مقدمة
كانت هجرة الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت460هـ)
إلى مدينة النجف الأشرف عام 448هـ، إيذانًا بانتقال الحوزة
العلمية إلى واقع علمي ملحوظ، وإن المتتبع لسيرة الشيخ
الطوسي ونشاطه العلمي يتلمس هذا الواقع من خلال نتاجه
الفكري الكبير.
أسرة الشيخ الطوسي
وقد حافظت أسرة الشيخ الطوسي على استمرارية الحركة العلمية
في مدينة النجف الأشرف، فقد كان ولده أبو علي الحسن بن
محمد الطوسي، المتوفى بعد عام 515هـ، مرجع الإمامية بعد
وفاة والده. وأما حفيده أبو نصر محمد بن الحسن (ت540هـ)
فقد كانت الرحلة العلمية في منتصف القرن السادس الهجري
تُشدُّ إليه، فأشارت إليه المصادر بأنه (عالم الشيعة وابن
عالمهم)()،
ويقول ابن شاكر الكتبي: ((رحلت طوائف الشيعة إليه، وحملوا
عنه وكان ورعًا عالمًا، متألهًا، كثير الزهد، وبين عينيه
كَرُكبة البعير من السجود، وكان يسترها))()،
ويقول العماد الطبري: ((لو جازت الصلاة على غير النبي (ص)
لصليت عليه))()،
وكان للشيخ حمزة بن الحسن الطوسي (أخو الشيخ الطوسي)
روايات ومصنفات()،
كما أن بنتي الشيخ الطوسي كانتا عالمتين فاضلتين، وقد
أجازهما العلماء، ولعل المجيز أخوهما أبو علي بن الشيخ
الطوسي أو أبوهما()،
وقد عُرفت هاتان البنتان بأنهما من حملة العلم وربات
الإجازة، ومن أهل الدراية والرواية().
المكانة العلمية للمترجم : الشيخ أبو علي الحسن الطوسي
ولكن الشيخ أبا علي الطوسي قد فاق أبناء الشيخ الطوسي
وأحفاده وأعلام أسرته في العلم، حتى أنه لقّب بلقب (المفيد
الثاني) ()،
وذلك تمييزًا عن الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد
بن النعمان (ت413هـ) أستاذ أبيه الشيخ الطوسي، وأصبح الشيخ
أبو علي الحسن بن محمد الطوسي زعيم المدرسة النجفية، ومرجع
الإمامية الأعلى، وقد سدّ الفراغ الذي أحدثته وفاة أبيه
الشيخ الطوسي في الحوزة العلمية، وتولى الحفاظ على
استمراريتها، وإليه كانت تنتهي أكثر الإجازات العلمية عند
الشيعة()،
وأصبحت النجف الأشرف في عصره مركزًا دينيًا كبيرًا، وجامعة
من أكبر الجامعات الإسلامية على الرغم من سيطرة السلاجقة
على السلطة، فقد حارب السلاجقة الفكر الإمامي وطاردوا
الشيخ الطوسي الأب من بغداد إلى النجف الأشرف، بعد إحراق
مكتبته الكبيرة وكرسي الكلام الذي كان يجلس عليه، ذلك
الكرسي الذي كان لا يُعطى إلا لوحيد العصر في العلم()،
ولم تثنِ الشيخ أبا علي الحسن الطوسي إجراءات السلطة
السلجوقية فاستمر بإلقاء محاضراته في المرقد الحيدري
الشريف بعد وفاة أبيه الشيخ الطوسي، وقد جُمعت محاضراته
ومحاضرات أبيه في كتاب حمل اسم "الأمالي"، وسيأتي الكلام
عليها.
وأشارت المصادر إلى مكانة الشيخ أبي علي الحسن الطوسي
ورواياته عن أبيه الشيخ الطوسي، فيقول الشيخ الحر العاملي:
((كان عالمًا فاضلاً، فقيهًا محدثًا، جليلاً ثقة))().
ويقول السيد الخوانساري: إن الأسانيد المتصلة إلى أصحاب
المصنفات، المنقولة عن الشيخ أبي علي الطوسي، والشيخ أبي
الوفاء عبد الجبار بن علي المقرئ عن شيخهما الشيخ الطوسي
لها أهمية علمية()،
وكان الشيخ أبو الوفاء الرازي، والشيخ أبو محمد الحسن بن
الحسين بن بابويه، والشيخ أبو عبد الله محمد بن هبة الله
الوراق الطرابلسي، قد قرأوا كتاب "التبيان في تفسير
القرآن" على الشيخ أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي()،
وكان الشيخ أبو علي الحسن بن محمد الطوسي شريك هؤلاء
الأعلام في التلمذة على الشيخ الطوسي، وقد تفوّق عليهم في
العلم، وقد أشار إليه ابن حجر بقوله: ((ثم صار فقيه الشيعة
وإمامهم بمشهد علي رضي الله عنه، سمع منه أبو الفضل بن
عطاف، وهبه الله السفطي، ومحمد بن محمد النسفي، وهو في
نفسه صدوق))().
وقد أهّلته علميته إلى تبوءِ منصب المرجعية الدينية العليا
في النجف الأشرف بعد وفاة أبيه، وإن إطلاق لقب "المفيد
الثاني" عليه يكشف عن عمق شخصيته العلمية والفكرية، فيقول
الشهيد السيد محمد باقر الصدر: ((فإذا عرفنا أنه خلف أباه
في التدريس والزعامة العلمية للحوزة في النجف بالرغم من
كونه من تلامذته المتأخرين في أغلب الظن استطعنا أن نقدّر
المستوى العلمي العام لهذه الحوزة ويتضاعف الاحتمال في
كونها حديثة التكون))().
تلامذته والراوون عنه
وقد تتلمذ عليه جمع من أعلام النجف الأشرف وروى عنه آخرون،
من أمثال عماد الدين الطبري صاحب كتاب "بشارة المصطفى"
الذي صرح بتلمذته عليه بقوله: (حدثنا، وأخبرنا، وأخبرني)
وأطلق عليه لفظ (الشيخ الفقيه المفيد) و(الإمام المفيد)
و(الشيخ المؤيد)()،
وروى عنه الشيخ أبو الفتوح الرازي، والشيخ الفضل بن الحسن
الطبرسي صاحب "مجمع البيان في تفسير القرآن". وللشيخ مسعود
بن علي الصوابي جوابات عن الشيخ أبي علي الحسن الطوسي،
وكان يروي عنه()،
وقرأ عليه الشيخ أردشير بن أبي الماجد بن أبي الفاخر
الكابلي (الفقيه الثقة)، والشيخ أبو عبد الله الحسين بن
أحمد بن طحال، وكان هذا الشيخ يلقي بحوثه في مشهد الإمام
علي (عليه السلام) عام 520 هـ عن الشيخ أبي علي الطوسي،
وروى عنه الشيخ أبو سليمان ظفر بن الداعي بن ظفر الحمداني
القزويني().
وأورد السيد ابن طاووس خبرًا عن عربي بن مسافر عن إلياس بن
هشام الحائري عن أبي علي الطوسي عن أبيه الشيخ محمد بن
الحسن الطوسي، وقد أشار إلى ذلك في بحوثه التي ألقاها في
داره الكائنة في الحائر الحسيني في منتصف شعبان 538هـ().
وروى الشيخ الحسين بن رطبة عن الشيخ أبي علي الطوسي، عن
خطه من كتاب "تهذيب الأحكام" للشيخ الطوسي().
كتاب الأمالي
يقول الشيخ الطهراني: ((إن الأمالي هي من إملاء الشيخ عن
ظهر قلبه، وعن كتابه، والغالب عليها ترتيبه على مجالس
السماع، ولذا أطلق عليها لفظ "المجالس أو عرض المجالس"))().
وتُعطي الأمالي صورة لانتظام الوضع الدراسي في مدينة النجف
الأشرف، ويقول الأستاذ آدم متز: ((إن الإملاء فيما مضى من
الزمان يعتبر أعلى مراتب التعليم))().
ونجد في كتاب "أمالي الشيخ الطوسي" نصوصًا تبتدئ بعبارة :
(قال أبو علي الطوسي) بدءًا من عام 455هـ().
ويذهب السيد جعفر بحر العلوم إلى القول: ((إن للشيخ أبي
علي الطوسي أمالي أخرى غير أمالي والده الشيخ الطوسي()
إضافة لكتابيه "شرح النهاية" و"المرشد إلى سبيل المتعبد"))
([24]).
وعلى أي حال فإن كتاب "الأمالي" الذي يحمل اسم "أمالي
الشيخ الطوسي" مشترك بين أمالي الشيخ الطوسي التي ألقاها
في المرقد الحيدري الشريف حتى عام 458هـ وبين ما أُلحق بها
من أمالي ولده الشيخ أبي علي الحسن الطوسي حتى عام 509هـ()،
وقد أشار السيد ابن طاووس إلى ذلك بقوله: إن الشيخ الطوسي
أملى تمام السبعة والعشرين جزءًا على ولده الشيخ أبي علي
الطوسي، وكلها بخط الشيخ حسين بن رطبة وغيره، وقد احتفظ
بها السيد ابن طاووس، وذكر ابن رطبة: أن الشيخ أبا علي
الطوسي قد تحدث في مشهد الإمام الحسين (عليه السلام) عام
490هـ، وقد سمع منه ولده().
وكان الشيخ الكبير محمد باقر المجلسي (ت1111هـ) قد اعتمد
على أمالي الشيخ أبي علي الحسن الطوسي بقوله: ((وكتاب
المجالس الشهير بالأمالي للشيخ الجليل أبي علي الحسن بن
شيخ الطائفة قدس الله روحهما))().
ويبدو أن الشيخ أبا علي الطوسي بقي يواصل إلقاء محاضراته
في المشهد الشريف العلوي حتى عام 515هـ، ويعتقد أنه توفي
بعد هذا التاريخ كما يظهر من مواضع في كتاب "بشارة
المصطفى" ().
وقد استقى الشيخ مرتضى الأنصاري (ت1281هـ) نصوصًا من مجالس
المفيد الثاني أبي علي الطوسي بإسنادٍ عن الإمام أمير
المؤمنين (عليه السلام)().
خاتمة : البعدان الزماني والمكاني للنجف الأشرف والشيخ
الطوسي
وقد أوصل الشيخ أبو علي الطوسي رئاسة المدرسة النجفية بعد
وفاته لولده الشيخ أبي نصر محمد بن الحسن (ت540هـ)، لذا
أصبح زعيم الإمامية وفقيهها.
ويبدو أنه بعد وفاته لم تجد المدرسة النجفية من يملأ
الفراغ العلمي، فبرز الشيخ فخر الدين أبو عبد الله محمد بن
منصور بن أحمد بن إدريس العجلي الحلي (ت598هـ) على مسرح
الحياة العلمية والفكرية في مدينة الحلة، وكان بروزه
إيذانًا بانتعاش المدرسة الحلية في الوقت الذي كانت
المدرسة النجفية تدار من قبل علماء من أسرة آل شهريار
المصاهرة لأسرة الشيخ الطوسي، علمًا بأن الشيخ ابن إدريس
الحلي والسيد رضي الدين علي بن طاووس يرتبطان برابطة نسب
بالشيخ الطوسي من جهة أمهما، وتعطي هذه المصاهرة امتدادًا
زمانيًا، وبعدًا مكانيًا لمدرسة الشيخ الطوسي، وأخذت بعد
ذلك اتساعًا عالميًا، وما زال إشعاع مدرسة النجف الأشرف
يغطي مساحة كبيرة من العالم الإسلامي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
|