تعرّضت العولمة إلى كثير من النقد والاتهام في معظم ما كتب
وما قيل وما عقد عنها من مؤتمرات، وخصوصًا في البلدان
العربية والإسلامية. وانتقل هذا الاعتراض في بعض العواصم
العالمية إلى الشوارع التي شهدت تظاهرات لم تخْلُ من أعمال
عنف وصدامات ضد رموز العولمة ومؤسساتها، مثل منظمة التجارة
العالمية والبنك الدولي وسواهما.
ولعل أبرز الاتهامات تلك التي ركزت على الخلل الاقتصادي
والإنساني للعولمة، حيث تؤكد الدراسات والإحصاءات على أن
أغنياء العالم، ونسبتهم نحو عشرين في المائة، سيزدادون
غنىً، بينما سيزداد فقراؤه فقرًا ونسبتهم نحو ثمانين في
المائة، وقد أشار تقرير البنك الدولي عن مؤشرات التنمية
لعام 2001 على سبيل المثال إلى وجود 1200 مليون إنسان (أي
نحو سدس سكان العالم ) يعيشون على أقل من دولار واحد في
اليوم، وإلى 113 مليون طفل لا ينتظمون في المدارس، بينما
ذكر تقرير البنك الدولي لعام 2000 أن ثروات أغنى 200 رجل
في العالم تفوق دخل 41 في المائة من سكان المعمورة.
هذا في الوقت الذي بلغ فيه إنفاق الولايات المتحدة على
التسلح لعام 2003 فقط نحو 396 مليار دولار، وقد بلغ هذا
الإنفاق للعام 2009 نحو 700 مليار دولار أي ما يفوق بمرات
كل ديون الدول الفقيرة. وربما لهذا السبب بات النقد
والاتهام يتحدث أيضًا عن "عولمة
متوحشة" وعن ضرورة الدعوة إلى
"عولمة إنسانية" و"عولمة
أخلاقية"، كما نادت على سبيل المثال ماري
روبرتسون مفوضة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
المهم أن التهم الموجّهة إلى العولمة هي تهم اقتصادية
وإنسانية بالدرجة الأولى، لأنها تتحدث عن تفاوت خطير بين
البشر من خلال الأرقام والإحصاءات، وهو تفاوت غير أخلاقي
أيضًا في ظل ادعاء العولمة ومؤسساتها مدَّ يد العون
وتقديمَ المساعدة إلى الشعوب الفقيرة لتحسين مستوى حياتها،
بينما تزداد ديون هذه الدول للمؤسسات الدولية وتعجز عن
سداد حتى الفوائد المترتبة عليها.. أما تهم العولمة الأخرى
في مساراتها السياسية أو الثقافية فيبرز فيها الجانب
القيمي والأخلاقي بشكل أوضح، سواء على مستوى التحيّز إلى
هذه الدولة أو تلك في قضية معينة، أو على مستوى تهميش
الآخر وعدم الاعتراف بخصوصيته.
وغالبًا ما يتركز نقد العولمة في مسألة القيم والمفاهيم
على قضيتين:
الأولى "ثنائي" العنف
والجنس في وسائل الإعلام وفي السينما العالمية
وفي القنوات الفضائية التي دخلت اليوم إلى كل بيت. وعلى ما
يمكن أن تسببه من تدهور في السلوك والقيم من خلال انتشار
الإباحية أو الشذوذ في مجتمعات لا تزال تقيم وزنًا كبيرًا
لقيم العفة والاحتشام.
والثانية، تنميط القيم
ومحاولة جعلها واحدة لدى البشر في المأكل والملبس وفي
العلاقات الأسرية وبين الجنسين وفي كل ما يتصل بحياة
الإنسان الفردية والجماعية.. وخصوصًا قيم الاستهلاك التي
تعتبر إحدى أهم ركائز اقتصاد العولمة وانعكاساتها على
القيم التي أشرنا إليها.
وما يجري على هذا المستوى من تنميط القيم بات معروفًا وله
رموز ومؤسسات إعلامية وسينمائية مختلفة تتوجه إلى مراحل
العمر كافة وليس إلى مرحلة محددة فقط، وقد زاد من فاعلية
هذه المؤسسات التطور الهائل في وسائل الاتصال وسهولة
استخدامها.
وإزاء هذه الموجة العالية والمتسارعة من انتشار قيم
العولمة، ثمة من يدعو إلى الأخذ بها جملة وتفصيلاً باعتبار
أن ما يحصل هو نتاج إنساني متقدم لا يصح معه الحديث عن
خصوصيات تؤدي إلى العزلة والتهميش. وبالمقابل ثمة من يدعو
أصلاً إلى عدم التفاعل مع هذا النمط من قيم العولمة من
خلال العودة إلى الخصوصية الثقافية.. ولا يقتصر أمر هذا
التباين في التعاطي مع "عولمة الثقافة" على البلدان
العربية والإسلامية، فحتى فرنسا نفسها تجهد منذ سنوات وعلى
أعلى المستويات الرسمية فيها لإيقاف زحف ما تسميه "الغزو
الثقافي الأميركي" الذي يجتاح لغتها وشاشتها الصغيرة
وأفلامها السينمائية.
إلا أن المشكلة مع ذلك تبقى على المستوى القيمي والأخلاقي
مشكلة أساسية بالنسبة إلى الدول غير الغربية. فقدرة التحكم
الهائلة والسيطرة والإدارة في الاقتصاد والسياسة وفي وسائل
الاتصال وفي مصادر المعرفة ومصادر الأخبار والمعلومات تجعل
الغرب الأميركي/الأوروبي، هو مصدر العولمة. وتجعل هذه
العولمة تسير باتجاه واحد شمال-جنوب، وليس باتجاه التفاعل
بين شعوب العالم كما يقول المدافعون عن العولمة وثقافتها،
الذين ذهب بعضهم إلى القول أن عصر العولمة سينهي الخصوصيات
الثقافية والقومية طالما أن العالم يسير باتجاه "قرية
كونية واحدة".
ويتنافى هذا الاعتقاد في الواقع مع ما يجري في كثير من
مناطق العالم وبلدانه من انبعاث للروح القومية والتشدد في
طلب الحقوق المتعلقة بها .. إلى انبعاث الصحوات الدينية في
أنحاء العالم كافة .. إلى صعود اليمين القومي المتطرف في
أوروبا نفسها، كما كشفت ذلك الانتخابات في أكثر من بلد في
فرنسا والنمسا وايطاليا وهولندا وغيرها.. وهذا يعني أن
العولمة سواء تعمّدت تجاهل الخصوصيات الثقافية أم أنها
فعلت ذلك انسجامًا مع منطق السوق والاستهلاك الذي يتحرك من
دون حواجز على مستوى العالم كله فليس بمقدورها اقتلاع هذه
الخصوصيات لأسباب كثيرة.
وتتباين عوامل التمسك بهذه الخصوصيات وعوامل الممانعة بين
أمة وأمة. فإذا كانت بعض مظاهر معارضة العولمة على الطريقة
الأميركية في أوروبا أسبابها قومية أو عنصرية أو اقتصادية،
فإن الممانعة في العالم الإسلامي مصدرها الدين والثقافة
التي تتشكل بواسطتهما نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى رغباته
وإلى الآخر.. أي إلى علاقاته الأسرية والزوجية
والاجتماعية، من دون أن ننسى الشعائر اليومية والأسبوعية
والسنوية، التي يفرضها الدين والتي يصعب على العولمة
اختراقها أو تغييرها، مهما أصاب أطراف هذه الثقافة من تبدل
لا يمكن أن يطال الجوهر أو النواة.. ولنضرب مثلاً "ساخنًا"
على ما يمكن أن نسميه "خيبة أمل" العولمة من شباب العالم
الإسلامي عندما خرج هؤلاء بالملايين في عواصم بلدانهم
للتنديد بالسياسة الأميركية المؤيدة لإسرائيل داعين في
الوقت نفسه إلى مقاطعة بضائعها بما في ذلك عدم ارتياد
مطاعمها التي تعتبر رمزًا "قويا" من رموز العولمة. وذلك
كله بسبب تعاطف هؤلاء الشباب مع الشعب الفلسطيني في محنته
وجهاده، وهو تعاطف تمتزج فيه العاطفة الإنسانية، بالشعور
القومي، وبالانتماء الديني في وقت واحد.
وبعيدًا عن موضوعي الجنس والعنف، فإن موازين القوى
الدولية، ولأسباب كثيرة تميل لمصلحة الغرب ودوله، وهذا
الأخير يتصرف باعتباره مرجعية العالم سياسيًا وثقافيًا
واقتصاديًا. وتلعب منظماته الدولية والإقليمية دورًا
مباشرًا بين شعوب الدول غير الغربية (وخصوصًا في الدول
العربية والإسلامية) في محاولة تثبيت هذه المرجعية. وهكذا
تقوم تلك المنظمات بنشاط مشترك مع الهيئات والجمعيات
المحلية (ندوات ومؤتمرات..) للبحث في حقوق الإنسان وفي
حقوق المرأة والعنف الزوجي والمجتمع المدني وسواها من
قضايا يكثر الحديث عنها منذ سنوات، وعلى الآخر غير الغربي
أن يتعلم منها وأن يتبناها لكي ينتقل إلى حالة أفضل من
الحالة التي هو فيها بغض النظر عن القيم التي تنظم حياته
وعلاقاته الأسرية والعاطفية والاجتماعية..
وما يستدعي التحفّظ هنا ليس مبدأ العلاقة مع هذه المنظمة
أو تلك من المنظمات الدولية أو الإقليمية الذي يتيح التعرف
إلى تجارب الشعوب وخبراتها. إنما التحفظ مصدره العلاقة
التي تسير باتجاه واحد (شمال-جنوب)، ومضمون العمل المشترك
والندوات المشتركة التي تحصل بين طرفين أحدهما غني وقوي
والآخر ضعيف وفقير! يبحثان فيها "سويا"! تلك القضايا التي
أشرنا إليها حول الديمقراطية وحقوق المرأة والحرية الفردية
والمجتمع المدني والتربية على السلام والتربية على
التسامح.. إن ما يجري على هذا المستوى له علاقة مباشرة
بالقيم وبالخصوصية الثقافية، وهو أشد تسلّلاً إلى عقول
النخب الاجتماعية والفكرية وتأثيرًا عليها من ثنائي العنف
والجنس الذي لا يستطيع أحد الدفاع عنه لا في الشرق ولا في
الغرب. ولو ضربنا مثالاً على هذا النوع من العمل المشترك
"منظمات حقوق الإنسان" التي تشهد رواجًا ملحوظًا ودعمًا
واضحًا من المنظمات الدولية المماثلة، لفوجئنا بما جرى مع
المنظمة المصرية لحقوق الإنسان التي تعرضت قبل سنوات
لانتقاد بعض المنظمات الأوروبية والتي قررت منع المساعدات
عن المنظمة المصرية لأن هذه الأخيرة "لم تنظم فعاليات
تضامنية مع المثليين المصريين الذين اعتقلتهم السلطات
المصرية بتهمة ممارسة الشذوذ". أو كمثال آخر بعض المؤتمرات
التي تعقد عن التربية، وتدعو إلى "ضرورة تهيئة الأجواء
والمناخات اللازمة لثقافة السلام.. لامتلاك المهارات من
أجل حل النزاعات بطريقة بناءة.. ولإدراك المعايير الدولية
لحقوق الإنسان، والجنس والمساواة.. [أي يصبح حل النزاعات
بطريقة بناءة موازيًا من حيث أولويته وأهميته في مجتمعنا
للمساواة بين الجنسين!.. كما تصبح تهيئة الأجواء والمناخات
لثقافة السلام ضرورية في الوقت الذي لا يزال لبنان يقاتل
لاسترداد ما تبقى من أرضه المحتلة وفي الوقت الذي لا تزال
فيه منطقة الشرق الأوسط مشتعلة وغير مستقرة بسبب السياسات
الإسرائيلية وعدم الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني..].
ويمكن أن نضيف إلى ما تقدم أيضًا مشروعًا سابقًا للأمم
المتحدة تقدمت به في مؤتمر السكان الذي عقد في القاهرة قبل
سنوات وحاولت من خلاله تمرير نص يدعو إلى الموافقة على
"دعم الأسرة بأشكالها كافة". أي الأسرة "التي تتشكّل من
الجنس نفسه" والتي بدأت تظهر في الغرب منذ بضع سنوات. وقد
اعترضت الدول الإسلامية والفاتيكان معًا على هذا البند
المقترح في وثيقة المؤتمر. إلى عشرات الندوات والمؤتمرات
التي تعقد بشكل متواصل في معظم الدول العربية والإسلامية
التي تتناول كما أشرنا قضايا المرأة من منظور الجمعيات
الأوروبية التي تموّل "الأنشطة المشتركة"، وقضايا الأسرة
والزواج والطلاق والإنجاب والعلاقات بين الجنسين من
المنظور نفسه..
والمشكلة في كل ما تقدم هي عدم قبول الآخر كما هو، وعدم
الاعتراف بخصوصيته الثقافية والدينية التي شكّلت نظامه
للزواج وللتربية وحتى للعلاقات الاجتماعية أو السياسية.
وهذا يتعارض كما هو معلوم، مع بديهيات المبادئ الأخلاقية
التي تقوم على الاحترام المتبادل للفرد أو للجماعة، وعلى
تقدير خصوصيتهما والمحافظة عليها.
ومع هذا الجانب من "التدخل" الأخلاقي في الحياة الثقافية
والقيمية في بلدان العرب والمسلمين لتعديل هذه الحياة أو
"لتحديثها"، كما يتكرر في المصطلحات الرائجة، سنكون أمام
تدخل يشبه ما يجري اليوم في عالم السياسة والقوة حول ما
يسمى "حق التدخل" الإنساني لإنقاذ هذه الجماعة أو الأقلية
العرقية أو الدينية، أو للدفاع عن مصالح هذه الدولة أو تلك
ضد أي "خطر" حقيقي أو مفتعل.. وإذا أضفنا إلى هذا "الحق"
تلك المخاطر السلوكية والأخلاقية الناجمة عن الترويج للجنس
و للعنف بعيدًا عن كل الضوابط...، أدركنا حجم المخاوف التي
تحيط بعالمنا الإنساني كله من دون استثناء، من جرّاء هذا
التهميش الذي تتعرض له القيم الأخلاقية بمستوياتها الثلاثة
: في السياسة وفي الثقافة وفي الاقتصاد. هذا التهميش هو
الذي يثير الخصوصيات الثقافية والدينية التي تدافع بها
شعوب العالم عن وجودها وعن إحساسها بهذا الوجود.
|