السنة السادسة / العدد السابع عشر/ حزيران 2010 - رجب 1431هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

جبل عامل منذ الفتح الإسلامي

حتى العهد العثماني 634- 1516

د. علي إبراهيم درويش

يكاد يُجمع من تناول دراسة تاريخ جبل عامل على نعت تاريخه بالغموض، ومصادره بالقليلة، ووثائقه بالنادرة، وغاب عن بال هؤلاء الدارسين أن جبل عامل جزء من بلاد الشام، أصابه ما أصابها، وجرت على أرضه ما حصل على أراضي الشام أيضًا.

انطلاقًا من هذه الحقيقة وعملاً بهذا المبدأ سيتم عرض تاريخ جبل عامل منذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام وحتى مجيء العثمانيين.

أولاً: جبل عامل في العهدين الراشدي والأموي 634- 750م

يذكر ابن كثير أن قبيلة "عاملة" كانت من القبائل العربية التي تنصّرت وعاشت في بلاد الشام([1]).

لذلك كانت بلاد عاملة قبل الإسلام تعتبر جزءًا من الأراضي الخاضعة للنفوذ البيزنطي، ولحكم هرقل ملك الروم بالتحديد.

ويؤكد ذلك ما ذكره السيد محسن الأمين نقلاً عن بعض المؤرخين أنه في غزوة تبوك (بلغ النبي (صلى الله عليه وآله) أن هرقل جلب معه لخم وخزام وعاملة وغسان) ([2]).

بعد وفاة النبي محمد (صلى الله عليه وآله)، وفي سنة 13هـ-634م، اتجه المسلمون لفتح بلاد الشام، فعيّن أبو بكر الصديق خالدًا بن سعيد بن العاص لفتح بلاد الشام ثم عزله قبل أن يسير، ثم أرسل القادة على النحو التالي: أبو عبيدة بن الجراح ووجهته حمص، وشرحبيل بن حسنة ووجهته الأردن ، ويزيد بن أبي سفيان ووجهته الشام، وعمرو بن العاص ووجهته فلسطين([3])، والقيادة العامة لخالد بن الوليد، انتقلت بعد اليرموك وبعد وفاة أبي بكر إلى أبي عبيدة بن الجراح([4]).

افتتح المسلمون سنة 13هـ-634م مدينة دمشق، وسار القادة نحو "فِحْل" في فلسطين، واستخلف أبو عبيدة على دمشق يزيد بن أبي سفيان([5])، فقصد يزيد صيدا وعرقة وجبيل وبيروت وعلى مقدمته أخوه معاوية، ففتح هذه التخوم فتحًا يسيرًا، وجلا كثيرًا من أهلها بينما تولى معاوية فتح عرقة بنفسه في ولاية يزيد([6]).

ويذكر ابن الأثير في تاريخه: أن الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر وأول خلافة عثمان، فقصدهم معاوية ففتحه، ثم رمها -أي أصلحها- وشحنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع([7]).

أما شرحبيل بن حسنة فقد افتتح الأردن عنوة ما خلا طبرية، فإن أهلها صالحوه على أنصاف منازلهم وكنائسهم سنة 13هـ-634م([8])، وفتح شرحبيل عكا وصور وصفورية أيضًا([9]).

واستطاع خالد بن الوليد أن يتغلب على البقاع، وصالح أهل بعلبك وكتب لهم كتابًا سنة 14هـ-635م أو 15هـ-636م([10])، إلا أن الأمر لم يستتب نهائيًا، ولم يبسط المسلمون نفوذهم في الطرف الجنوبي من بلاد الشام إلا في سنة 19هـ-640 كما يذكر الواقدي، إذ يقول : ((ودخل يزيد بن أبي سفيان مدينة صور... فلما نظر أهل قيسارية إلى ذلك، خرجوا إلى عمرو بن العاص وصالحوه على أن يسلّموا له المدينة، وبعث عمر جيشًا إلى صور مع ياسر بن عمار بن سلمة... وصالح عمرو بن العاص أهل قيسارية على مائة ألف درهم، ودخلها يوم الأربعاء في العُشر الأول من رجب سنة تسع عشرة من الهجرة، ووصل الخبر إلى الرملة وعكا وعسقلان ونابلس وطبرية فعقدوا كلهم صلحًا مع المسلمين، وكذلك أهل بيروت وجبلة واللاذقية، وملّك الله الشام كله للمسلمين ببركة سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله)([11]).

ولما استتب الأمر للمسلمين أخذوا بتنظيم البلاد واتخاذ التدابير اللازمة لضبطها، فقسّمت إلى أربع مقاطعات سمّيت بالأجناد وهي:

- جند حمص (وقاعدته حمص).

- وجند دمشق (وقاعدته دمشق).

- وجند الأردن (وقاعدته طبرية).

- وجند فلسطين (وقاعدته الرملة).

ثم فصل جند قنسرين عن جند حمص عام 680م ليشمل المناطق المتاخمة لبلاد الروم في الشمال.

أما جبل عامل فقد كان موزعًا بين جند دمشق وجند الأردن، وكان نهر القاسمية -وهو الجزء الأسفل من نهر الليطاني- الحد الفاصل بين جند دمشق وجند الأردن عند الساحل([12]).

وكان على دمشق يزيد بن أبي سفيان إلى أن توفي في طاعون عمواس سنة 18هـ-639م، فعيّن عمر مكانه أخاه معاوية([13])، أما جند الأردن فتناوب على حكمه شرحبيل بن حسنة ومعاوية بن أبي سفيان بعدما عزل عمر شرحبيل بن حسنة سنة 18هـ-639م([14])، واستطاع معاوية التفرد في حكم بلاد الشام سنة 31هـ-651-652م، بعدما ضمّ إليه حكم فلسطين بعد حكم أجناد الشام والأردن وحمص وقنسرين([15]).

وعلى ذلك فإن جبل عامل كان في عهدة معاوية بن أبي سفيان منذ عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان.

وأخذت الدعوة الإسلامية تنتشر في هذه الربوع حيث اتخذ المسلمون من بعض المواقع في جبل بيروت، وجبل صيدا وجبل عاملة المتصل بصور مراكز للمرابطة الدينية والعسكرية، تساندها الحاميات القائمة في ثغور الساحل، فنتج عن ذلك الانتشار السريع للإسلام في هذه المناطق([16])، وممن نزل في جبل عامل في تلك الأثناء الصحابي الجليل أبو ذر الغفاري([17]) الذي نشر الموالاة للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) آنذاك واستمرت حتى يومنا هذا.

وفي العهد الأموي بقيت التقسيمات الإدارية كما كانت في العهد الراشدي، واهتم الخلفاء الأمويون المتأخرون بمدينة صور، وجعلها هشام بن عبد الملك 724-743م مركزًا لصناعة السفن، فأصبحت لها مكانة خاصة بين ثغور الساحل الشامي، وقد كانت هذه المكانة من قبل لعكا([18]).

 ثانيًا: جبل عامل في العهود العباسية 750- 1258م

خضعت بلاد الشام ومن ضمنها جبل عامل لأشكال مختلفة من الحكم في العهود العباسية.

بدأت الدولة العباسية قوية ثم أخذت بالتفكك والانحلال وتعرضت للغزو الخارجي، وظهر على التوالي كل من الدولة الطولونية 868-905م؛ ثم الدولة الأخشيدية 935-969م في مصر، ومدّتا نفوذهما إلى سوريا؛ والحمدانيون 890-1003م في سوريا وشمال العراق.

وفي سنة 969م ظهر منافس خطير: تجلّى بالدولة الفاطمية في مصر 969-1171م التي بسطت نفوذها على بلاد الشام، ودافعت عن سواحل الشام أمام الغزو الصليبي الذي دهم الشرق عام 1097م.

وفي غمرة الصراع الصليبي-الإسلامي ظهرت دولة الأتابكة الزنكيين في الشام 1127-1174م، ثم الدولة الأيوبية في مصر 1171-1250م التي قضت على الفاطميين، واتّجه الأيوبيون نحو الشام حيث أعادوا سيطرة العباسيين الاسمية على البلاد التي خلّصوها من الصليبيين الذين دام حكمهم بين 1097-1291م.

أما على الصعيد الإداري فقد حافظ الخلفاء العباسيون الأوائل على نظام الأجناد في الشام، وخصّوا ثغور الساحل ومنها ثغور جند دمشق التابعة لعامل بعلبك بالاهتمام، فعمدوا إلى زيادة تحصينها وشحنها بالمقاتلة([19]).

وكانت فترة الحكم العباسي فترة قلاقل وفتن في بلاد الشام، وتعرضت المدن للنهب لا سيما مدينة دمشق([20])، ولم تتحسن الأحوال في عهد الدولة الطولونية، فكانت الشام عرضة لغزو القرامطة، ولظهور السفيانيين المناوئين للعباسيين([21]).

ثم حكمت الدولة العباسية الشام حكمًا مباشرًا في الفترة الممتدة بين 905-935م، إلى أن استطاع الأخشيد محمد بن طنج السيطرة على مصر، ومن ثم بسطت الدولة الأخشيدية نفوذها على سوريا وتنازعت مع الحمدانيين حكم الموصل([22]).

كل هذه الدويلات تعاقبت على حكم بلاد الشام، ولم تخلع الطاعة للخليفة العباسي كما فعل الفاطميون، الذين حكموا مصر عام 969م، واحتل قائدهم جوهر الصقلي بلاد الشام أيضًا، وحمل الحاكم الفاطمي لقب (الخليفة) ولم يعترف الفاطميون بخلافة العباسيين.

وفي القرن الحادي عشر الميلادي اشتدت الخلافات بين الفاطميين والسلاجقة الذين دخلوا بغداد عام 1056م، ففي سنة 1076م نصّب "أشز بن أوق" نفسه حاكمًا على بلاد دمشق والأردن وفلسطين ما عدا إمارة ابن عقيل في صور وإمارة ابن عمار في طرابلس وبعض ثغور الساحل، التي بقيت بأيدي الفاطميين ومنها بيروت وصيدا، وتمت السيطرة للسلاجقة على معظم الشام سنة 1086م([23])، ثم استعاد الفاطميون السيطرة على الأجزاء الساحلية لبلاد الشام، وفي نهاية القرن الحادي عشر الميلادي بدأت جحافل الصليبيين تغزو بلاد الشرق الإسلامية، حيث لم يستقر للمسلمين القرار حتى تمت هزيمة الصليبيين عسكريًا عام 1291م.

كان جبل عامل تابعًا للعباسيين حتى مجيء الفاطميين الذين سيطروا على تلك البلاد فظهرت في تلك الأثناء دولة بني عقيل في صور 1079-1089م([24])، وحتى مجيء الصليبيين تناوب العباسيون والفاطميون السيطرة على جبل عامل.

وقبل سنة 528هـ-1132م كانت قلعة شقيف أرنون وما يتبعها من بلاد عاملة في قبضة ابن جندل البقاعي أمير وادي التيم، واتصل به هذا العمل من جده جندل الذي كان مقدمًا في الدولة الفاطمية، وولي في أيامها أعمال وادي التيم، وانتزعها شمس الملك إسماعيل بن نور الدين محمود زنكي -صاحب دمشق- منه سنة 1133م([25]).

وفي العهد الصليبي كان الجزء الجنوبي من بلاد الشام ومن ضمنه جبل عامل موزعًا بين الممالك الصليبية ... ففي عهد الملك بغدوين 1100-1118م ضمّت مملكة أورشليم الفرنجية كامل جند فلسطين فيما عدا عسقلان وغزة، وكامل الجليل من جند الأردن ما عدا صور، بالإضافة إلى جبل صيدا من بلاد -الأشواف- والسفوح الشرقية من هذا الجبل حتى مجرى نهر الليطاني من البقاع، وفي سنة 1110م أخذ بغدوين مدينة صيدا من الفاطميين وأقطعها وما يليها من جبل الشوف إلى أسرة غرينييه، وأصبحت هذه المدينة قاعدة لمقاطعة من مملكة أورشليم أطلق عليها اسم -سينيورية صيدا-، وبقيت صور بأيدي الفاطميين حتى احتلها الصليبيون عام 1124م في عهد بغدوين الثاني، ووضع ملوك أورشليم صور تحت حكمهم المباشر، أما جبل عامل فأُتبع الجزء الشمالي منه بـ"سينيورية صيدا" والجزء الجنوبي بإمارة الجليل التابعة لمملكة القدس([26]).

وظل جبل عامل خاضعًا للحكم الصليبي كبقية المناطق التي خضعت لهذا الاحتلال، حتى وقعة حطين 4 تموز 1187م، حيث تغيرت الخريطة السياسية بعد هذه المعركة، فبعد انتصار المسلمين في حطين، اندفع صلاح الدين شمالاً حيث سقطت عكا في يده في 10 تموز 1187م، ثم حاصر تبنين وأخذها في 29 تموز، وأثناء الحصار سيطر على مناطق جبل عامل ما عدا قلعة الشقيف.

وسقطت الصرفند وصيدا سِلمًا، ولم يبقَ في أيدي الصليبين سوى مدينة صور وقلعة الشقيف، واتخذ صلاح الدين من مرجعيون مركزًا له أثناء حصار قلعة الشقيف التي سقطت في نيسان 1190م، وبذلك بسط صلاح الدين سيطرته على بلاد عاملة، إضافة إلى مناطق جبل لبنان والبقاع وطرابلس ما خلا مدينتي طرابلس وصور([27]).

إن جبل عامل كان خاضعًا للحكم الصليبي قبل حطين وللأيوبيين بعدها، وفي هذه الأثناء 583هـ-1187م حكم حسام الدين بن بشارة بلاد عاملة وهو جد آل بشارة([28]).

وتميّزت فترة حكم الأيوبيين من سنة 1175 إلى 1250م بالاضطراب ... إذ ابتدع الأيوبيون سياسة تدمير المدن والقرى والقلاع التي لا يتمكنون من المحافظة عليها، فهدم الأيوبيون بيروت وصيدا وقلعة تبنين وقرى صور، وذلك أدّى إلى تغيّر نظرة السكان للأيوبيين فلم يعودوا يطمئنون لحمايتهم، وازدادت نقمة المسلمين على الأيوبيين عندما عمدوا إلى تسليم العديد من المدن والقرى والقلاع إلى الصليبيين دون قتال، بينما انشغلوا بمحاربة بعضهم البعض، لذلك فضّل بعض المسلمين التعامل مع الصليبيين على التعامل مع الأيوبيين، ووصل الأمر ببعض ملوك الأيوبيين الصالح إسماعيل إلى محاصرة قلعة الشقيف لأن حاميتها المسلمة رفضت تسليمها للصليبيين، ثم احتلها وسلمها للصليبيين وعاقب أفراد الحامية([29]).

موقف الأيوبيين هذا يجعلنا نقف موقف الشك من رأي صاحب خطط الشام الذي ذكر أن شيعة جبل عامل كانت مع الصليبيين على إخوانهم المسلمين إلا قليلاً([30])، لأن سياسة الأيوبيين دفعت السكان إلى القلق والاضطراب لدرجةٍ فضّل البعض التعامل مع الصليبيين، خاصة عندما يحتل الصالح إسماعيل قلعة الشقيف ويسلمها للصليبيين ويعاقب حاميتها المسلمة.

هذه السياسة الأيوبية يمكن أن تكون قد دفعت بعض الشيعة في هذه الفترة لمهادنة الصليبيين وعدم قتالهم، وهذا لا ينفي مقاومة شيعة جبل عامل للصليبيين، وإذا كان الصالح إسماعيل نموذجًا للحكم الأيوبي، فكيف تكون النظرة إلى صلاح الدين؟ وهل يمكن القول أن الأيوبيين قاتلوا المسلمين وانتزعوا منهم القلاع وسلموها للصليبيين؟!!

ثالثًا: جبل عامل في عهد المماليك 1250- 1516م

قضى المماليك على الحكم الأيوبي في مصر عام 1250م، وورثوا حكمهم ودافعوا عن البلاد الإسلامية ضد الصليبيين، وضد المغول الذين قضوا على الدولة العباسية عام 1258م، واحتل المماليك مدينة صور من الصليبيين أثناء حصار عكا التي سقطت عام 1291م([31])، وبسقوطها انتهى الوجود العسكري الصليبي في الشرق الأدنى.

ودخلت البلاد في حمى دولة المماليك، ودخل جبل عامل في نطاق المملوكية وكان موزعًا بين نيابتي صفد ودمشق، فولايات تبنين وصور والشقيف كانت تتبع نيابة صفد، وولاية صيدا كانت تتبع نيابة دمشق([32]).

وفي نهاية القرن الثالث عشر الميلادي وبداية القرن الرابع عشر الميلادي تلقى الشيعة ضربة قوية في مناطق كسروان دفعت العديد منهم إلى النزوح.

وفي عهد المماليك برزت بعض الأسر الشيعية، ومنهم المشايخ الحمادية الذين تمكنوا في القرن الخامس عشر الميلادي من الحصول على العديد من المقاطعات الممتدة من سفوح صنين الشمالية إلى جبة بشري في الشمال([33]).

ومقدمية جزين للشيعة، حيث كانت جزين مركزًا دينيًا للشيعة، وازداد عدد سكانها بعد نزوح الكسروانيين إليها، وكانت مقدمية جزين متحالفة مع مقدمية مشغرة الشيعية بزعامة آل صبح([34]).

وقد اعتبر بولياك : آل صبح أو صبيح -أهم الزعماء اللبنانيين في عهد سلاطين المماليك الأول-([35]).

وحكم آل بشارة جبل عامل، ويعتقد أن آل بشارة بنتسبون إلى الأمير حسام الدين بن بشارة الذي حارب مع صلاح الدين الأيوبي في القرن الثاني عشر الميلادي، ويبدو أن نفوذ آل بشارة قد برز بعد فشل حركة الشهيد الأول عام 1384م، وتذكر أخبار سنتَي 810 و811 هـ - 1407 و1408م أن أولاد ابن بشارة محمد وحسن وحسين كان لهم دور في النزاع المحلي بين الأمراء المماليك، كما عمّر أحمد بن بشارة مدينة صور، وجعل لها أسواقًا ونقل إليها من الناس، وحصّنها سنة 1420م([36])، وتمكن ابن بشارة من الوصول إلى درجة مقدم العشير بالبلاد الشامية كما يذكر محمد كرد علي في أخبار سنة 855هـ 1451م (أن زهاء عشرين مركبًا للإفرنج طوّقوا صور ونهبوا من بها، فأدركهم ابن بشارة مقدم العشير بالبلاد الشامية، وقاتلهم قتالاً شديدًا حتى أزاحهم عن البلد، بعد أن قُتل من الفريقين جماعة وقطع رؤوسهم)([37])، ويبدو أن آل بشارة كانوا زعماء العشيرة منذ القرن الرابع عشر الميلادي كما يذكر بولياك([38]).

واستقر الحكم في هذه العائلة وظلت مسيطرة حتى سنة 909هـ 1504م عندما اصطدمت بالأمير ناصر الدين ابن الحنش الذي كان حاكمًا على البقاع، فجهز الأخير خمسة آلاف مقاتل وهاجم عبد الساتر بن بشارة في قرية شيحين، فقتل من جماعة ابن الحنش نحو مائتي رجل([39])، وبالرغم من ذلك تمكن الأخير من السيطرة على مراكز ابن بشارة وصار ابن الحنش يحمل لقب (أمير صيدا والبقاعين وشيخ العرب أو شيخ الأعراب) كما يذكر محمد علي مكي([40]).

وبصورة إجمالية فإن جبل عامل كان تابعًا لحكم الصليبيين، ولما انحسر نفوذهم ودحرهم المماليك صار جبل عامل تابعًا لنيابتي صفد ودمشق، وبرز آل بشارة وشاركهم في النفوذ -في القرن الخامس عشر الميلادي- في جبل عامل أسرة آل سودون عام 883هـ 1487م([41])، غير أن الحكم كان لآل بشارة الذين دافعوا عن بلاد بشارة ضد ناصر الدين بن الحنش.

وكانت بلاد عاملة جزءًا من الدولة المملوكية تتبع نياباتها سواء في صفد أو دمشق، ولم تشكل هذه البلاد حكومة قائمة بنفسها -كما يذكر محمد جابر آل صفا-([42])، لأن مفهوم الاستقلال بالمعنى المتعارف عليه لا ينطبق على تلك الفترات، إلا إذا كان المقصود بالاستقلال حرية جمع الضرائب وزيادتها، لأن الإقطاعات كان تُعطى (بدل الراتب ومقابل الخدمة العسكرية، وتتناسب سعتها وعدد الجند الذين يعتمدون عليها) كما يذكر الدكتور عبد العزيز الدوري([43]).

لذلك كان الحاكم أو الأمير المحلي يحكم بموجب تكليف من الوالي أو نائب السلطان، وكان يجبي الضرائب ويتصرف بمقاطعته شرط أن يقدم عددًا من الجنود يتناسب مع مساحة الإقطاع([44]).

أما مفهوم الاستقلال بالمعنى الشائع بين الكتّاب المتأخرين فيعني الاستقلال المرتبط بالمشاريع التي انتهت بتقسيم الإمبراطورية العثمانية وتفتيتها، هذا الاستقلال لم يكن موجودًا إلا في مخيلة بعض الكتّاب المحدثين الذين يحاولون إثبات ادعاءات حديثة ومفاهيم معينة اعتمادًا على تأويل لبعض الأحداث التاريخية.


 

([1]) ابن كثير: البداية والنهاية، ج2 ص160.

([2]) محسن الأمين: خطط جبل عامل ص50.

([3]) ابن الأثير : الكامل في التاريخ، ج2، ص 402-406.

([4]) المصدر نفسه، ج2، ص421.

([5]) المصدر نفسه، ج2، ص427.

([6]) ابن الأثير، نفس المصدر، ج2، ص429.

([7]) البلاذري، فتوح البلدان، ص132.

([8]) ابن الأثير، ج2، ص431.

([9]) البلاذري، نفس المصدر، ص122 و123؛ ابن كثير، نفس المصدر، ج7، ص25.

([10]) البلاذري، نفس المصدر، ص123.

([11]) ابن كثير، نفس المصدر، المكان نفسه.

([12]) الواقدي، فتوح الشام، ج2، ص35-36.

([13]) كمال سليمان الصليبي، منطلق تاريخ لبنان، ص35-36.

([14]) المصدر نفسه، ج2، ص562.

([15]) المصدر نفسه، ج3، ص117.

([16]) الصليبي، المرجع نفسه، ص47.

([17]) ابن الأثير، نفس المصدر، ج3، ص77، ويذكر ابن الأثير: أنه لما مات أبو بكر خرج أبو ذر إلى الشام وبقي حتى وقع خلاف بينه وبين معاوية فاستدعاه عثمان إلى المدينة ونفاه إلى الربذة، وبقي فيها حتى وفاته سنة 32هـ -653م.

([18]) الصليبي، المرجع نفسه، ص51.

([19]) الصليبي، المرجع نفسه، نفسه ص53.

([20]) فيليب حتّي، تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين، ج2، ص164-167.

([21]) المرجع نفسه، ص190.

([22]) المرجع نفسه، ص190-192.

([23]) كمال الصليبي، المرجع نفسه، ص80.

([24]) محمد علي مكي، لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثماني، ص100-103.

([25]) حيدر الشهابي، تاريخ الأمير حيدر الشهابي، ص333.

([26]) الصليبي، المرجع نفسه، ص86-87.

([27]) محمد علي مكي، المرجع نفسه، ص176-177.

([28]) المرجع نفسه، ص170-268.

([29]) المرجع نفسه، ص196-198.

([30]) محمد كرد علي، خطط الشام، ج2، ص14.

([31]) مكي، المرجع نفسه، ص205.

([32]) المرجع نفسه، ص205 عن القلقشندي صبح الأعشى، ج5، ص455.

([33]) المرجع نفسه، ص266.

([34]) محمد علي مكي، المرجع نفسه، ص268.

([35]) ا.ت بولياك، الاقطاعية في مصر وسوريا وفلسطين ولبنان، ص45 و46.

([36]) مكي، المرجع نفسه، ص269 عن ذيل العبر للأسدي نقلاً عن اللمعات البرقية في النكت التاريخية لابن طولون.

([37]) محمد كرد علي، خطط الشام، ج2، ص189

([38]) بولياك، المرجع نفسه، ص46 .

([39]) اسطفان الدويهي، تاريخ الأزمنة، ص378.

([40]) مكي، المرجع نفسه، 247.

([41]) محمد جابر آل صفا، تاريخ جبل عامل، ص37-38.

([42]) المرجع نفسه، ص34.

([43]) عبد العزيز الدوري، مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي، ص103-104.

([44]) المرجع نفسه.

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد السابع عشر