العدد الثاني / 2005م  /1426هـ

     رجوع     محتويات العدد     أرشيف المجلة     الرئيسية

.

تتمة مقال = التوازن الفردي والاجتماعي

إن هذه النقطة بالذات هي السرُّ في السقوط المريع لأمتنا، وابتلائنا بالضعف والوهن، الذي تحدّث عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل أربعة عشر قرنًا حيث قال (صلى الله عليه وآله): يوشك أن تتداعى عليكم الأمم تداعي الأَكَلَة إلى قصعتها، فقيل: أَمِن قِلّة يا رسول الله..؟ فقال (صلى الله عليه وآله): لا ليس من قِلّة، بل أنتم كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم وليبتلينكم بالوهن.

فقيل: وما الوهن يا رسول الله؟

فقال (صلى الله عليه وآله): حب الدنيا وكراهية الموت([1]).

نعم إن وهننا وضعفنا ليس من قلة، فالمسلمون اليوم كُثُر، إذ يشكِّلون ما يقارب خمس المنظومة البشرية، ويملكون أضخم مخزون في العالم من الذهب الأسود (البترول)، ويملكون في البنوك من الأرصدة ما يغطي نفقات أضخم معامل الإنتاج في شرق الأرض وغربها..

نعم لقد فقدت أمتنا توازنها وصارت من أحقر الأمم رأيًا، وأدناهم اعتبارًا.. تُنتهب خيراتها وتُسرق أموالها، وتُدنَّس مقدساتها.. وممن؟! وكيف ؟! من شراذمة الأمم وبوضح النهار، ولا نجد من يقف ويقول كفى!! بل لا نجد من يكلف نفسه عناء النظر في العبر التي حفظها لنا التاريخ المليء بالعبر، عندما يتحدث عن الأمم التي سقطت والأمم التي قامت..؟

ألا تكفينا عبرة وللأسف إجابة (موشى ديان) الوزير الإسرائيلي عندما سئل: أنتم في حرب الـ (67) استخدمتم نفس الخطة التي استخدمتموها في حرب الـ (56) أما خشيتم انكشافها وافتضاحها؟!

فأجاب: من حُسن الصُدَف أن العرب لا يقرؤون التاريخ!!

إنه لمن المؤسف جدًا أن يصل معظم صُنَّاع القرار في المجتمعات العربية إلى مستوى لا يقرؤون معه التاريخ، بل ولا الحاضر، بل ولا المستقبل أيضًا!!

في حين أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) يقدِّم لنا أبلغ العظات عندما يقول لابنه الإمام الحسن (عليه السلام) ضمن وصيته له: (أي بُني إنّي وإن لم أكن عمَّرت عُمْرَ من كان قبلي فقد نظرت في أعمالهم، وفكَّرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم حتى عُدت كأحدهم. بل كأني بما انتهى إليَّ من أمورهم قد عمَّرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفوَ ذلك من كدره، ونفعه من ضرره، فاستخلصت لك من كل أمر نخيله وتوخَّيت لك جميله، وصرفت عنك مجهوله)([2])...

2- التوازن بين قدرة المسؤول وحجم المسؤولية

قد يملك الإنسان المعرفة بالأمور، لكنه لا يملك القدرة والإرادة الكافيين، ولذا فإنه يضعف ويعجز عن تطبيقها عمليًا، وهذا لا فرق بينه وبين الجاهل بتلك الأمور أصلاً، حيث إن النتيجة واحدة، والتوازن كما يحكم العلاقة بين الكفاءات والنتائج، يحكم أيضًا العلاقة بين القدرات والنتائج، فليس كل معلوم مقدور على تطبيقه، فمن هنا نجد أمير المؤمنين (عليه السلام) يحرص على أموال رعيته ويبعث إلى عماله في الأمصار: (أدقّوا أقلامكم، وقاربوا بين سطوركم، واحذفوا عني فضولكم، واقصدوا قصد المعاني، وإياكم والإكثار، فإن أموال المسلمين لا تحتمل الإضرار)([3]).

نعم يوصيهم بذلك حتى لا يسرفوا في صرف المداد والورق حفاظًا على أموال الناس..

وها هو (عليه السلام) يقف في الكوفة عندما قدم إليها من المدينة.. يقف وهو يرتجف من برد الكوفة، فسئل: أنت الحاكم والمال لديك وفير فلِمَ لا تشتري ما يقيك من برد الكوفة؟

فأجاب (عليه السلام): إن خرجت من بين أظهركم بغير رحلي وراحلتي وغلامي إني لخائن وهذا قميصي الذي قدمت به من المدينة([4]).

ويقول (عليه السلام) في خطابه القاسي لعامله على البصرة (ابن حنيف): أأقنع من نفسي أن يُقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم مكاره الدهر وجشوبة العيش ؟!

إلى أن يقول (عليه السلام):.. فاتقِ الله يا ابن حنيف ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك([5]).

هكذا يكون المسؤول المخلص.. يسهر على شؤون أمته ليل نهار.. ويحافظ على أموالهم ومقدراتهم.. ويرعى مصالحهم.. ولا يسرف في المال العام.. ولا يخون شعبه.. ولا يخصِّص لنفسه حتى الثوب الذي يقيه من البرد.. ويأمر أعوانه بالقناعة، وينتهرهم على حياة الترف... و.. و..

3- التوازن بين الأغنياء والفقراء

ثم إن من جوانب التوازن الذي يضمن استقرار المجتمعات، وقد نادت به الشرائع أيضًا التوازن بين الأغنياء والفقراء، وذلك تحت عنوان التكافل الاجتماعي، حيث فرض الله تعالى أقوات الفقراء في أموال الأغنياء، فقال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}([6]).

فمن اللافت للنظر الحكم الشرعي القائل بمنع نقل الزكاة من بلد إلى آخر إلا مع عدم وجود المستحق حسبما هو مشهور الفقهاء، والذي يمكن أن نستفيده من هذا الحكم هو عنوان تكفل أغنياء كل محلة بفقرائها، وبالتالي نشر حالة من التوازن المعيشي بين الناس.

إن المجتمع وإن كان لا يقوم إلا بأغنيائه وفقرائه كما يقول الله تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ}([7]). ولكن هذا لا يعني أن يصل المجتمع إلى مستوى الثراء الفاحش من جهة، والفقر المدقع من جهة أخرى، لأن هذا يؤدي إلى هوّة شاسعة بين أثريائه وفقرائه، وهذا اختلال في المجتمع، وهو لا يولِّد إلا الألم، والألم لا يولِّد إلا الصراخ، وإذا وصلت المسألة إلى مستوى الضغط، فإن الضغط لا يولِّد إلا الانفجار، سيما إذا كان الثراء قائمًا على سرقة واختلاس أقوات الفقراء..!! وقد جاء في الحديث الشريف (الفقر هو الموت الأكبر) ويقول أمير المؤمنين (عليه السلام): (ما ضرب الله عباده بسوط أوجع من الفقر)، ويقول (عليه السلام): (لو تمثل لي الفقر رجلاً لقتلته)، ويقول أبو ذر الغفاري (رضي الله عنه): (عجبتُ لمن لم يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه)([8]).

ولو رجعنا إلى التاريخ.. إلى تاريخ الثورات على الظلم لوجدنا أن مثل هذه الأمور كانت ضمن أسباب تلك الثورات، فمروان بن الحكم -مثلاً- كان يستأثر بخُمس أموال أفريقيا لحسابه الخاص، ويزيد بن معاوية كان يرسم موازنة خاصة لقرده المرفَّه.. أما الشرفاء الذين هم من طراز أبي ذر الغفاري فكانوا لا يجدون قوت يومهم، فيقول أبو ذر لابنته: قومي بنا إلى الصحراء علَّنا نجد قوتًا..!!

نعم أبو ذر يبحث عن قوت من نبات الصحراء القاسي!! وقرد يزيد يُرفَّه بأموال المسلمين!!

فأيُّ مجتمع هو المجتمع الذي تُقتل في المعنويات.. وتُسحق فيه الكفاءات.. وتستباح فيه المقدَّرات.. وتُزرع فيه العداوات.. ويأكل أغنياؤه أموال فقرائه.. ويتحكم النذل فيه بالشريف.. ويتطاول الصغير فيه على الكبير.. ويسخر الجاهل فيه من العالم..

التوازن بين المقدمات والنتائج

وبكلمة جامعة يمكن لنا أن نقول إن النتائج لا تأتي إلا بتناسق وتوازن مع مقدماتها، ففي الحروب -مثلاً- عندما يكون هناك تفوق في العدة والعدد والاستعدادات والمعنويات فإن النتيجة تأتي متناسقة مع المقدمات، فالمقدمات القوية تأتي بنتائج قوية والمقدمات الضعيفة لا تأتي إلا بنتائج ضعيفة..

حتى حجم المدد الغيبي الذي نؤمن به خاضع بدوره لهذه المعادلة، فكلما اشتدَّت الإرادات، وسمت المعنويات، كلما ازداد حجم المدد لدرجة تلِد معها الصخرة ناقة وينتصر نبي الله صالح (عليه السلام)، وتأكل العصا حبال السحرة وينتصر نبي الله موسى (عليه السلام)، ويسحق جيشُ الطيور جيش الفيل وتسلم الكعبة المشرفة، ويهزم خيط العنكبوت جيش الشرك ويسلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) في الغار..

وكلما خارت الإرادات، وتردَّت المعنويات، واغتيلت الكفاءات.. كلما دبَّ الوهن والضعف والترهل والانحراف الذي لا يتلوه إلا السقوط، وتداعي المتربصين لنهش فريسة سائغة سقطت من عليائها..

وهكذا هو حال أمتنا التي تضعضعت وانهارت وسقطت عندما تجاهلت تاريخها، وتردَّت معنوياتها واختلَّت فيها عناصر التوازن بين الأغنياء والفقراء.. بين الكفاءات والمناصب.. بين قدرات المسؤول وحجم المسؤوليات..

انتهى

ـــــــــــــــــــــــــ
 

([1]) الملاحم والفتن لابن طاووس ص 157.

([2]) تحف العقول ص 70.

([3]) وسائل الشيعة ( آل البيت ) الحر العاملي ج 17 باب 15 استحباب تعلم الكتابة والحساب وآداب الكتابة ص 403.

([4]) بحار الأنوار العلامة المجلسي ج14 ص 137.

([5]) نهج البلاغة خطب الإمام علي عليه السلام ج3 الخطبة 45 ص 75.

([6]) سورة المعارج آية 24- 25.

([7]) سورة الزخرف من الآية 32.

([8]) النظام السياسي في الإسلام لباقر شريف القرشي ص 247.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني    أرشيف المجلة     الرئيسية