العدد الثاني / 2005م  / 1426هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

مصحفنا الفعلي .. نسخة علي (عليه السلام)

الشيخ علي كوراني*

 

مما امتازت به هذه الأمة المرحومة عن غيرها من الأمم نصُّ كتاب الله عزّ وجلّ، حيث لا يوجد على وجه الأرض كتابٌ سماويٌّ محفوظُ النسخةِ جيلاً عن جيل، وحرفًا بحرف، غير القرآن!

أما الأحاديث التي تُوهِم وقوع التحريف فيه، في هذا المصدر أو ذاك فليس لها قيمة علمية ولا عملية، حتى لو كانت أسانيدها صحيحة.. ذلك أن الله تعالى قد تكفَّل بحفظ كتابه بقوة نصّه الذاتية، ثم بالمحافظين عليه (عليهم السلام).

إن القرآن كلام الله تعالى.. وهي حقيقة يقف عندها الذهن لاستيعابها، ويتفكر فيها العقل لإدراك أبعادها، ويخشع لها القلب لجلالها. وهي تعني فيما تعني أنه عز وجل قد انتقى معاني القرآن وألفاظه، وصاغها بعلمه وقدرته وحكمته. وهي حقيقة تُفاجئ كل منصف يقرأ القرآن، فيجد نفسه أمام متكلم فوق البشر، وأفكارٍ أعلى من أفكارهم، وألفاظٍ لا يتمكن إنسان أن ينتقيها أو يصوغها!

يجد أن نص القرآن متميزٌ عن كل ما قرأ وما سمع! وكفى بذلك دليلاً على سلامته عن تحريف المحرّفين وتشكيك المشكّكين! إن القوة الذاتية لنص القرآن هي أقوى سندٍ لنسبته إلى الله تعالى، وأقوى ضمان لإباءِ نسيجِه عما سواه، ونفيه ما ليس منه! فقد جعل الله هذا القرآن أشبه بطبقٍ من الجواهر الفريدة، إذا وضع بينها غيرها انفضح! وإذا أخذ منها شيء إلى مكان آخر، نادى بغربته حتى يرجع إلى طبقه!

وعندما يتكفَّل الله عز وجل بحفظ شيء أو بعمل شيء، فإن له طرقه وأساليبه ووسائله في ذلك، وليس من الضروري أن نعرفها نحن، ولا أن تفهمها أكبر عقولنا الرياضية! فحِفْظُ الله تبارك وتعالى لكتابه، كأفعاله الأخرى لها وسائلها وجنودها وقوانينها! ومن أول قوانينها: قوة بناء القرآن، وتفرّده، وتعاليه على جميع أنواع كلام البشر، الماضي منه والآتي!

بل تدل الآيات الشريفة على أن بناء القرآن أتقنه الله تعالى بدقّة متناهية وإعجاز كبناء السماء!

قال الله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} الواقعة:75-77..

والتناسب بين المُقسَم به والمُقسَم عليه الذي تراه دائمًا حاضرًا في القرآن، يدل على التشابه في حكمة البناء ودقّته بين سُوَر القرآن وآياته وكلماته وحروفه، وبناء مجرَّات السماء ومواقع نجومها!

وإلى اليوم لم يكتشف العلماء من بناء الكون إلا القليل، وكلما اكتشفوا جديدًا خضعت أعناقهم لبانيه عز وجل! وكذلك لم يكتشفوا من بناء القرآن إلا القليل، وكلما اكتشفوا منه جديدًا خضعت أعناقهم لبانيه عز وجل!

كما أن التاريخ لم يعرف أمّة اهتمَّت بحفظ كتاب وضبطه، والتأليف حول سوره وآياته، وكلماته وحروفه، فضلاً عن معانيه، كما اهتمَّت أمّة الإسلام بالقرآن. وهذا سند ضخم، رواته الحفّاظ والقرّاء والعلماء وجماهير الأجيال سندًا متصلاً جيلاً عن جيل إلى جيل السماع من فمِ الذي أنزله الله على قلبه (صلى الله عليه وآله)! ولكن سند القرآن الأعظم هو قوته الذاتية ومعماريَّته الفريدة!

هذا هو اعتقاد المسلمين بالقرآن سواءٌ منهم الشيعة والسنة، وسواء استطاع علماؤهم وأدباؤهم أن يعبِّروا عنه، أم بقي حقائق تعيش في عقولهم وقلوبهم وإن عجزت عنها ألسنتهم وأقلامهم!

ولا يحتاج الأمر إلى أن ينبري كتَّاب آخر الزمان فينصحوا الشيعة بضرورة الإيمان بكتاب الله تعالى وسلامته من التحريف! فنحن الشيعة نفتخر بأن اعتقادنا بالقرآن راسخ، ورؤيتنا له صافية، ونظرياتنا حوله واضحة، لأنها مأخوذة من منبع واضح صافٍ، منبع أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله)، وباب مدينة علمه!

وإذا كانت بعض المصادر الشيعية فيها ما يخالف ذلك، فإن المصادر السُنِّيَة فيها أكثر وأعظم!!

والذين يتصورون أنها مشكلة خاصة بمصادر الشيعة متوهِّمون.

النسخة الأمّ التي دوّنوا عنها المصحف الإمام، المعروف بمصحف عثمان؟

توجد أربعة احتمالات للنسخة الأمّ التي أملى منها سعيد بن العاص المصحف على زيد بن ثابت وغيره من الكتاب:

الاحتمال الأول: أن تكون صحف حفصة، أي نسخة عمر التي جمعها هو وزيد في عهد أبي بكر ثم في عهده.. كما ذكرت أكثر الروايات في مصادر السنِّييِّن.

الاحتمال الثاني: أن تكون نسخة عائشة، كما ذكرت بعض الروايات.

الاحتمال الثالث: أن تكون نسخة علي (عليه السلام)، كما يُفهم من صفات النسخة.

الاحتمال الرابع: أن يكون سعيد، أو هو وبقية أعضاء اللجنة رأوا عدة نسخ وقايسوا بينها وناقشوا فروقاتها واستمعوا إلى شهودها، ثم راجعوا عثمان وعليًا (عليه السلام) وغيرهما من الصحابة الخبيرين بالقرآن، واختاروا الكلمة أو الصيغة الأكثر وثوقًا عندهم، كما يُفهم من بعض الروايات.. وفيما يلي نفحص ما يملكه كل واحد من هذه الاحتمالات.

لم يكتبوا المصحف الإمام عن صحف حفصة أو نسخة عمر:

كان توحيد عثمان لنسخة القرآن عملية جراحية لمرض حدث في الأمة حيث اختلف المسلمون في قراءات القرآن، وانقسموا إلى أحزاب دينية متعارضة! وقد كان بعض الأشخاص يعيشون على هذه الاختلافات والتعصّبات، فلما قام عثمان بجمع القرآن، سحب البساط من تحت أقدامهم  فأُسقط في أيديهم، وفقدوا مكانتهم وجمهورهم! لقد صارت قراءتهم مثل غيرها، وصاروا هم مثل غيرهم.

وانتهى عهد الأحرف السبعة الذي بدأه عمر، وصار على الجميع أن يقرأوا بحرف واحد هو حرف  عثمان في المصحف الإمام!

لهذا ارتفعت اعتراضات زعماء الأحرف السبعة أو الأحرف العشرين وجمهورهم، وكان سلاحهم ضد عثمان وضد حذيفة، هو الأحرف السبعة التي سلَّحهم بها عمر!

وكان الجواب المنطقي للدولة أن تقول لهم: إن عمر أخطأ في طرح الأحرف السبعة، فهذا الواقع الخطير الذي نعانيه إنما هو ثمرتها، ولو تركناه بلا معالجة جذرية لاختلفت الأمة في كتابها إلى فرق ومذاهب متناحرة إلى يوم القيامة! ولكن الناس كانوا متعلقين بسياسة عمر، وقد سجَّلوا نقاط ضعفٍ على سياسة عثمان. لذلك لم يستطع عثمان أن يُخطِّئ عمر، بل كان يرى نفسه محتاجًا لإثبات (الشرعية) لأعماله بالاحتجاج بأعمال عمر وأقواله! لهذا نراه يحتجّ على المعترضين أولاً: بأن عمر كان ينوي توحيد القرآن. وثانيًا: بأنه كتب مصحفه الإمام عن نسخة عمر أو الصحف التي عند بنته حفصة!

لهذا يجب أن ننظر إلى الروايات التي تقول إنهم نسخوا المصحف الإمام عن صحف حفصة بأنها كلام سياسي للدفاع عن عثمان، وليس بالضرورة أن يكون هو الذي حصل! وكذلك كثير من دفاعات عثمان عن نفسه فيما خالف فيه عمر، كما يظهر للمتتبِّع!

 قال ابن شبة في تاريخ المدينة: 3/1136:

[حدثنا علي بن محمد، عن يزيد بن عياض، عن الوليد بن سعيد، عن عروة بن الزبير قال:

قدم المصريون، فلقوا عثمان رضي الله عنه. فقال: ما الذي تنقمون؟ قالوا: تمزيق المصاحف.

قال: إن الناس لمَّا اختلفوا في القراءة خشي عمر رضي الله عنه الفتنة. فقال: من أعرب الناس؟

فقالوا: سعيد بن العاص. قال: فمن أخطهم؟ قالوا: زيد بن ثابت. فأمر بمصحف فكُتب بإعراب سعيد وخط زيد، فجمع الناس ثم قرأه عليهم بالموسم. فلما كان حديثًا كتب إلى حذيفة: إن الرجل يلقى الرجل فيقول: قرآني أفضل من قرآنك حتى يكاد أحدهما يكفِّر صاحبه، فلما رأيت ذلك أمرت الناس بقراءة المصحف الذي كتبه عمر رضي الله عنه وهو هذا المصحف، وأمرتهم بترك ما سواه، وما صنع الله بكم خير مما أردتم لأنفسكم]. انتهى.

والجميع يعرفون أن عمر لم يقم بهذا العمل، ولم يقرأ على المسلمين قرآنًا في موسم الحج!

يتبع=


ـــــــــــــــــــــــــــ

* مفكر إسلامي وباحث في شؤون العقيدة .

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني    أرشيف المجلة     الرئيسية