة العلمين الكبيرين اللذين بالتنعيم في سنة 325هـ، وأخيرًا الملك سعود بن عبد العزيز أمر ببناء أعلام الحرم سنة 1376هـ، وكذلك في سنة 1383هـ([25]).

وقال التقي الفاسي: وقد ورد في المسافة التي بين المسجد الحرام وأنصاب الحرم أقوال كثيرة:

وأما سبب الخلاف الواقع بين العلماء في المسافة بين الحدود والمسجد الحرام فهو ناتج عن أمرين :

أحدهما: اختلافهم في مبدأ الذرع، حيث جعل بعضهم مبدأ الحد من أبواب المسجد الحرام، وبعضهم جعله من أبواب مكة، مثل باب الشبيكة الذي هو حارة البات، وباب المعلاة الذي هو قريب من الحجون.

والأمر الثاني: اختلافهم في قدر الميل، حيث بعضهم قدّره بستة آلاف ذراع يد، وبعضهم قدر بأربعة آلاف ذراع يد، وبعضهم بثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع يد، والذراع يتراوح بين (46سنتم) إلى (52سنتم)([26]).

وقد ذكر المسافات بينها وبين المسجد الحرام التقي الفاسي في كتابه شفاء الغرام، ونحن نذكرها نقلاً عنه مبينين مقدارها بالأمتار.

وحدود الحرم ستة، وهي:

1- من جهة الطائف : وادي عُرَنَة :

حدّ الحرم من جهة الطائف على طريق عرفة من بطن عُرَنَة (18333م) وذلك من جدر باب بني شيبة إلى العلمين اللذين هما علامتان لحد الحرم من جهة عرفة، وهناك كما ذكرنا أقوال أخرى.

2- من جهة العراق : خِلّ المقطَّع :

وحدّه من جهة العراق العلمان اللذان هما بجادة وادي نخلة 5/13353م، وفيه أربعة أقوال من حيث المسافة، وهي ستة أميال، وسبعة، وثمانية، وعشرة، وسمي بذلك لأن عبد الله بن الزبير عندما رمّم الكعبة قطع حجارة الكعبة من هذا الجبل وأخذها إلى مكة.

3- الجعرانة :

وأما حدّه من جهة الجعرانة ففيه قولان: أحدهما اثنا عشر ميلاً، والثاني تسعة أميال، ما يعادل 18 إلى 24 كلم.

ويحدّ الحرم في الجعرانة شعب آل عبد الله بن خالد بن أسيد، ويوجد في هذا المكان مسجد باسم الجعرانة، ومن هذا المكان أحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله).

4- التنعيم :

وحدّه من جهة التنعيم، وهي طريق المدينة (6148م)، وذلك من جدر باب العمرة إلى أعلام الحرم التي في الأرض من هذه الجهة، وهذا الحد هو أقرب الحدود، وأحرم منه النبي (صلى الله عليه وآله) مرة واحدة، وبني في هذا المكان مسجد يعرف بمسجد التنعيم ومسجد عايشة، واليوم يعرف بمسجد العمرة، لأن الناس عندما يريدون أن يأتوا بعمرة بعد الحج يذهبون إلى أقرب الحدود ليحرموا منها للعمرة، وأقربها مسجد التنعيم، فعُرف بـ(مسجد العمرة).

5- الحديبية :

وعلى حد الحرم من جهة الغرب بميل قليل إلى الشمال قرية الحديبية، وهي التي تمّت بها بيعة الرضوان وصلح الحديبية، وتقع من جهة جدة على بعد 20 كلم من مكة، وبني في هذا المكان مسجد يعرف بمسجد الرضوان، ومسجد الحديبية.

6- إضاءة لِبن :

وحد الحرم من جهة اليمن من جدر باب إبراهيم إلى علامة الحد (12009م) وعلى حد الحرم من جهة الجنوب مكان يقال له أضاة، ويعرف المكان باضاءة ابن عمَش.

فضل الحرم وعلة تحريمه

أعظم فضيلة وأشرف مزية للبلد الأمين هو ثبوت تحريمه، واتفاق الأمة على ذلك، وهذا التحريم يشمل مكة كلها إلى الحدود التي ينتهي عندها الحرم، وما بين هذه الأعلام هو حرم مكة الذي جعل الله حكمه حكم الكعبة في الحُرمة تشريفًا لها.

وقال تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا}([27]).

وقال تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ}([28]).

وقال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا}([29]).

وقال تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}([30]).

وقال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}([31]).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) في خطبته يوم فتح مكة: (إن هذا بلد حرّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيام، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده) ([32]).

وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إن الله عز وجل حرّم مكة، ولم يحرّمها الناس، ولا يحلّ لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماءً ولا يعضد بها شجرة)([33]).

وعن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (سألته عن قول الله عز وجل {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}، البيت عنى أم الحرم ؟ قال: من دخل الحرم مستجيرًا به فهو آمن من سخط الله، ومن دخله من الوحش والطير كان آمنًا من أن يُهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم)([34]).

وقال الفاسي: اختلف في تحريمه:

فقيل: إن آدم لما أهبط إلى الأرض خاف على نفسه من الشيطان، فاستعاذ بالله منه، فأرسل الله له ملائكة حفوا بمكة من كل جانب ووقفوا في موضع أنصاب الحرم يحرسون آدم، فصار ما بينه وبين موقف الملائكة حرمًا([35]).

وقيل: لأن الخليل (عليه السلام) لما وضع الحجر الأسود في الكعبة حين بناها أضاء الحجر يمينًا وشمالاً وشرقًا وغربًا، فحرّم الله الحرم من حيث انتهى نور الحجر الأسود([36]).

المواقيت الستة

أما الدائرة الثالثة التي تحيط بالكعبة، فهي دائرة المواقيت.

فلا يعدو امرؤ الدائرة الثالثة قاصدًا دخول مكة إلا إذا أحرم وأهلّ بالتلبية، فحرّمت عليه بذلك محرمات الإحرام.

والمواقيت ستة:

1- ذو الحليفة (مسجد الشجرة - آبار علي (عليه السلام) - مسجد الإحرام):

وهو ميقات أهل المدينة ومن حج عن هذا الطريق، ويبعد عن المدينة ثمانية كيلومترات تقريبًا، وسمي بمسجد الشجرة حيث كان بموضعه شجرة كان النبي (صلى الله عليه وآله) ينزل تحتها بذي الحليفة، وقد تمّ توسيعه وبناؤه على طراز حديث.

ولقد أحرم رسول الله (صلى الله عليه وآله) من هذا الموضع أربع مرات، ثلاثًا للعمرة ومرة لحج التمتع، هي:

1- في السنة السادسة للهجرة، سنة صلح الحديبية.

2- في السنة السابعة، أحرم للعمرة.

3- عند فتح مكة، السنة الثامنة للهجرة.

4- حجة الوداع، السنة العاشرة.

وفي هذا المكان آبار علي (عليه السلام) وهو المحيط الذي أنشأ فيه الإمام علي (عليه السلام) ثلاثة وعشرين بئرًا، فلذا سمي بـ(آبار علي (عليه السلام)).

كان طول هذا المسجد في القرن التاسع 52 ذراعًا، ومن المشرق إلى المغرب مثل ذلك.

وفي العهد السعودي خضع المسجد للتوسعة الكبرى وصار المسجد كما يلي:

شكل المسجد مربّع بضلع (77م)، فتكون مساحته ستة آلاف مترًا مربعًا تقريبًا، يحتوي على فضاء داخلي لمساحة ألف متر مربع، ويتسع لخمسة آلاف مصلٍّ، يتكوّن المسجد من سلسلة صفوف الأروقة على التوالي مفصولة، وتغطي صفوف الأروقة قباب طولية على فاصلة 8/4 أمتار.

2- الجحفة :

كانت تعرف قديمًا باسم (مهيَعة) وهو مأخوذ من هاع هَيعًا وهيعانًا، بمعنى انبسط، أو من هاع هياعًا بمعنى اتسع وانتشر.

وقد يرجع هذا إلى اتساع واديها وانتشاره وانبساطه حيث يبدأ بغدير خم عند نهاية وادي الخراز واسعًا، ويستمر متسعًا حتى يصب في البحر.

ثم سميت بالجحفة، إما لأن السيل اجتحفها في قصة إخوة عاد، التي ينسبها اللغويون إلى ابن الكلبي المؤرخ المتوفى سنة 204هـ، إذ زعم أن [العماليق (وهم ولد عمليق بن لاوذ بن إرم) أخرجوا بني عبيل (وهم إخوة عاد بن عوض بن إرم) من يثرب فنزلوا الجحفة، وكان اسمها مهيعة، فجاءهم سيل فاجتحفهم، فسميت جحفة]([37]).

وروي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: (اللهم حبّب إلينا المدينة كحبنا مكة وأشد، وصححها، وانقل حُمّاها إلى الجحفة).

وتقع الجحفة شرقي مدينة (رابغ) مع مَيلٍ إلى الجنوب، وتبعد الجحفة عن مكة 189كلم، كما في خريطة وزارة المواصلات السعودية للطرق البرية، وتبعد عن غدير خم حوالى 4 كلم.

ويسكن أرض الجحفة اليوم قبائل من زبيد، منهم: الزنابق، والروايضة، والعصلان، تخالطهم عناصر من عوف.

ويوجد في الجحفة مسجد كبير شيدته الحكومة على موضع المسجد السابق بعد تهديمه، وفيه مرافق من مراحيض وحمامات للرجال وللنساء.

والجحفة من المواقيت الخمسة التي وقّـتها رسول الله (صلى الله عليه وآله) للناس، فعن ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هنّ لهم، ولكل آت أتى عليهنّ من غيرهنّ، فمن أراد الحج والعمرة... الخ) ([38]).

إذن الجحفة هي ميقات أهل الشام ولمن مرّ عليها. فمن أتى إلى جدة عن طريق الجو ويريد الذهاب إلى مكة، فمكان إحرامه الجحفة.

واكتسبت الجحفة أهميتها كموقع جغرافي من العوامل التالية:

1- وقوعها مرحلة من مراحل طريق الهجرة النبوية الشريفة.

2- كونها مفترق طرق تؤدي إلى الحرمين الشريفين والى يَنبُع حيث المرفأ البحري والطريق الشامي الساحلي.

3- العامل الديني حيث اعتبرت شرعًا من المواقيت الخمسة([39]).

3- وادي العقيق (ذات عرق) :

وادي العقيق ميقات أهل العراق ويبعد حوالى 94 كلم عن شمال شرقي مكة تقريبًا.

4- قرْن المنازل :

ميقات أهل نجد ولمن يأتي من الطائف، ويبعد عن جنوب مكة حوالى 94 كلم، وقال القاضي عياض في معجم البلدان: قرن المنازل هو قرْن الثعالب (بسكون الراء) ميقات أهل نجد تلقاء مكة على يوم وليلة، وهو (قرْن) أيضًا غير مضاف، وأصله الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير([40]).

5- يلملم :

يَلَمْلم، ميقات أهل اليمن، وهو موضع يبعد عن مكة 84 كلم تقريبًا، وفيه مسجد معاذ بن جبل، ويلملم اسم جبل من جبال تهامة.

6- فَخّ :

وهو وادٍ بمكة ويبعد عن مكة حوالى 6 كلم، وهو ميقات الأطفال وغير البالغين، وفي هذا المكان قتل جمع من العلويين سنة 169هـ، وفيه أيضًا دفن عبد الله بن عمر ونفر من الصحابة([41]).


 

([1]) آل ِعمران : 96.

([2]) الفتح، من الآية: 24.

([3]) آل عمران: 96.

([4]) الأنعام: من الآية 92.

([5]) البلد: 1 .

([6]) البقرة: من الآية 126.

([7]) إبراهيم: 35 .

([8]) التين: 1-3.

([9]) العنكبوت: من الآية 67.

([10]) القصص: من الآية 57.

([11]) الحجابة: أن تكون مفاتيح البيت عنده، فلا يدخله أحد إلا بإذنه.

([12]) السقاية: أي سقاية زمزم، وكانوا يصنعون بها شرابًا في الموسم للحاج.

([13]) الرفادة : طعام كانت قريش تجمعه كل عام لأهل الموسم.

([14]) الندوة: الاجتماع للمشورة، والرأي.

([15]) اللواء: يعني في الحرب، لأنه كان لا يحمله عندهم إلا قوم مخصوصون.

([16]) راجع : السيرة النبوية، ابن هشام، ج1.

([17]) الإسراء: من الآية 1 .

([18]) الفاسي المكي، ج 1 ص76.

([19]) الوسائل، ج13، ب19.

([20]) الفقيه، ج2.

([21]) الفروع من الكافي، ج4.

([22]) الوسائل، ج5 ص270.

([23]) البقرة: من الآية125 .

([24]) العنكبوت: من الآية67.

([25]) مرآة الحرمين، رفعت باشاج، ج1 ص225.

([26]) تاريخ عمارة المسجد الحرام ص310.

([27]) القصص: من الآية 57.

([28]) التين: 1-3.

([29]) النمل: من الآية91.

([30]) إبراهيم: من الآية37.

([31]) آل عمران: من الآية97.

([32]) صحيح البخاري: 2/214.

([33]) صحيح البخاري: 5/94، شرح النووي: 9/123، أحمد بن حنبل: 1:259 ؛ فروع الكافي : 4/230.

([34]) فروع الكافي، الكليني: 4/226.

([35]) شفاء الغرام، الفاسي: 1/55.

([36]) المصدر نفسه: 1/54.

([37]) انظر كتابي اللسان والتاج، مادة جحف.

([38]) المحلى، ابن حزم الأندلسي: 7/71 ؛ عن صحيح مسلم: 1/328.

([39]) ميقات الحج، عدد 6 ص82.

([40]) معجم البلدان: 4/332.

([41]) معجم البلدان: 4/237.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الخامس عشر