السنة السادسة / العدد السابع عشر/ حزيران 2010 - رجب 1431هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

بيان المرجع الديني الشيخ الوحيد الخراساني دام ظله

بمناسبة استشهاد الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام)

بسم‌ اللّه الرَّحمن الرَّحِيم، الحمد للّه رَبِّ العَالَمِين، وصلَّى ‌اللّه عَلَى سيِّدنا ونبيِّنا محمَّدٍ وآلِهِ، الطَّيبين الطَّاهرين لا سِيَّما بقية ‌اللّه في الأرضيين، واللعن على أعدائهم إلى يوم الدين.

إنَّ الهدف من الخلقة هو معرفة اللّه سبحانه وتعالى وعبادته.. معرفة لا يمكن أن تتأتى من غير طريق الوحي، وتخمد أمام عظمته وكبريائه مشاعل العقول، وما تنسجه الأفكار وتحكيه الأوهام عن ذاته سبحانه وصفاته وأفعاله ما هي إلا ظلمات بعضها فوق بعض: «كُلُّ ما مَيَّزْتُمُوهُ بِأَوْهامِكُمْ في أَدَقِّ مَعانِيهِ مَخْلُوقٌ مَصْنُوعٌ مِثْلُكُمْ مَرْدُودٌ إلَيْكُمْ»([1])، سبحانه من عظيم تاهت الفطن في تيّار أمواج عظمته، وحصرت الألباب عند ذكر أزليته، وتحيّرت العقول في أفلاك ملكوته.

والمنار لبلوغ {نُورُ السَّمواتِ وَالأرض}([2]) منحصر في مشكاة قلبٍ أضاءه مصباح الوحي: {كِتابٌ أَنزَلْناهُ إِلَيكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّور}([3])، والعبادة تليق ذاك السبّوح القدّوس الذي خلق الإنسان -الذي لم يكن شيئًا مذكوراً- من نطفة أمشاج، وجعله سميعًا كي يسمع آيات شريعته، وبصيرًا حتى يرى آيات حكمته، وخلق من الماء المهين خلقًا يرقى إلى مقام العقل واليقين، وعلم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.. {فَتَبارَكَ اللّهُ أَحسَنُ الخالِقين}([4]).

إلا أنَّ عبادة اللّه الذي ليس كمثله شيء مثل معرفته لا تتيسر إلا بما شرَّعه العلي العظيم وأبلغه لنا بواسطة الأنبياء العظام كي يدعى "ذو الجلال والإكرام" بأسماء الجمال والكمال التي هي خزائن جواهر عرفانه عزّ وجلّ {وَلِلّهِ الأسماء الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها}([5]) وتلك المعرفة والعبادة التي هي الغرض من خلق الإنسان والخليقة، وحصيلة بعثة الأنبياء.. بلغت الغاية ببعثة الخاتم للنبيين الذي هو "الخاتِم لما سَبَق" و"الفاتِح لمَا استُقْبِل" وبذا بلغ حدّ الكمال.

وهذه الشجرة الطيبة التي غرسها ربُّ العزَّة بعين الحكمة ويد القدرة في أرض الفطرة البشريَّة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا فِطْرَة‌َ اللّهِ الَّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها}([6]) أينعت وتكاملت وأتت أُكلها بوجوده (صلى الله عليه وآله) في ذلك اليوم الذي قال: {اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دينًا}([7]) فجمع ما أمكن أن يكون من معالم الهداية في‌ مدينة العلم والحكمة الخاتمية، و بحكمته البالغة، قد حصر تلك المدينة بحصن حصين لا ينفذ فيه الخطأ والهوى، كي لا تدنس العقول الناقصة والقلوب الفاسدة جواهر العلوم الربانيَّة والحِكَم الإلهية، ولم يترك لتلك المدينة منفذًا سوى الصراط المستقيم للولاية الكبرى، ولم يفتح بابًا للخلق والخليقة سوى باب الإمامة العظمى الملازمة للعصمة المطلقة من كل خطأ وسهوٍ وهوىً ونسيان.. «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلْمِ وَ عَلِيُّ بابُها»([8]).

ومن الضروري أن يُعلَم أنَّ الحلقة الرابطة لعرى الأمّة إلى يوم القيامة بتلك الرسالة العظمى والإمامة الكبرى ما هي إلا الإنسية الحوراء.. فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها.

تلك هي الوسيلة الوحيدة لامتداد الوجود الخاتم في هذا العالم.. إذ إنَّ نسلها سلام اللّه عليها يمثِّل البُعد المُلكي له (صلى الله عليه وآله)، كما وأنَّ البُعد الملكوتي لدينه (صلى الله عليه وآله) باقٍ بالأئمة من ولدها صلوات اللّه عليها.

تلك هي الوسيلة لبزوغ الكواكب السماويَّة للإمامة ؛ إذ مظهر أُفق وجودها مشرق الحلم الحسني، والشجاعة الحسينيَّة، والعبادة السجاديَّة، والمآثر الباقريَّة، والآثار الجعفريَّة، والعلوم الكاظميَّة، والحُجَج الرضويَّة، والجود التقويَّة، والنقاوة النقويَّة، والهيبة العسكريَّة، ومن الحسين -الذي هو مصباح الهدى وسفينة النجاة- إلى المهدي الموعود -الذي هو منتهى مواريث الأنبياء- و"بيُمنِهِ رُزِقَ الوَرى" و"بِوُجودِهِ ثَبَتَتِ الأرض وَالسَّماء" ثمرة تلك الشجرة الطيبة التي {أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماء تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها}([9]).

والحاصل: أنَّ الجواهر المكنونة في الخزائن الإلهية ما هي إلا من صدف عصمتها، والسراج المنير لنبوة الأنبياء -من آدم إلى الخاتم- والمشعل الوهَّاج لإمامة أئمَّة الهدى مستنير بنور وجودها..

وآخر هذا المكنون من هذا الصدف، والكوكب الدرِّي لهذا الفلك هو الذي «يَمْلأُ الأرض قِسْطًا وَعَدْلاً كَما مُلِئَتْ جَوْرًا وَظُلْمًا»([10])، وبوجوده يصدق تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}([11]) وبظهوره يعلم تفسير قوله عزَّ اسمه: {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها}([12]) وليعلم أنَّ قدر (ليلة القدر) التي هي «مَنزِل كتاب اللّه الأعظم» مجهول، ودرك مقام تلك العطيَّة الكوثريَّة «عطيَّة ربِّ العرش العظيم» للرسول الكريم عن عقولنا محجوبٌ.

وما أقرّ بصدوره العامَّة والخاصة على لسان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي {ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى}([13]) واعترفت به نقَّاد الحديث الذين لا يُلوون جهدًا في تضعيف أسانيد الأحاديث الواردة في فضائل أهل بيت العصمة والطهارة.. قد أعجزهم المسّ في سند هذا الحديث.. بل الكل أقرَّ بصحته وتماميَّته على جميع المباني والشروط عند المشائخ، وشهدوا على قول رسول ‌اللّه (صلى الله عليه وآله): «فَإنَّما هِيَ (فاطِمَةُ) بَضْعَةٌ مِنِّي يُريبُنِي ما أَرابَها وَيُؤذِينِي ما آذاها»([14]) وقوله (صلى الله عليه وآله): «فاطِمَةُ بَضْعَةٌ مِنِّي فَمَنْ أَغْضَبَها أَغْضَبَنِي» ([15])، إذ عبَّر عن فاطمة بأنَّها بضعة من وجوده وإنيَّته.. ذاك الذي كان «أوَّل ما خلق»([16]) و«أفصح من نطق»، واسم اللّه الأعظم في الأسماء الحسنى، ومثل اللّه الأعلى في الأمثال العليا.. قد عبّر عنها بأنها السبيكة المسبوكة من وجوده ؛ فعدَّ غضبها غضبه، الذي غضبه غضب اللّه..

وهذا مقام يحكي من تفرُّع فاطمة من مثَل نور اللّه وانعكاس غضب اللّه ورسوله ورضاهما في غضب الصديقة الكبرى ورضاها..

وقد نقل الفريقان أنَّه (صلى الله عليه وآله) قال لفاطمة (عليها السلام): «إن اللّهَ يَغْضَبُ لِغَضَبِكِ وَيَرْضى لِرِضَاكِ»([17])، ومقام العصمة الذي هو أعلى مراتب الكمال الإنساني لا يكون إلا بدوران غضب العبد ورضاه مدار رضا اللّه وغضبه سبحانه..

وإذا كانت العصمة الكبرى تعني وصول الإنسان الكامل إلى مقام يرضى معه برضا اللّه ويغضب لغضب اللّه بقول مطلق، فإن فاطمة الزهراء (عليها السلام) وصلت إلى مرتبة يرضى اللّه لرضاها ويغضب لغضبها بقول مطلق، وهذا مقام يحار فيه الكمّل ! تلك هي مشرق الأنوار لنجوم سماء الولاية، ومخزن الإسرار لتخوم كتاب الهداية.

تلك هي زوجة وأُمُّ اثني عشر سيِّد من ولد إسماعيل الذين جاء ذكرهم في الباب السابع عشر من سِفر التكوين من التوراة، وخبَّر اللّه بهم إبراهيم الخليل(عليه السلام).

تلك هي العلامة العظمى في السماء التي ظهرت في مكاشفات يُوحنَّا.. امرأة قد احتضنت الشمس، والقمر تحت قدميها، وعلى رأسها تاج من اثني عشر كوكبًا([18]).

تلك في سورة (حمّ) تأويل "الليلة المباركة" التي {فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}([19]).

تلك {نِسَاءنَا}([20]) في القرآن المجيد ؛ ذاك الجمع الذي انحصر بفرد واحد..

تلك وبعلها.. بحر النبوة والعلم الذي بهما أُوِّل قوله عزَّ من قائل: {مَرَجَ الْبَحْرَينِ يَلْتَقيانِ}([21]).

تلك المرأة الوحيدة التي عدَّ اللّه سبحانه دعاءها عِدل دعاء خاتم النبيين وسيد الوصيين في يوم المباهلة..

تلك وحيدة الدهر التي توَّجها اللّه بتاج: {إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُورا}([22]).

تلك التي شاهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) يوم المعراج مكتوبًا على باب الجنَّة: «فاطِمَةُ خِيرَةُ اللّهِ» ([23]) ؛ نعم تليق لأحمد المختار خيرة اللّه. تلك التي قال فيها رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «وَأُبْعَثُ عَلَى البُراقِ خُطْوُها عِنْدَ أَقْصى طَرْفِها وَتُبْعَثُ فاطِمَةُ أَمامِي»([24]).

تلك كفاها أنَّها تحشر يوم لنشور قدَّام «إِمَام الأولين والآخرين» كي يتجلَّى معنى {يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْديهِمْ}([25]).. ذاك النور الذي يتقدَّم يوم الجزاء صاحبه الذي عبَّر عنه ربُّ العزَّة في كتابه المجيد بـ: «السراج المنير»، وجعله مثَل نوره في آية النور.

وكفى في شخصيتها أنَّها أوَّل من ترد على بساط‍ القرب الذي هو {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}([26])، «أَوَّلُ شَخْصٍ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فاطِمَةُ (عليها السلام)»([27]).

وحيث استقرَّت في مستقرِّ رحمته زارتها الأنبياء كلاًّ: «زارَكِ آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ مِنَ النَّبِيِّين»([28]).

تلك الجوهرة الفريدة الوحيدة التي منّ اللّه تعالى بوجودها -الذي صار سببًا لامتداد أشعة رسالة أبيها (صلى الله عليه وآله)- على النّبي الخاتم حيث قال: {إِنَّا أَعْطَيْناكَ الكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الأبتر} ومنّ اللّه ببعثة النّبي الخاتم على المؤمنين إذ قال: {لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ}([29]).

إنَّ خزائن علوم الأئمة المعصومين سلام اللّه عليهم أجمعين -بعد القرآن المبين- قد خزنت في ثلاث صحف مخزونة مكنونة عندهم، وهي: الجفر، والجامعة، ومصحف فاطمة (عليها السلام). إذ بعد رحيل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من هذه الدنيا الفانية، وابتلاء الصديقة الكبرى بالحزن الشديد لفراق أبيها، طبقًا للحديث الصحيح المروي عن الإمام السادس جعفر بن محمد الصادق (عليهما السلام): «.. كان جبرائيل (عليه السلام) يأتيها فيحسن عزاءها على أبيها ويطيِّب نفسها، ويخبِّرها عن أبيها ومكانه، ويخبرها بما يكون بعدها في ذرِّيَّتها، وكان علي (عليه السلام) يكتب ذلك..»([30]).

فهذا مصحف فاطمة (عليها السلام).. الحاوي علم ما يكون. والذي يلزم أن يعلم أية قدرة في تلك النفس القدسيَّة.. وأية جذبة في بضعة الحقيقة المحمديَّة التي جذبت بحقيقتها شديد القوى من الأفق الأعلى، وقهرت بقدرتها روح الأمين من سدرة المنتهى..

نعم ؛ السلام، والسلامة من أكدار العالم المادي في ليلة القدر التي هي مطلع الفجر لشموس سماء الولاية أوجبت أن تتنزل الملائكة والروح.

وفي الحديث الصحيح عن موسى بن القاسم أنَّه قال: قلت لأبي جعفر الثاني (عليه السلام): قد أردت أن أطوف عنك وعن أبيك. فقيل لي: إنَّ الأوصياء لا يُطاف عنهم !

فقال: «بلى، طف ما أمكنك، فإنّ ذلك جائز»، ثم قلت له -بعد ذلك- بثلاث سنين: إني كنت استأذنتك في الطواف عنك وعن أبيك، فأذنت لي في ذلك، فطفت عنكما ما شأ اللّه. ثم وقع في قلبي شي فعملت به.

قال: «وما هو؟» قلت: طفت يومًا عن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، فقال ثلاث مرات: «صلى اللّه على رسول اللّه»، ثمَّ اليوم الثاني عن أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم طفت اليوم الثالث عن الحسن (عليه السلام)، والرابع عن الحسين (عليه السلام) والخامس عن علي بن الحسين (عليه السلام)، واليوم السادس عن أبي جعفر محمد بن علي (عليه السلام)، واليوم السابع عن جعفر بن محمد (عليه السلام)، واليوم الثامن عن أبيك موسى (عليه السلام)، واليوم التاسع عن أبيك علي (عليه السلام)، واليوم العاشر عنك يا سيدي ! وهؤلاء الذين أدين اللّه بولايتهم.

فقال: «إذًا واللّه تدين اللّه بالدين الذي لا يقبل من العباد غيره». فقلت: وربَّما طفت عن أُمِّك فاطمة (عليها السلام)، وربَّما لم أطف.

فقال: «استكثر من هذا فإنَّه أفضل ما أنت عامله، إن شاء اللّه»([31]).

والتي إذا أُضيف لها طواف بيت اللّه الحرام صار ذلك الطواف أفضل الأعمال، كيف يمكن تحرير فضائلها أو تقدير قدرها.

إنَّ أضواء الكمال وأنوار الجلال الساطعة من تلك الشمس البازغة في سماء العصمة.. ممَّا لا تَسعُه العقول الجزئيَّة.. وما كان قصدنا هنا إلا الإشارة والتذكرة لأولي الألباب.

***

فما الذي حدث بعد رحيل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إلى الملأ الأعلى.. إنَّ مثل هذا الوجود الذي ملؤوا قلبه بالحزن والألم ارتضى أن يخلع قلبه من ولده كالحسن والحسين، وأن يغض طرفه عن بنات صغارٍ، وأن تنوح عند قبر أبيها قائلة:

«يا إِلهِي! عَجِّل وَفاتِي سَرِيعا»([32])، وأن تقول:

«صُبَّتْ عَلَىَّ مَصائِبُ لَوْ أَنَّها صُبَّتْ عَلَى الأيَّامِ صِرْنَ لَيالِيا»([33]).

ولذا عندما أُودعت التراب لم يبقَ من بدنها النحيف إلا شبح «وَصارَتْ كَالخَيَالِ»([34])!

فكان أن صار ذلك الرجل الذي بقدرته وإرادته أخضع الدنيا والآخرة.. قد هدَّه مصاب فاطمة وانهار حتى أنَّه خاطب رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بقوله: «أَمَّا حُزْنِي فَسَرْمَدٌ، وَ أَمَّا لَيْلِي فَمُسَهَّدٌ»([35]).

***

فما يلزمنا -يا ترى- أمام هذه الداهية الدهياء والمصيبة العظمى.. ؟ !حيث كان الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي هو مَنْ به وجودنا وكمالاته المفاضة ممّن منه الوجود، وهو الواسطة في تربيتنا التكوينيَّة والتشريعيَّة.. فله (صلى الله عليه وآله) على كل مسلم قد اهتدى في مبدأه ومعاده، وبـ:«مَنْ أَرْسَل‌َ اللّهُ» و «ما اَنْزَلَ اللّهُ» حقُّ الحياة الأبدية، { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}([36]).

وبمقتضى إدراك العقل بوجوب شكر المنعم، وحكم الشرع بلزوم مودَّة ذي القربى {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا المَوَدَّةَ فِي القُربى}([37]) ؛ وأنّ فاطمة (عليها السلام) أقرب خلق اللّه وأحبّهم لرسول اللّه.. فيلزمنا القيام بتقديم مقدورنا في تعظيم -هذه الشعيرة- يوم شهادتها التي فيها دفن الناموس الإلهي وبضعة أشرف الأنبياء وكفؤ سيِّد الأوصياء وأُمُّ الأئمة النجباء.. وَارَوْهَا نصف الليل غريبةً ! وكان أن عُفِّي قبرها -الذي هو مخزن الأسرار الإلهية- وأُخفي، فكانت شهادتها سند إحقاق حق أول مظلومي العالم.. ولم أرَ مثله حقًا أضيعا([38]).

إنَّ تخليد يوم شهادة تلك البضعة الطاهرة بالشعائر الفاطميَّة ؛ إنَّما هو إحياء لأمر أمير المؤمنين (عليه السلام) وإحياء أمره (عليه السلام) -الذي هو نفس رسول اللّه (صلى الله عليه وآله)- إحياء أمر خاتم الأنبياء، وإحياء أمر سيِّد الأنبياء إحياء أمر تمام الأنبياء والمرسلين.. وإحياء أمر أنبياء اللّه إحياء لأمر العبادة والمعرفة لربِّ العالمين.

**

فالمأمول ممَّن يأمل أن يحظى بشفاعة أبيها يوم القيامة، ويتمنى لقاء بعلها عند خروج الروح، وأن يأمن من وحشة القبر ووحدة ليلة الدفن بدعاء الصديقة الكبرى.. أن يجدَّ في إقامة مراسم العزاء -إلى حد الإمكان- بما يتناسب مع عظمتها سلام اللّه عليها، وأن تُرفَع أعلامُ العزاء من المواكب الدينيَّة في مصيبة (أُمِّ الأئمة النقباء) معزيَّةً لسبطها الأكبر وسيِّد الشهداء (عليهما السلام).. عسى أن يكون ذلك سلوى وعزاء من هذه الأمّة لأبيها وبعلها اللذان هما أول وثاني مَن في عالم الإمكان.. وأن يكون ذلك بلسمًا لجراح قلوب وُلْدها المعصومين، أئمة الإنس والجنِّ سلام اللّه عليهم أجمعين.. ونوع تقديم إخلاصٍ لمن هو الآن [بيُمنه رزق الورى، وبوجوده ثبتت الأرض والسماء]، وولي العصر وصاحب الزمان [أرواحنا لتراب مقدمه الفداء].

***

وعليه فمن المفروض اللازم على عامَّة المؤمنين الالتفات إلى هذه النكتة -التي لا تقال تعصبا وتعنتا-‍ بل بمقتضى الدليل والبرهان: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللّهِ الإسلام}([39]).. وإنَّ هذا الإسلام بأُصوله وفروعه قائمٌ بالأئمة المعصومين: «بِنا عُرِف ‌َاللّهُ بِنا عُبِدَ اللّهُ نَحْنُ الأَدِلاءُ عَلَى اللّهِ وَلَوْلانا ما عُبِدَ اللّهُ»([40])، وقد قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه وأهل‌ بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا علىّ الحوض»([41]).

وثمّة أيدي مرموزة تعمل لتضعيف الروابط المستحكمة بين هذه الأُمَّة وأئمة الهدى -الذين هم مصابيح الهداية وسفن نجاة الأُمَّة-، وتبديل الهداية إلى هذا الصراط‍ المستقيم -الذي هو ثمرة حياة الأئمة المعصومين ونتيجة الجهاد العلمي والعملي للعلماء الربَّانِيِّين والفقهاء الراشدين- بالضلال المبين الذي هو الانحراف عن ولاية أولياء ربِّ العالمين والبراءة من أعداء اللّه المُضلِّين..

وعليه فإنَّ اللازم العقلي والشرعي يفرض علينا تعظيم شعائر الدين -الذي مصداقها الأتم والأكمل- إظهار الولاء لمقام الصديقة الكبرى وإبراز الاعتصام بحبل اللّه الذي هو القرآن والعترة وحفظ الشريعة الحقَّة التي هي سبيل اللّه الأعظم.. وصونها عن قطَّاع الطريق المستقيم.

طوبى لأولئك الذين يُوفَّقون لخدمة المقام المنيع لشفيعة يوم الجزاء، ويحظون برضاها الذي هو رضا الرب.. إذ إنَّ رضا اللّه سبحانه هو منتهى آمال الأنبياء والأولياء {ذلِكَ فَضْل‌ُاللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ}([42])، وبإقامة الشعائر يوم شهادتها تُحرَس وتُصَان هذه الطريقة الحقَّة من كيد المخالفين والمنافقين.

***

ولنختم الكلام متبرِّكين بذكر وصيَّتِها:

«بِسْم‌ِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: هذا ما أَوْصَتْ بِهِ فاطِمَةُ بِنْتُ رَسُول‌ِاللّهِ أَوْصَتْ وَهِيَ تَشْهَدُ أَن لا إِلهَ إِلاّ اللّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقُّ وَالنَّارَ حَقُّ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي القُبورِ. يا عَليُّ! أَنَا فاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، زَوَّجَنِيَ اللّهُ مِنْكَ لأََكُونَ لَكَ فِي الدُّنْيا وَ الآخِرَةِ، أَنْتَ أَوْلى بِي مِنْ غَيْرِي.. وَأَسْتَوْدِعُكَ اللّهَ وَاقْرَأ عَلى وُلدِيَ السَّلامَ إِلى يَوْم ‌ِالقِيامَةِ»([43]).

هذه الوصية؛ أنشئت في حال شهود المبدأ والمعاد، والجنَّة والنار، والرسالة والرسول.. ولم تقم مثل هذه الشهادة من شهيد ولن تقوم من يوم نزول قوله تعالى:{شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلا هُوَ وَالمَلائِكةُ وَاُولُوا العِلْمِ قائِمًا بِالقِسْطِ لا إِلهَ إِلا هُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}([44]) إلى اليوم المشهود.

شهادة أُدِّيت في محضر شاهدي صدق، الأول منهما ربِّ العزَّة والشاهد الثاني منهما وليُّ اللّه الأعظم: {قُلْ كَفى بِاللّهِ شَهِيدا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الكِتابِ}([45]).

إنَّ معرفة هذه الشهادة وشاهدها ومشهودها تختص بأُولى العلم الواقفين على مراتب التوحيد ومقام الخاتميَّة وحقيقة الجنَّة والنار، وأسرار بعث مَن في القبور، وأحوال يوم النشور.

والغرض الإشارة إلى آخر ما جاء في الوصيَّة، إذ قالت: «وَاقْرأ عَلى وُلْدِيَ السَّلامَ إِلى يَوْمِ القِيامَةِ»، الذي يظهر منها - لارتباطها بعالم الغيب وإحاطتها بعالم الشهود- علمها بعدم انقراض سلسلة أولادها إلى يوم القيامة، لذا طلبت من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يبلغ ولدها السلام إلى يوم القيامة.

وليعلم الفاطميُّون والفاطميَّات أي تاج فخر كلَّلتهم به.. وأي مسؤوليَّة كبرى حمَّلتهم.. أين تاج سلاطين الدنيا.. ؟ وأين فخر سلام ناموس اللّه على ذريَّة الزهراء ؟ سلام الصديقة الكبرى النابع من قلب القرآن وسورة يس، وهو سلامٌ متصل بـ: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}([46]) الذي هو قلب سورة يس.

إنَّ المسؤوليَّة العظمى المتأتاة في رد هذا السلام الواصل من تلك الناحية المقدسة التي خصَّها اللّه الّذي {لا إِلهَ إِلا هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ}([47]) بصلاته وسلامه.

إنَّ جواب هذا السلام هو ما يلزم وُلدها إلى يوم القيامة من الدفاع عن حقِّ أُمِّهم بتمام وجودهم، ويلزم جواب هذا السلام من كلِّ سيِّدٍ من ولدها بما يتناسب ومقامهم.

ولا ينبغي لسيد من ولدها قد وصل إلى مقام أو منصب ثمّ يقصّر عن أداء حقِّها، أو إحقاق حقوقها..؟!

تلك التي كانت تقول -دفاعًا عن إمامة الأئمة المعصومين-: « وطاعَتَنا نِظاما لِلمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أَمانا مِنَ الفُرْقَةِ»([48]).. وذاك في مقام إحقاق حقها، وإحياء أمر إمامة أئمة الهدى.. مع ما كانت عليه من عظم المصاب الذي هدّ قوتها، وأنحل جسدها، حتى خاطبت أبيها بقولها: «رُفِعَتْ قُوَّتِي»([49]).. وكانت تنشد عند قبر أبيها بقلب حزين في فراق ذلك الأب الرحيم:

ماذا عَلى مَنْ  شَمَّ   تُرْبَةَ   أَحْمَد

 

أَنْ لا يَشَمَّ مَدَى الزَّمانِ غَوالِيا([50])

والحذر من عدم رعاية شيعتها المحرومين والغفلة عنهم.. إذ قلبها تعلَّق بقلوبهم التي تحزن لحزنها وتفرح لفرحها..

فكان جواب هذا السَّلام من السادة البالغين مرتبة علميَّة هو التكفل لأيتام آل محمد: بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا يَدَعُون هذه القلوب في غيبة صاحبها أن تقع في حبال شبهات المخالفين وأن يصادوا من قبل شياطين الجنِّ والإنس.

وجواب هذا السلام من قبل السادة الأغنياء هو البذل من مالهم في سبيل تحكيم مباني المذهب الذي من أجله ضحَّت واستُشهِدَت، ولا يبخلوا من الإنفاق في سبيل إحياء شعائر يوم شهادتها..

وعلى عموم السَّادة التأمل في هذه الكلمات المؤلمة التي جاءت في وصيَّة الصديقة الشهيدة لأمير المؤمنين (عليه السلام): «حَنِّطْنِي وَغَسِّلْنِي وَكَفِّنِّي بِاللَّيْلِ وَصَلِّ عَلَيَّ وَادْفِنِّي بِاللَيْلِ وَلا تُعْلِمْ أَحَدًا..».

إنَّ أقل ما يجاب عن هذا النداء ويجبر -وأنَّى له أن يجبر- أن يُقَام مواساةً لغربة تلك الجنازة المحاطة بأيتامها الذين لم يفارقوا صدرها.. أن يحملوا ليلة دفنها في كل بلدةٍ وقريةٍ أعلام المصاب، ويرتدوا ثياب العزاء، ويدوروا في الأزقَّة والطرق قائلين لجدتهم: لن ننساكِ أبدًا ولا الظلم الذي جرى عليكِ.. وإن ننسَ فلا ننسَ ذلك القلب المفعم بالحزن، والبدن المألوم، والقبر المجهول.. {حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ وَ ُهوَ خَيْرُ الحاكِمِينَ}([51]).

***

اَللّهُمَّ بِحَقِّ فاطِمَةَ وَ أَبِيها وَ بَعْلِها وَ بَنِيها وَ السِّرِّ المُسْتَودَعِ فِيها صَلِّ عَلى فاطِمَةَ وَ أَبِيها وَبَعْلِها وَبَنِيها عَدَدَ ما فِي عِلْمِكَ صَلاةً دائِمَةً بِدوامِ مُلكِكَ وَسُلْطانِكَ وَعَجِّلْ فِي فَرَجِ وَلِيِّكَ وَأَصْلِحْ كُلَّ فاسِدٍ مِنْ أُمورِ المُسْلِمينَ وَاغْفِرْ لَنا وَلإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بالإيمان وَآخِرُ دَعْوانا أَنِ الحَمدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِين.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

[1]) بحار الأنوار ج 66ص 293.

([2]) سورة النور: 35.

([3]) سورة إبراهيم: 1.

([4]) سورة المؤمنون: 14.

([5]) سورة الأعراف: 180.

([6]) سورة الروم: 30.

([7]) سورة المائدة: 3.

([8]) انظر: عيون أخبار الرضا ج 2 ص66 باب 31 حديث 298 . التوحيد: 307 المستدرك على الصحيحين ج3 ص126، مجمع الزوائد ج9 ص111، ومصادر أخرى من العامة والخاصة.

([9]) سورة إبراهيم: 24-25.

([10]) أمالي الشيخ الصدوق: 87 مجلس 7 حديث 3، ومسند أحمد بن حنبل ج3 ص37.. وغيرهم.

([11]) سورة التوبة: 33.

([12]) سورة الزمر: 69.

([13]) سورة النجم: 3.

([14]) انظر: صحيح البخاري ج4 ص210 باب مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، باختلاف يسير بالإيضاح: 561 ، ومصادر أخرى من العامة.

([15]) انظر: صحيح البخاري ج4 ص210 باب مناقب قرابة رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والطرائف: 262.. ومصادر أخرى من العامة والخاصة.

([16]) إشارة إلى الحديث العاشر من أصول الكافي ج1 ص442.

([17]) أمالي الشيخ الطوسي: 427، المستدرك على الصحيحين ج3 ص154.

([18]) مكاشفات يوحنا الرسول باب 12.

([19]) سورة الدخان: 4، وانظر أصول الكافي ج1 ص479.

([20]) سورة آل عمران: 61.

([21]) سورة الرحمن: 19، وانظر الخصال 165.

([22]) سورة الإنسان: 9، وانظر: الإرشاد ج1 ص178.

([23]) تاريخ بغداد ج1 ص274.

([24]) المستدرك على الصحيحين ج3 ص153.

([25]) سورة الحديد: 12.

([26]) سورة القمر: 55.

([27]) ميزان الاعتدال ج2 ص131.

([28]) تفسير فرات الكوفي: 446.

([29]) سورة آل عمران: 164.

([30]) أصول الكافي ج1 ص241.

([31]) الكافي ج4 ص314 حديث 2، وعنه في وسائل الشيعة ج11 ص200، أبواب النيابة في الحج باب 26، ولاحظ: التهذيب ج5 ص450، حديث 1572.

([32]) بحار الأنوار ج43 ص177.

([33]) بحار الأنوار ج79 ص106.

([34]) دعائم الإسلام ج1 ص232.

([35]) خطب نهج البلاغة برقم 202.

([36]) سورة الأنفال: 24.

([37]) سورة الشورى: 23.

([38]) كنز الفوائد 154.

([39]) كنز الفوائد 154.

([40]) التوحيد للشيخ الصدوق 152.

([41]) المستدرك على الصحيحين ج3 ص148 و ج3 ص110، عيون أخبار الرضا(عليه السلام) ج1 ص68، ومصادر أخرى للعامة والخاصة.

([42]) سورة المائدة: 54.

([43]) بحار الأنوار ج43 ص214.

([44]) سورة آل عمران: 18.

([45]) سورة الرعد 43.

([46]) سورة يس: 58.

([47]) سورة الحشر: 23.

([48]) الاحتجاج ج1 ص134.

([49]) بحار الأنوار ج43 ص175.

([50]) مناقب آل أبي طالب ج1 ص208.

([51]) سورة يونس  109.

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع عشر