السنة السابعة / العدد العشرون/ كانون أول : 2011 - محرم : 1433هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

روحية الزكاة في الإسلام

الشيخ سليمان يحفوفي 

 

اخترنا هذا البحث من كتاب "الضمان الاجتماعي في الإسلام وأثره الوقائي ضد الجريمة] للمقدس الشيخ سليمان يحفوفي ، الدار العالمية ، ط1 سنة 1402 هـ -1982م .

ونحن نقتصر في المقالة على خصوص الصنف الأول من أصناف المستحقين للزكاة،  وعلى البحث حول الفهم الشرعي لمهمة الزكاة، وحول إصلاح بعض المفاهيم الخاطئة حول الزكاة.

(التحرير)

تمهيد

الزكاة لغة: هي النمو والزيادة. قال في لسان العرب: وأصل الزكاة في اللغة الطهارة والنماء والبركة والمدح.

والزكاة شرعًا: هي فريضة معيّنة في أصنافٍ معيّنةٍ من الأموال إذا بلغت نصابًا.

وفريضة الزكاة قديمة قِدم التشريع، لأنها منسجمة مع الفطرة التي تحفظ التوازن، وتتماشى مع رسالة الرسل التي جاءت بالبيّنات، وما أنزل معهم من الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط.

وأهمية الزكاة كبيرة جدًا، حيث تحقّق الضمان الإلزامي لأفراد المجتمع، فيسود الرخاء بينهم، ويعمّ الصلاح، ويقطع دابر الجريمة، وتحقق العدالة الاجتماعية والتكافل والتضامن والتعاطف والتعاون، وتشدّ أواصر الأخوّة بين المؤمنين، وتلحق الطبقات الدنيا بالطبقات العليا في مستوى معيشتها، محقّقة رخاءً ينعم فيه أبناء المجتمع البشري الذي يحافظ على أدائها والقيام بواجباتها، لأنها الركن الرابع من الأركان التي بُُني عليها الإسلام.

ولأجل أثرها الكبير، أعطيت دوراً هامًا جداً في حياة المجتمع، حيث أصبحت تمثل العمود الفقري لدى الجسم الإسلامي ، واقترنت بعمود الدين -الصلاة- في أكثر الموارد في القرآن الكريم.

* * *

 


 

قال تعالى : {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ([1]).

تُصرف الزكاة على ثمانية أصناف وهم المعدودون في الآية الكريمة كالآتي:

1- الفقراء  2- المساكين.  3- العاملون عليها.    4- المؤلفة قلوبهم.

5- الرقاب.         6- الغارمون   7- سبيل الله.          8- ابن السبيل.

1- الفقراء

الفقر آفة فتّاكة في المجتمع، تنخر بنيته السليمة نخرًا، وتتركه أعجاز نخل خاوية، وتسبب له من الأمراض ما يُقوّض بناءه الاجتماعي، ويقضي على هناءة العيش والراحة، ويحيله أنقاضًا.

فالفقير يعيش الموت كل يوم، يستيقظ الموتَ في صباحه، وينامه عند منامه. فحياته موت مجترّ مكرور، اجترار الأغنياء لحياته.

فـ "الفقر الموت الأكبر" ([2]) "فما جاع فقير إلا بما متع به غني"([3]) و"الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل، داعية للمقت"([4]) ، "وإن من البلاء الفاقة"([5]).

بينما الموت؛ حالة تمرّ على الإنسان مرة واحدة، يكابد مرارتها ويقاسي آلامها، ثم يستريح بعدها في نعيمه الأبدي مُنهيًا ردحًا من المعاناة، وزمنًا من الآلام، وحياة تعيسة كابدها موتًا كل يوم.

فهو يرى الموت سعادة، طالما أن الحياة شقاء، وموت مكرور.

وحتى يستوي هذا العضو في المجتمع سليمًا سويًا، ويتجاوز عقدة النقص والخوف والألم، أولاه الإسلام كامل عنايته، وبالغ اهتمامه.

فضمن له رزقه وكفايته في مرحلة أولى، كما ضمن له غناه في مرحلة ثانية، وأحاطه بكل أشكال الرعاية، لدوره الكبير في بناء المجتمع، وزعزعة كيانه عند تعرضه للحاجة والفقر، وسوء أحواله المعيشية.

فلذلك شدد علي (عليه السلام) في عهده ([6]) لواليه الأشتر  على رفع مستواه:

[ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسى والزمنى.... واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسمًا من بيت مالك، وقسمًا من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تُشخص همك عنهم، ولا تصعّر خدك لهم].

فهؤلاء دعائم المجتمع وركائز توازنه الذين لهم حق الرعاية والعناية الفائقة، وقد استحفظ الله أولياءه حقوقهم كما هي محفوظة لهم عنده. فلهم سهم من بيت المال مما يرفع عنهم غائلة الفقر ويدفع الحاجة، ولهم سهم من غلات أرض الغنائم مما يغنيهم ويرفع من شأنهم حتى يلحقوا بغيرهم من أغنياء مجتمعهم.

وتقع مسؤولية هؤلاء على الوالي، باعتباره مستخلَفًا على رزقه وأداء أمانته، وعليه القيام بأداء مهمته، والمحافظة على تنفيذ ما أوكل إليه مع رفض اعتذاره (في حال إهماله) بانشغاله فيما هو أهم من شؤون المسلمين، لأن الاعتناء بهم من أهم المهمات، فإذا حال دونه شيء آخر فعليه أن يفرّغ لهم من يعتني بشأنهم ويرفع إليه أمورهم. قال (عليه السلام):

[فلا تُشخص همك عنهم، ولا تُصعّر خدّك لهم، وتفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممن تقتحمه العيون وتَحقِره الرجال، ففرّغ لأولئك ثقتك من أهل الخشية والتواضع، فليرفع إليك أمورهم، ثم اعمل فيهم بالإعذار إلى الله يوم تلقاه، فإن هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. وكلٌ فأعذر إلى الله في تأدية حقه إليه].

فهؤلاء بحاجة للعناية الشديدة، حتى يعتدلوا أسوياء بكامل قواهم، ويقوموا بتأدية دورهم الفاعل في الحياة كغيرهم. وعندها يستقيم الفقير، الذي كان يشكّل خطرًا على المجتمع، سويًا نشيطًا يحقق أهداف حياته، وغاية وجوده من استقامة الفطرة، وإبرازها لعالم الوجود، بإقامة الوجه للدين حنيفًا، وتحقيق المجتمع العادل في كل شيء.

فمراعاة حال الفقير تنطلق من زاوية إصلاحية تراعي كل الظروف لأبناء الهدف الواحد، حتى يتمكن كل فرد من تقديم جهده وطاقته لخدمة قضيته في المجالين القريب والبعيد، بدون عوائق تحدُّ من عبقريته أو تحول دون تفجرها.

لأن المجتمع الذي تزداد بين أفراده الفوارق الطبقية، يحمل بين حناياه روح الحقد والانتقام، وبذور التفجير والإفناء، فهو مؤهل ليتحول متفجرًا من أول شرارة تشعل فتيل الفتنة. لا بل الانتقام من المستمتعين بحقوق الفقراء، والمستأثرين بلقمة عيش المحرومين، ولا تهدأ حتى تلتهم في طريقها كل شيء، وتحيل الدنيا خرابًا ويتساقط معمورها ركامًا.

فالوقاية تحول دون الدمار، ومعالجة الأسباب تقتلع بذور الانفجار، وتضييق الشقة بين طبقات المجتمع يخلق روح التعاون والتعاضد بين أفراده للوصول به إلى الصلاح والكمال.

وإزالة الفقر منه تقوية لنقاط الضعف،  وإزالة للجانب الواهن وجعله مدماكًا صلدًا في بناء الإنسانية الشامخ.

فمعالجة حالة الفقر أُولى واجبات بناة المجتمع الصالح، ولذا نجد عناية الإسلام الفائقة به.

تحديد مفهوم الفقير شرعًا

الفقير الإسلامي، هو كل من لا يملك مؤونة سنته [اللائقة بحاله له ولعياله] لا فعلاً ولا قوة.

وهذا التحديد يحفظ كرامة الإنسان، وينمي شعوره للارتفاع بنفسه نحو الأفضل، ويشد روابط الأسرة، ويوثق عراها لكونها الأساس المتين لبناء المجتمع الصالح.

ولبيان ذلك يلزمنا البحث في مسائل:

المسألة الأولى: سبب تعيين الفترة بالسنة.

المسألة الثانية: سبب إضافة ضمان عياله له.

المسألة الثالثة: المقدار الذي يعطاه.

المسألة الأولى:

يعالج الإسلام دائمًا قضايا الإنسان من شعوره الداخلي وإحساسه الباطني حتى تستقيم تلك الإحساسات، ويتوازن ذلك الشعور مع تصرفاته الخارجية، فلا يحسّ المرء بتناقض بين إحساسه وعمله.

فهو عندما يحرّك إنسانًا نحو العمل، يحاكي به، أول ما يحاكي، شعوره الداخلي، حتى تتحرك باقي الأعضاء متجاوبة معه، طلبًا للاستقامة، وتحقيقًا للفطرة، ويكون عمله نابعًا منه بمحض اختياره وإرادته، وهذا يحقّق الانسجام بين الموجودات الكونية وبين المرء ونفسه، فيبعد شبح الصراع حتى الباطني.

فكذلك عندما يريد أن يحافظ على ضمان فرد من أفراده ينطلق معه من إحساسه الداخلي بمقدار تقبّله ما يعامله به، وهو يتوافق مع مقتضى الفطرة، ويحفظ التوازن بين ذلك الإحساس والتصرف؛ لأن ميزان الإسلام مع الغير هو نفس الإنسان، "فأحبب لغيرك ما تحبّ لنفسك، واكره له ما تكره لها"([7]).

وصاحب الحاجة ليس لديه الاستعداد الدائم لبذل نفسه في كل وقت لقضاء حاجته مهما بلغت، ولكنه لا يرى غضاضة بطلب حاجته مرة في السنة، خصوصًا مع شعوره بوجود من يحافظ له على كرامته ورهافة إحساسه، فكانت السّنَة تراعي كل هذه الجوانب. أضف لذلك احتمال استغنائه خلالها وتصنيفه في عداد الموسرين الذين يؤدّون الفريضة لغيرهم.

1- قال أبو بصير: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): الرجل من أصحابنا يستحيي أن يأخذ من الزكاة، فأعطيه من الزكاة ولا أسمّي له أنها من الزكاة؟ فقال (عليه السلام): أعطه، ولا تسمِّ له، ولا تذل المؤمن.

2- عن إسحاق بن عمار قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا إسحاق كيف تصنع بزكاة مالك إذا حضرت؟ قال: يأتوني إلى المنزل فأعطيهم، فقال لي: ما أراك يا إسحاق إلا قد أذللت المؤمنين. فإياك إياك! إن الله تعالى يقول: من أذلّ لي وليًا فقد أرصد لي بالمحاربة([8]).

3- عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): الرجل يكون محتاجًا يُبعث إليه بالصدقة فلا يقبلها. (إلى أن قال): فقال: ما ينبغي له أن يستحيي مما فرض الله له، إنما هي فريضة الله له فلا يستحيي منها.

4- عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: تارك الزكاة وقد وجبت له مثل مانعِها وقد وجبت عليه([9]).

فهذه النصوص الأربعة تعالج الحالة النفسية التي يحملها الفقير المضمون، وترشد إلى أفضل الأساليب الإنسانية الواجبة الاتباع للمحافظة على الحسّ المرهف الذي يحمله هذا الصنف من بناة المجتمع الأساسيين. لكي يكون مجتمعًا صالحًا.

فالرجل الذي يستحيي من أخذ الزكاة، ويشعر بالذلة والمهانة بذلك، يُعطاها بكرامة وعزة وعفة، بدون أن تُسمّى له، حتى لو اعتقد أنها دين أو هدية.

وهذا أسلوب متحضر جدًا، ولو كان عمره أربعة عشر قرنًا، لأنه آتٍ من قِبَل عالِم السر وأخفى. وسنرى نتائجه على الساحة العملية وأثره النفسي على العاملين.

فالمضمون -الفقير- المرهف الحس ينبغي تنمية إحساسه وتربية نفسه على الشعور الدائم بأن كل أبناء مجتمعه يقاسمونه إحساسه، ويحاولون انتشاله مما يعانيه.

فبدلاً من أن نشعره بالمذلة بتسمية ما يعطاه بأنه زكاة ونجرح نفسه العزيزة. نعطيه إياها بتخييل: أنها هدية، أو دين، أو هبة، مما يحفظ له كرامة نفسه وعنفوانه.

وهذا، سينتج منه إنسانًا آخر، غير ما نعهده، لأنه سيحاول قطعًا ردّ الجميل لأهله، ومكافأة الصنيعة، وستلتهب في داخله روح العمل الدؤوب، وتزداد مشاعر الأخوّة والمحبة، لِمَا في الهدية من فعل سحري في ذهاب السخيمة وإيراث المحبة، ولِمَا تذكي من شعلة الإيمان في النفوس، وتثير من غريزة العمل لإيفاء المحسن جزاء إحسانه.

فإعزاز المؤمن، المضمون بهذا الضمان، إنما يتحقّق بقصده والمسير إليه، وتقديم الضمان له بكل تجلّة واحترام، لأن عزّته من عزّة الله، وإذلاله حرب على الله، وما الفريضة له إلا من باب الحفاظ على معنوياته العالية، وليس لامتهان كرامته.

وسؤال الإمام (عليه السلام) إلى إسحاق عن كيفية صنعه بزكاة ماله، يوضّح له خطأ تصرفه في تأدية الفريضة، لأن إتيانه إلى المنزل فيه نحو من التكبر والتعالي، حيث ينتظر المحتاجين ليقصدوه، فتخالج نفسه خطرات الشيطان ووسوسته باحتقار من يأتيه. مع أن الفريضة عبادية لا تقبل إلا بالخشوع والخضوع، وقصد القربة، وهذه صفات تتأتى من باذلها، فعليه أن يسعى بنفسه لتأديتها ليحصل معه القصد.

فإرشاد الإمام (عليه السلام) له: [ما أراك يا إسحاق إلا قد أذللت المؤمنين فإياك إياك] يفهمه بأن عليه أن يسعى هو لإعطائها، لأن القصد -أي القربة في دفع الزكاة- لا يحصل إلا بسعيك لأداء الفريضة بنفسك، أما إتيانهم إليك فإنه يفوت معه الغرض من التذلل والخشوع لله، ويذل المؤمنين الذين أعزهم الله بفرض هذه الضريبة لهم، ورفع من مستواهم بواسطتها.

فتكون النتيجة: أن المستهدف بقلة الاحترام هو الله وأن الحرب تسترصده. لأن إذلال ولي الله استهتار بمقام وليه الذي نصبه هذا المنصب، فهو الذي يتولى الدفاع عنه : "من أذل لي وليًا فقد أرصد لي بالمحاربة".

كما أنه ينبغي للمضمون أن لا يستحيي من أخذ حقه الذي أعزّه الله به وفرضه له، لأن الحرمان قُرن بالحياء، لربما استعصت على الناس أنفسهم وغلبت عليهم أهواؤهم فوجدوا في التعفف مبررًا وفي الحياء عاذرًا لهم لعدم تأديتهم ما افترض عليهم، كما جاء في حديث محمد بن مسلم: "الرجل يكون محتاجًا يُبعث إليه بالصدقة فلا يقبلها"، فعدم قبوله مع حاجته يساهم في الحرمان وتصديع المجتمع وتحريف الفطرة، مع توفر كل أسباب التكريم والاحترام، حيث أُرسلت له الفريضة ولم يأتها. فحياؤه من أخذها استهتار بمقام وليه الذي فرضها له، فهو في صف مانعها سواء بسواء : "تارك الزكاة وقد وجبت له مثل مانعها وقد وجبت عليه"، كلاهما كافران بما أنزل الله وفرض لعباده، ومساهمان في تبديل خلق الله.

أما تأديتها كما فرض الله، وأخذها كما أوجب، ففيه صلاح المجتمع ونماؤه، واستواء الأمور بما تحيي من الأنفس وتحرك فيها من الشعور بالمسؤولية وتبعث في النفوس الأخرى المعطاة روح الجد والنشاط. فتكون نامية منمية في آن، لأنه يُفضَّل إعطاء من لا يسأل على الذي يسأل منها.

واعتماد السَّنَة يفرّغ المضمون لممارسة أعماله باطمئنان عسى أن تتفجر عنده روح الإبداع والإنتاج.

عن أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: يأخذ الزكاة صاحب السبعمائة إذا لم يجد غيره. قلت: فإن صاحب السبعمائة تجب عليه الزكاة؟ قال: زكاته صدقة على عياله، ولا يأخذها إلا أن يكون إذا اعتمد على السبعمائة أنفدها في أقل من سنة، فهذا يأخذها.. الحديث ([10]).

فـ"السنة" مرحلة استقرار له حتى لو كان عنده ما يجب عليه أن يزكيه ولكنه لا يكفيه لمؤونة سنته إذا اعتمد عليه وحده وأراد أن ينفقه. فزكاة ما عنده صدقة على عياله يوسع بها عليهم حتى يلحقهم بالناس.

المسألة الثانية: سبب إضافة ضمان عياله له

المجتمع في نظر الإسلام متكافل متضامن كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا، فهو يعتبر كل فرد عضوًا من أعضاء هذا الجسد المتكامل، يتداعى كلّه لتداعي بعضه، فالرعوية عامة بين أعضائه، والمسؤولية مترتبة على كل فرد بمستوى احتماله.

وهذا الشعور بالمسؤولية، ينبغي له أن ينشأ من أصغر مجتمع بشري حتى يتكامل المجتمع بأسره.

والأسرة، هي الخلية الأولى المنتجة فيه، فتعاهدُها -حتى تبقى سليمةً منتجةً- يحتاج للرعاية القصوى والعناية الفائقة، لأنها نواة بناء المجتمع وسيشاد على منوالها؛ فأي عامل يؤثر عليها في دور نموها سيبقى تأثيره مستمرًا حال تكاثرها.

فالعائلة، هي العامل الأساس في سلامة المجتمع ورقيّه وحسن تربيته.

وإحساس الفرد بالرعاية والعناية ضمن الأسرة سيطبعه بهذا الطابع عندما يندمج ضمن المجتمع، وسيبقى إحساسه ملازمًا له في تعامله مع أفراد مجتمعه، ولا يشعر بتجدّد شيء يراه غريبًا عنه.

فالعناية الإسلامية بربّ الأسرة، وجعله ضامنًا لإعالة أفرادها، وَجَعْل المجتمع ضامنًا له ولأسرته ؛ نحوٌ من تحضيرهم جميعًا لتحمّل مسؤولية روح التضامن والتكافل والرعاية: "فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"([11]).

فالعائلة جزء الرجل، والرجل جزء المجتمع. فربطه بجزئه ربط الجزء بالكل حيث لا انفكاك.

المسألة الثالثة: المقدار الذي يُعطى للفقير:

إن ما يسعى إليه الإسلام، هو إيصال جميع أفراده إلى مستوى الغنى، حتى يزيل ما تسببه الفوارق الطبقية من كوارث، وحتى تستقيم الفطرة وتحقق العدالة.

ولكنه يُبقي على المميزات الشخصية التي يتمتع بها بعض الأفراد والإمكانيات الخاصة التي مُنحوها، فمن زاده الله بسطة في الجسم والعقل ينمي الإسلام لديه هذه الإمكانات حتى يسخّرها لصالح مجتمعه ويُبقي له ما حققته مميزاته من فضل في الرزق والجاه ضمن إطاره العام.

والغنى، في مفهومه، هو مستوى المعيشة الذي يكون سائدًا في البلاد. والنصوص واضحة في هذا المعنى، وهذه بعضها:

النص الأول:

عن سعيد بن غزوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته كم يُعطى الرجل من الزكاة؟ قال: أعطه من الزكاة حتى تغنيه([12]).

النص الثاني:

عن إسحاق بن عمار عن أبي الحسن موسى (عليه السلام): قال: قلت له: أُعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهمًا؟ قال: نعم وزده. قلت: أعطيه مائة؟ قال: نعم، وأغنه إن قدرت أن تغنيه([13]).

النص الثالث:

عن إسحاق بن عمار قال: قلت للإمام جعفر بن محمد (عليه السلام): أعطي الرجل من الزكاة مائة؟ قال: نعم! قلت مائتين؟ قال: نعم! قلت: ثلاثمائة؟ قال: نعم! قلت: أربعمائة؟ قال: نعم! قلت: خمسمائة؟ قال: نعم! حتى تغنيه([14]).

النص الرابع:

عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إن شيخًا من أصحابنا يقال له عمر، سأل عيسى بن أعين وهو محتاج، فقال له عيسى بن أعين: أما إن عندي من الزكاة، ولكن لا أعطيك منها، فقال له: وَلِمَ؟ فقال: لأني رأيتك اشتريت لحمًا وتمرًا. فقال: إنما ربحت درهمًا، فاشتريت بدانقين لحمًا، وبدانقين تمرًا ثم رجعت بدانقين لحاجة. قال: فوضع أبو عبد الله (عليه السلام) يده على جبهته ساعة، ثم رفع رأسه ثم قال: إن الله تعالى، نظر في أموال الأغنياء، ثم نظر في الفقراء، فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به، ولو لم يكفهم لزادهم، بلى فليعطه، ما يأكل ويشرب ويكتسي ويتزوج ويتصدق ويحج ([15]).

النص الخامس:

عن أبي عبد الله (عليه السلام) سأله أبو بصير فقال: إن لنا صديقًا وله دار تسوى أربعة آلاف درهم، وله جارية، وله غلام يستقي على الجمل كل يوم ما بين الدرهمين إلى الأربعة سوى علف الجمل، وله عيال، أَلَهُ أَنْ يَأْخذَ مِنْ الزَكَاة؟  قال: نعم! قال: وله هذه العروض؟ فقال: يا أبا محمد! فتأمرني أن آمره ببيع داره وهي عزّه ومسقط رأسه؟ أو ببيع خادمه الذي يقيه الحر والبرد ويصون وجهه ووجه عياله؟ أو آمره أن يبيع غلامه وجَمَله وهو معيشته وقوته؟ بل يأخذ الزكاة وهي له حلال، ولا يبيع داره ولا غلامه، ولا جمله([16]).

النص السادس:

عن أبي الحسن (عليه السلام) سأله بشر بن بشار، قال: ما حدّ المؤمن الذي يُعطى الزكاة؟. قال: يُعطى المؤمن ثلاثة آلاف. ثم قال : أو عشرة آلاف([17]) .

هذه بعض النصوص الكثيرة الواردة في تعيين المقدار الذي يُعطى للفقير، ومن دراستها جيدًا، تتضح الغاية من العطاء؛ وهي الغنى، بدون أن تحدد الكمية.

والغنى، مفهوم مرن، يتفاوت بين عصر وعصر، وزمان وآخر، خصوصًا إذا لاحظنا بعض النصوص التي لم نوردها، والقائلة بإعطاء الفقير حتى يلحق من يعول به بالناس؛ فإلحاقهم بالناس هو عيشهم بمستوى المعيشة السائدة في مجتمعهم.

فروح الزكاة الواقعية هي تأدية هذا المفهوم؛ والنهوض بأفراد المجتمع الضعفاء إلى مستوى رفيع، متناسب مع مستويات عامة الناس، وما الفريضة إلا لتحقيق هذا المطلب.

ونفهم ذلك بوضوح من حديث أبي عبد الله (عليه السلام): سأله رجل في كم تجب الزكاة من المال؟ فقال له: الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟ فقال: أريدهما جميعًا! فقال: [أما الظاهرة، ففي كل ألف خمسة وعشرون، وأما الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك] ([18]).

فروح الزكاة، هي ما تبطن من معانٍ يقصد تحقيقها، وهي القضاء على الطبقية والتفاوت بين أفراد المجتمع، فعدم استئثار الفرد على أخيه بما يكون أحوج إليه منه يشيع عدالة رفيعة المستوى، يندر تحقيقها إلا من خلال الإسلام النابع من الداخل؛ والذي يشعر الفرد معه بأن ما في يده يجب أن يسخّره لقضاء حاجة أخيه [لأن الأخوّة أرفع شأنًا من المال وما جعل إلا صونًا لها]، ويشعر الآخر بأن ما في يد أخيه لقضاء حوائجه، فيكون أدعى في نفسه للحفاظ عليه، وحب ازدياده بين يديه.

ويتحقّق عندها التوازن في المجتمع، وإزالة الفوارق بين الأفراد، فالمال للجميع وبخدمة الجميع.

وما دون هذا المستوى يكون من ظاهر الزكاة -وليس من روحها- وهو ما يصل بالفقير إلى حد الغنى.

فالنصوص الأول والثاني والثالث تؤكد بأن العطاء حتى الغنى؛ باختلاف تعابير السؤال، ووحدة الغاية في الجواب.

فالنص الأول يقول: [أعطه من الزكاة حتى تغنيه]، وهو صريح في المطلوب مباشرة وذلك لأن السائل دخل إلى مطلبه مباشرة، عندما سأل: كم يُُعطى الرجل من الزكاة؟.

أما النص الثاني ؛ فكذلك صريح بالعطاء حتى الغنى، وفرقه عن الأول أن السائل أخذ يتدرج بالسؤال: [أعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهمًا؟ مئة؟ إلخ...] والجواب بعد موافقة مقتضى السؤال: [أغنه!] وهي الغاية من العطاء.

ونفس الأمر في النص الثالث، مع اختلاف تدرج السائل المتكرر، فاختصر بالجواب الطريق التي ربما تطول، بعدما تكرر متدرجًا خمس مرات، بأن أعطه حتى تغنيه فليس هناك قدر معين يتوقف عنده العطاء، أو رقم محدد، وإنما هو مفهوم يختلف من ظرف لآخر، فعندما يتحقق المفهوم يتوقف العطاء.

أما النص الرابع، ففيه ثورة على المفاهيم المتحجرة التي استقاها بعضهم بطريقته الخاصة.

فهل كانت هذه الفريضة، تخصّ الأموات حتى تجهزهم لدار الآخرة؟ وما حاجة مشرِّعها لإنفاقها في الآخرة -دائرة اختصاصه سبحانه وحده-؟ وما حاجة المشرَّعة لهم، في مكان يتعذر على منفقها إيصالها لهم وانتفاعهم بها؟.

فمن أين تسربت مفاهيم حرمان من يشتري اللحم والتمر من الزكاة؟ وهل شرعت لشراء الأكفان، فلا يستحقها إلا من أصبح على حافة قبره؟ إنه فهم يستدعي الألم، والأسى، والتفكّر الطويل، وهو مداعاة لوضع اليد على الجبهة والحزن العميق، [فوضع أبو عبد الله (عليه السلام) يده على جبهته ساعة].

ثم يستدعي رفع الرأس: لإفهامها كلمة صريحة وواضحة لجميع الناس، إنها فريضة المواساة، إنعاش الفقير، رفع مستواه، كفايته، لا بل غناه، [فجعل في أموال الأغنياء ما يكتفون به]، [بلى فليعطه، ما يأكل ويشرب، ويكتسي ويتزوج، ويتصدق ويحج].

فالعطاء منها لا يتوقف عند أكل اللحم والتمر، بل يتجاوزه لكل ما لذ وطاب، من أكل وشراب، ويزيد عنه بالاكتساء والتزويج، وهذا ما يضمن كل متطلبات الفرد للحياة والاستقرار، لأنها شرّعت لإزالة الفوارق الطبقية، وإيجاد التوازن الاجتماعي، فلا تتوقّف عند هذا الحد، بل هي ثورة عارمة على الامتيازات والطبقية، وقوة ضاغطة في اتجاهين متعاكسين للتقارب بين كل الفئات في المجتمع، فتفرض في أموال الأغنياء ما يرفع الفقراء إلى مرتبة الغنى.

فيُعطى الفقير منها [فوق الكفاية] ما يتصدّق به ويحجّ مما يجعله في صف الأغنياء المتصدقين.

وشتان ما بين مفهوم الحرمان، بسبب دانقين لشراء اللحم، وبين الأخذ منها، للحج والتصدق.

وسيزيد الفرق وضوحًا بخصوص هذه الناحية فيما تبقّى من النصوص. وخصوصًا النص السادس الصادر بنفس خصوصيات الزمان والمكان والذي يقول: [يُعطى المؤمن ثلاثة آلاف ثم قال: أو عشرة آلاف].

فبين الحرمان بسبب درهم واحد يُشترى بثلثيه لحمًا وتمرًا، وبين إعطائه عشرة آلاف ضعف يبطل القياس، وتتعطل المفاهيم، ويُحتاج معه إلى وقفة تأمل وتدبر جديدتين لاستيعاب ما تعنيه هذه الفريضة على الصعيد العملي، وما ترمز إليه على الصعيد الروحي.

والنصّ الخامس يوضح الناحيتين العملية والروحية. ويعالج قضية واقعية:

رجل صديق:

- عنده دار تسوى أربعة آلاف درهم.

- وله جارية تسوى من المائتين إلى الألف درهم.

- له غلام عامل يسوى من المائتين فصاعدًا.

- له جمل يعمل عليه الغلام ويدر عليه يوميًا أربعة دراهم صافية - بعد مصاريف العمل - ويسوى الجمل من المائة درهم فصاعدًا.

- وله عيال.

- فهل يأخذ من الزكاة؟

فكان الجواب: نعم!

فكان تعجب السائل شديدًا! كيف يأخذ من الزكاة وله كل هذه العروض؟.

لنفهم أولاً ما هو مقدار مالية الرجل في هذه المسألة، لنعرف سبب تعجب السائل وروحية الزكاة من التحليل:

ففي السؤال يملك صديقه العروض المتقدمة، وهي تعادل تقريبًا بين الخمسة والستة آلاف درهم.

وبمعدل عملتنا المتعارفة هذه الأيام تكون ملكية الشخص ستمائة نعجة، لأن ثمن النعجة عشرة دراهم حسب النص الآتي:

عن أبي جعفر (عليه السلام) -في حديث زكاة الإبل- قال: وكل من وجبت عليه جذعة ولم تكن عنده، وكانت عنده حقّة دفعها، ودفع معها شاتين أو عشرين درهمًا (...)  ومن وجبت عليه ابنة لبون ولم تكن عنده وكانت عنده حقّة دفعها، وأعطاه المصدّق شاتين بعشرين درهمًا ([19]).

فنجد أن الشاتين بعشرين درهمًا أخذًا أو عطاءً.

وستمائة شاة تعادل في زماننا مستوى جيدًا في أي نوع من العملات قدّرناها، فلذلك استدعى الاستهجان من السائل لأنها عروض كثيرة فكيف يأخذ بعدها من الزكاة؟

أضف إلى ذلك بأن رؤية الناس بأن مشتري اللحم بدانقين -أي ثلث درهم- لا يستحق الزكاة، فكيف من يملك مئات بل آلاف الأضعاف من أمثاله؟

2- الفهم الشرعي لمهمة الزكاة

يختلف الفهم الشرعي لمهمة الزكاة عن فهم المتشرّعة: فهي في اعتبار الشارع تقوم بأداء دور المساواة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وجعل البشر طبقة واحدة في مستوى المعيشة، لا يفضل أحدهم على الآخر إلا بالمميزات الشخصية، الموهوبة له تكوينيًا لا تشريعيًا، بما يعقبها من فضل بالرزق.

أما روح الزكاة، فهي الفريضة التي يُجبر على تأديتها المستخلف، عند تخلفه عن تأدية مهمة الاستخلاف، وتحقيق غايتها [وهي عدم الاستئثار على الأخ بما هو أحوج إليه]، فتقوم الفريضة بتأدية هذا الدور في الحدود الممكنة، لأن المال مال الله جعل خواتيمه في الأرض لصالح عباده، فلا فضل لمجتنيه إلا فضل الوسيط في إيصال ما اؤتمن عليه.

[فالزكاة هي مال الفقير يتصرف بها كيف يشاء في طريق الغنى والتوسعة على نفسه بدون معارض أو منتقد].

عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا أخذ الرجل الزكاة فهي كماله يصنع بها ما يشاء (...) فقلت: يتزوج بها ويحج منها؟ فقال: نعم. هي ماله. قلت: فهل يؤجر الفقير إذا حج من الزكاة، كما يؤجر الغني صاحب المال؟ قال: نعم([20]).

فالمهمة الواقعية، والروح الحقيقية للزكاة، هي إزالة الطبقية والإثرة المالية، من المجتمع والنهوض بالفقير إلى أعلى المستويات المعيشية ليتصرف عن غنى، بالتزوج والحج والتصدق وكل المميزات التي يتمتع بها أثرياء المجتمع وله نفس أجرهم فيما يعطي ويهب.

ومن هذه الناحية رأينا أن جواب الإمام كان على المسائل الثلاث الأُوَل، بنعم.  وأردفها (عليه السلام) بـ"أغْنِهِ" أو "حتى تغنيه"، واستنكر على من استعظم إعطاء الزكاة (لمن يملك دارًا وجارية وغلامًا وجملاً) في النص الخامس عندما قال السائل "وله هذه العروض" استهجانًا لإعطائه؟.

فأجابه الإمام بأعظم من استهجانه وبأشد ما يكون بقوله: "يا أبا محمد! فتأمرني".

بالغًا بإجابته ذروة الأدب والكمال -في تكنيته- وغاية الاستهجان في استنكاره لمقولته: بقوله "فتأمرني" وموضحًا له بُعيد ذلك حكمة وعلة إنكاره عليه ما صدر عنه، ومفهمًا إياه كنه الزكاة وعلة التشريع.

فتفسير قولك: "وله هذه العروض" بأنه ينبغي له أن يستغني عنها أو بعضها ويعتاش بأثمانها، فعماذا يستغني؟ "فتأمرني أن آمره ببيع داره؟" وهي عزّه ومسقط رأسه ولله العزّة وللمؤمنين. وقد مرّ معنا: من أذلّ لي وليًا فقد أرصد لي بالمحاربة.

والزكاة ليست لإنقاذ الإنسان من الموت إنما هي النماء، والنماء والتنمية: الانتقال دائمًا إلى الأحسن والأفضل. فأين هذا من بيع داره؟!.

أم يستغني عن خادمه؟ فآمره ببيعه! وهذا يقوم بشؤونه، ويصون وجهه، ويحفظ عياله، ويقيه الحر والبرد. فهل من الإحسان إليه ونماء حاله تجريده منه حتى يعتاش ويتدنّى مستواه وتزيد الفوارق وتتوسع الطبقية وتتفاوت المستويات في المجتمع؟

أم آمره ببيع غلامه وجمله ، وأطلب إليه الاستغناء عنهما ، وفيهما معيشته وقُوْتُه اليومي. فإذا فقدهما جلس يتكفّف الناس،  وهبطنا بمستواه إلى الصفر، وجعلناه كَلاًّ على المجتمع الذي نريد إنعاشه وإزالة جميع الظواهر المرضية من صفوفه.

والزكاة مسخرة في هذا الاتجاه، ومفروضة لإيجاد هذا المناخ في حياة البشر، ولرفع مستوى المعيشة إلى أسمى المراتب، فيأخذ منها، وهي له حلال، ولا يبيع شيئًا من عروضه.

بل حقيقتها، أكبر مما في أفكار المتشرّعة بكثير، كما جاء في النص السادس: قال (عليه السلام): "يُعطى المؤمن ثلاثة آلاف أو عشرة آلاف".

فالإعطاء غير المحدود والمردّد بين الثلاثة آلاف وأكثر من ثلاثة أضعافها -دفعة واحدة-، وخصوصًا مع مقارنتها بأسئلة المتشرعة "أعطي الرجل من الزكاة ثمانين درهمًا" وهو يستكثرها ، والآخر يستكثر عليه بثلث درهم لحمًا. ويقفز الرقم فجأة إلى عشرة آلاف ضعف عما في أذهانهم ولا يتوقف عندها، مما يدل على الروحية التي أعدت الزكاة لإنمائها، والمستوى الذي يراد من تداولها تحقيقه.

والرقم قد يقفز فجأة إلى ثلاثة أضعافه مرة أخرى وأخرى حسبما يكون مستوى المعيشة والأشخاص. فتركه حرًا، وارتفاعه دفعة بهذه المضاعفة، دليل على مرونته لاستيعاب كل الحالات مهما كانت مستعصية.

ولو وقفنا عنده في زمن صدوره لهالنا ما يشتمل عليه، فعشرة آلاف درهم عبارة عن ألف نعجة، تُعطى دفعة واحدة لشخص واحد ولمدة سنة. فماذا تعني؟ تعني: غنى الدهر. الذي يريده الإسلام أن يسود مجتمعه.

فنماؤها هي الزكاة الحقيقية والتي تفي بحاجيات متلقيها، وهي الزكاة الواقعية، والمفهوم الحقيقي لمعناها -أي النمو- وهكذا ينمو المجتمع الإسلامي في مستوى من الرفاهية والغنى، والتكافل والتضامن.

(تعليق)

 سمعت مساء اليوم الخميس 20 آب 1981 توجيهًا من السلطات المغربية إلى الشعب المغربي بتوفير استهلاك اللحوم في عيد الأضحى المبارك القادم، حيث يضحي الشعب المغربي بما يزيد على ثلاثة ملايين رأس غنم تبلغ قيمتها ثلاثمائة مليون دولارٍ أميركي.

وذلك بسبب الجفاف الذي أصاب المغرب هذه السّنَة وأنقص الثروة الحيوانية مما سيضطر السلطات -إذا مارس الشعب عادته بالأضحية كالسابق- إلى استيراد اللحوم من الخارج لانتهاء السنة الحالية.

وهذا يعطي فكرة عن الممارسات الإسلامية لو طبقت كما أراد لها الشارع بوجهتها الصحيحة، فإن مبلغ ثلاثمائة مليون دولار، تنفق في يوم واحد على الأضحية المستحبة ولإطعام الفقير بالخصوص، لو أنفقت في سبيله لإيجاد مورد ثابت له لكان نتاجها يرفع الفقير إلى مستوى الأغنياء، ولحلّ أزمة كبيرة مما يعانيه الفقراء من حرمان وتشرّد.


 

3- إصلاح مفاهيم خاطئة عن الزكاة

من مجموع النصوص المتقدمة (وما لم نذكره) عن الزكاة قد يستفاد أن الفهم العرفي عنها، هو رفع الحاجة الملحّة عن الفقير، وبعبارة أخرى هو إنقاذه من الموت فقط.

وهذا ينافي مفهومها الحقيقي، وما تضمنته النصوص عنها، فإن لفظها معناه النماء، فأين التنمية من إنقاذ الإنسان من الموت؟

ولعل ذلك تأتّى من دعوة الشريعة للزهد في الدنيا، فطبّقت الأمور في غير مواردها، وأعطيت عكس مفاهيمها.

فالزهد في الدنيا، أن لا تملكك وتصبح أسيراً لديها، وليس الزهد أن لا تملك الدنيا.

{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}([21])  فزينة الله أخرجها لعبادة ليتزينوا بها لا ليُحرَموها.

والطيبات من الرزق، أخرجها لهم ليأكلوها، ويستمتعوا بها، لا ليخلفوها. فزينة الله والطيبات من الرزق، خالصة للذين آمنوا في الدنيا، لأنهم أحقّ بها، فإذا حرموها بمنع مانع أو تعدي متعدٍ، بعدم تأديتها، فهي خالصة لهم يوم القيامة لا يشاركهم بها غيرهم.

فليس من شأن الله، أن يحرم عباده المؤمنين خير ما أخرج لهم من زينة وطيبات، فهو سبحانه سخّرها لهم امتحانًا ليضعوها مواضعها، ويصرفوها في مصارفها، فمن تعدى حدود الله كان هلاكه عن بينة.

فالدنيا إذا أقبلت، كان أحقّ الناس بها أخيارها لا فجارها، لأنهم يقيمون وجوههم للدين حنيفًا، ويحقّقون الفطرة.

نعم ربما -أو كثيراً- ما يبتلي الله المؤمن بالفقر، ليمتحن صبره ويجزيه عليه، ولكن الفقر ليس من صفات المؤمن الملازمة له، فهو أعزّ وأكرم على الله من ذلك، ويظهر فضله وكرامته بصبره على امتحان من يحب، وإذا أحب الله عبداً ابتلاه.

وقد يحلو لدعاة التحلل، أن يصوّروا الفقر ملازمًا للإيمان، ليبعدوا ضعفاء الفكر عنه.

وبإعطائنا نظرة عن ملك سليمان بن داود (عليه السلام)، يظهر لنا ما للمؤمنين عند ربهم في الدنيا والآخرة.

فأول الأشياء التي كان يتمتع بها سليمان (عليه السلام)، الإيمان القوي والعلم الذي فاق إيمان وعلم كثير من المؤمنين: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ }([22]) .

وثانيها : هداية العلم له ليؤوب إلى ربه ويعود إليه في كل حالاته : {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ}([23]).

خصوصًا في حالات السعادة والخير، التي ينسى الناس بها ربهم، بينما هو يعود إليه، ليطلب منه المزيد، ويؤدي شكر الموجود. فيقول: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}([24]).

فيستجيب له ربه لقدرته على كل شيء.

وثالثها: جريان الريح بأمره في كل حالاتها فلا فرق عنده في إنجاز مهمته بين حسن الأحوال الجوية ورداءتها، فالريح العاصفة بأمره والرخوة رهن إشارته : {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ}([25])؛ {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ}([26]) ؛ {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ}([27]) .

ففي كل يوم يقطع بها مسافة شهرين من المسير.

ورابعها: كان يتميّز ويتمتع بما سخّر الله له: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاء وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ}([28]) .

فكل أنواع الشياطين، تعمل تحت إمرته على اختلاف اختصاصاتهم ومهاراتهم، مما يعجز عنه البشر، فمنهم البنّاؤون الذي يجيدون فن الهندسة والعمران، ومنهم الغواصون الذين يستخرجون اللآلىء والحلي والكنوز، -وأفضل ما يتزيّن به الإنسان في بنائه وصدره-، ومنهم مقرنون بالأصفاد يعملون الأعمال الشاقة ويؤدون المهمات الصعبة.

وخامسها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ}([29]) فمنطق الطير كان يعرفه، وكانت الطيور بإمرته، تكتشف له ما يطلبه منها، لأن لها خبرات لم تكن لغيرها، فكانت تضعها تحت تصرفه، فكان يصرفها متى يريد ويجمعها متى شاء.

{وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ}([30]) .

{هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}([31]) .

فمنَّ واختار أفضل الخيارين، ففاز بأبقى الدارين.

{وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ}([32]) .

لقد وصل سليمان عليه أفضل الصلاة والسلام، إلى منيته، وبلغ غايته فيما دعا به ربه، من الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده ولم نعلم منذ يومه بل منذ خلق البشرية وحتى يومنا هذا، أحداً تمكن من بلوغ ملكه. ومعه بلغ أعلى المراتب في القرب من الله، والتنعم بالآخرة، وتميّز بالإيمان في الدنيا.

فظهر أن الإيمان يجتمع مع الغنى. فملك نصاب من كل صنف من أصناف الزكاة لا يخرج المالك عن الفقر بالمفهوم الإسلامي، طالما أنه لم يتوصل إلى حد الكفاية، لأنها الحد الفاصل بين الفقر والغنى، أي بين الاستحقاق للزكاة وعدمه. وإن كان المفهوم العرفي أو مفهوم المتشرعة يختلف عن ذلك. 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

([1]) التوبة 60.

([2]) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج4 ص41 رقم163.

([3]) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج4 ص78 رقم328 .

([4]) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج4 ص76 رقم319 .

([5]) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج4 ص93 رقم388 .

([6]) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج3 ص100-101 رقم 53 ، من عهد له (عليه السلام) إلى مالك الأشتر .

([7]) نهج البلاغة ، شرح محمد عبده ، ج3 ص45 رقم30 ، من وصيته للحسن (عليه السلام) .

([8]) وسائل الشيعة (آل البيت) ج9 ص315 ب58 ح1 و3.

([9]) وسائل الشيعة (آل البيت) ج9 ص313 ب57 ح1 وح2.

([10]) وسائل الشيعة (آل البيت) ج9 ص231 ب8 ح1.

([11]) مسند أحمد بن حنبل ج2 ص55 .

([12]) وسائل الشيعة (آل البيت) ج6 ص179 ب24 ح5.

([13]) وسائل الشيعة (آل البيت) ج9 ص259 ب24 ح3.

([14]) وسائل الشيعة (الإسلامية) ج6 ص180 ب24 ح7.

([15]) وسائل الشيعة (آل البيت) ج9 ص289-290 ب41 ح2.

([16]) وسائل الشيعة (آل البيت) ج9 ص236 ب9 ح3.

([17]) وسائل الشيعة (آل البيت) ج9 ص249 ب17 ح2.

([18]) وسائل الشيعة (آل البيت) ج9 ص50 ب7 ح9.

([19]) وسائل الشيعة (آل البيت) ج9 ص128 ب13 من أبواب زكاة الأنعام ح1.

([20]) وسائل الشيعة (آل البيت) ج9 ص289 ب41 ح1 .

[21]) ) الأعراف 32 .

([22]) النمل 15.

([23]) ص 30 .

([24]) ص 35 .

([25]) ص 36  .

([26]) الأنبياء 81 .

([27]) سبأ 12 .

([28]) ص 37- 38 .

([29]) النمل 16 .

([30]) النمل 17 .

([31]) ص 39 .

([32]) ص 40 .

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد العشرون