العدد الثاني / 2005م  / 1426هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الكتابة رسالةً وأسلوبًا

الشيخ حسين قازان*

 

يندفع بعض الكتّاب إلى الكتابة بكل قوّة وحماس، سواء في ذلك رجال الفكر والأدب، أو علماء الدين والإصلاح، ويمكن القول بأن الكتابة قد كثرت في عصرنا، وامتلأت بها دور النشر وزُخرِف بالمؤلفات ألافُ المكتبات الخاصّة والعامّة، وممارسة الكتابة كغيرها من المهن والاتجاهات الفكرية والأدبية التي يختارها أصحابها كالخطابة، وقراءة السيرة الحسينية، وإنشاد الشعر ونظمه، والتمثيل والغناء، وقيادة العباد والبلاد.

الكتابة واختلاف دوافعها

ومما لا شك فيه أن الدوافع النفسية والبشرية تختلف من إنسان لآخر حسب الأهداف الشخصية، والغايات الكامنة في ذات كل فرد، والفلسفة والقناعات التي تتكوّن منها شخصيّة الكاتب والخطيب والشاعر ورجل الفنّ والسياسة وغيرهم.

فمن قَصَر نظره على هذه الحياة، وآمن بها الإيمان المطلق، واعتبرها البداية والنهاية، وامتلأ قلبه بحبّها، وغفل عن الغاية التي خلقه الله تعالى من أجلها، ونسي أو تناسى بأن الحياة الدنيا هي دار الفناء والاختبار والابتلاء ليسجّل كلّ فرد منّا أقواله وأعماله وآراءه وتفكيره في صحيفة أعماله، وليحتفظ بها الملائكة الكرام الكاتبون، ويضعونها أمام الخالق العظيم عند نهاية العمر، ومجيء الأجل.

إن من يقصر نظره على هذه الحياة يحوّل كلّ عمل من أعماله تقرّبًا إليها، ويسخّر كل طاقاته وإمكاناته في سبيل الحصول عليها، فيصلّي لأجلها، ويكتب ويخطب ويعظ ويقرأ القرآن بالصوت الحسن الجميل، وينشد الأشعار المبكية والمؤثّرة على سيد الشهداء وأهل البيت (عليهم السلام)، كل ذلك من أجل الحصول على الدنيا، والفوز بما فيها من شهوات وملذّات وممتلكات.

وبتعبير أدقّ، فإن الدنيا تصبح لدى مثل هذا الإنسان، الإله المعبود، والمعشوق الوحيد، (ومن عشق شيئًا أعشى بصره، وأمرض قلبه)([1])، ومن المؤسف جدّا أننا نشاهد في زماننا صنفًا من هذا الفريق المنكوس التعيس،  الذين يقولون ما لا يفعلون، ويكتبون لغيرهم أوامر ونواهي، وتوجيهًا وإرشادًا، ووعظًا وإصلاحًا، وترغيبًا في الثواب وتحذيرًا من العقاب، وهم لا يلتفتون لأنفسهم، ولا يبادرون إلى تهذيب ذواتهم، وتخليصها من ضعف الإيمان، ورذائل الصفات والأخلاق التي تبعدهم عن الله رب العالمين.

وما أحقّ وما أصدق المثل القرآني في انطباقه عليهم في قوله تعالى : {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً}([2]). فالكتابة في نظر هؤلاء هدف لمنافعهم ولإبراز شخصياتهم وليس غاية لطاعة الخالق وصلاح المخلوق، هذا هو حال من يتوجّه كليًا لهذه الحياة.

وأما من عظم الخالق في نفسه، وكبر موقعه في قلبه، وعلم أن حياته وعمره هما الفرصة الوحيدة لنيل الثواب والخلاص من العقاب، والفوز برضوان الله الأكبر مع الأنبياء والصّدّيقين والشهداء والصالحين، ومع محمد وآله الأبرار صلوات الله عليهم، مثل هذا الإنسان المؤمن الحقيقي يصرف عمره في ما يحقّق له القرب من خالقه، فيحوّل أعماله وأقواله، وكتاباته وسائر شؤون حياته لهذه الغاية، فيوجّه نفسه قبل توجيه غيره، ويأمرها وينهاها قبل أمر غيره ونهيه، ويصلحها قبل الانصراف لإصلاح غيره، ويعظها قبل وعظ مَن سواه، مصداقًا لقول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): (من نصب نفسه للناس إمامًا، فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، وليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه)([3]).

ولنا من سيرة نبيّنا (صلى الله عليه وآله) وأئمة الهدى (عليهم السلام) وسيرة السلف الصالح من علمائنا وكتّابنا الماضين والحاضرين خير مثل على ذلك، حيث إننا نقرأ بعض الأخبار الشريفة عن النبي وآله (صلى الله عليه وآله)، وحتى ما ورد من أدعيتهم (عليهم السلام)، فتنقلنا إلى عالم الحقّ والواقع، ونطالع بعض مؤلفات العلماء والمفكرين العاملين المخلصين فنتأثّر بما كتبوا، ونحتفظ بما قالوا، لأننا نلمس الجدية والواقعية في آرائهم وأفكارهم، وليس مجرد الخيال والتصوّر كما هو الحال في بعض المتظاهرين والمدّعين.

فإذا كانت الغاية من الكتابة هي نقل أفكارنا للآخرين، فعلينا تصحيح الفكرة قبل نقلها وإبرازها، وإذا كانت هي الدعوة إلى الصلاح والإصلاح وتغيير الواقع الفاسد في المجتمع، فعلينا قبل ذلك التوجّه لإصلاح نفوسنا، وتقويم اعوجاجنا، وتغيير واقعنا الفاسد، وعند ذلك يصبح قولنا مقبولاً، وخطابنا مسموعًا، وكتاباتنا مثيرة ومؤثّرة، ويبارك الله تعالى بجهدنا وأعمالنا.

إن الكلمة التي نتلفّظها ينتفع بها - إن كانت نافعة - من يسمعها، ولكن الكلمة التي تسجّل على صفحات الكتب فهي للأجيال الحاضرة والآتية، فإن كانت خيرًا ورشدًا انتفع بها كاتبها في حياته وبعد وفاته، وإن كانت شرًا وضلالاً فهي الوبال وسوء المآل لكاتبها في حياته وبعد مماته.

روايات الحثّ على الكتابة

وقد ورد الحثّ على الكتابة النافعة عن النبي (صلى الله عليه وآله) وأئمة الهدى (عليهم السلام):

فعن الإمام الصادق (عليه السلام): (اكتبوا فإنكم لا تحفظون حتى تكتبوا).

وعن المفضّل بن عمر قال: (قال لي أبو عبد الله (عليه السلام) : اكتب وبثّ علمك في إخوانك، فإن متّ فأورث كتبك بنيك).

وعن أنس قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): المؤمن إذا مات وترك ورقة واحدةً عليها علمٌ، تكون تلك الورقة يوم القيامة سترًا فيما بينه وبين النار).

وجاء في وصية النبي (صلى الله عليه وآله) لعلي (عليه السلام) أنه قال: (يا عليّ أعجب النّاس إيمانًا وأعظمهم يقينًا قوم يكونون في آخر الزمان لم يلحقوا النبي، وحُجب عنهم الحجة، فآمنوا بسواد على بياض) ([4]).

فهذه الأخبار الشريفة وأمثالها تبيّن الآثار الإيجابية الحسنة المترتبة على الكتابة النافعة، وتحثّنا عليها، وترغبنا فيها، وتدفعنا إلى اختيار المواضيع المفيدة التي ترشد الضالّ، وتنبّه الغافل، وتعلّم الجاهل، وتقرّب الناس إلى ربهم، فيأنس بذلك الكاتب في حياته، وتكون موجبةً للرحمة الإلهية بعد موته، وسترًا له من نار الجحيم يوم يقوم الناس لربّ العالمين.

أسلوب الكتابة

بقي علينا أن نشير هنا إلى نقطة هامّة نودّ التنبيه عليها، ونلفت أنظار الكاتبين الهادفين المصلحين إليها، وهي تتعلق بأسلوب الكتابة وبيان ما هو أكثر نفعًا.

حيث إن الكاتب كالخطيب والمحدّث، منهم من يُفْهِم المعنى بيُسر وسهولة، وينقل أفكاره ومقصوده باختيار الكلمات والألفاظ المعبّرة والمؤثرة، والخالية من الإرباك والتعقيدات والحشو الزائد، فيرتاح القارئ، ويأنس السامع، وينشدّ لسماع كلمة المتكلم، وكتابة الكاتب.

ومنهم من يختار الكلمات والألفاظ التي لا يفهم معناها إلا القليل من العلماء والأدباء، فإذا أوجز، قصّر في أداء المعنى المطلوب، ولم يحقّق الغاية المنشودة.

وإذا أطنب ضيّع السامع والقارئ، وحَادَ عن المقصود، ولم يُؤدّ الغرض والهدف.

فمن المهم جدًا أن يلتفت الكاتب لهذه الناحية، ولا يغفل عن أبعادها ونتائجها، فقد يكون تقديم كلمة أو جملة أو تأخيرهما عن الموضع المناسب يغيّر المعنى، أو لا يحقّق المطلوب، وكذلك الانتقال من فكرة إلى أخرى ومن موضوع إلى آخر يؤثّر في فهم المعنى، إن لم يكن على النحو المترتب والمتسلسل.

بعض الخطباء والكتّاب ينتقل أثناء الخطابة أو الكتابة من نقطة إلى أخرى، ولا يلاحظ ترابط الجمل أو الكلمات، وربما يعتمد على مكانته في المجتمع وشهرته فلا يكلّف نفسه عناء إعادة النظر فيما كتبه من مقالات، أو مؤلفات، ويعطي نفسه الثقة التامّة فلا ينتقد كتابته، ولا يعيد النظر فيها، ويتصوّر نفسه الموهوب الكامل وفوق نقد الناقد، لا مجال لاحتمال الخطأ في لسانه أو قلمه، ومثل هذا التصوّر يُبعد الإنسان عن الواقع، ويوقعه في الجهل والغرور.

كما أن سرعة الإنتاج وإبراز الكتابة مبكرًا، ودون رويّة وتجربة وممارسة، يؤدّي بالشخص إلى الحكم على نفسه الحكمَ الخاطئ.

إن إعادة النظر فيما يكتبه الكاتب ولأكثر من مرّة، وفي أكثر من وقت، وتوجيه النقد من نفسه لنفسه، ومن ذاته لذاته، يقرّبه من الحق والواقع، ويقلّل أخطاءه وعيوبه.

ومما يساعد ويساهم في تأثير الكلمة المكتوبة، ويقرّب الكاتب من بلوغه الهدف المرجوّ والمأمول من كتابته، الإخلاص لله في العمل، والتقرّب إليه سبحانه في ذلك، ونيّة الإصلاح والإرشاد للعباد، وتقريب المخلوق من الخالق.

 انتهى

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

* عالم عاملي.

([1])الإمام علي عليه السلام - نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده خطبة 109 - ج1 ص211.

([2]) سورة الجمعة من الآية 5.

([3]) نهج البلاغة شرح الشيخ محمد عبده خطبة 73 - ج4 ص16.

([4]) الوسائل ب8 من أبواب صفات القاضي ح16-18-51-63.

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني    أرشيف المجلة     الرئيسية