ما معنى الحرية؟
تُعتبر الحرية إحدى أهم مقوّمات الشخصيّة الإنسانيّة،
وركنًا أساسًا في مسيرة الإنسان عبر الحياة، وحقًا مكتسبًا
من الحقوق العامة التي نادت بها الشرائع السماوية ودعت
إليها وأكّدتها في نصوص الآيات والسور القرآنية والأحاديث
النبوية وتعاليم وحِكَم الأئمة (عليهم السلام)، حتى أن هذا
المفهوم تناولته شرائع المدينة الأفلاطونية الفاضلة، علاوة
على أن هذا الأمر جزء من صورة الإنسان في الوجود منذ أن
خلقه الله، قال الإمام علي (عليه السلام): [لا تكن عبد
غيرك وقد جعلك الله حرًا]().
وموضوعنا الذي ندرسه إنما نتناوله من هذا الباب، فحِكمة
الإمام علي (عليه السلام) تحتوي على مضامين كثيرة في
الحرية كحرية التملك، وإبداء الرأي، والاختيار، والتنقّل،
والكتابة وسواها، شرط أن لا تمسَّ حرية الآخرين كما تقول
الحكمة أو المثل التالي: "تنتهي حريتك عندما تبدأ حرية
الآخرين".
والحقيقة أن الغوص في موضوع الحرية يتطلب صفحاتٍ كثيرة،
ولذلك لن أتوسع في الحديث، ولكن ما أريد أن أقوله: أن
الحرية التي نصّت عليها الشرائع الدينية والأحكام الوضعية،
بقيت وللأسف في تفاصيلها مجرد كلام عابر، لم تُعِرْها معظم
السلطات في عالمنا المعاصر احترامًا، ولم تُطبّق تطبيقًا
كاملاً، وظلّت هذه القيمة الخالدة حبرًا على ورق، يُتغنّى
بها في المنتديات والمحافل واللقاءات، ومجرد نصوص مذكورة
في مجموعة القوانين الني نظّمت دساتير الجمهوريات والأنظمة
الملكية العربية والإسلامية، والتي وضعت في يدها وسائل
الحكم وكمّت الأفواه وصادرت الحقوق، ما شكّل انقلابًا على
كثير من الشرائع السماوية المنظِّمة لحياة الفرد والجماعة.
كانت هذه الإطلالة المختصرة على معنى الحرية وعلاقتها
بالفرد والمجتمع، مدخلاً لتقصّي معاني الحرية والعبودية في
كتاب الأديب المترجم الدكتور حسن الغرفي عن الشعر الإفريقي
المعاصر.
الحرية والعبوديّة في نتاج الشعراء الأفارقة
يكاد لا يخلو ديوان شاعر إفريقي من معاني الحرية
والعبودية، والاستقلال والاستبداد، والعدل والظلم، إلى ما
هنالك من مفردات العبودية والانعتاق، كأمثلةٍ متناقضة يعيش
العالم منذ وجد تقريبًا في صراع دائم بينها.
في شعر الأفارقة تحسّ بهذه المفردات بعمق، تكاد تسمع صليل
السلاسل، وترى ظلام السجون، وتبصر ألوان القهر والتعذيب
ماثلة أمامك.
في هذا الشعر تقرأ صدى اللوعة ومرارة الحرمان وشدة النقمة
والغضب، كمفرداتٍ لصور حقيقية عانى منها الإنسان الأفريقي،
ولذلك انتقم من الحاكم والغريب والمستعمر، وأضحى يرى أن كل
من هو ليس من سربه هو عدوه وخصمه الحقيقي.
قدّم الأفارقة في سبيل الحرية الكثير الكثير، عوملوا
كالحيوانات يجرّون عربات المستعمرين، أُثقلت أرجل عشرات
الألوف منهم بجنازير وأُلقوا في أعماق البحار ليصبحوا
طعامًا للحيتان والتماسيح، كما حصل في السودان وجنوب
إفريقيا، قدّموا الشهداء بالملايين كما حصل في الجزائر
والكونغو وغيرهما.
وهذا غيضٌ من فيض من بركات الاستعمار الغربي على هذه
الشعوب المقهورة، حتى أصبحت الحرية عَلَمًا يرفع في كل بلد
إفريقي، يدعو إلى التوق والانعتاق من قيود الغرب الذي ما
زال يلاحقنا حتى اليوم محاولاً إنتاج أنظمة تقف معه
وتسانده، وأظنه نجح في مصادرة الكثير من هذه الأنظمة التي
تكاد تضحّي بشعوبها مراعاة لمصالحه وأطماعه.
إيمي سيزير 1913م - 2008م
جزر المارتينيك
يقول سيزير شاعر المارتينيك العظيم مخاطبًا شعبه الذي رزح
طويلاً تحت تأثير نير الاستعمار الفرنسي:
يا شعبي
متى تُبرز من خارج الأيام الغريبة
رأسًا هي رأسك المثبتة على كتفيك
متى تُبرز كلمتك
متى تعجّل بطرد الخونة والأسياد
وتسترد الخبز وتطهّر الأرض
وتمنحها لذويها
متى
متى تكفُّ أن تكون ألعوبة معتمة
في ملاهي الآخرين
فغدًا
متى يأتي هذا الغد يا شعبي
يندحر المرتزقة
وتنتهي الحفلة()
ذلك هو الصراع بين الحرية وبين العبودية، ماثل في ثنايا
النص، والشاعر صريح في مجابهة المستبدّين، من خلال
استعماله رموزًا تدل على الحرّية وأخرى ترمز إلى
الاستعمار.
ولنستمع إلى هؤلاء الزنوج المقهورين في جزر المارتينيك،
ماذا يقولون لهذا الشاعر المقاوم وهو يتحدث بلسانهم وما
الذي يشعرون به، تلك هي العلاقة الحميمية بين الشاعر
وأبناء شعبه في أزمنة الشدّة والظلام:
تكلّم يا سيزير
بأكثر ما في دمك الفحمي من قوة
من عمق تكلّم يا سيزير
من أكثر ما في إيمانك القوي
بالإنسان من شرف
سيزير من أجل الضعيف ستتكلّم
من أجل الأخرس .. ستتكلّم
من أجل الجائع .. ستتكلّم
من أجل كل الآلام الصامتة
تكلم عن قوة عضلاتك المغلولة
عن الأمل في خلاصنا()
تدلّ مقاطع القصيدة على هستيريا الاستعمار، وقسوة الظلم
والبربرية التي كان يعاني منها الشعب الإفريقي، ومفردات
الحرية كثيرة هنا ولا يكاد يخلو مقطع من هذا المفهوم، كذلك
الكلمات التي ترمز إلى الاستبداد والعبوديّة (الضعيف،
الأخرس، الآلام الصامتة، الجائع).
وهذا التماثل والتماهي الرائع بين الجمهور وبين الشاعر،
حيث يفقه الشاعر هنا دوره ووظيفته، من خلال تكريس الشعر
وتوظيفه لخدمة النضال، علاوة على هذا الكم الكبير من
العبارات الداعية إلى الثورة والانتفاضة.
كل هذا من أجل الحرّية، الشعب يستصرخ الشعراء ليتكلموا..
فمتى نتكلم نحن في عالمنا العربي المتسكع على أبواب
الاستعمار؟!
وفي قصيدة عنوانها (خسران)، يكثف الشاعر من الرموز الدالة
على الظلم والاستبداد اللذين يعانيهما شعبه من الاستعمار
الفرنسي، فالحقل المعجمي للقصيدة دالٌ على شيوع هذه
الألفاظ سواء في وصف المستعمر أو في الحديث عن ظلاماته:
سنضرب الهواء الجديد برؤوسنا
سنضرب الأرض
بأصواتنا عارية القدم
أفلا نستطيع عبور الدهليز
دهليز الخسران
إنّ طريقًا شديدًا بِأوْردة فاترة صفراء
حيث تثب جواميس الغضب المتمردة()
إن عبور الدهليز، هو عبور من الظلمة إلى النور، ومن
العبودية إلى الحرية.
محمد الفيتوري: ولادة سنة 1930م
شاعر السودان
يقول محمد الفيتوري عندما حصل السودان على حريته:
أصبح الصبح فلا السجن ولا السجّان باق
وإذا الفجر جناحاه يرفان عليك
وإذا الحزن الذي كحّل هاتيك المآقي
والذي شدّ على الدرب وثاقًا في وثاق
والذي ذوّب ألحان الأسى في شفتيك
والذي غطّى على تاريخنا في كل وادي
فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي()
انظر إلى هذه المقابلة بين الحرية وبين الاستبداد، حقل من
الألفاظ المشرقة تبشّر بالفرح والاستقلال، وأدوات المستعمر
المحتل معروفة في القصيدة: السجن والسجان، الوثاق وألحان
الأسى.
وقبل أن يبشّر الفيتوري بأفراح النصر والاستقلال، كان قد
أشار إلى الجراح التي ملأت إفريقيا، كاغتصاب عرضها وحرمتها
وتاريخها:
وتطلعتُ إلى عينيك والشعر سلاحي
عاري الجبهة كالفجر مغطى بجراحي
أتلقى عنك أعداءك أعداء كفاحي
الذين اغتصبوا عرضك مرة
حملوا عارك زهرة
عبثت أقدامهم في حرماتك
رقصوا فوق رفاتك()
وأي منكَر لم يفعله الاستعماريون بعد بالسودان؟!، وآخر
الغيث تقسيمه إلى دولتين إمعانًا في تمزيق العالم العربي
والإسلامي.
هنا يشير الفيتوري إلى دور الشعر في مواجهة المستبدين،
وأهميته في رفع الروح المعنوية بين الناس، علاوة على
الواجب الوطني الذي يحتّم على الشعب جميعه أن يتحرك ومنه
الشعراء.
كما كان يحثُّ أحد الشعراء الفرنسيين إخوانه من الشعراء
على مواجهة الجيوش النازيّة بقصائدهم النارية، فيقول ما
معناه:
[أيها الشعراء، اجعلوا قصائدكم سيوفًا تغمدونها في صدور
المحتلين والظالمين، وإن لم تفعلوا فاغمدوها في صدوركم،
فما خُلقت الحياة لوغدٍ جبان].
وعلى أبواب النصر وهدية الاستقلال، أنشد الفيتوري قصيدته
الثائرة (الفجر يدكُّ جدار الظلمة):
الفجر يدكُّ جدار الظلمة
فاسمع ألحان النصر
ها هي ذي الظلمة تتداعى
تتساقط تهوي في ذعر
ها هو ذا شعبي ينهض من إغماءاته
عاري الصدر
()
ليوبولد سيدار سنغور
السنغال
أول رئيس لجمهورية السنغال بعد الاستقلال، وشاعرها
العملاق، ولد سنة 1906م وتوفي سنة 2001م، ترجم شعره من
الفرنسية إلى العربية الشاعر المهجري اللبناني الدكتور نمر
صباح ابن مدينة النبطية.
لم يكن سنغور أقل من غيره حنقًا على الاستعمار، وطلبًا
للحرية والاستقلال، لقد وظّف معظم نتاجه الشعري لخدمة
بلاده وإفريقيا بشكل عام، وهو المنظِّر الأكثر عنفًا
والأكثر صوابًا لمفهوم (الزنوجة).
ها هو يفتخر بعزيمة السنغاليين القوية، التي تقف على أرض
صلبة من القوة والثبات:
أيتها الأقنعة، إليك أيتها الأقنعة
أقدم تحتي في صمت!
أيتها الأقنعة ذات الوجوه غير المقنعة
لنكن حاضرين عند الدعوة لتغيير العالم
حضورًا شبيهًا بضرورة الخميرة
لعجين الخبز الأبيض
وإلا فمن سيبث الإيقاع في العالم
الذي اغتالته الالات والمدافع
من سيطلق صرخة البهجة
لإيقاظ الموتى واليتامى عند الشروق
يسموننا حصّاد القطن، وقاطفي القهوة، وعاصري الزيت
يسموننا رجال الموت
نحن أبطال الرقص الذين تصطك
الأرض الصلبة
تحت وقع أقدامهم القوية
()
إنه الصراع الحتمي بين الرذيلة والفضيلة، بين الباطل
والحق، وهذا دأب جميع شعراء إفريقيا الذين وخزهم الاستعمار
بأعماقهم، فصادر ثرواتهم وثقافتهم وحريتهم وجعلهم أتباعًا
وإماء له، ولذلك كانت صرختهم قوية.
الشاعر ليون داماس
غويانا الفرنسية
ولد سنة 1912م ، وتوفي عام 1978م
يتحدث شاعر غويانا عن قساوة الليل تحت ظل الاحتلال، حيث
الظلام والاختناق وروائح الطريق العفنة، ليال قاسية تنبجس
منها روائح الدم، ليال لا اسم لها مظلمة، تُثقل صدر الشاعر
وتورثه الشقاء والتعب:
هي ليال لا اسم لها
هي ليال غير قمراء
حيث يوشك الاختناق الرطب أن يأخذني
تنبجس رائحة الدم الشرسة
من كل بوق أخرس
هي ليالٍ لا اسم لها
هي ليال غير قنراء
الشقاء الذي يسكنني يجثم على صدري
الشقاء الذي يسكنني يخنقني()
الشاعر دينيس بروتوس
ولادة 1924م
جنوب أفريقيا
يتجلى الشاعر دينيس بروتوس المولود سنة 1924م بقصائده
المناضلة ضد سياسة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، حيث كان
يَستعبد عشرةٌ في المائة من عدد السكان تسعين في المائة
منهم على خلفية التمييز العنصري، والشاعر شاهد على الظلم
الذي لحق بشعبه من قِبل الاستعمار الانكليزي، وهو يؤكّد
على الإصرار على الحياة والنصر، والكفاح من أجل الحرية
مستهديًا بالمثل القائل: "حبر الأديب كدم الشهيد":
سنحيا مهما حدث
والحنو المستلب لن يخبو له أوار
المنارات الكاشفة تفتت صورتنا
العارية العزلاء
ووصايا الغول الفاشستي المتراصة
تصبّ نار صواعقها على رؤوسنا
قبل أن تُغرق غدنا في الكوارث
الأحذية الثقيلة ترجّ الباب إلى أن يتصدع
لكن مهما حدث فنحن أحياء
رغمًا عن الانقطاع ورغمًا عن التفقير
رغمًا عن الخسارة
دوريات الحراسة تنتشر على طول الإسفلت المعتم
وتفحّ فحيحها الوعيدي صوبنا
وبقساوة بالغة يعمّ الرعب الوطنَ كله
فيتحول إلى هلع وإلى بغضاء
ولكن مهما حدث فإن الحنو سيستمر حيًا()
في قصيدة بروتوس ضبطٌ واضح لجملة من المنكرات التي ترتكبها
سلطات الفصل العنصري ضد الشعب المظلوم، إلا أن الإصرار على
الحرية والصبر هما زاد المواطن، ولا مفر من النضال للحصول
على الاستقلال، ولو أحصينا الحقل المعجمي للألفاظ التي
تعبّر عن الوحشية والظلم لاستغرقت القصيدة برمتها.
وهذا الحنو والصبر هو الذي أوصل جنوب إفريقيا إلى
الاستقلال.
فرانسوا كيو مواليد
1931م
الكاميرون
وفي الكاميرون يلمع اسم شاعرها المفلق فرانسوا كيو مواليد
1931م، وكغيره من شعراء القارة الإفريقية، يحمل سيف
القصيدة ويهيله على المستعمرين:
قالوا لي
أنت لست سوى زنجي
لا يصلح إلا لخدمتنا
عملت من أجلهم فضحكوا
قالوا لي
أنت لا تصلح لشيء
سوى أن تموت من أجلنا
على ثلوج أوروبا
أرقت دمي من أجلهم
لعنوني وضحكوا
حينئذٍ عيل صبري
ولما هشّمت حلقات خضوعي الجبان
جعلت يدي في أيدي منبوذي الكون
فقالوا لي يائسين:
غير قادرين على إخفاء فتنة رعبهم
مُتْ أنتَ، فلستَ غير خائن
مُتْ...
على حين أني أفعوان بألف رأس()
من الصعب إدراك مدى الغضب والحنق اللذين تظهرهما قصائد
الشعراء الأفارقة على دسائس الاستعمار ورسائله الغاشمة في
كمّ أفواه الشعوب المغلوبة والسيطرة عليها.
رأينا في القصيدة كم يسخر المستعمرون من محكوميهم عندما
يستخدمونهم بذلّ وكراهية، أخرجت المارد الإفريقي من قمقمه،
فطفق يصب جام أشعاره الملتهبة على كل غدّار، حتى أينعت
الثمار واخضرّ الجنى وتحققت الآمال.
توماس راها ندراها
مدغشقر
ومن مدغشقر تنطلق صيحة شاعرها المرهف [توماس راها ندراها]
قوية وصارخة، تنطلق من أعماقه الملتاعة المطعونة بمِدى
المستعمرين، وهو يخاطب كل مدغشقري يرجوه أن ينتفض، أن
يتكلم، دفاعًا عن أرضه وحقه واستقلاله:
أنت الذي اصطفتك الآلهة
من أجل أن ينساب غناء ينابيعنا
من أجل أن تكون جبالنا جبالاً
من عميق عميق روحك
من أصخب ما في دمك
من أصفى ما في أحلامك
ستتكلم
من أجل الذين حُبست أصواتهم
وعُطّلت حياتهم
ستتكلم لغة براءتك
من أجل الذين سحقتهم الوشاية
إلى أن نضجت جلودهم
ستتكلم لغة عدالتك
من أجل الذين سُمِلت عيونهم
بالقضبان الحديدية
ستتكلم عن حبك
من أجل الذين يُقتلون
ستتكلم
من أجل الذين يُخنقون
من أجل الذين يُعذبون
من أجل المطاردين
ستتكلم من أجل المنفيين
من أجل المعتقلين
ستتكلم
من أجل الذين لا سند لهم
من أجل هذه الآلاف من الكائنات الميتة بين الأموات
المعرَّضين إلى الغيظ والكراهية في غياهب السجون
ستتكلم لكي يأتي النهار()
غنية هذه القصيدة بالأفكار والتطلعات والصور المعبِّرة
والخيال الواقعي المترجم لأحاسيس ومشاعر ومعاناة
المدغشقريين تحت سياط الاستعمار الإنكليزي، هي هي سياسة
الاستعمار ، لا تختلف من بلد إلى بلد، القمع الوحشي
والإعدام والتنكيل والإرهاب بشتى الوسائل، قاموس
المستبدّين على مر التاريخ والذين يتشدقون اليوم بالحريات
وهم أعداؤها الحقيقيون، ولذلك يدعو الشاعر المدغشقري إلى
فضح المستبدّين وتعريتهم والثورة عليهم، في حقل معجمي واضح
المعالم حول ألوان القهر المميتة في ذلك الصقع الإفريقي
البعيد.
الزنوجة وإشكالية اللون
الزنوجة مفهوم نشأ وجاء كردِ فعل على الاستبداد الفاضح
الذي كان يطال الشعوب الإفريقية السوداء، انتقامًا من
الذين ينتهكون كراماتها وحقوقها بسبب لونها الأسود.
وقد نشأت هذه الحركة في الثلاثينات من القرن العشرين،
هادفة إلى إعادة الاعتبار والتقدير للإنسان الأسود، أسسّها
طلاب من المارتينيك ووضعوا برنامجًا محددًا لها في باريس
في مجلة الدفاع المشترك، وقد ظهر منها العدد الأول الوحيد
عام 1932م.
وبعد ذلك بسنتين أي سنة 1934م، ظهرت الحركة الثقافية
للزنوجة والتي يعتبر ليوبولد سنغور منظّرها الأكثر عنفًا
والأكثر صوابًا، فهو الذي عرّف الزنوجة بأنها: مجموع القيم
الثقافية للعالم الأسود، وقد ظهر برنامج هذه الحركة في
مجلة الطالب الجامعي، وقد أسسّها بباريس مع سنغور طالبان
آخران من الزنوج هما إيمي سيزير من المارتينيك، وليون
داماس من غويانا.
لقد اغتنت الزنوجة المفتوحة إنسانيًا، اغتنت بإسهام
الحضارة الأوروبية، كما أثّرت هي بدورها في الحضارة
الأوروبية.
يُعرّف المارتينيكي إيمي سيزير الزنوجة قائلاً:
زنوجتي ليست حجرًا
صممُها ينهض ضد جلبة النهار
زنوجتي ليست قطرة ماء ميت
زنوجتي ليست برجًا ولا كنيسة
هي ممتدة في أديم الأرض الأحمر
هي ممتدة في أديم السماء الحار
هي مفتضة بصبرها سحنة الإرهاق الكالحة()
هي رد اعتبار ودفاع عن الزنوجة التي لم يرها الكثيرون
آنذاك سوى عالم أسود لا يستحق الحياة.
بين الأبيض والأسود
في قصائد ليون داماس "غويانا" دفاع حار عن الزنوجة، واللون
الأسود تحديدًا، لقد تعمّق في قرارة السود وأذهانهم كراهية
بعض البيض لهم، في القارتين الإفريقية والأميركية حتى أنه
كان محظّرًا على السود دخول مطاعم البيض أو فنادقهم أو
مدارسهم، خاصة في الولايات المتّحدة الأميركية، لذلك كان
الشعر الزنجي حادًا وقاسيًا وانتقامًا من هذا التمييز الذي
نهت عنه الأديان السماوية والأحاديث النبوية.
قال داماس في قصيدة عنوانها ثأر زنجي:
أبدًا لن يصبح الأبيض زنجيًا
لأن الجمال زنجي
وزنجية هي الحكمة، لأن المعاناة زنجية
وزنجية هي الشجاعة ، لأن الصبر زنجي
وزنجي هو السحر، لأن الحب زنجي
وزنجي هو الإيقاع، لأن الفن هو زنجي
وزنجية هي الحركة، لأن الضحك زنجي
لأن السلام زنجي، لأن الحياة زنجية()
ردة فعل على مواقف البيض واستيلائهم على السلطة وحرمان
السود من حقوقهم الإنسانية في غويانا وجنوب إفريقيا
والسنغال والسودان وغيرها.
ويقول شاعر ساحل العاج "زغوا نوكان" ولادة سنة 1937م:
إنا زنجي
استُعبدتُ على عهد القيصر
شيدت الأهرام والقصور وناطحات السحاب
أنا أسود كليلة لا قمرَ يُضيئها
دمي روى سهول أوروبا الأنانية
وكدّي زرع مشاتلها
وعمّر مصانع المستعمرين والأميركيين
أنا زنجي يتذكر أبدًا أغلاله الكثيرة
أنا الكادح المقتول على باب كوخه في سان دومينغو
وفي الجزائر وفي فيتنام
أنا الأسود الفخور برفع قبضتيه في وجه كل قمع
أنا شبيه بالكلب
تُرمى له العظام
أنا مثيل القرد
يلقى إليه بالموز العطن()
ذلك هو الزنجي، وما ذكره الشاعر داماس يندى له الجبين، إلى
أي حد كان احتقار الزنجي ذي اللون الأسود، وإذلاله من قبل
الاستعمار الغربي، داء الشعوب قاطبة ومصدر الظلم
والبربرية. والحقل المعجمي الذي يشير إلى معاناة الزنوج
يكاد يستهلك جميع مفردات القصيدة.
ويشير سنغور علنًا إلى اللون الأبيض، الأيادي البيضاء التي
دمرت الحضارات والشعوب، ومعلوم من يقصد بهذه الأيادي
الملطخة بدماء الأبرياء، فهو يتحدث بلغة الثورة والاحتجاج.
الأيدي البيضاء التي أطلقت الرصاصات
ودمرت الأمبراطوريات
الأيدي التي ألهبت ظهور العبيد بالسياط وأدمت جلودكم
الأيدي البيضاء المعفّرة التي صفعتكم
الأيدي المزركشة المعفرة التي صفعتني
الأيدي الواثقة التي أسلمتني للوحدة وللكراهية
الأيدي البيضاء التي حطّمت الغابة العالية
التي تهيمن على أفريقيا وسط أفريقيا()
ويصرخ الفيتوري بنقمة عالية على المتاجرين بالبشر، ممتهني
حقوق العبيد، في صرخة مدوية داعيًا إلى الثورة والانتفاضة
والتمرّد على الذات من أجل الأفضل:
لتنتفض جثة تاريخنا
ولينصب تمثال أحقادنا
آن لهذا الأسود المنزوي
المتواري عن عيون السنا
آن له أن يتحدّى الورى
أن يتحدّى الفنا
فلتنحني الشمس لهاماتنا
ولتخشع الأرض لأصواتنا
إنّا سنكسوها بأفراحنا
كما كسوناها بأحزاننا
أجل، فإنّا قد أتى دورنا
إفريقيا، إنّا أتى دورنا()
هكذا يزرع الفيتوري الثقة والأمل والعزيمة والثبات في وجه
المستعمر الغاشم، والنصر في النهاية للشعوب المقهورة
المستعبدة.
ويؤكد شاعر المارتينيك إيمي سيزير على شموخ الزنوجة
وثباتها في وجه الريح، والموج الصاخب، ووقوفها في كل مكان
بروح التمرد والمطالبة بالعدالة:
الزنوجة جالسة
وواقفة من حيث لا يُنتظر وقوفها
واقفة في الحوض
واقفة في المكاتب
واقفة في الجسر
وواقفة في الريح
واقفة تحت الشمس
وواقفة في الدم واقفة
و... حرّة()
ثم يخاطب الفيتوري الأبيض، ويعني بالأبيض كل من يستعمر
القارة الإفريقية من الحكّام البيض ومن يساهم معهم في قهر
هذه الشعوب المناضلة:
إياك لا تبذر بذور عداوتي
فتعود تحصد شوكها حصدا
إياك لا تزرع حقولك عوسجا
إني زرعت حقولي الوردا()
إنه عنوان التحدي والكبرياء في مواجهة زارعي الأحقاد
والظلام.
وفي قصيدة عامرة بالنخوة والقوة، يفتخر الفيتوري بزنجيته
التي علّمت الشعوب كيف تتحرر من ظالميها:
قلها لا تجبن ...لا تجبن
قلها في وجه البشرية
أنا زنجي وأبي زنجي الجّد
وأمي زنجية
أنا أسود
أسود... لكني حرٌ أمتلك الحرية
أرضي أفريقية()
هكذا أصبح اللون ضمن حلبة الصراع الدامي الذي ألهبه
الحكّام البيض، حكّام الغرب المستعمرون الذين أصبحوا أعداء
حقيقيين لهذه الشعوب السوداء المناضلة:
كانت جموع السحب
كان الدجى يرخي جناحيه على القرية
وكانت الأوجه ذات الأسى
ذات العيون الاستوائية
قد انزوت خلف سراديبها
تحلم بالنار وبالثورة
تحلم بالثأر لتاريخها
من العدو أبيض الجثة()
الرموز الأفريقيّة في حلبة الصراع
أدى زعماء عظام أفريقيّون أدوارًا هامة في صناعة الاستقلال
ونقل شعوبهم من اليأس إلى الأمل، ومن الضعف إلى القوة، ومن
اليأس إلى الرجاء.
لقد كان الأبيض عنيفًا وقاسيًا جدًا بحق الأفارقة السود،
حكامًا وشعوبًا، وهذا الأبيض من أجل سلب هذا التراث العظيم
اتّبع أساليب همجية نازيّة لم يمارسها عتاة الظالمين عبر
التاريخ، منها طغيانه الفاضح البربري وإهانته المقصودة
لشعب حر أبيّ كان ما زال يعيش فترة النهوض نحو الوعي
والحياة، واغتصابه الأرض والسلطة، وتحكّمه البغيض حتى
بكرامة الإنسان، واحتقاره المقيت له عبر مشاهد وتصرفات
يندى لها الجبين، وما زال هذا الغربي الأبيض حتى اليوم
وبعد الاستقلال يحاول أن يدخل من الشباك بعد أن خرج من
الباب، وأن يُنصّب إذا أمكنه الأمرُ حكامًا يدينون له
بالولاء، بغية استعادة نفوذه في السيطرة على مقدرات هذه
البلاد.
وقد نجح في بلاد كثيرة وأعاد همينته بشكل غير مباشر على
سياسات هذه الدول الخارجية، فنجح في تقسيم السودان وتنصيب
حكّام يدينون له ولسياساته محاولاً إحاطة إسرائيل بسور من
الدول السائرة في فَلَكه لضمان أمنها، ومن هنا جاءت إثارته
للبلبلة في بعض الدول العربية، واحتلال العراق وتدمير
ليبيا والاستيلاء على النفط العربي، عبر أساطيله واحتواء
سياسات الشرق الداخلية والخارجية.
هكذا رأى الفيتوري "نيويورك" سلالة عاقة، إنها أم تقتل
أنبياءها وإنّ أيديها لملطّخة، لأنها مؤذية "لا تلطّخ إلا
جبينها".
إن نيويورك الحالمة حاضرة لا تطاق، يقول فيها :
ولكنهم يا نيويورك مهما نسوك
ومهما تناءوا، وراحوا يشيحون عنك
ستركض أرواحهم من بعيد إليك
لتدفن أوجهها في يديك
وتحنو عليك
وتجهش مخنوقة بالبكاء
لأنكِ أمَ، وإن كنت قاتلة الأنبياء
نيويورك يا غابة الموت، ملعونةٌ كيف كنت
فهذا الذي لطخته يداك جبينك أنت()
إنها ماجنة ومجردة من كل احتشام تحاول وتعمل على تحويل
البِغاء إلى شيء مستساغ، فنيويورك الحالمة حاضرة لا تطاق.
من الرموز الإفريقيّة المناضلة التي وردت في كتاب "الشعر
الإفريقي المعاصر" : كوامي نكروما، الذي كان رئيسًا
لجمهورية غانا، وليوبولد سيدار سنغور أول رئيس لجمهورية
السنغال بعد الاستقلال، وأحمد بن بلا أول رئيس لجمهورية
الجزائر الشعبية بعد زوال الاستعمار الفرنسي، وباتريس
لومومبا زعيم الكونغو وشمسها المناضلة.
جميع هؤلاء مناضلون إفريقيون قادوا بلادهم إلى الحرية
والاستقلال ، وإذا كان أحمد بن بلا قد نُحّي عن السلطة
بانقلاب هواري بومدين وخسرت الجزائر بغيابه أحد أهمّ قلاع
النضال في عصرنا الحاضر، وهو ما زال حيًا يعيش في منزله في
الجزائر العاصمة وقد ناهز الخامسة والتسعين من عمره، أما
سنغور فقد بقي رئيسًا للسنغال مدة طويلة، إلى أن تسلّمها
منه في أوائل الثمانينات عبدو ضيوف، وأما لومومبا ونكروما
فقد اغتيلا جزاء نضالهما ضد العنصرية البغيضة، يقول
الفيتوري في الزعيم الجزائري بن بلا:
تنقش في الصخر حكاية جيل من أمجاد
جيل يصحو وصباح البعث على ميعاد
جيل يحمل في جنبيه عبق الأجداد
جيل لم يرهبه عصر التقتيل والاستشهاد()
ثم تتحقق أحلام الثورة بمليون شهيد سقطوا برصاص أعتى
البربريات في العالم، الاستعمار الفرنسي، فيهتف مؤكدًا على
حسّه العربي:
أصبح الصبح فلا السجن ولا السجان باقِ
وإذا الماضي الذي كحّل هاتيك المآقي
فرحة نابعة من كل قلب يا بلادي()
الرمز الثوري الثاني هو لومومبا، رمز البطولة والنضال
يخاطبه الفيتوري قائلاً:
في قلبي أنت
البطل الأسود ذو القدمين العاريتين
الراكضتين على نهر الكونغو
كانت تركض خلفهما أشجار الغابات
كانت تتهدج لهما أنفاس الظلمات
كانت أمواج الكونغو
توغل في الركض()
ويتجسد لومومبا بطلاً قوميًا إفريقيًّا في قصائد شعراء
ساحل العاج كما نرى مع الشاعر زغوا نوكان، حيث يعتز
بالثائرين الأبطال ومنهم لومومبا بطل الكونغو الساحر:
أنا زنجي يتذكر أبدًا أغلاله الكثيرة
أتألم في الكونغو، في الموزمبيق، وفي أنغولا
من رصاص الاستعمار والإمبريالية
أنا الأسود الفخور برفع قبضتيه
في وجه كل قمع
أنا هو توسان لوفيرتير ولومومبا وبن بركه()
تلك هي وحدة الموقف، والحس القومي الذي جمع الثائرين في
إفريقيا المناضلة، الاستعمار هو هو أينما كان، وكيفما كان.
ونكروما أبو غانا الحديدي الذي لم يرق للاستعمار، فنكروما
صديق عبد الناصر ولومومبا وبن بلا، وصانع غانا الحديثة،
قضت عليه مؤمرات الاستعمار والصهيونية، كما قضت على غيره
من مفجّري الثورات:
نكروما يا صورة غانا
والكونغو الحر الموجات
وجهك يوقظ فيّ الماضي
يوقظ فيّ الإحساسات
يحمل لي رائحة بلادي
عبر ملايين الغابات
فأراها من خلف دموعي
وأنا مشبوب الصبوات()
تلك هي إفريقيا وقصتها مع الحرية والاستبداد، ومع
الاستعمار، أحداث تُنسج حولها قصص وأساطير، ودروس بليغة
تكشف عن الظلم المريع والبربرية التي تعفُّ عنها الوحوش
والتي استخدمها الاستعمار الغربي لإذلال الشعوب الإفريقية
وتحطيم شخصيتها الإنسانية.
قلت : "دروس بليغة" لعلنا نستفيد منها لنتأكد ويتأكد من في
نفسه شك من ذلك من الثعبان المفترس، هذا الوحش الغربي الذي
ما زال يطل من آنٍ لآخر محاولاً استعباد شرقنا العربي
والإسلامي من جديد من خلال توظيف أُجَرَاء له وخدَم
ينفّذون سياساته الجهنمية التي كان أفدحها إقامة ومساعدة
الكيان الصهيوني الغاصب على أرض فلسطين الحبيبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1])
د. حسن الغرفي، من الشعر الإفريقي المعاصر، جيل
الرواد نموذجًا، (الكتاب 57 المرفق مع مجلة دبي
الثقافية، التي تصدر عن دار الصدى للصحافة والنشر
والتوزيع، عدد شباط 2012م) .
([2])
نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، ج3، ص51، ط1،
1412هـ، دار النهضة-قم.
([3])
المصدر السابق ، ص68 .
([4])
المصدر السابق ، ص21-22 .
([5])
المصدر السابق ، ص 65.
([6])
المصدر السابق ، ص 133 .
([7])
المصدر السابق ، ص100.
([8])
المصدر السابق ص89 .
([9])
المصدر السابق ص45 .
([10])
المصدر السابق ص74 .
([11])
المصدر السابق ، ص135 .
([12])
المصدر السابق ، ص137-138 .
([13])
المصدر السابق ، ص151-154 .
([14])
المصدر السابق ، ص19 .
([15])
المصدر السابق ، ص75 .
([16])
المصدر السابق ، ص134 .
([17])
المصدر السابق ، ص39 .
([18])
المصدر السابق ، ص88-89 .
([19])
المصدر السابق ، ص85 .
([20])
المصدر السابق ، ص86 .
([21])
المصدر السابق ، ص87.
([22])
المصدر السابق ، ص88 .
([23])
المصدر السابق ، ص107-108 .
([24])
المصدر السابق ، ص104 .
([25])
المصدر السابق ، ص104 .
([26])
المصدر السابق، ص103 .
([27])
المصدر السابق، ص133-134. والمهدي بن بركه
(1921-1965) من رجال السياسة المعارضين في المغرب،
قتله أحد الفرنسيين بينما كان في أحد شوارع باريس
في 29-10-1965، راجع الأعلام للزركلي ج7 ص312، دار
العلم للملايين، بيروت.
([28])
المصدر السابق ، ص103-104 .
|