حين يلقي المرء نظرة على تاريخ البشرية فإنه سرعان ما يلمح
إحدى سماته العامة والواضحة، ألا وهي سمة التطور، وهي سمة
غدت شديدة التسارع في عصرنا الحاضر، كما أنها طالت مختلف
مناحي الحياة المعاصرة، سواء على مستوى العلوم والمعارف،
أم على مستوى التطبيق والتقنيات، أم على مستوى الحياة
ووسائل العيش.
غير أن الملاحظ هو أن هذا التطبيق وعلى الرغم من تسارعه
وشموله، لم يمسّ قضية تعتبر من أهم القضايا في حياة
الإنسان، عنيت بها قضية الحقوق، حيث ظلّت هذه القضية تعيش
في عزلة ثانية، حتى ظهرت عصيّة على التطور، هذا إذا لم نقل
إنها آخذة في التراجع والتقهقر، وأن الذي تطور هو أسلوب
الظلم والتعدّي على الحقوق.
ومما لا شك فيه أن هذه المشكلة إنما هي من صنع يد الإنسان
وليست مفروضة عليه قهرًا، وهذا ما يدفع المرء إلى التساؤل.
ما دام الناس هم المسؤولون عن تسبيب المشكلة، وما دامت
المشكلة ناتجة عن سلوكهم وتصرفاتهم، فلماذا لا ينزعون إلى
حلّها يتجفيف منابعها والقضاء على أسبابها، فيتخلصون بذلك
من مشكلة تعتبر من أهم بؤر الصراع في المجتمعات
الإنسانية؟!
هنا تبرز إحدى المشاكل الكبرى من مشاكل الواقع الإنساني
وهي المشكلة التي يصوّرها الإمام علي (عليه السلام) بكلمته
الجامعة حيث يقول:[فالحق أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها
في التناصف].
إن الناس حين يأخذون في وصف الحق وفي بيان معالمه، فإن لهم
في ذلك مجالاً واسعًا، لسهولة الوصف على ألسنتهم، وخفّة
مؤونتهم على أنفسهم، فإذا هم وصلوا إلى حيّز الفعل
والتنفيذ، وصار عليهم تأدية ما يجب عليهم من حقوق، ضاق
عليهم الأمر وثقل الواقع، وبعدوا عن الإنصاف.
لذلك فإن الإنسان ما إن ينتقل من مقام القول و[التواصف]
إلى مقام الفعل و[التناصف] حتى يغدو مصداقًا لمعنى الخطاب
الذي أرسله الإمام علي (عليه السلام) إلى الزبير يقول له
فيه :[عرفتني في الحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا مما
بدا؟!].
ففي مقام القول يبيّن الإنسان بأحسن بيان ما يجب له وما
يجب عليه، بل لعلّه يقدّم في هذا المقام ما يجب عليه على
ما يجب له، ولكنه سرعان ما يبتعد عن الإنصاف عندما ينتقل
إلى مقام الفعل، فإذا به يبدأ هنا الكيل بمكيالين والوزن
بميزانين، ويمسي يرى ما يجب له، وتعشى عيناه عما يجب عليه،
حتى كأنه غدا يعتبر نفسه مستثنى من قاعدة الحقوق العامة
التي لا استثناء فيها لأحد من الناس، وهي القاعدة التي
يقررها الإمام علي (عليه السلام) بقوله:[لا يجري لأحد إلا
ما جرى عليه، ولا يجري عليه إلا ما جرى له].
فلا حق لأحد من الناس إلا وعليه حق مقابل، وليس لأحد على
أحد منهم حق إلا وله حق مقابل، ومن غير استثناء لأي إنسان
مهما علا مقامه. نعم لو كان ثمة استثناء لأحد فهو استثناء
خالص لله تعالى.
يقول الإمام علي (عليه السلام) :[ولو كان لأحد أن يجري له
ولا يجري عليه، لكان ذلك خالصًا لله سبحانه دون خلقه،
لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه].
ولكن حتى الله جلّ ثناؤه أبى إلا أن يتفضل على عباده بأن
جعل لهم الجزاء مقابل ما يؤدونه من حقوق، وفي ذلك يقول
أمير المؤمنين (عليه السلام) :[ ولكنه جعل حقه على عباده
أن يطيعوه، وجعل جزاءهم عليه مضاعفة الثواب، تفضلاً منه،
وتوسعًا بما هو من المزيد أهله].
فأبى سبحانه إلا التفضل على عباده بأن أوجب الحق على نفسه،
وذلك من مزيد نعمته، ولكي يتخلّق الناس بأخلاق الله.
غير أن الناس لم يرتضوا لأنفسهم -في مقام الفعل
و[التناصف]- ما رضيه الله لنفسه، فرأوا لأنفسهم حقوقًا لا
تقابلها واجبات، ليستمر بذلك وجود الهوّة بين مقام [التواصف]
ومقام [التناصف].
فالمشكلة مستمرة، وحلّها مسؤولية إنسانيّة، لذا رأينا من
واجبنا فتح صفحات مجلتنا لمحاولات ومعالجتها، فكان لها
نصيب من الذكر في عددنا الحالي، كما كان لها نصيب أيضًا في
بعض الأعداد السابقة، ونحن ننتظر مساهمات أخرى تعالج
المشكلة عينها في أعدادنا اللاحقة.
|