الأول:
أن مهمته
(عليه السلام)
قد انتهت
قبل اعتقاله!! كما صرّح
بذلك في آخر خطبة قالها لتلاميذه، فإنه بعد ما أنهى كلامه
معهم، توجّه إلى السماء، وقال: "..وهذه هي الحياة الأبدية
أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويعرفوا يسوع المسيح
الذي أرسلته، أنا مجّدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتني
لأعمل قد أكملته"([1]).
إن انتهاء
مهمته ووظيفته عند هذا الحد، يعني أن كل التطورات التي
حدثت بعدها، سواء صلب وقام كما يقوله المسيحيون، أم لم
يصلب وإنما شبّه لهم، كما هو الحق بمقتضى نصّ الآية
القرآنية الشريفة، إن كل هذه التطورات خارجة عن وظيفته
وعمله وبالتالي لن يكون له أثر تشريعي أو تبليغي ودعوي في
ما بعد، بل يمكن القول أنه إذا قام بأي عمل سيكون تجاوزًا
لحدود الوظيفة المعطاة له من قبل الله تعالى، بعد إقراره
بقوله: "العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته".
هذا
بالإضافة إلى أن الأحداث التي حصلت بعد هذا الخطاب، لم تكن
من صنعه ولا باختياره، بل كانت صادرة من خصومه وأعدائه،
وهو مما لا تصح نسبته إليه
(عليه
السلام)،
وإلا فلا يكون لإدانتهم بقتله أي معنى، بل سيكون المفروض
أنهم عملوا بإرادته ورغبته، بل امتثالاً لأمر إلهي فيه،
وهذا مما لا يمكن أن يلتزم به المسيحيون قبل سواهم، مع أن
صريح الأناجيل - وفي مختلف الموارد - إن فعلتهم كانت جريمة
كبرى.
الثاني:
أن موسى
(عليه السلام)
قد كان
قائدًا لشعبه ضد خصومهم المصريين، وقد أقرّ
له الإسرائيليون بهذه القيادة، حسب ما يدل عليه سياق
الأحداث في التوراة، وقد أغرق فرعون وجنوده عندما لحقوا
بهم، وهذا ما لم يحصل مع السيد المسيح
(عليه
السلام)،
فلا هو ادعى قيادة بني إسرائيل، ولا هم أقروا له بذلك، بل
هو لم يحاول تحريرهم من أيدي خصومهم الرومانيين، الذين
كانوا يجثمون على صدورهم وفي أرضهم، وهذا ما دعاهم إلى
الانتفاض ضده بعدما خاب أملهم به وبدعوته.
مع أنه لا
مجال للمقارنة والمماثلة بينهما، لا من جهة الولادة ولا من
جهة المنشأ والتربية والبيئة.
الثالث:
أن هذا النبي الموعود ستكون معجزته في فمه، بمعنى أنه لا
يجب أن تكون معجزة النبي خارجية لتكون معجزة، بمعنى أن
تكون من أنحاء التصرف في عالم التكوين، كما حصل مع
الأنبياء السابقين، بما فيهم السيد المسيح
(عليه
السلام)
نفسه، لأن
هذا النوع من الإعجاز خاص بالحاضرين معه والشاهدين على
معجزته، وأما بعد تحقق المعجزة وانتهاء زمانها ومفاعيلها،
ستنتقل إلى الآخرين على أنها قصّة أو رواية قابلة للتصديق
والتكذيب، وبالتالي ربما ينتقل الشك إلى أصل وجود النبي
المفترض حقيقة على مسرح الأحداث التاريخية، كما حصل
بالنسبة إلى السيد المسيح
(عليه
السلام)
نفسه فعلاً،
حيث شكّك الكثير من الباحثين بوجود شخص يدعى يسوع قبل ألفي
سنة من الزمان([2]).
وهذا بخلاف
الكلمة المعجزة، المحفوظة والمدوّنة على مدى الأزمان،
فإنها شاهد إثبات واقعي لكل من عاينها، سواء كان شاهدًا
ومعاصرًا للنبي، أو لم يكن كذلك، فإذا فتحنا الأناجيل
وجدناها عبارة عن مجموعة قصص تتحدث عن شخص مرّ في التاريخ،
وقام بأعمال كبيرة وخطيرة، لا ترقى إلى مستوى الإثبات
الفعلي لوجوده، لاحتمال أن تكون من إبداع خيالات الرواة
والقصّاصين، خصوصًا وأن الظروف الموضوعية والتاريخية لتلك
الحقبة لا تساعد على فكرة إحياء الموتى.
إن هذه
الكلمة المعجزة لم تتحقق في تاريخ البشرية إلا بالقرآن
الكريم، الذي حافظ على أصالته طيلة أربعة عشر قرنًا من
الزمان، ولا زال يتحدّى المجتمع البشري، بمعارفه العالية،
وحقائقه التاريخية، وهو الوحيد الذي يشكل شاهد إثبات حي
لنبوّات سائر الأنبياء السابقين
(عليه السلام)،
ولولاه لم يتمكن أحد من إثبات مرور أحد منهم في التاريخ.
الرابع:
إن مقتضى المثلية في النبوة الموعودة، أن تشتمل رسالة
النبي القادم على شريعة ودستور حياة، كما هو الحال في
رسالة موسى
(عليه
السلام)،
ومن المعلوم أن السيد المسيح
(عليه
السلام)
لم يأت
بشريعة قانونية تنظم حياة الناس، ولم يدّع أحد ذلك له، وما
هو موجود في الأناجيل من تعاليم منسوبة إليه
(عليه السلام)،
لا تعدو كونها عدة تعاليم أخلاقية، لا علاقة لها بالقانون
ولا بالتشريع، مع أن الكثير منها لا تثبت أمام النقد
العلمي، لما تتضمنه من تهافت في أنفسها، ومخالفة للفطرة
الإنسانية، من قبيل قوله "أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم،
لا تقاوموا الشر، من لطمك على خدك الأيمن فأَدِر له الآخر
أيضًا"([3])،
ولا نريد تفنيده الآن، بل يكفي دليلاً على عدم صحة هذا
التعليم أن أحدًا من المسيحيين لم يعمل به على مرّ
التاريخ.
وسواء تمّت
هذه التعاليم كقيمة أخلاقية أم لم تتم، فإنها لا تشكّل
تعليمًا قانونيًا ينظّم حياة الناس، فلا يمكن مقارنتها
بشريعة موسى
(عليه
السلام)،
وتعاليمه القانونية الواردة في كتاب التوراة، فلا يمكن أن
تنطبق مواصفات النبي الموعود على السيد المسيح
(عليه
السلام).
الصحيح في النسختين:
قلنا إن بين
النسخة العبرانية وبين النسخة السامرية تباينًا في الدلالة
على موقع نبوة موسى
(عليه
السلام)
في بني
إسرائيل, فهل يمكن إثبات أيهما أولى بالصدق والاتباع, أم
لا يمكن ذلك؟ فإن مما لا إشكال فيه أن هذا التباين واختلاف
النسخ طارئ على أصل التوراة, من قبل النسّاخ أو الكهنة
والكتّاب.
ومع غض
النظر عن سقوط كلا النسختين عن الاعتبار والحجية, لكثرة
الإشكالات الواردة عليهما, سواء من ناحية الإثبات
التاريخي, أم من ناحية التناقضات الداخلية في مضامينها,
فإنه يمكن القول أن النسخة السامرية هي الأصح في المقام,
فلا يمكن قبول ما تضمنته النسخة العبرانية هنا, لأن الوارد
فيها قوله: "الذي عرفه الرب وجها لوجه", ومعنى هذه
العبارة, إن حُملت على معناها الظاهر منها, أن الله تعالى
قد التقاه وجهًا لوجه, وتعرَّف إليه من خلال ذلك, وهو
يشتمل على محاذير لا يمكن الالتزام بأي منها:
الأول:
أن الله تعالى له وجه يظهر به على الناس, فيرونه من خلاله,
مع أن هذه النسخة نفسها قد نفت إمكانية رؤيته تعالى, وذلك
حين طلب منه موسى
(عليه السلام)
أن يُريه
مجده, فقال له: "لا تقدر أن ترى وجهي، لأن الإنسان لا
يراني ويعيش, ...., وأما وجهي فلا يُرى"([4]).
الثاني:
أنه يستلزم الجسمية للذات المقدسة والدليل قائم على
استحالة الجسمية عليه تعالى, لأن الجسم مخلوق له تعالى,
فالقول بجسميته يعني افتقاره إلى مخلوقاته تعالى, وهو
مستحيل.
الثالث:
أنه يستلزم الجهل فيه تعالى, ولا يعرف مخلوقاته إلا من
خلال ملاقاته لهم, وهو مستحيل كذلك.
هذا من
ناحية النصّ, وأما من الناحية الواقعية, فإن التاريخ لم
يتحدث عن أي نبي ظهر في بني إسرائيل كموسى
(عليه
السلام),
بما فيهم السيد المسيح
(عليه
السلام)
نفسه, إذ
مضافًا إلى ما تقدم , فإن المسيحيين يفترضون له الألوهية,
وليس مجرد النبوة, كما هو الحال في موسى
(عليه
السلام).
يضاف إلى كل
ما تقدم أن هذه العبارة قد وردت في سفر التثنية, والمفروض
أنه من إملاء موسى
(عليه
السلام),
أو من إنشائه, فلا يبقى أي معنى لقوله: "لم يقم بعد"،
الدالة صراحة على أن قائلها لم يكن معاصرًا له
(عليه
السلام),
كما هو ظاهر.
الملكوت في دعوة المسيح
(عليه السلام):
لا شك أن
السيد المسيح
(عليه
السلام)
قد اختصر
دعوته الشريفة باقتراب ملكوت السماوات, وكان يبشّر بها
تارة بشكل مباشر وصريح, من قبيل قول كاتب إنجيل مرقس:
"وبعدما أَسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة
ملكوت الله, ويقول قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله,
فتوبوا إلى الله وآمنوا بالإنجيل"([5]).
وتارة أخرى
كان يتحدث عن مقتضيات ملكوت الله ومفاعيله, ليقرب الفكرة
إلى أذهان الناس, من خلال استخدام الأمثال التقريبية
ليتعقلوها, حتى غلب استخدام الأمثال على عظاته وتعاليمه,
فاعتقد بعضهم أنه لا يعلّم إلا بأمثال, قال كاتب إنجيل
متى: "هذا كله كلّم
به يسوع الجموع بأمثال، وبدون أمثال لم يكن يكلمهم"([6]).
وفي مقام
بيان علّة استخدام الأمثال في تعليمه, يقول: "فتقدّم
التلاميذ وقالوا لماذا تكلمهم بأمثال, فأجاب وقال لهم لأنه
قد أُعطي لكم أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات، وأما لأولئك
فلم يُعط"([7]).
ولهذا كان
يفسر أمثاله لتلاميذه عندما كان ينفرد بهم, حيث: "وبأمثال
كثيرة مثل هذه كان يكلمهم حسبما كانوا يستطيعون أن يسمعوا,
وبدون مَثَل لم يكن يكلمهم، وأما على انفراد فكان يفسّر
لتلاميذه كل شيء"([8]).
وقد حاول
المسيحيون تفسير الملكوت على أنه ملكوت سماوي, بمعنى أنه
في عالم الآخرة, وما بعد الموت, نتيجة اعتقادهم أن السيد
المسيح
(عليه
السلام)
هو الغاية,
وبه تتم النهاية, ولم يستطيعوا أن يتقبلوا فكرة أنه جاء
مبشرًا بغيره من الأنبياء ليقيم الملكوت الموعود, الأمر
الذي أثّر سلبًا على مصداقية تفسيرهم, وأوقعهم في مناقضة
النصوص, ولم يمكنهم التخلص منها بنحو مُرْضٍ.
لقد حاولوا
الاستناد في فهمهم المذكور, إلى عبارة وردت في إنجيل
يوحنا, على لسان السيد المسيح
(عليه
السلام),
وهو في جلسة المحاكمة! حين سأله بيلاطس إن كان هو ملك
اليهود, "أجاب يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت
مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أُسلّم
إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من ها هنا"([9]).
إشكاليات التفسير المسيحي للملكوت:
لا شك أن
الملكوت الموعود في كلام السيد المسيح
(عليه
السلام)،
هو نفسه الملكوت الوارد في سفر دانيال، والذي يرأسه شخص
أطلق عليه اسم "ابن الإنسان"، فيقول: "كنت أرى في رؤى
الليل وإذا مع سحب السماء مثل ابن الإنسان أتى وجاء إلى
القديم الأيام فقرّبوه قدّامه، فأعطي سلطانًا ومجدًا
وملكوتًا لتتعبد له كل الشعوب والامم والألسنة، سلطانه
سلطان أبدي ما لن يزول وملكوته ما لا ينقرض"([10])،
وأطلق عليه في مكان آخر لقب "المسيح الرئيس"([11]).
ولا ريب في
أن المراد بالملكوت: ملكوت أرضي يحكم الارض بقوانين إلهية،
وبواسطة رجال صالحين، أطلق عليهم لقب "قديسو العلي"، حيث
يقول: "حتى جاء القديم الأيام وأعطي الدين لقديسي العلي
وبلغ الوقت وامتلك القديسون المملكة"([12]).
إن الفارق
الأساسي بين كلام دانيال وكلام السيد المسيح
(عليه
السلام)،
أن الأول لم يبيّن زمن مجيء الملكوت هذا، بل أبقاه غامضًا،
لعل اليهود يعملون على إصلاح شأنهم، ويرجعون إلى جادّة
الحق، ليكونوا من جنود الملكوت، شأنهم في ذلك شأن سائر
الأمم التي سوف تتّبعه، لأن الإبهام في كثير من الأحيان
يشكّل دافعًا للإصلاح، نتيجة احتمال مجيء المتعلق في كل
حين، فيبرز عنصر الحذر والخوف لدى الناس، حتى لا يكونوا من
الخاسرين.
وأما كلام
السيد المسيح
(عليه
السلام)
فهو يؤكد
على اقتراب موعد الملكوت هذا، على أساس أنه آخر نبي يسبق
مجيء مقيم الملكوت هذا، كما يدل عليه قوله لتلاميذه ساعة
ارتفاعه: "إن لي أمورًا كثيرة أيضاً لأقول لكم، ولكن لا
تستطيعون أن تحتملوا الآن، ولكن متى جاء ذاك، روح الحق فهو
يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلم من عند نفسه، بل كل
ما يسمع
يتكلم به، ويخبركم بأمور آتية"([13]).
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1])
إنجيل يوحنا:
17/3-4.
([2])
تاريخ الفكر المسيحي، القس حنا الخضري، ج1 ص146
وما بعدها.
([3])
إنجيل متى: 5/39-44.
([4])
سفر الخروج: 33/20-23.
([5])
إنجيل مرقس: 1/14-15.
([7])
إنجيل متى:13/10-11.
([8])
إنجيل مرقس: 4/33-34.
([9])
إنجيل يوحنا: 18/36.
([10])
سفر دانيال: 7/13-14.
([13])
إنجيل يوحنا: 16/12-13.
|