السنة السابعة / العدد العشرون/ كانون أول : 2011 - محرم : 1433هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

الهجرة الحادة والمهاجرون بين الماضي والحاضر

أسباب ونتائج

د. حسن جعفر نور الدين

 

مضى على الناس زمن وهم يهاجرون، يتركون أوطانهم وتاريخهم وعوائلهم ويرحلون، لا حبًا بالهجرة، إذ ليست -في الإطار الذي نقصده من الهجرة- فرصة للاستجمام والسياحة في جانب منها، وليست للراحة والتنزه والبحبوحة، إنما هي هجرة للجسد أكثر منها هجرة للروح، وهجرة للمستقبل لا من الماضي أو تنكرًا له وهروبًا منه. في الهجرة القسرية التي أعنيها في حديثي، تبقى الذكريات سِفرًا يتصفَّحه المهاجر باستمرار، فيقرأ فيه ذكرياته مع الأهل والأصدقاء، مع الحجر والمدر، يتلمّس فيه عبق أصابعه وهي تلامس التراب فيحيي فيه الحياة.

لو جمعت الدموع التي أهرقها المهاجرون منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى اليوم على سلالم البواخر ونوافذ القطارات وكوى الطائرات لبلغت بحورًا، دموع الصدق التي تهاجر من الأحداق، لتنزرع في الأرض التي يغادرون صكوك محبة وعهد بالعودة الظافرة.

إنهم يغادرون وفي قلوبهم أمل العودة إلى دم الوطن، يهاجرون ليبنوه ويصنعوه من هناك، من الأقاصي النائية وراء البحار، بعد أن تعذّر عليهم البقاء فيه وخدمته وبنائه بحريّة ومحبة دون إرهاب وتنكيل.

ذهبوا يفتشون عن الحرية التي افتقدوها، والخبز الذي حرموه، والكرامة التي ديست بأعقاب بنادق المحتلين، وسياط زبانيتهم وأعوانهم الذين باعوا ضمائرهم خدمة للمستعمرين.

ذهبوا لينتشلوا عوائلهم من العَوَز الذي نهش ضلوعهم، والفقر الذي أدمى مشاعرهم وأعدم أطفالهم، فَأَنِفوا من التسوّل، وعزّ عليهم أن يتركوا أرضهم دون حراثة، أن يتركوا الغيوم في سمائهم دون أن يستدرّوا منها المطر الحنون، والشمس فوق دورهم دون أن ينعموا بإشعاعاتها الذهبية، ذهبوا تاركين نسيم السفوح العليل وثلج الجبال البلوري ليسيل دون أن تتلقفه أيديهم الحانية، وثغورهم الداعية، وقلوبهم الآملة بعودة ميمونة، وهم يحملون إلى الأرض التي ربتهم والتي شهدوا أول نور على ترابها النفيس، يحملون ميلاد وطن جديد، عَرِقوا لأجله، وجهدوا في سبيل سعادته، وحفوا وعروا ليلبسوا فيه ثياب العافية، ومات بعضهم هناك ليحيا هو بما أسلفوه وما أرسلوه وبذلوه.

لبسوا المسوح البالية ليلبسوا في وطنهم ثياب العزّ والمجد، وشربوا الماء العكر، لينهلوا في وطنهم ماء القوة والعنفوان، وشراب الحياة.

لقد عمرت بهم بلاد المهاجر، وذاع صيتهم في كل مكان.

حملوا (الكشّة) -وهي صندوق مليء بالأزرار والأمشاط والدبابيس والأقمشة- رمز النضال والكفاح حتى عرفوا بها، ونعتوا بكلمات مسيئة كـ"الجياع" و"اللاجئين" و"توركو" (نسبة إلى الأتراك الذين كانوا يحكمون بلادنا) وسمّوا أيضًا بـ"كلّو بعشرين" وهو نداء باعة (الكشة) المتجولّين، أو لقب "أكلة الحشيش" إشارة إلى اعتيادهم أكل الخضار في بيئة طعامها اللحوم، ولم تتبدّل هذه الألقاب وتُمْحَ إلا عندما ظهرت مواهب العرب عامة واللبنانيين خاصة في الشعر والمعرفة والفن.

لقد أفلح كثيرون، فانتقلوا من حَمَلة (الكشة) إلى رؤساء جمهوريات، أو وزراء أو نواب أو أعضاء في مجالس الشيوخ، هناك في أميركا الشمالية والجنوبية، وفي أوروبا وإفريقيا، فاللبناني جريء مغامر لا يهاب الصعاب ويتحمّل في سبيل أحلامه الأهوال والمشقات.

لقد انتشر اللبنانيون في فجاج الأرض حاملين معهم فقرهم وجوعهم وتشرّدهم وشوقهم، وأغلالاً من الظلم والقهر التي زرعها المستعمرون الأتراك والفرنسيون والإنكليز، حاملين معهم أيضًا عبقريتهم وأدبهم المرهف، على حد قول الشاعر المهجري جورج صيدح :

نحن الحفاة السائرون على الحصى
للمجد نحملهم على أكتافنا
حتى إذا عثر الأديب تفرقوا
طرقوا المَهاجر فاتحين وليتهم
 

 

نحدو السراة الراكبين خيولا
ولربما حمل الخفيف ثقيلا
عنه فلا يجد الأديب مقيلا
فتحوا قلوبًا مثلنا وعقولا
 

نعم، حملوا (الكشة)، ومنها صنعوا وطنهم المؤقت الجديد، ولم يخجلوا بصغائر الأعمال ليقينهم أنهم أصحاب نفوس كبار، تصنع من الضعف قوة ومن القليل الكثير ومن الصمود والصبر النصر والنجاح.

كان بينهم وبين الوطن سلك دقيق لكن متين لا ينفصم، هو سلك المحبة والحنان والإخلاص، وتعصف بهم اللهفة إلى العودة التي خذلت البعض لأنهم ماتوا حيث كانوا، أو يئسوا من تحسّن الحال، فعزّ عليهم أن يعودوا إلى الوطن منكسرين خاليي الوفاض، وهم وعدوه أن يجعلوا فيه التراب ذهبًا، والماء عسلاً، والصحارى جنائن مزهرة، أو لأن بعضهم كما قلنا وصل إلى سدة المسؤولية في دولة ليست في الأساس وطنًا طبيعيًا لهم، إلا أنهم من خلال ما هم فيه خدموا وطنهم ودعموه في المحافل الدولية والمراكز الأممية.

ذهبوا إلى المهاجر، فساهموا في إحياء مواتها وازدهار عمرانها ونشاط حركتها، تشهد لهم تلك الدول بذيوع الصيت والشهرة والعبقرية والعطاء.

ومات الكثير منهم، ليحيوا هناك بأولادهم بعدهم، وارثي الهم والمعاناة والحاجة، أو وارثي الثروة والشهرة، يتابعون مسيرة الحياة التي فرضت عليهم واختاروها مُكرَهين.

إن وطننا لبنان مدين لهم اليوم وقبل اليوم وغدًا وبعد غد، بما قدّموه وفعلوه لنا في أوقات الشدة والمخاض، ربما كانوا يعطشون لنشرب، ويعرون لنلبس، ويتعبون لنرتاح، ويتحمّلون شظف العيش وغبار المصانع ودخان المعامل، وينامون على الخشن، لنحيا في بحبوحة من العيش ورخاء وسعادة.

غادروا بعد أن سُدّت في وجوههم أبواب الرزق الحلال، وبعد أن عانوا ويلات الجوع والعوز، بعد أن عزّ عليهم أن يجدوا أطفالهم أسيري المرض والفاقة، يموتون جوعًا، والاستعمار الغاشم ينقضّ عليهم فلا يترك لهم بابًا من أبواب الرزق إلا سدّه، إذ إنهم ذاقوا ويلات الحكم العثماني الغاشم، والاستعمار الفرنسي البغيض والإنكليزي الجشع، وعانوا من العملاء المحليين الذين باعوا ضمائرهم إلى الشيطان، فعُلّقت أعواد المشانق، وصودرت غلال البيادر، ومحاصيل الحقول، وسلبت الحقوق والمكتسبات، وأقفلت المطابع وصودرت الصحف، وأحرقت المكاتب ودور العبادة، وشُنق من شنق، وسجن من سجن، وهاجر معظم من بقي من الرجال والشباب هائمين على وجوههم، ممتطين البواخر والزوارق والقطارات، هاربين من جحيم لم ترحمهم نارها، ولم يخمد أوارها، منذ أكثر من مائة وعشرين عامًا وقوافل المهاجرين لم تتوقف يومًا من الأيام.

إن لبنان ذا الخمسة ملايين نسمة، يُقدر سكانه في المهاجر بعشرين مليون إنسان منتشرين وراء البحار وفي شتى دول العالم، إنه لبنان المغترب المسافر المهاجر في عيون الغمام وأذرعة السحب.

كانت الهجرة وما زالت ذات حدين، يكمل أحدهما الآخر، أناس هاجروا من أجسادهم وملذاتهم وباعوا أنفسهم لله وللوطن، مؤثرين الدفاع عنه والنضال في سبيله، ليستعيد حريته وأرضه المغتصبة، هاجروا من المنازل إلى الكهوف والمغاور والجبال والهضاب، هاجرت عيونهم من أحداقها لترصد الدخيل والمحتل، وتبقى له بالمرصاد، وتلك لعمري من أعظم الهجرات.

ومهاجرون إلى خارج الوطن، مغامرون يبنون بسواعدهم ما عجزوا عن القيام به في الوطن الأم للأسباب التي ذكرناها، والذين لازموا الوطن، رجال صنعوا الوطن على قدر ظروفهم وإمكاناتهم، متحمّلين أذى المحتل الغاصب، وسمّ الغلاء ومرارة الفقر والحرمان، محافظين على التواصل مع مهاجرينا في الخارج، ليكتمل العقد، عقد حلف النضال بينهما.

إنّ حديثي عن الهجرات الحادة، ليس له علاقة بالهجرات الأخرى الداخلية والخارجية، والتي تختلف ظروفها كليًا عن تلك التي أتحدث عنها، وسنفرد لها حديثًا مستقلاً إن شاء الله.

بين الماضي والحاضر

بين أواخر القرن التاسع عشر وأوائل العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، مساحة زمنية لافتة، أكثر من مائة وثلاثين عامًا تفصل بين طرفي المرحلتين، وفيهما حصلت تطورات واختراعات واكتشافات وتحوّلات مختلفة، انعكست على الهجرة الحادة وطورّت من أطرها ووسائلها وغيّرت من أساليبها، فما كان سنة 1880م مثلاً لم يعد موجودًا على الأغلب في القرن الحادي والعشرين، إذ تطورت الحضارة الإنسانية بشكل سريع، وانفتحت الحياة على آفاق جديدة طبعت المجتمعات بسمات جديدة، فأصبحت وسائل العيش أكثر يسرًا مما عزّز من وتيرة السفر، فاقتربت المسافات البعيدة، وتحققت إنجازات هائلة على صعيد التكنولوجيا ووسائل الاتصال المختلفة، إذ بعد أن كانت الرسائل تنتظر أشهرًا لتصل إلى المحبّين من المغترب وإليه، أصبحت الآن تصل في أيام أو ساعات أو حتى دقائق، فلم يعد المهاجر يشعر بلوعة البعد ومرارة الفراق اللتين كانتا تصيبانه، بل أصبح بفعل التكنولوجيا الحديثة وأنظمة الانترنت والكمبيوتر والفاكس والبرقيات السريعة أكثر اطمئنانًا وأقلّ مرارة ووحشة، فالأهل يستطيعون مشاهدة أبنائهم في أية لحظة وهم قابعون في أماكنهم، فيرونهم ويحادثونهم ويطمئنون إلى أحوالهم، مما ينعكس إيجابًا على نفسية المغتربين وأقربائهم في الوطن ويهدّئ من لوعة الفراق والشوق، وهذا الهدوء النفسي ينعكس هدوءًا وراحة ونموًّا على عمل المغتربين ونتاجهم المادي والمعنوي والأدبي والفكري، على عكس ما كان يعانيه مهاجرونا الأوائل في بلاد الاغتراب.

ورغم مشقات السفر ومتاعبه وألم الهجرة التي ازدادت في الوقت الراهن نتيجة الغلاء الفاحش، وندرة وسائل العمل، وأولاً وقبل كل شيء نتيجة الاعتداءات الصهيونية المتكررة منذ أربعين عامًا وحتى اليوم، حتى أصبحت مدينة كبنت جبيل تحديدًا تعدّ الآن ستة آلاف نسمة بعد أن كانت تحصي ستةً وثلاثين ألف مواطن، رغم كل ما ذكرنا فإن متاعب السفر في عصرنا الحالي لا توازي ما كان يعانيه أجدادنا وآباؤنا في الماضي، وسأورد بعض الأمثلة الحية دليلاً على ما أشرت إليه.

في مرحلة الحكم العثماني كانت الهجرة اشدّ مرارة من البقاء في الوطن، علمًا أنها كانت محظورة رسميًا ومباحة بواسطة المهربين.

كانت تضج في أعماق الفقراء والمسحوقين نزعتان : الوطن أو الهجرة، وفي كلتيهما كأنهم يتجرّعون السم الزعاف.

كان المهاجرون يُعاملون كصعاليك منبوذين مخلوعين، وكانت البواخر الصغيرة حالما ترابط في ميناء بيروت، يوفد سماسرة من ذوي الحناجر القوية إلى أسواق المدن والقرى لإذاعة نبأ وصولها وموعد سفرها، فيهرع القرويون إلى استدانة المال للسفر من المرابين، بِرهنِ كل ما يملكون من عقار وأثاث، وتبدأ عملية التهريب، السمسار يسلّم المهاجر إلى العسكري المتولّي مراقبة الشواطئ، والعسكري يصعد به من وراء الجمرك إلى ماعونة محمّلة بالبضائع، وقائد الماعونة يدخله في الباخرة بصفة حمال، وفي الباخرة يتسلّمه القهوجي ويضعه في أحد المستودعات، وبهذا الوضع يصل المسافر إلى مرسيليا في فرنسا ومنها يتسلمه سمسار جديد وينزله في خان قذر، ولا يحمله إلى باخرة تنقله إلى أميركا، إلا حينما يفرغ جيبه من الفلس الأخير، هناك في الباخرة يلتقي بأمثاله المهاجرين، ويعيش معهم عيشة القطيع الذي تطارده الذئاب، إن صعدوا إلى ظهر الباخرة تعرّضوا للحر والبرد والأمطار والرياح، وإن احتشدوا في الطوابق السفلى كادوا يختنقون، وكم من مرة سلّط عليهم البحارة أنابيب الماء الساخن لمنعهم من الاحتجاج على سوء المعاملة، وكم من مرة حملتهم الباخرة إلى حيث لا يقصدون، وأنزلتهم البلد الذي يوافق مصلحتها. السعيد منهم من يجد على المرفأ إنسانًا في انتظاره، أو يعرف عنوانًا لنسيب أو صديق، أو من يحمل كتاب توصية يؤمّن الطعام والمأوى في الليلة الأولى.

هكذا تبدأ حياة الأديب أو أيّ مهاجر إلى الغربة، تبدأ بالتفتيش عن لقمة العيش في غربة قاسية لا يعرف فيها المهاجر أحدًا.

مغامرات قاسية خاضها المهاجرون الأوائل، يذكر الشاعر إلياس فرحات شيئًا منها من معاناته هو، حيث تنقَّل في أعمال لم تُجدِه نفعًا، فمن تربية الماشية، إلى التنضيد في مطبعة، إلى تربية الحملان في مزرعة حيوانات، إلى التجوّل لبيع (مساطر) المحلات التجارية، وهو يختم قصيدة له تحكي عن هذه المعاناة ببيت يحمل فيه كل المعاني :

أغرّب خلف الرزق وهو مشرّق
 

 

وأقسم لو شرّقت راح يغرّب
 

وتذكّرني معاناة فرحات بما قرأته عن معاناة زميله وصديقه في الشعر والهجرة، الشاعر القروي رشيد سليم الخوري، الذي لم يرتقِ في دنياه من شاعر متجوّل إلى صاحب متجر مقيم، يقول في قصيدة تنضح أسىً ويأسًا وخيبة قاتلة :

حنانيك ربي حنانيك ربي
بعيد المزار غريب
الديار
أيا ربي فاتحتي هكذا
 

 

لقد قصمت ظهري القاصمة
وحيد وها أنا في عاصمة
فهل لك أن تحسن الخاتمة
 

ويذكر سليمان البستاني مترجم الإلياذة شيئًا من هذا في كتابه "عبرة وذكرى" إذ يقول : [كان المهاجر يتعرّض للاستغلال على أيدي السماسرة في مرفأ بيروت، وأنه لو حوكم ولاة بيروت على ما كانوا يؤلمون به أولئك المهاجرين البؤساء وما يبتزونه من أموال يوم سفرهم أو يوم عودتهم، لحكم عليهم بالسجن المؤبد].

وقد روت جريدة البشير أن المهاجرين عند نزولهم من الباخرة في مرسيليا كانوا يقادون كالأغنام لمحل وجد للسلب والنهب ومن امتنع عن الانقياد عولج بالضرب والتهديد، وأشارت إلى أن من رأى العائد إلى بيروت على الباخرة "برنسلين" انفطر قلبه حسرة وانتفض لاعنًا مسببي الهجرة، كما كانت الحكومة الفرنسية تقوم بطرد المهاجرين الفقراء المتوجهين إلى أميركا عبر أراضيها.

هذا قليل من كثير مما كان يحصل للمهاجرين المتعبين من قهر وإهانة وظلم.

هذه نبذ عن حياة المهاجرين في بلاد الاغتراب، وسيكون لنا بإذن الله أبحاث أخرى تكشف عن حقائق وأسرار الحياة المهجرية والأدب المهجري في الماضي والحاضر.

ــــــــــــــــــــــــ

مصادر البحث ومراجعه

·        محمد عبد المنعم خفاجي : قصة الأدب المهجري، دار الكتاب اللبناني، بيروت.

·        جورج صيدح : أدبنا وأدباؤنا في المهاجر الأميركية، مكتبة السائح، طرابلس.

·        هيثم جمعة : الهجرة اللبنانية - واقع وآفاق، دون دار نشر.

·        حسن جعفر نور الدين : الصعلكة والشعراء الصعاليك، ج1، دار رشاد برس، بيروت.  

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد العشرون