ما هو الدعاء ؟
الدعاء كما قيل هو الرغبة إلى الله، وفي مجمع البحرين:
دعوت الله أدعوه دعاءً: ابتهلت إليه بالسؤال ورغبت فيما
عنده من الخير، ويقال دَعَا: أي استغاث([1]).
فقولك يا ألله يا رحمن يا رحيم تشتمل على هذه المعاني.
وقيل أيضًا الدعاء هو العبادة كما قال تعالى
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي
أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}([2]).
أما الدعاء عند أهل المعرفة والأخلاق والروحانيين فهو من
الأمور الواضحة المعروفة التي لا يتردد ولا يتوقف فيها
أحد، وهو يعني المناجاة والتوجّه والارتباط بالله سبحانه.
فمرة تكون مناجاة العبد وتوجّهه إلى الله تعالى لمجرد
الذكر والتمجيد والحمد والثناء والتعظيم بذكر محامده
وصفاته والاعتراف بالربوبية والإقرار بالعبودية له تعالى.
وأخرى تكون المناجاة والدعاء من خلال التوسّل إلى الله
والسؤال منه بطلب الرحمة والإحسان، والعون منه في أموره
ومكاسبه وشؤونه.
وثالثة يكون التوسّل إليه بطلب العفو والصفح عن ذنوبه
وآثامه ومعاصيه ومخالفاته التي ارتكبها نتيجة وسوسة
الشيطان وتسويل النفس الأمارة بالسوء.
وفي كل هذه الأمور فالدعاء يُجسّد الاتجاه نحو الله
سبحانه، ولذلك يشعر الإنسان وهو يمد يده بالدعاء متوسلاً
أنه يسعى نحو إنسانيته وواقعه:
[إنسانيته] التي لا قيمة لها ولا وزن ولا اعتبار إلا بهذا
الارتباط بالله سبحانه.
و[واقعه] الذي يحكي مفاهيمه من الفقر والضعف والعجز
والحاجة إلى خالقه في تدبيره وتيسير أموره. ولذلك كان
الدعاء رحلة واسعة في آفاق الإيمان والمعرفة والكمال،
يستشعر معه الداعي بانعتاق الروح والعقل والفكر من كل
الشبهات والمعوّقات التي تعكّر صفوها ونقاءها، وامتداد
الوعي إلى آفاق أبعد وأوسع من حدوده، وكذلك يستشعر الطهارة
والقدسية التي تجعله دائمًا في حالة الخضوع والخشوع
والخشية والرهبة والخوف من الله سبحانه واللَّجَأ إليه
والرجاء منه، وعندها ينتظم سلوكه ويستقيم عمله ويتدبّر
قوله وفعله وكل شؤونه لتكون خالصة لله سبحانه ولا يخرج عما
أُمِر به.
وما أعظم هذه الرحلة الروحية التي تنتهي بالإنسان إلى تلك
الوقفة الرائعة بين يدي الله سبحانه، وما أعظم هيمنة
الدعاء والتوسل والطلب منه جلّ اسمه حين يرجع العبد بذنب
مغفور وعمل مقبول وسعي مشكور والله هو الغفور الشكور.
تساؤلات حول الدعاء
التساؤل الأول: هل ينبغي التقيّد بلفظ الدعاء ؟
الأدعية التي هي بين أيدينا أكثرها وأغلبها من إنشاء النبي
والأئمة الأطهار صلوات الله عليهم أجمعين، ولذلك علينا
ونحن نأخذ بهذه الأدعية أن نتقيّد بالنص الوارد عنهم. وإن
أيّ زيادة أو نقيصة تخلّ بالدعاء لعلمنا الأكيد بأنهم حتى
في الدعاء يتكلّمون في إطار الواقع الذي يتعلّق بالعبد وفي
إطار مصلحته وما يوصله إلى الحقيقة وإلى الرضا والقبول
وقضاء الحوائج.
وقد ورد تأكيدًا لهذه الحقيقة:
أن رجلاً جاء إلى الإمام الصادق (عليه السلام) وقال له:
جعلت فداك إني اخترعت دعاءً ! فقال له الإمام (عليه
السلام): دعني من اختراعك، إذا نزل بك أمر.. الحديث ([3]).
وعن عبد الله بن سنان قال: قال أبو عبد الله (عليه
السلام): ستصيبكم شبهة فتبقون بلا علَم يُرى، ولا إمام
هدى، ولا ينجو منها إلا من دعا بدعاء الغريق، قلت: كيف
دعاء الغريق؟
قال: يقول: "يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلّب القلوب ثبّت
قلبي على دينك".
فقلت: "يا الله يا رحمن يا رحيم يا مقلّب القلوب والأبصار
ثبّت قلبي على دينك".
قال: إن الله عز وجل مقلّب القلوب والأبصار، ولكن قل كما
أقول لك: "يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك"([4]).
الأمر الذي يؤكد بأن ما يرد عنهم (عليهم السلام) له
موضوعيته وأهميته الدعائية وله تأثيره في تحقق الإجابة.
التساؤل الثاني: ماذا يعني إقرار المعصوم بالذنب وطلب
المغفرة ؟
هناك ناحية مهمة جدًا في عالم الدعاء، وهي أن من جملة آداب
الدعاء الإقرار بالذنوب والاعتراف بها بين يدي الله سبحانه
وتعالى. وهذه الناحية الأدبية الدعائية تجسّد في واقعها
الانقطاع إلى الله سبحانه، وتجسّد الواقع الإنساني المبني
على الضعف وعلى الخِواء الروحي وإمكانية الانزلاق مع
الأهواء والشهوات والوقوع في المعاصي وأنه لا ملجأ إلا
الله سبحانه وتعالى، وهذا يعني أيضًا تجديد الانطلاقة مع
الهدى والاعتصام بالله تعالى والعودة إليه وإلى رعايته
وحمايته والتوبة والإنابة.
ويتساءل الإنسان:
ما دمنا نعتقد أن العصمة من الضروريات الواجبة واللازمة
للنبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) وبشكل
مطلق واختياري لهم... فماذا يعني هذا الإقرار وهذا
الاعتراف منهم في الأدعية، وهل ذنوب الإمام كذنوبنا، فيها
المخالفة لأوامر الله سبحانه، وفيها المعصية، وفيها عدم
السير على النهج الواضح المأمور به ؟! أم أن هذه الذنوب هي
أمور أخرى ؟!
علمًا
أنهم حين يتوجّهون بالدعاء ويدعون يكون الدعاء منهم
حقيقيًا وواقعيًا، لأنه لا مجاز في الدعاء، فكل ما يدعون
به يكون على نحو الحقيقة والطلب الحقيقي، وحتى لو قلنا
إنهم في مقام التعليم للمسلمين والتربية للناس فهم يدعون
ويقولون هذه الأدعية بمنطوق ومضمون واقعي.. فماذا يعني هذا
الاعتراف ؟
المنطلق في الجواب عن الشبهة
وعلى ضوء ما مر قد يغلب على الظن أن هذا التساؤل وجيه، وهو
يتردد في خاطر الكثيرين
وفي نفس وعقل كل مؤمن.
إلا أن هذا التساؤل تتضح الإجابة عنه عندما نعود إلى
واقعنا الإيماني وما نعتقده في الأئمة والأنبياء (عليهم
السلام) من وجوب العصمة وضرورتها لهم، لأنهم يتحدّثون إلى
الخلق عن الله سبحانه وتعالى بواسطة النبي (صلى الله عليه
وآله) وبما أودعه النبي (صلى الله عليه وآله) عندهم من
علوم، ومن المستحيل أن يبعث الله سبحانه نبيًا أو رسولاً
ويجعل له وصيًا على غير صفة العصمة، بل العصمة المطلقة
أيضًا، وإلا لزم تأييد الكاذب والفاسق وغير الصادق في
دعواهم، وهذا مستحيل في حق الله سبحانه.
ومن هذا المنطلق نقول إن هذه
الأدعية التي وردت عنهم (عليهم السلام) والتي
تضمنّت الاعتراف بالذنوب والخطايا، وتضمنّت الاستغفار وطلب
التوبة والاستقالة منها، لا شك
ولا ريب أنها تعني معنىً غير الذي نفهمه ونعرفه من أنفسنا
حين نغرق في الذنوب والخطايا وحين نطلب العفو
والاستقالة منها.
فحاصل الإشكال: أن طلبهم المغفرة من الذنوب والاستقالة
منها عندما تصدر منهم تعني كلامًا وطلبًا واقعيًا.. ولكن
هل إن ذنوبهم كذنوبنا ؟! بل هل يذنبون ويصدر منهم ذنب ؟!
حاشا لله سبحانه أن نقول إنهم يذنبون أو يصدر منهم ما يصدر
منا أبدًا. ولكن لشدة كمالهم وانقطاعهم إلى الله يرون أنه
يجب أن تكون أوقاتهم مستغرقة
ومتمحّضة دائمًا وأبدًا في خدمة الله وطاعة الله،
ففي أيّة لحظة من لحظات وجودهم وحياتهم كان
أيّ انشغال منهم -في مأكل
أو مشرب أو أيّ عمل غير العبادة
من الأمور المباحة والضرورية الحياتية-
يعتبرونه ذنبًا ويعدونه
انشغالاً عن عبادة الله المحضة، وإن كانت الانشغالات
المتعلقة بأمور المعاش ومصاحبة العباد عبادة وطاعة من جهة
أخرى كما لا يخفى.
فإذا شربوا الماء أو أكلوا مثلاً يكون في حسابهم أنه
انشغالٌ وتقصير في حقه تعالى. بل المشاغل الأخرى، برغم
ضرورتها وكونها طاعة في نفسها، يعدونها مزاحمةً لحق الله
سبحانه، لأن الواجب الذي يرونه على أنفسهم هو الاستغراق
منهم في عظمته وجلاله وخدمته، وغير هذا يرونه ذنبًا، بل
يرونه ذنبًا كبيرًا، يستغفرون منه، ويطلبون الرحمة
والإحسان من المولى جلّ اسمه.
وهذا أهم ما أجيب به عن الشبهة،
وهو من إفاضات العلامة الأربلي صاحب كشف الغمة -كما
سيأتي نقله-، وهو أقربها إلى الحق وهو أهم التعليلات
المذكورة في المقام حتى تلقّاه الأصحاب والعلماء بالقبول
والرضا، ولهم في تقريره عبارات متفاوتة دقة وبيانًا، ونحن
ننقل نص كلامه:
قال رحمه الله تعالى تحت عنوان "فائدة
سَنيّة" ([5]):
(( كنت أرى الدعاء الذي كان يقوله أبو الحسن موسى (عليه
السلام) في سجدة الشكر، وهو: [رب عصيتك بلساني، ولو شئتَ
وعزتك لأخرستني. وعصيتك ببصري، ولو شئتَ وعزتك لأكْمَهتني.
وعصيتك بسمعي، ولو شئتَ وعزتك لأصممتني. وعصيتك بيدي، ولو
شئتَ وعزتك لكنعتني. وعصيتك بفرجي، ولو شئتَ وعزتك
لأعقمتني([6]).
وعصيتك برجلي، لو شئتَ وعزتك لجذمتني. وعصيتك بجميع جوارحي
التي أنعمت بها عليَّ، ولم يكن هذا جزاك مني ].
فكنت أفكر في معناه، وأقول: كيف يتنزل على ما تعتقده
الشيعة من القول بالعصمة ؟ وما اتضح لي ما يدفع التردد
الذي يوجبه.
فاجتمعت بالسيد السعيد النقيب رضي الدين أبي الحسن علي بن
موسى بن طاووس العلوي الحسيني (ره) وألحقه بسلفه الطاهر،
فذكرت له ذلك، فقال: إن الوزير السعيد مؤيد الدين العلقمي
رحمه الله تعالى سألني عنه فقلت: كان يقول هذا ليعلّم
الناس.
ثم إني فكّرت بعد ذلك، فقلت: هذا كان يقوله في سجدته في
الليل وليس عنده من يعلّمه.
ثم إنه سألني عنه السعيد الوزير مؤيد الدين محمد بن
العلقمي (ره)، فأخبرته بالسؤال الأول والذي قلت والذي
أوردته عليه، وقلت: ما بقي إلا أن يكون يقوله على سبيل
التواضع وما هذا معناه.
فلم تقع مني هذه الأقوال بموقع، ولا حلّت من قلبي في موضع.
ومات السيد رضي الدين (ره) فهداني الله إلى معناه ووفقني
على فحواه، فكان الوقوف عليه والعلم به وكشف حجابه بعد
السنين المتطاولة والأحوال المجرمة([7])
والأدوار المكررة من كرامات الإمام موسى بن جعفر (عليه
السلام) ومعجزاته، ولتصح نسبة العصمة إليه (عليه السلام)،
وتصدق على آبائه وأبنائه البررة الكرام، وتزول الشبهة التي
عرضت من ظاهر هذا الكلام. وتقريره:
إن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كون أوقاتهم مشغولة
بالله تعالى، وقلوبهم مملوءة به، وخواطرهم متعلقة بالملأ
الأعلى، وهم أبدًا في المراقبة كما قال (عليه السلام):
[اعبد الله كأنك تراه فإن لم تره فإنه يراك]، فهم أبدًا
متوجهون إليه، ومقبلون بِكُلّهم عليه، فمتى انحطوا عن تلك
الرتبة العالية والمنزلة الرفيعة إلى الاشتغال بالمأكل
والمشرب والتفرّغ إلى النكاح وغيره من المباحات، عدّوه
ذنبًا واعتقدوه خطيئة واستغفروا منـه. ألا ترى أن بعض عبيد
أبناء الدنيا لو قعد وأكل وشرب ونكح وهو يعلم أنه بمرأى من
سيده ومسمع لكان ملومًا عند الناس ومقصرًا فيما يجب عليه
من خدمة سيده ومالكه! فما ظنك بسيد السادات وملك الأملاك.
والى هذا أشار (عليه السلام): [إنه
ليُرَان على قلبي، واني لأستغفر بالنهار سبعين مرة]،
ولفظة "السبعين" إنما هي لعدّ الاستغفار لا إلى الرين.
وقوله [حسنات الأبرار سيئات المقربين].
ونظيره إيضاحًا من لفظه ليكون أبلغ من التأويل ويظهر من
قوله (عليه السلام): [أعقمتني]، والعقيم: الذي لا يولد له
والذي يولد من السفاح لا يكون ولدًا، فقد بان بهذا أنه كان
يَعد اشتغاله في وقتٍ ما بما هو ضرورة للأبدان معصيةً
يستغفر الله منها.
وعلى هذا فقس البواقي، وكل ما يرد عليك من أمثالها.
وهذا معنى شريف، يكشف بمدلوله حجاب الشبهة، ويهدي به الله
من حسر عن بصره وبصيرته رين العمى والعمه، وليت السيد كان
حيا لأُهدي هذه العقيلة إليه، وأجلو عرايسها عليه، فما أظن
أن هذا المعنى اتضح من لفظ الدعاء لغيري، ولا أن أحدًا سار
في إيضاح مشكله وفتح مقفله مثل سيري، وقد ينتج الخاطر
العقيم فيأتي بالعجايب، وقديمًا ما قيل: [مع الخواطئ سهم
صايب].
)) انتهى كلامه.
تأييدات وتأكيدات لهذا الوجه
ويؤكد هذا الكلام الحديث الشريف: (التوبة حبل الله، ومدد
عنايته ولا بد للعبد من مداومة التوبة على كل حال، وكل
فرقة من العباد لهم توبة، فتوبة الأنبياء من اضطراب السر،
وتوبة الأصفياء من التنفس، وتوبة الأولياء من تلوين
الخطرات وتوبة الخاص من الاشتغال بغير الله، وتوبة العام
من الذنوب) ([8]).
ويؤيده أيضًا: ما اشتهر من أن حسنات الأبرار سيئات
المقربين، فماذا تكون حسنات المقربين بالنسبة للأنبياء
والرسل والأوصياء، لأنه من المستحيل أن يبلغ أحد حدّ
العبادة التي تليق بشأنه تعالى، وكما ورد عن الإمام موسى
الكاظم (عليه السلام) أنه قال لبعض ولده:
يا بني عليك بالجد، لا تخرجنّ
نفسك عن حد التقصير في عبادة الله عز وجل وطاعته، فإن الله
لا يُعبد حق عبادته([9]).
وهذا ما يتجلّى واضحًا في كلمات مولانا أمير المؤمنين
(عليه السلام):
(ما عبدتك خوفًا من نارك ولا
طمعًا في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)
([10]).
وأيضًا الاعتراف والإقرار بالذنوب من موجبات الشكر
ومستلزماته التي توجب الارتقاء إلى درجة القرب الإلهي، لأن
نعم الله سبحانه على إطلاقها لا يتمكّن أحد من شكرها حق
الشكر.
وأيضًا إن الاعتراف والإقرار بالذنب والاستغفار منه مظهر
من مظاهر العبودية المطلقة لله سبحانه، والعبودية المطلقة
من أهم المنازل التي يرتقي بها الإنسان إلى منازل
الصدّيقين والمقرّبين.
والمتأمل في أدعية الأئمة (عليهم السلام) على اختلافها يجد
هذا المعنى واضحًا ومؤكدًا.
أما الأدعية الخاصة مثل دعاء كميل ودعاء أبي حمزة الثمالي،
فشأنها شأن بقية الأدعية، أدعيةٌ تربوية وتهذيبية، ترقى
بالإنسان إلى مراتب العلم والأدب والروحانية والأخلاق
والتوجيه العقلي والروحي والنفسي والاجتماعي والأخلاقي، بل
حتى في مجالات أخرى فيما يتعلق بالأسرة وفيما يتعلّق
بالأولاد وفيما يتعلق بالآباء والأمهات، والعلاقات مع
الناس سواء كانت اجتماعية أو تربوية أو شرعية أو مالية أو
غير ذلك، لأن الدعاء يستهدف في تعاليمه كل ما تستهدفه
الشريعة، ويتضمن ما تضمنته من أحكام واعتبارات وقضايا.
بل إن الدعاء كان -ولا يزال- من جملة الوسائل لنشر الشريعة
والأحكام في ظرف الخطر على أهل البيت (عليهم السلام)، حيث
كان المتوقّع منهم (عليهم السلام) حتى في مثل هذه الظروف
القاسية إعطاء شيء من الأحكام وبيان متطلبات الناس
الشرعية، من هنا لجأوا إلى الأدعية، وضمّنوها كل ما هو
مطلوب للناس من أحكام وأخلاق واجتماعيات وأمور اقتصادية بل
وحتى في علاقات الناس السياسية وهكذا.
من هنا كانت آفاق الدعاء آفاقًا واسعة وبعيدة من حيث
مقاصدها ومراميها، فالإمام علي (عليه السلام) حين علّم
كميل بن زياد هذا الدعاء وكان يلقيه عليه، علّمه إياه
ليعلّم الأمة كيف تتعامل مع ربها وخالقها، وكيف تدعوه،
وكيف تطلب منه، وكيف تسأله وتتذلل بين يديه، وكيف يكون
الخضوع والخشوع لله سبحانه، وكيف يُخلّص الإنسان نفسه من
الأوضاع التي تهيمن عليه وتضغط عليه بمؤثراتها.
إن لغة الدعاء لا تختلف كثيرًا عن لغة الخطابة والإلقاء
على مسامع الناس، ولكنها تختلف في الحالات الروحية
والنفسية والتوجّهات القلبية والأخلاقية والمقامات
والمناسبات التي يكون فيها الداعي خالصًا لله ومع الله.
هذا ما تتبنّاه مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) فيما
يتعلّق بالدعاء، لأن ضرورة التناسب بين الأقوال والأحوال
من أهم الأمور التي يجب أن تكون واضحة ومتأكدة عند الداعي،
لأن اللفظ والقول ترجمان القلب والعقل، فلا بد أن يكون
التناسب والتناسق والترابط قائمًا.
هذا فضلاً عن الدعاء بالصحيح إعرابًا وأدبًا وفصاحة
وبلاغة، وإن كان المولى سبحانه وتعالى يعرف ما يقصده العبد
وما يريده حتى ولو كان بالإشارة، ولكن حتى يسمى دعاءً عليه
أن يعتمد على المأثور الوارد عن الأئمة (عليهم السلام) في
كل شؤون الدعاء فإن له خصوصية وميزة.
تأكيد وخلاصة
وأعود لأذكر مرة أخرى بأن هذه الأدعية التي وردت عن الأئمة
الأطهار (عليهم السلام) التي تتضمن الاعتراف بالذنوب والتي
تتضمن طلب العفو والصفح والمغفرة هي أدعية حقيقةً، ولكن
الأئمة سلام الله عليهم ليس لهم ذنوب كما قد يتصور البعض
أو يخطر على أفكاره المحدودة، وإنما هو من جهة أنهم (عليهم
السلام) يرون أنه لا بد أن يكونوا دائمًا في خدمة الله
ومنشغلين بطاعة الله وذكره، فيعدّون الانشغال بأيّ شيء
مباح انشغالاً لهم عن التمحض لذكر الله، فيعتبرونه ذنبًا
ومزاحمًا لمقام الخدمة التي يرون ضرورة كونهم عليها دائمًا
وأبدًا.
لا أنهم يذنبون الذنب الذي يستوجب المخالفة والعقوبة من
الله والعياذ بالله، فإنهم أطهر وأنزه وأطيب وأسمى من أن
يخطر على بالهم هذا المعنى.
وكيف يخطر على بالهم المخالفة وهم يعلمون حقيقة الذنوب ما
هي، ويعرفون مبغوضيتها لله ومخاطرها عند الله، وروائحها
المنكرة.
ترى لو مرّ أحد منا على جيفةٍ منتنةٍ ألا يهرب منها؟ وهل
يخطر بباله أن يمر عليها ثانية؟ وأيضًا لو علم إنسان منا
بأن الإناء الذي أمامه أو بين يديه فيه سم قاتل أكان يقترب
منه أو يتناول منه شيئًا؟ من المقطوع به أنه لا يفعل.
وعصمة الأنبياء والرسل والأوصياء ارتقاء في عالم النزاهة
والفضيلة، والبعد عن كل ما هو مبغوض، وارتقاء في عالم
النوارنية والقدسية، والتجرّد لله سبحانه وتعالى، وارتقاء
في عالم الفناء في ذات الله سبحانه. فكيف يخطر على بالنا
أو يتبادر إلى أذهاننا أو تتصور عقولنا أنهم يفعلون ما هو
مبعّد عن خدمة الله، فضلاً عن فعل الذنوب والمعاصي!!
توجيهات أخرى ذكرها العلماء
هذا وقد ذكر العلماء توجيهات أخرى:
منها:
أن الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) لما كانت معرفتهم
بالله فوق كل معرفة، وإدراكهم لعظمة الله وجلاله فوق كل
إدراك -ومن هنا كان قول أمير المؤمنين (عليه السلام): (لو
كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا)([11])-،
فهم (عليهم السلام) يرون أن العباد يجب أن يكونوا دائمًا
وأبدًا في خدمة الله، وبما أن البشر لا ينقطعون عن المعاصي
والآثام والخطايا، وتُرتكب هذه المعاصي منهم بحضور
الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)، وحيث لا يمكنهم التغيير
والتبديل برغم التوجيه والتعليم وإنكار المُنكر، يرون أن
هذه الذنوب ذنوبهم، لأنها ترتكب بحضرتهم، ولذلك يستغفرون
منها.
وهذا لا مانع منه، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المعنى
بقوله تعالى: {لِيَغْفِرَ
لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا
تَأَخَّرَ}([12])
أي من ذنوب أمّتك -ولو على بعض التفاسير-.
ومنها:
أن النعم التي اُفيضت عليهم -صلوات الله عليهم أجمعين-
كبيرة وجليلة، من النبوة والإمامة والعلوم والمعارف
وإخدامهم الملائكة. وهم (عليهم السلام) في مقابل ذلك يرَون
لله عليهم وجوب الشكر، فيريدون شكره على ما أنعم الله
عليهم، وحيث إنهم (عليهم السلام) يرَون أن الشكر الذي
يتلاءم ومقام العزة الإلهية صعب المنال فيعدّون ذلك
تقصيرًا ويعتبرونه ذنبًا، ولذلك يستغفرون منه مع أنهم لم
يفعلوا ذنبًا ولا ارتكبوا خطيئة، بل هم على العكس يتواصلون
في العبادة والذكر والطاعة لله والبكاء خوفًا وشكرًا.
ومما يروى في ذلك تأييدًا لما ذكرنا، ما روي عن عطاء أنه
قال: قلت لعائشة: أخبريني
بأعجب ما رأيت من رسول الله (صلى الله عليه وآله). قالت:
وأيّ شأنه لم يكن عجبًا، إنه أتاني في ليلتي.. إلى أن
قالت: ثم قال (صلى الله عليه وآله): ذريني أتعبّد لربي،
فقام فتوضأ، ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره، ثم
ركع فبكى، ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى، فلم يزل كذلك
حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة، فقلت: يا رسول الله ما يبكيك
وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: ألا أكون
عبدًا شكورًا، ولم لا أفعل وقد أنزل الله عليّ هذه الليلة:
{إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ}([13]).
هذا واقع وحال الأنبياء والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)
في أدعيتهم واستغفارهم من الذنوب والاستقالة منها، فهي في
الواقع ليست ذنوبًا، وبكاؤهم ليس بكاء خطيئة كما يصدر من
الناس، وإنما هم -لمقامهم السامي ومعرفتهم بعظمة الله
وجلاله وما يجب عليهم من الاستمرار دائمًا وأبدًا في خدمة
الله تعالى وتمجيده وتسبيحه وتهليله- إذا انقطعوا عن ذلك
بعمل مباح عدّوا ذلك ذنبًا.
وأين هذا مما يقال إنهم يفعلون الذنوب الصغيرة ويرتكبون
الخطأ؟ وأيّ نسبة ينسبونها للأنبياء والأئمة وبالتالي
ينسبونها لله تعالى، حيث أجازوا عليه أن يرسل أو يستخلف
على الناس من يخطئ ويذنب ويرتكب ما يرتكبه الناس من موبقات
وذنوب؟!
أهذا تهاون واستخفاف بالأنبياء والأوصياء والأئمة، أم هو
تهاون واستخفاف بالله حيث ينسب إليه مثل هذه النسبة
الباطلة؟! أم هو تشكيك للناس في الله وفي الأنبياء
والأوصياء!؟
ورد عن الإمام زين العابدين (عليه السلام) أنه قال:
الإمام منا لا يكون إلا معصومًا، وليست العصمة في ظاهر
الخلقة فيعرف بها، ولذلك لا يكون إلا منصوصًا.
فقيل: يا ابن رسول الله، فما معنى العصمة؟
قال: هو المعتصم بحبل الله، وحبل الله هو القرآن، لا
يفترقان إلى يوم القيامة، والإمام يهدي إلى القرآن،
والقرآن يهدي إلى الإمام، وذلك قول الله تعالى: {إِنَّ
هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}([14]).
وهذا ما يؤكده حديث الثقلين أيضًا، قال رسول الله (صلى
الله عليه وآله): إني مخلّف
فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسكتم
بهما لن تضلوا بعدي أبدًا، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ
الحوض([15]).
وفي هذين الحديثين تأكيد على العصمة، كما يؤكده الاستشهاد
بالقرآن وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم. فأين المعصية من
الإمام (عليه السلام) ! كذب العادلون بالله وضلوا ضلالاً
بعيدًا.
وإذا كنتُ قد أطلت الحديث في هذا الجانب بالذات -وقد يكون
هناك بعض التكرار- فما هو إلا للتأكيد على عظمة وجلالة
مقام الأنبياء والأوصياء عليهم صلوات الله وسلامه، وأنه
يجب علينا ألا نقول فيهم إلا ما يليق بشأنهم (عليهم
السلام) وأن لا ننتقص من قدرهم كما يفعله بعض المُدّعين
للعلم المنحرفين عن أهل البيت (عليهم السلام) الذين يدّعون
الانتماء إليهم في حين أنهم يأكلون أموالهم ويتنعمون
بعطاياهم وتراثهم!
تساؤلات أخرى:
من المعروف والثابت أن الإسلام يقرّ القوانين الطبيعية وأن
مبدأ الأسباب والعلل قائم وثابت في هذا الكون، فلا شيء وجد
أو يوجد إلا بسبب، وأن هذه الأسباب والقوانين مجعولة من
قبل الله سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه هو الذي جعلها علةً
وسببًا لإمضاء الأمور وتسييرها وفق المصلحة والحكمة.
ولا بد لنا ونحن نقف عند هذه الحقيقة أن نشير إلى بعض
الأمور التي قد يثار حولها تساؤلات:
أحدها:
أن الدعاء في حال استجابته أو في حال عدم الاستجابة لا
يكون منافيًا لمبدأ الأسباب والعلل ولا معارضًا لقوانين
الطبيعة التي جعلها الله من ابتناء الأمور على العلل
والأسباب.
ثانيها:
أن الدعاء لا يعني الجمود والكسل عن الطلب والعمل والحركة
التي يقوم عليها نظام الإنسان بل النظام العام للموجودات.
ثالثها:
أن الدعاء لا يتعارض مع القضاء والقدر اللذين قدّرهما الله
في حياة الإنسان.
1- الدُّعاء لا يتنافى مع العلل والأسباب
إذا وقفنا وقفة تأمل في آفاق الدعاء ومنهجيته وفي الآيات
الواردة فيه وكذلك فيما ورد فيه عن أهل البيت (عليهم
السلام) نجد أن الدعاء لا يتنافى أبدًا مع مبدأ الأسباب
والعلل وليس فيه جمود ولا كسل ولا فيه تنافٍ مع القضاء
والقدر.
وإذا ما تأملنا في آداب الدعاء التي سبق الحديث عنها
لوجدنا التأكيد الكامل لما قلناه، فالله سبحانه وتعالى
عندما قال في محكم كتابه المجيد
{إِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ
دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ}([16])يشير
إلى أن الدعاء المخالف لقوانين الطبيعة ولمبدأ الأسباب
الذي جعله الله سبحانه لا يكون دعاءً، وكيف يكون طلب
الهداية للكافر أن يصبح مؤمنًا دعاءً وهو لم يتعرّض لأسباب
الهداية ولم يباشر الأسباب التي توصله إلى الهداية
والإيمان.
صحيح أن أمر الله سبحانه أن يقول للشيء كن فيكون، ولكنه
سبحانه مع ذلك هو الذي جعل الأسباب والعلل.
وقد ورد في الحديث عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن
قومًا من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) لما نزلت
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ
يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا
!
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا
يَحْتَسِبُ}([17])
أغلقوا الأبواب على العبادة وقالوا: قد كُفينا، فبلغ ذلك
النبي (صلى الله عليه وآله)، فأرسل إليهم فقال: ما حملكم
على ما صنعتم؟ قالوا: يا رسول الله تكفّل الله لنا
بأرزاقنا فأقبلنا على العبادة، فقال (صلى الله عليه وآله):
إنه من يفعل ذلك لم يُستجب له، عليكم بالطلب([18]).
فكيف يمكن أن يكون الطلب للرزق وسعة الرزق والحصول على
النعم الوفيرة من دون أن يكون هناك سعيٌّ مع ما ورد في هذا
الحديث الذي نستفيد منه أن الدعاء وحده لا يكفي بل لا بد
من العمل والسعي لطلب الرزق، وهكذا غيره من الأمور
والأسباب.
وجعل الله سبحانه الشفاء من المرض بمراجعة الطبيب واستعمال
الدواء.
إن الله لا يعجز أن يرزق ويشفي الإنسان ويعطيه الأسباب من
الأموال وغيرها بالقدرة، ولكن الله يريد أن تكون الأمور
بأسبابها، وهذا هو القانون الطبيعي في الحياة وللإنسان،
وكل قراءة لأي نوع وأيّ أمر من الأمور التي تمر على
الإنسان تجد وراءها سببًا.
هكذا أراد الله سبحانه وتعالى، وهذه هي كلمته، وهو سبحانه
مسبب الأسباب وبيده الأسباب.
وأما دور الدعاء في هذه المجالات والأمور فهو العون من
الله سبحانه وهداية الناس للوصول إلى الطريق الصحيح وإلى
غاياتهم ومطالبهم وتسهّل عليهم المطالب في الزمان والمكان
والوسائل، وهذا ما يؤكده الدعاء المأثور([19]):
يا من تُحلّ به عُقَد المكاره، ويا من يُفثأ به حدّ
الشدائد، ويا من يُلتمس منه المخرج إلى رَوح الفرج، ذلّت
لقدرتك الصِّعاب، وتسبّب بلطفك الأسباب، وجرى بقدرتك
القضاء، ومضت على إرادتك الأشياء، فهي بمشيّتك دون قولك
مؤتمرة، وبإرادتك دون نهيك منزجرة، اللهم أنت المدعوُّ
للمهمّات، وأنت المفزع في المُلمّات..
إلى آخر الدعاء.
ويؤيده قول مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام):
الداعي بلا عمل كالرامي بلا
وتر([20]).
وعن مولانا الصادق (عليه السلام):
أوجب الله لعباده أن يطلبوا
منه مقاصدهم بالأسباب التي سببها لذلك وأمرهم بذلك([21]).
وقال تعالى: {خُذُوا حِذْرَكُمْ}([22]).
وقال في كيفية صلاة الخوف: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ}([23]).
وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ
قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ}([24]).
وقال لموسى (عليه السلام): {فَأَسْرِ بِعِبَادِي
لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ}([25]).
وقول النبي (صلى الله عليه وآله) للأعرابي الذي أهمل بعيره
معتمدًا على التوكل على الله:
اِعقلْ وتوكّلْ([26]).
أي اِعقلْ البعير وتوكل على الله.
وقال أبو عبد الله (عليه السلام):
إن الله جعل أرزاق المؤمنين من
حيث لا يحتسبون، وذلك أن العبد إذا لم يعرف وجه رزقه كثُر
دعاؤه([27]).
أي يكثر دعاؤه ليعرف أين موضع رزقه وكيف هو من دون أن يترك
السعي والجهد.
ومن دعاء مولانا زين العابدين علي بن الحسين (عليهما
السلام) ([28]):
اللهم إنه لا علم لي بموضع رزقي، وإنما أطلبه بخطرات تخطر
على قلبي، فأجول في طلبه في البلدان، وأنا مما أحاول
وأطالب كالحيران لا أدري في سهل، أو في جبل، أو في أرض، أو
في سماء، أو في بحر، أو في بر، وعلى يَدي من هو، ومِن قِبل
مَن، وقد علمتُ أن علم ذلك كله عندك، وأن أسبابه بيدك،
وأنت الذي تقسمه بلطفك، وتُسبّبه برحمتك. فاجعل رزقك لي
واسعًا، ومطلبه سهلاً...
إلى آخر الدعاء.
والخلاصة: أن الدعاء لا ينفك عن الأسباب الطبيعية وإنما هو
معها وإلى جانبها، فالأسباب لها دورها والدعاء له دوره.
2- الدعاء لا يعني الكسل عن الطلب
وكذلك إن الدعاء لا يتنافى مع العمل أبدًا، لأن السعي
مطلوب من الإنسان والأسباب بيد الله سبحانه.
وأيضًا يظهر من خلال ما ذكرنا أن الدعاء ليس جمودًا ولا
كسلاً، وإنما هو حركة ضميرية إيمانية تُحرّك الإنسان ليعيش
آفاق الهدى والإيمان في كل جوانب الحياة وآفاقها الذي هو
الكون وآفاقه، والإنسان وآفاقه والشريعة وآفاقها، فالدعاء
يدعو الإنسان ليتحرك مع كل هذه الأمور بالحركة الملائمة
والمناسبة.. فأين الكسل وأين الجمود !؟
وكل كلام حول الدعاء خارج هذا الإطار لا يمكن الأخذ به
لأنه مجرد عن الموضوعية والفهم الصحيح لواقع الدعاء كما
أشرنا.
3- الدعاء لا يتنافى مع القضاء والقدر
ورد في الأحاديث الشريفة أن الدعاء يرد القضاء وقد أبرم
إبرامًا([29])
ما يستشعر منه أو معه التنافي والتناقض، إذ هل يمكن أن
يتعارض الدعاء مع القضاء والقدر اللذين قدرهما الله في
حياة الإنسان؟
ولكن الحقيقة خلاف ذلك، فإن ما يجري على الإنسان من قضاء
وقدر، ومن موت، ومن مرض، أو حوادث، أو غنى أو فقر، أو أي
شيء آخر، فهو مقدّر عليه وفي علم الله سبحانه.
وكذلك ما يجري من الإنسان من دعاء يتوجه به إلى الله لرفع
البلاءات والامتحانات والعوائق والأمراض هو أيضًا ثابت في
علم الله سبحانه وتعالى.
وحين تحصل الاستجابة للدعاء فليس معناه أن الله سبحانه
غيّر علمه وغيّر إرادته وإمضاءه أو أن علمه وإرادته تبع
لإرادة الإنسان فغيّرهما..
كلا ثم كلا، فإن هذا مستحيل في حقه تعالى، وإنما دعاء
الإنسان هو أيضًا من جملة قضاء الله وقدره في الأشياء التي
تمرّ عليه. فكما أن ما يمر على الإنسان من مرض أو بلاء هو
بعلم الله سبحانه يمتحن به الإنسان ويقدّر أن يصاب به،
كذلك يقدّر الله سبحانه أن هذا المرض وهذا البلاء سيكون
نتيجة عدم الدعاء، وكذلك يقدّر تعالى أن عبده سيدعو وأن
الدعاء يزيل هذا البلاء أو المرض. فلم يكن في علم الله
تغيير ولا تبديل، ولا في إرادته ذلك أيضًا، ولا في قضائه،
فلما قضى المرض على الإنسان قضى وقدّر أن يزول عنه المرض
والبلاء بالدعاء، وبعبارة أخيرة: الدعاء من جملة الأسباب
التي جعلها الله في هذا الكون ولكنه ليس سببًا مستقلاً([30]).
فلم يتنافَ الدعاء مع القضاء والقدر، لأن سببية الدعاء
كانت مقدّرة ومجعولة من الله سبحانه فإن الأسباب كلها بيده
سبحانه، فيمكن أن يزيل الدعاءُ البلاءَ والمحنَ بتقديره
وقضائه وإمضائه. وأيّ تنافٍ بينهما ما داما في تقدير
الله؟!
وقد أكّد القرآن هذه الحقيقة بقوله تعالى
{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ
أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}([31])
فلا يخرج عن الإرادة الإلهية.
وكذلك أكّد القرآن الكريم أن التغيير إنما يكون بمشيئة
الله ووفق إرادته، قال تعالى:
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ}([32]).
فكل شيء إنما هو في إطار التقدير الإلهي وبعلم الله
سبحانه، ولذلك لا تنافي بينهما ولا تبديل في علم الله عز
وجل.
وبعد هذا نستعرض بعض الآيات الكريمة التي أكدت أن الدعاء
يبدّل القضاء والبلاء ويزيله حتى بعد وقوعه، لأنه يكون من
قبيل الدواء رافعًا للبلاء كما يكون الدواء رافعًا للمرض.
قال تعالى في قصة أيوب:
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ
الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
!
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا
بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ
مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى
لِلْعَابِدِينَ}([33]).
وقال تعالى في قصة يونس:
{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا
إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ
!
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ
مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}([34]).
وقال تعالى: {وَزَكَرِيَّا
إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ
خَيْرُ الْوَارِثِينَ
!
فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ
يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا
وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}([35]).
وقال تعالى: {وَنُوحًا إِذْ
نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ
وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}([36]).
وكما يكون الدعاء دافعًا للقضاء وللبلاء بعد تحققه ونزوله،
كذلك يكون الدعاء دافعًا للقضاء قبل نزوله، لأنه تعالى جعل
نزوله مشروطًا بعدم الدعاء([37]).
فأي منافاة بين الدعاء والقضاء والقدر؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
([1])
في القاموس المحيط، مجمع البحرين مادة (د ع و).
([4])
كمال الدين وتمام النعمة - الشيخ الصدوق - ص 351 -
352.
([5])
علي بن عيسى ابن أبي الفتح الأربلي في كتابه كشف
الغمة (ج 3 ص46-48).
([6])
قال الأربلي (ره) هنا: [بخط عميد الرؤساء لعقمتني،
والمعروف عقمت المرأة وعقمت وأعقمها الله]
([7])
وفي نسخة (الأحوال المحرمة) . يقال : حول مجرم ،
وسنة محرمة : أي تامة (صحاح الجوهري مادة ج ر م).
([8])
بحار الأنوار: 6/31.
([9])
تلخيص الرياض: 2/264 ؛ بحار الأنوار: 6/31.
قال الإمام زين العابدين وسيد الساجدين في مناجاته
الثالثة عشر المسماة بمناجاة الذاكرين: (وأستغفرك
من كل لذة بغير ذكرك، ومن كل راحة بغير أنسك، ومن
كل سرور بغير قربك ومن كل شغل بغير طاعتك).
([10])
عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي: 2/11.
([11])
مناقب آل أبي طالب، ابن شهرآشوب: 1/317 ؛ مستدرك
سفينة البحار، النمازي: 5/163.
([13])
وهي من روايات العامة. انظر: الدر المنثور،
السيوطي: 2/111 ؛ والآية من سورة آل عمران: 190 ؛
وروي مثله بزيادة يسيرة عن ابن عمر، انظر: تفسير
الثعلبي: 3/230.
([14])
معاني الأخبار، الشيخ الصدوق، ص132 ؛ والآية من
سورة الإسراء: من الآية 9.
([15])
بحار الأنوار: 25/221 ؛ ورواه آخرون باختلاف في
لفظه: السنن الكبرى، النسائي: 5/45 ؛ كنز العمال:
1/172 ؛ وغيرهما.
([16])
البقرة: من الآية 186.
([17])
الطلاق: من الآية 2 و3.
([18])
الكافي، الكليني: 5/84، ح5 باب الرزق من حيث لا
يحتسب.
([19])
من أدعية الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين
علي بن الحسين (عليهما السلام) (إذا عرضت له مهمة
أو نزلت به ملمة وعند الكرب).
([20])
خطب نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده: 4/79.
([21])
هذا مما تفرد بروايته النراقي في جامع السعادات:
3/183، ولم أعثر على لفظ الرواية في مجاميع
الحديث.
([22])
النساء: من الآية71.
([23])
النساء: من الآية102.
([24])
الأنفال: من الآية60.
([26])
عوالي اللئالي، ابن أبي جمهور الأحسائي: 1/75.
([27])
الكافي، الكليني: 5/84.
([28])
من أدعية الصحيفة السجادية للإمام زين العابدين
علي بن الحسين (عليهما السلام) (في طلب الرزق).
([29])
الكافي، الكليني: 2/469 (باب أن الدعاء يرد البلاء
والقضاء).
([30])
فإن الله سبحانه ربما يقدر البلاء على العبد مع
اجتهاده في الدعاء لمصلحة يعلمها الله سبحانه.
([31])
الطلاق: من الآية 3.
([37])
عن أبي عبد الله(عليه السلام): (من تخوّف بلاءً
يُصيبه فتقدم فيه الدعاء لم يُره الله ذلك البلاء
أبدًا). وعنه (عليه السلام): (تقدَّموا في الدعاء،
فإن العبد إذا كان دعا فنزل به البلاء فدعَا قيل:
صوت معروف، وإذا لم يكن دعا فنزل به البلاء فدعا
قيل: أين كنت قبل اليوم). الوسائل: 7/42 ب9 أبواب
الدعاء ح5 -6.
|