مشرق الشمس والشعر
في السادس من أيار سنة 1861م، وفي قصر [جوروسنكو]، وسط
مدينة [كلكتا] الهندية، رُزق [دافندرانات طاغور] صبيًا، هو
أصغر أولاده السبعة، فسماهُ [رابندرا]، أي [الشمس]
بالبنغالية.
عاش طاغور طفولة هانئة مع أسرة مهرتْ فنونًا مختلفة، بعضها
الرسم والغناء والشعر، وقد عبَّ من هذه الينابيع التي شحذت
عبقريته.
كان أبوه أحد أعلام الصوفية، لذلك نشأ طاغور مستمعًا إلى
تراتيلها التي امتزجت أنغامها بروحه، ووشّحت أشعاره بنغم
ساحر.
وقد حرص أبوه على تعليمه في منزله، إذ كان في المدرسة التي
ألحق بها لا يحب الخضوع للنظام، وكان معلموه في المنزل
أشقاءه، باستثناء معلم واحد كان عالمًا وكاتبًا مسرحيًا.
وهو إلى جانب ذلك درس في جامعة البنغال ونال إجازتها في
الثالثة عشرة من عمره.
آنذاك كتب أولى نتاجاته الشعرية على لوح أردوازي، وهي
أناشيد بعنوان [أزهار برّية]، ثم نشر سنة 1876م أناشيد
بعنوان [قراءة الكبار]، ونشرت له مجلة بهاراتي قصيدة أدهشت
الشعراء، بعنوان [أسد الشمس] سنة 1877م.
لم يكتفِ والده بتلقينه الدروس النظرية، بل اصطحبه في
رحلات أعظمها الصعود إلى الهملايا حيث صومعته النائية،
وكان في الحادية عشرة.
هناك سرّح نظره في شغاف الجبل المهيب، متأثرًا بمشاهده
التي أغنت إحساسه وخياله، فآخى الطبيعة وأحبها.
وكان الأب يترك ابنه وحيدًا يجوب المسالك الوعرة، زارعًا
في نفسه الشجاعة والاعتماد على الذات، وقد جمعه هناك
برهبان بوذيين حبَّبوا إليه الصوفية، حتى عُدَّ شاعرَ
المتصوفة ومتصوف الشعراء
كان لحياة التأمل هذه أثرها في نزعة الرمزية في شعره، وقد
حرّضته على كتابة المسرحيات، مستلاً من مسرح الطبيعة
والحياة قيمه الجمالية والإنسانية.
وقد شاء الله لبذرة الشاعرية في ذاته أن تنمو وتتعاظم،
فينشر ما بين سن 15 و18 من عمره سبعين ألف بيت من الشعر،
وقد جمعها في كتاب سماه [تاريخ شاعر]، ثم أضاف إلى هذا
الحشد سنة 1880م قصته المأساوية [القلب الكسير]، ثم سنة
1881م ديوان [أغنيات الطفولة]، فالقصيدة الدرامية [ساعي
البريد] سنة 1914م.
وبين عامي 1909 و 1916م أصدر 17 كتابًا ضمّنها أناشيده
وأغنياته التي كان ينشدها في مدرسته [مرفأ السلام]، علاوة
على مسرحيته الشعرية الرائعة [الناسك].
في هذه الرحلة الشعرية أحداث جمة رسمت حياة الفيلسوف، فقد
نجا وهو طفل مع أخيه [جيوتير] خلال رحلة صيد من أنياب نمر
شرس، بعد أن جندله جيوتير برصاصة قاتلة.
وظلّت حياة طاغورَ هانئة إلى أن امتحنه القدر بوفاة أمه،
وكان في الرابعة عشرة، فخلّف موتها في نفسه حزنًا رافقه
مدى حياته، قال في رحيلها:
[لقد حرمني القدر أمي، فأصبحت وحيدًا، كانت الطبيعة
رفيقي].
كان يكبر الطفل وتكبر معه قصائده الشجية لتخطّ له طريق
المجد، وكأنما أشرقت عبقريته الشعرية مع إطلالته على
الحياة.
كان يجد من عائلته التشجيع، بَيْدَ أن أباه كان يُعدّه
لدراسة القانون، لذا أرسله إلى كلية برايتون في بريطانيا،
وهناك لم يجد طموحه، فعاد إلى وطنه بعد أن نهل من معين
الأدب الإنكليزي، وأتقن الإنكليزية، مما ساعده على ترجمة
بعض مؤلفاته من البنغالية.
عاد ليطل على العالم بشعره الراقي، ويقدّم له ديوان [أغاني
المساء] تحفةَ الشعراء، ثم ألحقه بديوان [أغاني الصباح]
المشبع بالغموض والرمزية.
لما بلغ الثانية والعشرين، انتقت له أسرته فتاة في الثانية
عشرة اسمها [مريناليني ديفي]، فاستجاب على الفور، إذ لم
تكن تسمح التقاليد له بالخروج على قرار العائلة، وقد انتقد
طاغور هذا التقليد البالي بعنف في معظم رواياته، خاصة
[حطام السفينة]، إلا أن اختيار العائلة كان مناسبًا، فقد
محضت ديفي زوجها المحبة والسعادة، وهو يعبّر عن ذلك
قائلاً:
[لقد حلّت الفرحة بسرعة من جميع أطراف الكون،إنها زوجي،
لقد أشعلتْ مصباحها في بيتي وأضاءت جنباته].
ورزق الله الشاعر ثلاثة أطفال أفعموا قلبه سعادة وبهجة،
بَيْدَ أن هذه السعادة لم تدم، فقد ماتت زوجته في ريعان
الصبا، ثم لحق بها ابنه وابنته وأبوه، كل ذلك ما بين 1902
و1918م.
مصائب جمة، كادت تهدُّ من صبره، لولا إيمانه بأن الموت
صفحة تُطوى لتفتحَ صفحة خالدة أنقى وأحلى.
على حافة سرير ابنه المريض نظم طاغور ديوان [الهلال]، وهو
قطع من فؤاده المُعَنَّى ، ومما ورد في ديوان الهلال قصيدة
مفعمة بالوجدان اسمها [نشيد أرض المنفى] يتحدث فيها الشاعر
على لسان ابنه الراحل مخاطبا أمه في منفسح السماء العظيم :
أمّاه لقد اربدّ النور في السماء ولا أعلم ما هو الوقت
دعي عملك يا أمي واجلسي هنا قرب النافذة
إن ظل المطر قد غطى كل منفسح السماء
البرق الضاري يمزّق بمخالبه الفضاء
وحين تهدر الغيوم ويتهزّم الرعد فإنني أحب أن أشعر بوجيب
قلبي الخائف وأن أتعلّق بك()
وفي سنة 1903م طبعت قصائد كثيرة له في ديوان سماه
[إهداءات].
ولعل أروع إبداعاته الشعرية ديوانه الخالد [جيتنجالي] أو
[القربان الشعري]، وقد عقّب عليه الكاتب الفرنسي أندريه
جيد قائلاً:
[ليس في الشعر العالمي كله ما يدانيه عمقًا وروعة].
ومما جاء في هذا الديوان :
هذه صلاتي إليك يا مولاي ، اضرب ، اضرب جذور ذلك الفقر في
قلبي
هب لي القوة لأتحمّل في هينة ويسر آلامي وأفراحي
هب لي القوة لأجعل قلبي مثمرًا في خدماته
هب لي القوة لأعمل على ألا أتنكر للفقير وألا أثني ركبتي
أمام السلطان المتحدي
هب لي القوة لأرقى بفكري بعيدًا عن السفاسف اليومية
هب لي القوة لأضع قوتي في شغف تحت إرادتك().
هذا الطودُ الشامخ، كان من الحنان بحيث تشجّعت فئرانُ
السنجاب على ارتقاء ركبتيه، واطمأنت الأطيار إلى الوقوف
على راحتيه.
ومن بعض ما ورد في [جيتنجالي] [نشيد الصلاة] من قصيدة رقم
36 في الديوان :
إن نصيبي من متاع هذه الدنيا سوف يأتي من يديك ، كذلك
كان وعدك ولهذا فإن نورك تلألأ فوق دموعي
إنني أتردد في اتباع الآخرين ، خشية أن أفوتك حيث
تنتظرني عند منعطف الطريق لتكون دليلي.
نشاطه ونضالاته
حلّق طاغور في كل اتجاه، مُجنّحًا بالحب والألم، والفكرة
والنغم، تزهو باسمه الهند، وهو يفرع جبالها، ويجوزُ
حدودَها، وينحدر كالشعاع النقي، فيغسلُ بكلماته الأرواحَ
والقلوب التائقة إلى الحرية والسلام.
في عام 1901م أنشأ في ضواحي [كلكتا] مدرسة سماها [شانتي
نيكيتان]، أي [مرفأ السلام]، كانت في قلب الغاب بين سلالات
الأشجار الباسقة، وقد وضع لها خطة تلحظ برامجها وقوانينها،
فالدروس النظرية تبدأ مطلع الفجر وتختم عند الثانية عشرة
ظهرًا، بعد الظهر، تبتدئ برامج التعليم العملية، حيث ينصرف
الطلاب إلى الحدائق ينسقونها ويزرعونها، ويختار بعضهم
التوجه إلى القرى المجاورة لتعليم الفلاحين وإرشادهم، وبعد
العشاء، يعكف الطلبة على قراءة القصص أو ترتيل الأغاني، أو
تمثيل المسرحيات، وفي العاشرة ليلاً يأوي الجميع إلى
النوم.
في هذه المدرسة ألقى طاغور محاضرات على طلابه جمعها في
كتابه [سادهانا]، ثم أنشأ سنة 1918م، غربي البنغال، في
[شانتي نيكتان]، مدرسته الفلسفية، [فيسفابهاراتي]، أي
الجامعة الهندية للتعليم العالي، وكان هدفها تعزيز ثقافة
السلام والتعاون بين الشعوب.
وكان قد تبرع بربع المبلغ الذي حصل عليه سنة 1913م إثر
نيله جائزة نوبل للآداب لبناء هذا الصرح العظيم.
قام برحلات لا تحصى، فلفّ القارات سائحًا ومحاضرًا
وواعظًا، حاملاً مشاعل المحبة والسلام.
عاود زيارة بريطانيا سنة 1913م، وتعرّف على شاعريها [ييتس]
و[إزراباوند] موثقًا صِلاته بالأدب الإنكليزي.
كانت رحلته هذه طويلة ومفيدة، مرّ فيها بمصر، فكرّمه
أدباؤها، وأقام له شوقي أمير الشعراء احتفالاً مهيبًا حضره
د. طه حسين وسعد زغلول، الذي أجّل اجتماع مجلس النواب ساعة
لكي يتسنى للنواب المشاركة في التكريم، وغنّى فيه محمد عبد
الوهاب مقطوعة من [مصرع كليوباترا].
وخلال مروره بروما، استقبله في ساحة [كولوسيوم] ثلاثون ألف
شخص بالهتاف والتحية، ومنحته جامعة أكسفورد في بريطانيا
سنة 1940م دكتوراه فخرية تقديرًا لعبقريته وعطائه، وكان قد
مُنح جائزة نوبل للآداب سنة 1913م على ديوانه العظيم
[قربان الأغاني]، أو [جيتنجالي]، وجاء في قراءة اللجنة:
[إنها المرة الأولى وربما الأخيرة التي نعثر فيها على
إنسان من هذا الطراز، فائق البراعة، عظيم الجودة].
في رحلاته كان وطنه في قلبه وعقله، لم يتوانَ عن نصرته،
مقاومًا بشعره وخطبه ورواياته مكائد الاستعمار، فقاد
تظاهرات شعبية سنة 1905م تندّد بتقسيم البنغال، وسعى إلى
إبعاد مناهج التعليم البريطانية عن مناهج الهند.
وتدفعه حميته إلى التخلّي عن لقب (فارس)، الذي خلعه عليه
ملك بريطانيا جورج الخامس سنة 1915م، بعد أن أطلق الإنكليز
النار على متظاهرين هنود ضد التواجد الاستعماري، فقتلوا
منهم أربعمائة متظاهر، وقد دفع قبوله لهذا اللقب (سير)
خصومه إلى اتهامه بخيانة الهند.
وإن كان قد حصل تباين بينه وبين غاندي حول وسائل مقاومة
الاستعمار البريطاني، إلا أن ما فعلاه عبّد طريق
الاستقلال، فأبو الهند ومنارة الهند، نقلا بلدهما بالقصيدة
والكفاح، والمغزل والمظاهرات، والصيام والمقاطعة إلى ضفاف
الحرية.
قال غاندي في صديقه طاغور:
[طاغور بحق منارة الهند]،
ولعله منارة الشرق كله.
عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكانت الهند تخوض
نضالها في سبيل الاستقلال، خاطب شعبه قائلاً:
[حيثما يتحرر العقل من الخوف
ويشمخ الرأس عاليًا، وحيثما تتوافر المعرفة بلا قيود،
وحيثما تنطلق عقولكم نحو العمل لبلوغ فردوس الحرية، أناشدك
رباه أن توقظ قومي من غفلتهم وغفوتهم].
هذا هو عبقري الهند، ذو وطنية حادة واستيعاب واعٍ للحب
والله والمرأة والرجل والطبيعة.
هو شخصية وحيدة نوعها، مصلح كانت له شجاعة مهاجمة الآراء
الاجتماعية في الهند المتمثل بنظام الطبقات، وعقيدة تناسخ
الأرواح أعز عقائد الهنود على قلوبهم، كما أنه احتجّ على
الإسراف في النزعة القومية، حسبه أنه خطيب مُفَوّه، ومحاضر
لَسِن، ومربٍّ موجِّه، وصوفي معتدل.
طاغور الموسيقي
وهب الله طاغور صوتًا عذبًا، وعشقًا للموسيقى والغناء، كان
يصغي منذ صغره إلى أخيه [جيوتير] وهو يعزف على البيانو،
ويدندن بقصائده وفق ما يسمعه من لحن، فهو يرى أن اللحن يجب
أن يسبق الشعر، بل أن الشعر والموسيقى كيان واحد.
هكذا كانت الموسيقى الهواء الذي تنفّسه منذ طفولته، إذ
سرعان ما وجد نفسه ينشد الأغاني الزاخرة بحبه للهند، ويضع
لها موسيقاها بنفسه، وتعظم غبطته عندما وجد الهند تتغنى
بها وتهيم بإيقاعها الجميل.
وقد وضع طاغور أكثر من ثلاثة آلاف أغنية، أسهمت في تطور
الموسيقى الهندية المعاصرة، وكان لدراسته في لندن أثر كبير
في هذا التطور، خاصة في نتاجه الشخصي، حيث أبدع مسرحيته
الموسيقية [فالميكي] تيمنًا بأقدم شعراء الهند.
وعندما أشرف على الكبر، اعتمد على ابن أخيه، فكان طاغور
يغنّي وابن أخيه يأخذها عنه ويذيعها، لتصبح على كل شفة
ولسان.
جاء في كتاب [السادهانا] لطاغور:
[الموسيقى أنقى أشكال الفن، وهي أقرب تعبير عن الجمال.
إن نور الموسيقى يضيء الدنيا.
إيه أيها المعلم، لقد جعلت قلبي أسيرًا في الشابك الممتدة
من موسيقاك].
طاغور المصوّر
كان طاغور متعدد المواهب ، لم يثنه تقدم العمر عن إشباع
ميوله الفنية التي أججّها إحساسه بروعة الفن وجماله.
ففي السبعين من عمره، رأى أن يزاول مهنة التصوير، كانت له
عين باصرة تفسّر جمالات الأشياء، ومن هنا كان عليه تفسير
لوحاته التي كانت مزيجًا غريبًا من الألوان، وهو في
إجاباته للسائلين كالشاعر الرمزي الذي يلقي على القصيدة
مهمة الإجابة، إذ كان يجيب أن على صوره أن تفصح عن المعنى
وليس عليها أن تفسّره، فالفن يماثل الحبّ كونه غير قابل
للتفسير.
إن لوحة طاغور تلد كالفكر حين يدخل في سُبات، ثم تتّضح وهي
في طريقها إلى التكوين، ويعجب المرء بين دقة التصوير
ورحابته في آن معًا، وتنساب الألوان بقعة ضبابية، فبياض
ثلجي، فحمرة، تليها خضرة موشاة بلون بنفسجي، وتأتلق
الألوان جميعها في اللوحة لتصبح عالمًا حيًا.
هكذا اكتشف الناس في عبقرية طاغور أسرار النغم واللون، في
لوحات خلابة، واحتفاءً بهذه العبقرية الخالدة أقيمت لطاغور
معارض كثيرة، ظفرت بإعجاب نقّاد الفن والتصوير في العالم
أجمع.
هكذا حلا لطاغور أن يدخل جنّة الألوان وهو طاعن في السن،
ليجوّد في فن التصوير، ويترك قرابة ألفي لوحة تعدّ تراثًا
فنيًا خالدًا.
كانت تنسرح نظراته إلى الألوان الخلابة، ثم تنكفئ إلى نسيج
لوحته، وتواكب نقلة ريشته، وتهديها وتفسح أمامها عالمًا من
الزهر البديع.
ولإيمانه بأن روحًا تجمع الفنون، كان يعمد إلى مخطوطات
قصائده يبزّ فيها يراعه بخطوط وأشكال عجيبة، كأنها أشباح
تتمايل برشاقة.
وبشكل عام، كانت لوحاته تجلوه مصورًا بارعًا، تنقاد
الألوان لريشته طيّعة راضية.
طاغور المسرحي
برع طاغور في تأليف المسرحيات الشعرية، ولقد شاء الله أن
تجتمع فيه عناصر الفن كلّها.
في معظم مسرحياته تلمس روح الشعر وحضوره، كما في مسرحية
[دورة الربيع] التي تلامس فن الشعر والغناء أكثر من
المسرح.
فالحوار فيها صور شعرية مفعمة بالموسيقى، والأزهار تؤدي
أدوارها في الربيع فتسعد وتشقى كالناس، كما يرى طاغور:
[ ها هي تتراءى براعم غضة، تتغنى مع برعم (الشامباك).
إن حركتي تختبئ في سكون أعماقي، في ميلاد الأوراق الغضّة،
وفيض الزهور].
وفي المسرحية أفكار فلسفية وحكم بليغة، وصور ساحرة.
ويلوّن دائمًا في مسرحيته الحوار بأبيات من الشعر مليئة
بالحكمة وبُعد النظر كما في قوله عندما يتحدث عن الحظّ:
ألا إن حظ ابن
آدم يبدو
سريع التقلّب لا يستقر كزهرة لوتس تهفو شرودًا
فطورًا تقرّ وطورًا تفر وينهب في الغد ما كان أعطا
هُ ويلعب لعبة القدر فكل اعتقاد بحظٍ جنون كل اعتماد على الحظ
شرّ
وهكذا معظم مسرحيات طاغور، تؤالف بين الصورة الشعرية
والفكرة، كما في مسرحية [الضحية] التي يسود فيها حوار فكري
هادف، إذ يقرر الملك [غوفيندا] تحريم الأضاحي، بعد أن
صُدِع قلبه بمرأى فتاة راحت تبكي عندما أخذت عنزتها لتقدم
قربانًا.
وتسود في مسرحية [شيترا]، الصورة الشعرية دون أن تمس عمق
الفكرة، كذلك في مسرحيات [الملك والملكة]، و[الضحية]،
و[لعنة الوداع]، و[ماليني] و[الناسك].
ويظهر في مسرحية [مكتب البريد] طفل أقعده المرض، ينتظر
أمام النافذة رسالة من الملك [هيرالد]، وهو يتحدث إلى
السابلة في حوار ساذج، يضيقون في البدء بأسئلته، لكن
الحديث يتصل سلسًا كنغم جميل لينقّي همومهم وأحزانهم،
بَيْدَ أن الرسالة المنتظرة لم تصل إلى الطفل المدنف،
وأخيرًا يَمثُل الملك نفسه أمام الطفل لتتسامى روحه مطمئنة
سعيدة.
وهكذا في مسرحيات طاغور جميعها، وعددها أربع وعشرون، تمتزج
الصور والأفكار بنبضات فؤاده، حاملة رسالته الإنسانية إلى
العالم.
آخر المطاف
[من أنت أيها القارئ، أنت الذي ستقرؤني بعد مائة عام
ليس في مكنتي أن أبعث إليك بزهرة واحدة من هذا الإكليل
الربيعي ولا بشعاع مذهب واحد من تلك السحب هناك]().
هكذا كتب طاغور رسالته قبل رحيله بأيام.
كان زرعه غنيًا وحصاده وفيرًا، ثم غاب العملاق عن مائة
وعشرين مجلدًا تاركًا كرومه النديّة للأجيال.
في 8 آب سنة 1941م، قطف الموت روح الشاعر العظيم، بينما
كان بين رفاقه وأفراد أسرته، كان يعلم ذلك:
[أنا أعلم أنه سيأتي يوم أضيّع فيه هذه الأرض عن ناظري].
بهذا كان يودع نفسه:
[إن الحياة تغادر في صمت بعد أن تسدل على عينيّ الستار
الأخير].
وقبل أن يرحل قدم عصارة فكره وذكرياته:
[سأضع أمام زائري كأس حياتي المترعة، وكل قطوف كرومي، كل
حصاد حياتي الدؤوب].
ثم غابت شمس طاغور وراء هضاب التاريخ، إلا إنها ظلّت وهي
في خفائها حاضرة حضور الضمير.
كان قد جاوز الثمانين بخطوات، من 1861 وحتى 1941م، عمر
ثريّ أكثر مما هو بكثير، وما بين هذين التاريخين مائة
وعشرون مجلدًا، ولوحات فنية، وقطع موسيقية، ومجموعات
شعرية، ونضال مرير، وأسفار وتنقلات، جعلت من طاغور واحدًا
من عباقرة العالم بأسره.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|