السنة السادسة / العدد الثامن عشر/ كانون أول 2010 - محرم : 1432هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الدعاء

البروفسور ألكسيس كاريل([1])

ترجمة د. محمد كامل سليمان([2])

تمهيد

ورد عن آل بيت النبوة (صلوات الله عليهم) الحث على أخذ الحكمة مهما كان مصدرها، ومما أثر عنهم في ذلك قولهم: (الحكمة ضالة المؤمن، فحيثما وجد أحدكم ضالته فليأخذها) ، (الحكمة ضالة المؤمن، فخذ الحكمة ولو من أهل النفاق) ، (الحكمة ضالة المؤمن، يأخذها حيث وجدها) ([3])...

وانطلاقًا من هذا المبدأ وجدنا من الخير أن ننشر على صفحات مجلتنا كتاب [الدعاء] للبروفسور ألكسيس كاريل، حيث رأينا أن هذا الكتاب وإن كان مؤسسًا على معطيات الديانة المسيحية، ومنبثقًا عن بعض تجارب المجتمعات الغربية، إلا أنه ينضوي في الوقت نفسه على الكثير من القيم المعرفية والإنسانية، مما يجعله يتجاوز الخصوصيات التي بني عليها، لينتفع به كل طالب للحكمة يأخذها أنى وجدها.

ولذلك فقد حافظنا على نص الكتاب كما وجدناه بترجمته العربية دون زيادة ولا نقصان، ولا تبديل ولا تعديل، مع غض النظر عما إذا كنا نوافق المؤلف أو نختلف معه ولو في بعض المفاهيم أو الجزئيات.

كما أننا أوردنا الهوامش كما جاءت في الترجمة، سواء كانت من وضع المؤلف، أو من وضع المترجم للكتاب.                 (التحرير)

مدخل

بالنسبة لنا، نحن رجال الغرب، يبدو أن العقل أهم من الحدس، فنحن نعوّل على الذكاء العملي أكثر من تعويلنا على العاطفة والشعور.

العلم يتوهّج، ويشعّ، في حين أن التدين يتلاشى وينطفئ.

فنحن الغربيين نسير على خطى ديكارت (Descartes) ونهمل باسكال([4])..، لذلك نحاول دائمًا أن ننمّي ذكاءنا العملي، بينما نهمل النشاطات غير الذهنية للفكر بشكل يكاد يكون كاملاً، كالاهتمام بالضمير الخلقي، والاتجاه نحو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

إن ضمور مثل هذا الاتجاه في تربية الضمير في النشاطات الإنسانية، تجعل من الرجل العصري رجلاً أعمى، على صعيد الروح والشعور، إن مثل هذا الوهن الروحي لا يسمح للإنسان بأن يكون عضوًا مؤسِّسًا في بناء مجتمع سليم ومعافى.

إن أسباب انهيار مدنيتنا يعود في الدرجة الأولى لهذه الصفة الرديئة عند الفرد في الغرب.

وفي الواقع إن تنمية الجانب الروحي هو أكثر ضرورة للنجاح في الحياة، من الجانب المادي والذهني.

لذلك فإنه لمن المستلزمات الحتمية أن نعيد إحياء النشاطات الروحية التي تعطي قوة للشخصية، أكثر بكثير مما يعطيه الذكاء.

إن النشاطات التي يتجاهلها الغربيون أكثر من غيرهم، هي الاتجاه نحو التدين، ونحو القداسة التي يزرعها الدين في النفوس.

هذا، وإن الاتجاه القداسي في الفكر الديني يتجسّد في الدعاء. ذلك أن الدعاء هو بكل وضوح، ظاهرة روحية، كالتوجّه الديني نحو الالتزام بخط الورع والتقوى.

إلى ذلك، فإن العالم الروحي هو بمنأى عن كل التعقيدات الغربية التقنية. والآن كيف السبيل لاكتساب معرفة إيجابية للدعاء؟

 إن المجال العلمي -لحسن الحظ- ينظّم كل ما يمكن رؤيته ويُستطاع ملامسته. كما يمكنه أن يمتد بوساطة علم وظائف الأعضاء، حتى التجليات الروحية. وعليه إذن، فإنه من خلال مراقبة منهجية للرجل الذي يمارس الدعاء، يمكن أن نعلم على أي شيء تقوم ظاهرة الدعاء، وكيفية أدائها ونتائجها...

تعريف الدعاء

يبدو الدعاء -أساسًا- نوعًا من النزوع الفكري نحو جوهر اللامادية في العالم .

إن الدعاء بشكل عام هو تعبير عن شكوى متألمة، أو صرخة قلق، أو طلب استغاثة.

إنه نوع من التأمل العميق، النقي والمتسامي، للمبدأ الأصيل، ذي الشأن الرفيع ، لكل الأشياء.

ونستطيع أن نعرّف الدعاء -أيضًا- على أنه ارتفاع بالنفس نحو الله، كفعل محبة، وعبادة للذي منحنا الحياة، تلك الأعجوبة الخارقة.

وبالواقع فإن الدعاء يمثل بذلاً من الإنسان جهده، في محاولة للتقرب والاتصال بالكائن الذي لا يرى، الذي هو بارئ كل موجود، وصاحب الحكمة العليا، ومصدر القوة والجمال، وأبو كل منّا ومخلّصه..

إلى ذلك فإن الدعاء الحقيقي يمثل حالة روحية أسمى من أن تكون مجرد ترديد لعبارات وصيغ مكرورة بدون معايشة عميقة، بل هو نوع من استغراق الوعي في الله سبحانه وتعالى ..

هذه الحالة ليست حالة ذات طبيعة ذهنية مادية محددة.. لذلك تظلّ بعيدة عن استيعاب الفلاسفة لها وعن الوصول إلى فهمها ..

إن الوصول إلى هذا التجلي الروحي العميق، لا يحتاج إلى معرفة كتبيّة ، تمامًا كرهافة الحسّ في  تذوّق الجمال ، وخفقات القلب عند الشعور بالمحبة.

إن البسطاء من الناس يشعرون بوجود الله ولطفه بهم ، شعورًا طبيعيًا كما يشعرون بالدفء الصادر عن الشمس ، والعطر المتضوّع من الزهر .

وهكذا فإن الله سبحانه وتعالى هو قريب مجيب من هؤلاء الذين لا يعرفون شيئًا غير المحبة والطهارة، بقدر ما هو بعيد عن أولئك الذين لا يريدون إلا أن يفهموه فهمًا علميًا .

الفكر والكلام يشعران بالعجز إذا ما حاولا أن يصفا الله تعالى .

لذلك فإن الدعاء يبلغ أعلى قمم التعبير بتحليق المحبة وتجلّيها فوق ليل العقل الحالك.

تقنية الدعاء .. كيف يجب أن ندعو ؟

لقد عُرفت طريقة المتصوفين المسيحيين في صلاتهم منذ أيام القديس بولس ، وحتى أيام القديس (بنوا) (Benôit) كما عرفت عن طريق مجموع الرسل المجهولين ، الذين كشفوا لشعوب الغرب عن الحياة الدينية ، خلال عشرين قرنًا من الزمن .

إن إله أفلاطون كان لا متناهيًا في جبروته ، أما إله (ابيكتيت) (Epictéte) فكان يمتزج بروح الأشياء ، أما (يهوه)([5]) فكان طاغية يوحي بالإرهاب لا المحبة.

المسيحية،! على العكس من ذلك -جعلت الرب بمتناول الإنسان.. لقد أعطته وجهًا.

لقد جعلته أبانا وأخانا ومخلصنا:

لكي تصل للرب، لست بحاجة لاحتفالات معقدة، ولا لتضحيات دموية.

لقد أصبح الدعاء سهلاً، والقيام به بسيطًا خاليًا من أي تعقيد.

لكي نأتي بالدعاء ينبغي فقط أن نبذل جهدًا لنتجه نحو الله.

هذا الاتجاه ينبغي أن يتحرك بالمشاعر الحيّة، لا بالتحليل العقلي.

إن التأمل بعظمة الله سبحانه مثلاً، هي تعبير عن المحبة والإيمان أكثر منه استغراقًا في الدعاء.

وهكذا على طريقة (لا سال)([6]) La Salle، فإن الدعاء ينطلق من اعتبار فكري ليصبح توًا فعلاً عاطفيًا.

ومهما يكن الدعاء قصيرًا أو طويلاً، جهرًا أو همسًا، فإنه ينبغي أن يكون شبيهًا بمحاورة الطفل مع أبيه.

"نتقدم للدعاء كما نحن" بدون أي احتفاء بالمظاهر الخارجية المزيفة...

هذا ما قالته واحدة من راهبات المحبة، نذرت حياتها منذ ثلاثين عامًا لخدمة الفقراء.

إلى ذلك فإن الإقبال على الدعاء ينبغي أن يكون بكل كيان الإنسان وجوارحه، كما تكون المحبة.

أما بالنسبة لشكل الدعاء فإنه يتنوع من المناجاة الصغيرة لله حتى التأمل العميق.

من الكلمات البسيطة لفلاحة تدعو على مفترق الطرق حتى القداس المتقن تحت أعمدة الكاتدرائية.

هذا، وإن مظاهر الفخامة والأبهة الاحتفالية ليست أشياء ضرورية لقبول الصلاة.

إن النزر اليسير من الناس هم أولئك الذين يحسنون تأدية الدعاء كما ينبغي على شاكلة القديس (جان دي لا كروا) أو القديس (برنار ديك ليرﭬۅ).

ولكن ما ينبغي التوقف عنده هو أن المرء لا ينبغي أن يكون خطيبًا مفوهًا لكي يكون مستجاب الدعاء.

هذا، وإذا كنا نحكم على الدعاء من خلال نتائجه، فإن كلماتنا المتواضعة في التضرع والحمد تبدو أكثر قبولاً عند موجد الكائنات، من أي دعاء مليء بالتعقيدات والزخارف اللفظية.

إن بعض الصياغات التي تردد آليًا هي شكل من أشكال الدعاء، وتشبه إلى حد ما لهب الشمعة.

إننا نكتفي من هذه الصياغات ومن هذه الشعلة المادية، أن ترمز لتوجه الكائن البشري نحو الله جل جلاله.

هذا، وإن أداء العمل تأدية صحيحة هو نوع من أنواع الصلاة والدعاء.

إن القيام بالواجب لا يختلف عن تأدية الدعاء في شيء، كما يقول القديس لويس جونزاج..Saint Louis de Gonzague .

وليس ثمة أدنى شك في أن أفضل وسيلة للتقرب من الله إنما هي بتنفيذ تعاليمه في المجتمع.

(ربنا فلتسد مملكتك، ولتكن إرادتك مطبقة في الأرض كما في السماء...)

هذا، وإن إطاعة الله سبحانه تتحقق بالخضوع لقوانين الحياة، كما هي مغلغلة في أنسجتنا وفي دمنا وفكرنا...

إن الأدعية التي تتصاعد من على سطح الأرض كغمامة كبيرة تختلف باختلاف مكونات شخصية الذين يرفعونها.

هذه الأدعية تقوم على موضوعين أساسيين:

الاستغاثة والمحبة..

هذا، وإن الاستغاثة بالله سبحانه وتعالى لنحصل على ما نحن بحاجة إليه لمطلب مشروع  لا غنى عنه..

وإنه لمن غير المعقول أن نطلب مكافأة على النزوات، أو أن لا نقطف ثمرة جهودنا..

إن الدعاء عند الحاجة بإلحاح وإصرار لا يمكن أن يخيب..

إن الأعمى الذي يجلس على قارعة الطريق يجأر بدعائه ويجهر بصوته رويدًا رويدًا، غير مبال بالناس الذين كانوا يمرون به ويعملون على إسكاته، حتى شفي لدليل على الاستجابة.

(إيمانك شفاك) قال يسوع الذي كان يمر من هناك، الدعاء في شكله الأعلى ليس عريضة تُقدَّم، وإنما يعرض الداعي لرب الكائنات حبه، ويقدم شكره، على سني مواهبه، معلنًا استعداده على اتباع تعاليم الله مهما كانت. الدعاء يغدو آنئذٍ تأملاً عميقًا بعظمة الله.

بعد أن انتهى القداس في الكنيسة وفرغت المقاعد، ظل فلاح هرم يجلس على مقعده في آخر الكنيسة.. فسأله الكاهن ما الذي تنتظر بعد؟

فأجابه الفلاح: .. إني أراه وهو يراني.

وهكذا فإن قيمة الفن الحقيقية هي بما يصدر عنه من نتائج.

وطريقة الدعاء الفضلى هي تلك التي تجعلك تحس بالاتصال الحميم بالله سبحانه...

أين ومتى ندعو؟

نستطيع أن ندعو الله في كل مكان، في الشارع وفي السيارة، وفي الباخرة، وفي المكتب، وفي المدرسة، وفي المصنع..

ولكن الدعاء الأفضل والأكثر حرارة إنما يكون في البراري، وفي الجبال، أو في الغابات، أو في غرفة منعزلة، كما أن هناك الأدعية الطقوسية التي تقام في الكنائس.

ومهما يكن فإن الإنسان في أي مكان دعا، فإن الله سبحانه وتعالى لا يستجيب دعاءه، ما لم يؤسس الداعي طمأنينة داخلية في ذاته.

هذه الطمأنينة النفسية تتبدل حسب الحالة الذهنية والعضوية، وبحسب الوسط الذي نكون مستغرقين فيه.

إلى هذا فإن الاستقرار الجسدي والفكري  يصعب الحصول عليه وسط ضوضاء المدينة الحديثة وتشتيتها.

ونحن في هذه الأيام بأمسّ الحاجة لأمكنة للدعاء، ومن الأفضل أن ينشأ معابد في المدينة حيث يستطيع سكانها أن يجدوا -ولو لبرهة وجيزة- الشروط الفيزيائية والنفسية التي لا يمكن الاستغناء عنها، للحصول على راحة نفسية داخلية.

إن إيجاد جزر سلام جميلة ومهيئة للاستقبال، وسط جلبة المدينة وضوضائها، ليس صعبًا ولا باهظ التكاليف.

وفي صمت هذه الملاذات الروحية يستطيع الناس أن يرتفعوا بتفكيرهم نحو الإله، فيريحوا عضلاتهم وحواسهم، ويهدئوا أعصابهم، ويجلوا بصيرتهم، ليجدوا من خلال ذلك، القوة الروحية التي تساعدهم على تحمل مشاق حياتهم الصعبة، التي تثقل كاهل حياة المدنية الحاضرة.

هذا، وحين يغدو الدعاء عادة، يصبح ذا أثر قوي على الطباع، من أجل ذلك ينبغي أن نواظب على الدعاء.

وهذا نفسه ما دعا إليه إبيكتيت([7]) Epictéte الذي كان يقول: (فكّر بالله أكثر مما تتنفس).

فمن غير المعقول أن ندعو في الصباح لنكمل بقية نهارنا بأعمال بربرية قائمة على التعديات وانتهاك الحقوق..

إن بعض فترات من التفكير أو التضرع الذهني، يمكن أن تجعل الإنسان دائم التفكر بالله، مشدودًا إلى عالم المحبة والعطاء والتسامح..

وهذا السلوك مستوحى من الدعاء، وعليه فإن الدعاء والصلاة يغدوان طريقة للعيش من خلال هذا الفهم للدعاء([8]).

ثمرة الدعاء ونتائجه

يترك الدعاء دائمًا نتيجة إيجابية إذا أُتي به في الأوقات المناسبة.. (ما من إنسان مارس الدعاء إلا وتعلم أشياء تعود عليه بالنفع العميم) كما كتب رالف والدو أمرسون: Ralph Waldo Emerson عدا عن ذلك، فإن الدعاء يعتبر عند الرجال العصريين، عادة بالية ، مهجورة، وخرافة لا طائل تحتها، وبقايا بربرية بالية.

وفي الحقيقة إننا نجهل جهلاً يكاد يكون تامًا آثار الدعاء وإيجابياته.

فما هي أسباب جهلنا يا ترى؟

أسباب جهلنا- لقيمة الدعاء- تعود بادئ ذي بدء إلى قلة مواظبتنا على الدعاء وممارستنا له.

كما أن التحلي بالقداسة والتقوى، هو في طريق الزوال عند متمدني اليوم.

إلى ذلك فإنه من المحتمل أن عدد الفرنسيين الذين يواظبون على الدعاء بصورة مستمرة لا يتجاوزون 4% إلى 5%.

من هنا نجد أن الدعاء يكون أحيانًا عقيمًا لا يؤتي ثماره كما ينبغي، لأن الغالبية العظمى من الداعين والمصلين يكونون أنانيين وكذابين، متعجرفين وفريسيين، متظاهرين بالتقوى والورع وقلبهم مملوء بالحقد والكراهية، غير جديرين بالمحبة والإيمان.

لذلك، فإن نتائج الدعاء عندما تحدث غالبًا ما تمرّ دون أن نشعر بها.

وهكذا فإن إجابة مسألتنا ومردود محبتنا، يأتي عادة بشكل بطيء غير ملموس وتقريبًا غير مستجاب.

إن صوت الدعاء الخافت الذي يُهمس في أعماقنا سرعان ما يختنق وسط ضجيج العالم وصخبه..

هذا، وإن نتائج الدعاء المادية غامضة هي نفسها أيضًا، إذ أنها تختلط على العموم بظاهرات أخرى.

فقليل من الناس-حتى بين الكهنة أنفسهم- هم أولئك الذين تتاح لهم فرصة مراقبة تلك النتائج بصورة دقيقة.

تلك النتائج غالبًا ما يتركها الأطباء أنفسهم بسبب قلة الفائدة، يتركونها بدون أن يعمدوا إلى دراسة هذه الحالة التي تكون بمتناول أيديهم.

فضلاً عن ذلك، فإن المراقبين غالبًا ما يتنكبون عن الطريق، ويبدّلون الاتجاه لأن واقع الجواب غالبًا ما يكون غير ما يتوقعون.

وعليه فإن الذي يطلب - مثلاً- أن يُشفى من مرض عضوي، يبقى مريضًا، إلا أنه يطرأ عليه تحول في المسلك والأخلاق، من الصعب جدًا أن نقوم بشرحه.

إلا أن ممارسة الدعاء ومهما كان نادرًا في مجموع أفراد الشعب، إلا أنها تظل معاشة نسبيًا في المجموعات التي تظل وفيّة لتدينها وإيمانها.

ففي هذه المجموعات البشرية يمكن حتى اليوم دراسة تأثير الدعاء فيها.

ومن بين النتائج التي لا تُحصى للدعاء تتاح الفرصة أمام الطبيب لكي يراقب العلاقات الوثيقة بين المظاهر النفسية والبدنية والعلاجات الشافية لها.

النتائج النفسية - الفيزيولوجية للدعاء

لا شك أن الدعاء يؤثر على الفكر وعلى الجسد، بشكل يبدو أنه يتعلق بنوعية الدعاء، وبكثافته والمداومة عليه.

ذلك أنه من السهل أن نتعرف على آثار ممارسة الدعاء، وحتى في بعض الأحيان على كثافته.

أما نوعية الدعاء فتظل مجهولة، لأننا لا نملك الوسيلة لمقياس الإيمان، ولا لمعرفة محبة الغير.

ومع ذلك، فإن الطريقة التي يعايشها من يمارس الدعاء يمكن أن توضح لنا نوعية الابتهال الذي نرفعه لله سبحانه.

حتى عندما يكون الدعاء ضعيف القيمة، ويعتمد على الترديد الآلي للصيغ الدعائية فإنه يترك أثرًا على السلوك الإنساني، فهو يقوّي جانب التقوى والجانب الخلقي فينا في وقت معًا.

إلى ذلك فإن الأوساط التي يُصلى فيها تتصف بنوع من المثابرة الدائمة على الشعور بالمسؤولية والإصرار على القيام بالواجب بإخلاص، بعيدًا عن التحاسد والتباغض، بل بالطيبة والأريحية تجاه الآخرين.

وغني عن البرهان بأنه على صعيد النمو العقلي والذهني يلاحظ أن التحلي بالقيم الأخلاقية والاندفاع لعمل الخير، يكون أكثر وجودًا بين الذين يحافظون على الدعاء من غيرهم ممن لا يدعون.

وهكذا فإن الدعاء عندما يُثابر عليه يوميًا ويصبح ذا طابع ورع، فإن أثره يتبدى بوضوح أكثر.

كما أن تأثير الدعاء يمكن أن يقارن بشكل من الأشكال بتأثير الغدد الصماء ذات الفرز الداخلي كالغدة الدرقية والغدة الكظرية.

إنه يقوم على نوع من التحول الذهني والعضوي، هذا التحول يتقدم يومًا بعد يوم، حتى يمكن القول بـأن شعلة وهاجة تتأجج في أعماق الوعي الإنساني، فيرى الإنسان في ضوئها نفسه على حقيقتها، فيكتشف أنانيته وجشعه، كما يطّلع أيضًا على خطأ الأحكام التي يصدرها مدفوعًا بعجرفته وتغطرسه، مما يحدو به للإنكباب على القيام بواجبه الخلقي، إنه يحاول أن يكسب الخشوع النفسي، وهكذا تنفتح أمامه مملكة النعمى الإلهية.

وهكذا شيئًا فشيئًا يصبح عنده نوع من الطمأنينة الباطنية، ونوع من الانسجام في النشاطات العصبية والأخلاقية، كما يقوم عنده نوع من التجلد الكبير لتحمل الفقر، وترفع عن النميمة، وعدم استسلام للهواجس المريبة، وتتولد عنده قدرة روحية لا تتركه يتضعضع أو يضعف أمام فقدانه لأحد من ذوي قرباه، ولا يهون أمام الألم والمرض والموت.

هذا، وإن الطبيب ليسعد أيضًا حين يجد مريضًا ينكب على الدعاء، ذلك أن الطمأنينة النفسية التي تتولد عن طريق الدعاء تكون عونًا عظيمًا على الشفاء والمعافاة.

إلى ذلك، فإن الدعاء ينبغي أن لا يشبه في حال من الأحوال (المورفين)، ذلك أنه يسبغ - إلى جانب الطمأنينة النفسية وفي الوقت عينه- نوعَا من التكامل لدى النشاطات الذهنية المختلفة، ويتوفر على إغناء الشخصية الإنسانية، وترسيخ النزعة البطولية أحيانًا.

كذلك فإن الدعاء يختم الداعين المخلصين بطابع خاص ومميز.

وهكذا، فإن صفاء النظرة للآخرين، وطمأنينة التماسك النفسي الداخلي، والانشراح للصدق في التعبير، إلى جانب الرجولة الحقة في التصرف، مع الرضا الكامل للجندي بالموت حين يدعو الواجب، والطمأنينة التامة للبطل بالشهادة دفاعًا عن الحق، كل ذلك يشف عن وجود الكنز الخبيء في أعماق كل منا، وفي فكره وحواسه.

وتحت هذا التأثير العظيم نلاحظ أنه حتى الجاهلون، والمتأخرون، والضعفاء، والمحدودو الاستعداد، حتى هؤلاء يستخدمون بشكل أفضل قواهم الخلقية والعقلية.

وهكذا فإن الدعاء يرفع الناس فوق مستواهم الذهني، الذي ينتمون إليه سواء بالتربية أو بالوراثة.

هذا الاتصال الروحي بالله -عبر الدعاء- يغمرهم بالسلام والثقة بالنفس، كذلك فإن السلام يشع من ذواتهم الطاهرة، مما يجعلهم يحملون السلام للناس في كل مكان يحلّون فيه.

ومما يؤسف له -هنا- أنه لا يوجد الآن في العالم سوى عدد طفيف من الأفراد يحسنون تأدية الدعاء بطريقة مثمرة وفاعلة.

الشفاء عن طريق الدعاء

إن نتائج الشفاء عن طريق الدعاء يستثير اهتمام الناس على مر العصور.

وحتى يومنا الحاضر وفي الأوساط التي ما زالت تمارس الدعاء وتقوم بالصلاة، ما زالوا يتحدثون بإسهاب عن الأشخاص الذين تم شفاؤهم عن طريق التضرعات للباري عز وجل أو لأوليائه الصالحين.

أما بالنسبة للأمراض القابلة للشفاء تلقائيًًا أو بمساعدة الأدوية والعقاقير العادية فإنه من الصعب أن نعرف العامل الحقيقي الكامن وراء الشفاء.

أما في الحالة المرضية التي لا يمكن فيها تطبيق العلاج على الشخص المريض، أو عندما نطبقه ولكن بدون جدوى وبدون أن تعطي النتائج الشفائية المرجوة.

في هذه الحالة يمكن أن نلاحظ دور الدعاء الأكيد في شفاء الأمراض المستعصية.

إن المكتب الطبي التابع لـ(لورد Lourdes) ([9])، أدى خدمة كبيرة للعلم عندما برهن على أن حقيقة شفاء كثير من الأمراض المستعصية كان بفضل الدعاء وحده.

وهكذا فإن للدعاء قوة سريعة في الشفاء حتى يمكن تشبيهها بسرعة الانفجار.

هذا وإن كثيرًا من المرضى تمّ لهم بفعل العاطفة الصادقة وعن طريق الدعاء، تمّ لهم الشفاء من أمراض خطيرة مستعصية، كمرض القرّاض الجلدي في الوجه"Lupus" وكالسرطان، وتعفن الطحال، والقرحة، والتدرن الرئوي، أو السل العظمي، أو السل في الحجاب الحاجز.

إن ظاهرة الشفاء هذه كانت تحدث تقريبًا دائمًا بنفس الأسلوب، يعاني المريض ألمًا شديدًا، ثم يعقبه شعور بإمكان الشفاء.

وهكذا خلال بضع ثوان أو بضع ساعات على الأكثر، تختفي علامات المرض، والجروح التشريحية تلتئم لتتم معجزة الشفاء بعد ذلك بسرعة هائلة، تختصر مراحل العلاج العادية بشكل مذهل.

ومن الجدير التنويه به هنا، أن هذه السرعة المتناهية في مسيرة الشفاء، لم يلاحظها أي أحد من الجراحين النطاسين، أو أخصائيي وظائف الأعضاء المشهورين، خلال ما أجروا من عمليات لمرضاهم حتى أيامنا الحاضرة.

هذا، ولكي تتم ظاهرة الشفاء بسبب الدعاء كما سبق وأشرنا ليس ضروريًا أن يكون الداعي هو المريض نفسه، فإن هناك أطفالاً صغارًا لا يستطيعون الكلام تمت لهم معجزة الشفاء بالدعاء، كما أن هنالك أشخاصًا غير مؤمنين شفوا من أمراضهم بسبب دعاء غيرهم لهم بالقرب منهم.

هذا وإن الدعاء للآخرين يكون دائمًا أكثر نتيجة من دعاء الشخص لنفسه.

إن نتيجة الشفاء بالدعاء وسرعة الاستجابة، إنما يتوقفان على كثافة الدعاء، ومدى الصدق والإخلاص فيه.

إلى ذلك فإن معجزة شفاء المرضى عن طريق الدعاء في منتجع (لورد) أصبحت تتضاءل في أيامنا هذه بالنسبة لما قبل أربعين أو خمسين سنة.

هذا وإن المرضى ما عادوا يجدون فيها نفس جو الخشوع العميق الذي كان يسود في الماضي.

ذلك أن الحجاج إلى (لورد) أصبحوا سوّاحًا يطلبون الترفيه لا حجاجًا يدفعهم الإيمان العميق، ولذلك لم تعد أدعيتهم ذات أثر فعّال كما كان من قبل.

تلكم هي آثار الدعاء في الشفاء التي يوجد عندي معرفة يقينية بها لأنني عايشتها عن كثب.

إلى جانب هذه المعجزات الباهرة يوجد الكثير غيرها([10]).

إن تاريخ الأولياء الصالحين، حتى المعاصرين منهم، يروي العديد من "وقائع" هذه الأعاجيب المدهشة، ومما لا شك فيه أن أكثر المعجزات المنسوبة إلى راهب "آرس" Ars، هي حقيقية وصادقة.

إن مجموع هذه الظواهر الخارقة يجعلنا نلج في عالم جديد، لمّا نبدأ باكتشافه بعد، والذي سنجده غنيًا خصبًا بالمفاجآت المذهلة.

إن ما نعرفه يقينيًًا حتى الآن هو أن الدعاء يعطي نتائج ظاهرة للعيان، وإنه لمن الغرابة أن تحدث أشياء بهذا الشكل المعجزاتي.

ولكن ينبغي أن لا يغرب عن بالنا حقيقة أن كل من يسعى لشيء لا جرم  أن يصل إليه كما أن كل من طرق الباب يفتح لاستقباله.

الدلالة الدعائية

وعلى العموم فإن ممارسة الدعاء تقوم كأن الله سبحانه وتعالى يسمع دعاء الإنسان ويستجيب له.

إن نتائج الدعاء ليست وهمًا وخداعًا.. كما أنه لا ينبغي أن نحصر الانكباب على الدعاء بأوقات الخوف والقلق([11]) اللذين يسيطران على الإنسان أمام الأخطار التي تُحدق به، أو أمام غموض العالم وخفاء أسراره.

كذلك فإنه من اللزام علينا أن لا نجعل "الدعاء" بكل بساطة، جرعات دواء مسكّن نتناوله عند القلق، ولا دواء ضد مخاوفنا من العذاب، أو من السقام والموت.

ما هي إذن دلالة التقوى والاتجاه نحو القداسة والورع؟ وأي مكانة تعطيه الطبيعة للدعاء في حياتنا؟

في الواقع إن مكانة الدعاء هذه شديدة الأهمية في حياة الإنسان.

إن رجال الغرب كانوا يمارسون الدعاء على مختلف العصور.

كذلك فإن الدولة القديمة كانت مؤسسة دينية في المقام الأول.

إلى ذلك لقد رفع الرومان أعمدة الهياكل العبادية في كل مكان.

كما أن الأسلاف في القرون الوسطى ملئوا بقاع الأرض المسيحية بالكاتدرائيات والكنائس القوطية، وحتى في أيامنا الحاضرة أيضًا نلاحظ ارتفاع قبة جرس فوق كل قرية.

وهكذا بواسطة الكنائس والجامعات وبناء المصانع، استطاع السوّاح القادمون من أوروبا أن ينشئوا في العالم الجديد حضارة غربية.

هذا، وخلال مسار تاريخنا كان الدعاء يشكل حاجة ماسة لا غنى عنها، كالحاجة للفتح والعمل والبناء أو المحبة.

وبالحقيقة فإن العامل الروحاني تبدّى كدافع يعتمل في أعماق طبيعتنا الإنسانية، وكحيوية تأسيسية لا بد منها.

هذه التنوعات الروحانية للدعاء، كانت ترتبط دائمًا بنشاطات أساسية للناس، كالاتجاه نحو الأخلاقية والسجايا الحسنة، وفي بعض الأحيان تتوجه نحو الإحساس بالجمال.

ومن المؤسف حقًا أن هذا العامل الهام في توجيه الذوات الإنسانية توجيهًا خلقيًا روحانيًاـ أفسح له المجال الآن لأن يضمر ويتلاشى بدون أن نوليه الرعاية الكافية.

ولا بد من الإشارة هنا، بأن الإنسان إذا تصرّف في حياته، حسب ميوله وأهوائه، لا مشاحة أن يتعرض للأخطار الجسيمة.

لكي تستقيم بنا الحياة كما ينبغي لا مشاحة من أن تسير حسب مبادئ سليمة لا تتغير، تتعلق ببنية الحياة نفسها.

وإنا لنتعرض لخطر محدق ورهيب، إذا سمحنا لنشاط بنّاء كالارتباط بالله عن طريق المحبة والتراحم أن يموت في داخلنا، سواء كان ذلك على صعيد وظائف الأعضاء، أو على المستوى الذهني والروحي.

إن توقف تنمية العضلات، أو الهيكل العظمي أو النشاطات غير المنطقية للفكر عند بعض المثقفين ، لا يقل خطورة في المجتمع عن هزال الذكاء وضعف الاتجاه الخلقي عند بعض الرياضيين.

وهناك أمثلة كثيرة لا تحصى من عائلات كثيرة الإنجاب قوية البنية ومع ذلك لا تلد إلا مشوّهين، أو أنها تلاشت من الوجود، بعدما فقدت عقائدها الموروثة، وتقاليد الفروسية في الأريحية والشجاعة.

... لقد تعلمنا من تجارب قاسية بأن فقدان الاتجاه الخلقي وضمور التوجه الروحاني عند غالبية أبناء الوطن الفاعلين، تدفع بهذا الوطن نحو الانحطاط والسقوط، أو نحو الاستعباد للغريب.

وعليه فإن سقوط مدنيّة اليونان القديمة كانت مسبوقة بإرهاصات مشابهة بسبب غياب الاتجاه الإيماني والديني عندهم.

هكذا وبكل وضوح وصراحة، نرى أن تعطيل النشاطات الذهنية التي تتطلبها الطبيعة الإنسانيةـ تتعارض أشد التعارض مع النجاح المطلوب في الحياة.

وعلى مستوى التطبيق العملي إن النشاطات الخلقية والدينية مترابطة أشد الارتباط الواحدة بالأخرى، ذلك أن العامل الخلقي في المجتمع يضمحل بعد فترة وجيزة من اضمحلال الاتجاه القداسي والروحاني عند الإنسان.

لذلك فإنه لا يمكن للإنسان أبدًا أن ينجح في بناء نظام خلقي في المجتمع مستقل عن العقيدة الدينية كما كان يريد سقراط.

وعليه، فإنه يجب على متمدني وقتنا الحاضر غير المؤمنين والمؤمنين أن يعتنوا بهذه المسألة الخطيرة لتنمية كل نشاط قاعدي تأسيسي قائم على الأخلاقية والروحانية، يكون الإنسيان جديرًا به في مجتمع سليم ومعافى.

التوجه الديني ودوره في إنجاح مسيرة الحياة الاجتماعية

لماذا ولأي سبب نرى أن التوجه الديني والقداسي، يلعب دورًا مهمًا في إنجاح مسيرة الحياة؟

بأي طريقة وبأي أوالية يؤثر الدعاء في الإنسان؟

للإجابة على هذا السؤال نترك مجال الملاحظة لمجال الافتراض.

الافتراض مع كونه تابعًا للمصادفات فهو ضروري لتقدم المعرفة.

يجب أن نتذكر أولاً بأن الإنسان كلٌّ غير قابل للتجزيء، وهو كائن مركب من أنسجة ومن سوائل عضوية إلى جانب الوعي.

إن الإنسان يعتقد أنه مستقل عن وسطه المادي، أي عن محيطه الكوني، ولكنه في الحقيقة لا ينفصل عن هذا المحيط أبدًا.

إنه مرتبط بهذا المحيط بفعل حاجته الدائمة لأوكسجين الهواء، وللغذاء الذي تقدمه له الأرض هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية إن الجسم الحي غير مستوعَب استيعابًا كليًا في مجموعة اتصالية فيزيائية.

إنه يتكوّن من روح مثلما هو متكون من مادة، والروح برغم من أنها مقيمة في أعضائنا فإنها تتمدد خارج الأبعاد الأربعة([12]) للزمن والمسافة.

وبعد، أليس من المسموح لنا بأن نعتقد بأننا نقطن في وقت معًا، داخل عالم كوني محدد، وفي وسط آخر غير مادي، لا يُمس، ولا يُرى، ذي طبيعة تشبه طبيعة الوعي التي لم ننجح قط في أن نتجاوزها بدون خسارة، في المحيط المادي والإنساني؟

هذا الوسط غير الهيولي لا يمكن أن يكون غير واجب الوجود المقيم في كل الكائنات، والمتعالي عليها كلها، والذي نسميه الله.

إلى ذلك، فإن الإنسان بحاجة إلى الإيمان والروحانية كمثل حاجته إلى الأوكسجين، فمثلما لا يستطيع أن يعيش بلا أوكسجين، كذلك لا يستطيع أن يعيش بلا طمأنينة روحانية.

وكذلك فإن الدعاء أشبه ما يكون بعملية التنفس عند الإنسان.

وكذلك فإن الدعاء يعتبر: عاملاً ضروريًا لا غنى عنه، لتوثيق الوشائج والصلات الطبيعية بين الوعي وبين بيئته الخاصة، ويُعتبر الدعاء أيضًا حيوية بيولوجية مرتبطة ببيئتنا.

وبتعبير آخر، فإن الدعاء يُعتبر وظيفة طبيعية للروح والجسد في آن معًا بحيث لا يمكن الاستغناء عنها أبدًا.

خاتمة

إن معنى القداسة والجانب الإيماني الروحي في الإنسان يكتسبان أهمية خاصة وفريدة، ينمازان بها عن سائر النشاطات الفكرية الأخرى، ذلك أنه يجعلنا على اتصال دائم مع الأبعاد السرية الغامضة لعالم الروح.

فالدعاء معراج روحي للإنسان نحو الله، وبالدعاء يتغلغل الله في أعماق ذواتنا.

وهكذا، يتبدى لنا أن الدعاء ضرورة لا يستغنى عنها لرقي الإنسان وتساميه نحو الأمثل والأفضل.

ومن هنا علينا أن لا ننظر إلى الدعاء كعمل لا يقوم به إلا ضعاف العقول والمتسولون أو الرعاديد الجبناء.

لقد كتب نيتشه [إنه لمن المخجل حقًا أن ندعو]، ولكن في الواقع إذا كان الدعاء مخجلاً فكذلك شرب الماء والتنفس يدعوان إلى الخجل مثل ممارسة الدعاء.

إن الإنسان بحاجة ماسة لوجود الله أكثر من حاجته لاستنشاق الأوكسجين للمحافظة على جذوة الحياة.

إن المنحى القداسي والتوجه الروحي لدى الإنسان مضافًا إليهما الحدس والايحاء والمناقبية الأخلاقية والجمالية مع هداية الفكر، كل ذلك يساعد الإنسان على بناء شخصيته وعلى تكامل تفتحها وانفتاحها على العالم.

ومما لا ريب فيه أن النجاح في الحياة يتطلب نموًا متكاملاً لكل واحد من نشاطاتنا الفيزيولوجية على مستوى وظائف الأعضاء، والنشاطات العقلية والعاطفية والروحية.

الروح هو في آن معًا عقل وشعور.

لذلك لزام علينا أن نتعشّق جمالية العلوم بدون أن نتخلى عن تعشّقنا لجمالية الله مبدع الكائنات العلي العظيم.

كذلك ينبغي أن نصغي لباسكال في دعوته للإيمان والروحانية بحماس لا يقل عن إصغائنا لديكارت في دعوته لاعتماد العلم التجريبي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) ألكسيس كاريل (1873 - 1944)، طبيب جراح، وفيزيولوجي فرنسي، أحدث اكتشافات هامة في طريقة تطعيم العضلات، وفي علم الأنسجة. منح جائزة نوبل عام 1912 لأبحاثه الطبية الفذة. من مؤلفاته : [الإنسان ذلك المجهول]، و [تأملات في سبيل زيارة لورد].

([2]) الدكتور محمد كامل سليمان (1943 - 2008)، شاعر وأديب عاملي من بلدة البياض، كان رحمه الله من المتفضلين على مجلتنا بعدد من أبحاثه الإسلامية، والتي قمنا بنشرها آنذاك على صفحات المجلة.

([3]) انظر : الكافي، الكليني ، ط4 ، دار الكتب الإسلامية، ج8 ص167 ، ح186 ؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ط1 ، قم، ج4، ص18 ، رقم80 ؛ عوالي اللئالي ، الأحسائي ، ج4 ص81 ح82.

([4]) أي يتّبعون ما تحقّقه التجارب ويلمسونه بأيديهم، ولا يؤمنون بما يرشد إليه الدين من الإيمان بالغيب والتسليم لأمر الله سبحانه.

([5]) يهوه : اسم الله في التوراة عند اليهود .

([6]) كاهن فرنسي ولد في ريمس 1651-1719م، أسس جمعية أخوة المدارس المسيحية.

([7]) Epictéte أبيكتيت فيلسوف رواقي عاش في القرن الأول، ولد في مدينة هيرا بوليس، أعماله وتقريراته تقوم على حصر الرواقية في الفرق بين ما يتعلق بالفرد وما لا يتعلق به.

 ([8]) هذا يذكرنا بحديث الرسول (ص): (فكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة، إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر.

([9]) منتجع طبي في أعلى جبال البيرنه، قرب مدينة (بو)pau الفرنسية، يتسم بالقداسة، منذ أن تراءت السيدة العذراء لشخص من لورد.

([10]) هنا لا بد من الإشارة إلى الكثرة الكاثرة من الذين شفوا بالدعاء عند الأئمة والأولياء الصالحين خصوصًا عند الإمام علي والإمام الحسين وأبي الفضل العباس والسيدة زينب بشكل غني عن البيان والتنويه.

([11]) يذكرنا بالآية الكريمة {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ..}(يونس: من الآية12).

([12]) الأبعاد الأربعة هي الطول والعرض والعمق والارتفاع (هكذا ورد في حاشية الترجمة، ولعله خطأ مطبعي، والصحيح أن البعد الرابع هو الزمان . "التحرير").

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثامن عشر