ورد في كتاب [تكملة الرد على نونية ابن القيم]، بقلم: محمد
زاهد بن الحسن الكوثري، تقديم لجنة من علماء الأزهر،
المطبوع ملحقًا بكتاب [السيف الصقيل رد ابن زفيل]، من
تأليف السبكي، المتوفى سنة 756، صفحة: 217-220، مكتبة
زهران، ورد نص الرسالة التي كتبها الشيخ شمس الدين الذهبي
إلى ابن تيمية، ونحن ننقلها بتمامها كما وردت في الكتاب
المذكور ... قال الكوثري:
نص الرسالة
()
ولا تخلو قراءة هذا الخط من صعوبة على بعض القراء فإليك
الرسالة بالحروف المعتادة مع عنوانها:
رسالة كتب بها الشيخ شمس الدين أبو عبد الله الذهبي إلى
الشيخ تقي الدين ابن تيمية كتبتها()
من خط قاضي القضاة برهان الدين بن جماعة رحمه الله، وكتبها
هو من خط الشيخ الحافظ أبي سعيد بن العلائي، وهو كتبها من
خط مرسلها الشيخ شمس الدين.
الحمد لله على ذلتي، يا رب ارحمني وأقلني عثرتي. واحفظ
عليَّ إيماني.
واحزناه على قلة حزني، واأسفاه على السنّة وذهاب أهلها.
واشوقاه إلى إخوان مؤمنين يعاونونني على البكاء. واحزناه
على فقد أناس كانوا مصابيح العلم وأهل التقوى وكنوز
الخيرات. آه على وجود درهم حلال وأخ مؤنس. طوبى لمن شغله
عيبه عن عيوب الناس، وتبًا لمن شغله عيوب الناس عن عيبه.
إلى كم ترى القذاة في عين أخيك وتنسى الجذع في عينك !.
إلى كم تمدح نفسك وشقاشقك وعباراتك وتذم العلماء وتتبع
عورات الناس مع علمك بنهي الرسول صلى الله عليه وسلم (لا
تذكروا موتاكم إلا بخير، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا).
بلى! أعرف أنك تقول لي لتنصر نفسك: إنما الوقيعة في هؤلاء
الذين ما شموا رائحة الإسلام ولا عرفوا ما جاء به محمد صلى
الله عليه وسلم، وهو جهاد.
بلى والله عرفوا خيرا كثيرا مما إذا عمل به العبد فقد فاز،
وجهلوا شيئا كثيرا مما لا يعنيهم، ومن حسن إسلام المرء
تركه ما لا يعنيه.
يا رجل بالله عليك كف عنا فإنك محجاج عليم اللسان لا تقر
ولا تنام.
إياكم والغلوطات في الدين.
كره نبيك صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها، ونهى عن كثرة
السؤال وقال: (إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم
اللسان)، وكثرة الكلام بغير زلل تقسي القلوب إذا كان في
الحلال والحرام، فكيف إذا كان في عبارات اليونسية
والفلاسفة وتلك الكفريات التي تعمي القلوب.
والله قد صرنا ضحكة في الوجود.
فإلى كم تنبش دقائق الكفريات الفلسفية لنرد عليها
بعقولنا!.
يا رجل قد بلعت (سموم) الفلاسفة وتصنيفاتهم مرات، وكثرة
استعمال السموم يدمن عليه الجسم وتكمن والله في البدن.
واشوقاه إلى مجلس فيه تلاوة بتدبر، وخشية بتذكر، وصمت
بتفكر.
وآها لمجلس يذكر فيه الأبرار فعند ذكر الصالحين تنزل
الرحمة.
بلى عند ذكر الصالحين يذكرون بالازدراء واللعنة.
كان سيف الحجاج ولسان ابن حزم شقيقين فواخيتهما.
بالله خلونا من ذكر بدعة الخميس وأكل الحبوب، وجدوا في ذكر
بدع كنا نعدها من أساس الضلال قد صارت هي محض السنّة وأساس
التوحيد ومن لم يعرفها فهو كافر أو حمار، ومن لم يكفر فهو
أكفر من فرعون.
وتعد النصارى مثلنا.
والله في القلوب شكوك.
إن سلم لك إيمانك بالشهادتين فأنت سعيد.
يا خيبة من اتبعك فإنه معرّض للزندقة والانحلال، لا سيما
إذا كان قليل العلم والدين باطوليًا شهوانيًا، لكنه ينفعك
ويجاهد عندك بيده ولسانه، وفي الباطن عدو لك بحاله وقلبه.
فهل معظم أتباعك إلا قعيد مربوط خفيف العقل، أو عامي كذّاب
بليد الذهن، أو غريب واجم قوي المكر، أو ناشف صالح عديم
الفهم؟! فإن لم تصدقني ففتشهم وزنهم بالعدل.
يا مسلم: أقدم حمار شهوتك لمدح نفسك.
إلى كم تصادقها وتعادي الأخيار؟!.
إلى كم تصادقها وتزدري الأبرار؟!.
إلى كم تعظمها وتصغر العباد؟!.
إلى متى تخاللها وتمقت الزهاد؟!.
إلى متى تمدح كلامك بكيفية لا تمدح -والله- بها أحاديث
الصحيحين.
يا ليت أحاديث الصحيحين تسلم منك، بل في كل وقت تغير عليها
بالتضعيف والإهدار، أو بالتأويل والإنكار.
أما آن لك أن ترعوى؟!
أما حان لك أن تتوب وتنيب؟!
أما أنت في عشر السبعين وقد قرب الرحيل؟!
بلى -والله- ما أذكر أنك تذكر الموت، بل تزدري بمن يذكر
الموت، فما أظنك تقبل على قولي ولا تصغي إلى وعظي، بل لك
همة كبيرة في نقض هذه الورقة بمجلدات وتقطع لي أذناب
الكلام، ولا تزال تنتصر حتى أقول: والبتة سكت.
فإذا كان هذا حالك عندي وأنا الشفوق المحب الواد، فكيف
حالك عند أعدائك؟. وأعداؤك -والله- فيهم صلحاء وعقلاء
وفضلاء، كما أن أولياءك فيهم فجرة وكذبة وجهلة وبطلة وعور
وبقر.
قد رضيت منك بأن تسبني علانية وتنتفع بمقالتي سرًا (فرحم
الله امرءا أهدى إلي عيوبي)، فإني كثير العيوب غزير
الذنوب.
الويل لي إن أنا لا أتوب، ووافضيحتي من علام الغيوب،
ودوائي عفو الله ومسامحته وتوفيقه وهدايته.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد خاتم
النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين.
وهنا انتهت صورة رسالة الذهبي إلى ابن تيمية وفيها عبر
بالغة.
انتهى كلام الكوثري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
([1])
ورد في مصدر الرسالة هذه الحاشية: ((وقبل الرسالة
لا بد من ذكر مقدمة هنا ليكون القارئ على بينة من
أمر ابن تيمية، وهي أن ابن تيمية هذا ولد بحران
ببيت علم من الحنابلة، وقد أتى به والده الشيخ عبد
الحليم مع ذويه من هناك إلى الشام خوفًا من
المغول، وكان أبوه رجلا هادئا، أكرمه علماء الشام
ورجال الحكومة، حتى ولوه عدة وظائف علمية مساعدة
له، وبعد أن مات والده ولوا ابن تيمية هذا وظائف
والده، بل حضروا درسه تشجيعا له على المضي في
وظائف والده، وأثنوا عليه خيرا كما هو شأنهم مع كل
ناشئ حقيق بالرعاية. وعطفهم هذا كان ناشئا من
مهاجرة ذويه من وجه المغول يصحبهم أحد بني العباس
-وهو الذي تولى الخلافة بمصر فيما بعد-، ومن وفاة
والده بدون مال ولا تراث، بحيث لو عين الآخرون في
وظائفه للقي عياله البؤس والشقاء، وكان في جملة
المثنين عليه التاج الفزاري المعروف بالفركاح،
وابنه البرهان، والجلال القزيني، والكمال
الزملكاني، ومحمد بن الجريري الأنصاري، والعلا
القونوي وغيرهم، لكن ثناء هؤلاء غر ابن تيمية -ولم
ينتبه إلى الباعث على ثنائهم- فبدأ يذيع بدعا بين
حين وآخر وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل،
باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلتات لا ينطوي
هو عليها، لكن خاب ظنهم وعلموا أنه فاتن بالمعنى
الصحيح، فتخلوا عنه واحدا إثر واحد على توالي
فتنه، كما سبق. والذهبي كان من أشياعه ومتابعيه
إلا في مسائل، لكنه لما وجد أن فتنه تأخذ كل مآخذ،
ولم يبق معه سوى مقلدة الحشوية والمنخدعين به وهم
شباب بدأ يسعى في تهدئة الفتنة، مرة يكتب إلى
أضداده لأجل أن يخففوا لهجتهم معه كما فعل مع
السبكي على رواية ابن رجب ولم نطلع على غير صدر
الجواب على تقدير صحة ذلك الصدر- ومرة يكتب هذه
الرسالة إلى ابن تيمية نفسه)).
([2])
والكاتب هو التقي ابن قاضي شهبة .
|