مقدمة
أما بعد فقد تعرّضنا في الحلقة الماضية إلى السياسة
الإلهيّة في خلقه، وأثبتنا ابتناءها على أساس الإمهال
المنطلق من حكمته تعالى وطول أناته، ومقتضى رحمته
الرحمانيَة مع كمال قدرته وإطلاق إحاطته.
وقد تقدم منّا أنَّ أولياءَه هم خلفاؤه في أرضه، وحُجَجُه
على عباده، يعملون بإرادته، ويهدون بأمره، ليس لهم من دونه
من وليٍّ ولا نَصيرٍ، فسياستُه هي بعينها سُنَّتُهُمُ
الجاريةُ بين العباد، بها إليه يدعون، وعليه بها يدلّون،
وعلى طبقها يحكمون.
بل هم مظاهر صفاته وتجلّيات أسمائه؛ ومن ثمَّ كان يكفي في
ردّ مزاعم الفئة المغالطة إثباتُ ما أثبتناه من سياسته،
دون التعرّض لسُنَنِهِم؛ فهي هي بعينها، لا تخرمُ الأخيرةُ
الأولى مُنطَلَقًا ولا مقصدًا، ولا تختلف مصدرًا ولا
موردًا.
لذا لا يكاد يلحظ الباحث في سلوكيات تلك الثلّة الطيّبة ما
يشذُّ عن مسلك بعضها البعض، بل يرى تطابقًا في الأدوار وفي
كيفيّات أدائها، إلا فيما يتعلق بخصوصيّات الزمان
والأقوام، مما يفرضه المحيط الذي لا بُدَّ وأن يُخاطَبَ
بلغته التي يفهمها.
وحيث إنّنا نعيش في زمن الكسل المعرفي، وعصر إطلاق الدعاوى
الفارغة، وبث الشكوك المنطلقة من عبثية الشك، ارتأينا
استعراض السنن النبويّة في محطاتها الزمنيّة المتلاحقة
خدمةً لطلاب الحقيقة، وتبصرةً لمن أبهر عيونَهم
السوفسطائيّون الجدد بعناوينهم البرّاقة، ولغتهم الخدّاعة،
ومبالغةً في الحجة، وإماطةً لما تَلثَّم به المغالطون من
موضوعيّة زائفة..
ليُقطع كلُّ وهمٍ، ويُبتَّ كلُّ شكٍ وظن، ويتبلّجَ الفجرُ
الصادقُ مُبدِّدًا كلَّ ظلمة، فمن أنكر ظلامة الزهراء
استهجانًا من وقوعها أمام نواظر حاميها المستأمَن دون أن
يشيم()
شبا()
الصارم، ويُغمِدَهُ في نحر الدّاهم، فليُنكر سننَ الأنبياء
والصالحين، وليرفع راية استنكاره على ربّ العالمين، وليخلع
عن رقبته ربقة الدين، وليبتدع ملةً ليس للصبر فيها محلٌّ،
وليهزأ بما أعدّه الله للصابرين.
وحيث إنَّ سلوكيّات الفرد -خصوصًا ما تشابه منها- تفتقر في
فهمها وإدراك مغازيها إلى فهم موقعيّة صاحبها، وإدراك
طبيعة شخصيّته، كان لا بُدَّ من التذكير بأنَّ الموضوع
يدور حول سلوكيّات سيّد الأئمة بعد خاتم النبيين عليه وآله
أزكى صلوات المصلّين، فلا ينفك البحث في هذا المقام عن
تصديره بتذكرة في موقع الإمامة ودور الإمام.
لا ريب في أنَّ الإمامة والولاية الإلهيّة ليست أمرًا
اعتباريًا يُمنحُ بصورةٍ اعتباطيّة، بل هي ثمرة خصائص
وميزات حقيقيّة تدور مدارها.
كفاءاتٌ تجعلُ الفردَ فردًا أكملَ تُخَوّلُهُ للقيام بما
يُناطُ به من صلاحياتٍ، ويُلقى على عاتقه من مسؤوليات
انطلاقًا من قضيّة التوازن بين الحقوق والواجبات والولاية
والكفاءات.
إنَّ هذه الخصائص منها ما يدركه العقلُ فيؤيّده النقلُ
إرشادًا، ومنه ما يَقصُرُ عن إدراكه فيتفرَّدُ النقلُ
بالنَّصّ عليه.
وكلا القسمين له سهمه في منح ذلك المقام الإلهي الذي يكشف
عن توفّر تلك الخصائص في صاحب المقام، فإنه تعالى وإن كان
فاعلاً لما يشاء، حاكمًا بما يريدُ، لا يُسألُ عما يفعل،
إلا أنّ كماله الجلالي والجمالي لا بد أن يتجلّى في
أفعاله؛ فلا تنسلخ عن الحكمة ولا تفارق العدل.
ثم إنَّ تلك الخصائص منها ما يفضُلُ الأخرى فيكون له الحظ
الأوفى في عمليّة استحقاق المقام، والسهم الأوفر في منح
السّمة، لكنَّ العقل البشري أنّى له أن يكشف عنها وهو
القاصر عن استكناه المقام، فكيف له أن يستكنه ملاكاته
ويكتشف مناطاته استقلالاً؟!؛ لذا كان لا مناص له في هذا
السبيل من الرجوع إلى النصِّ الصادر من الجهة المانحة؛ إذ
هي العالمة بعلل منحها دون سواها.
ومع مراجعة النصوص القرآنيّة المتعلقة بمقام الإمامة في
مقام تعليل منحها، أو تلك التي تناولت الموضوع من جهات
أخرى نرى تصريحًا مباشرًا في الأولى، وتلميحًا واضحًا في
الأخرى، ما يدل على أبرز صفة وكفاءة متوفرة في الإمام
دخيلة في منح ذلك المقام.
وحيث إنَّ البحث عن هذه الجهة يفرض إفرادًا وافيًا،
وبيانًا مُطوَّلاً شافيًا، نرفع التفصيل فيه إلى محلّه
ونأتي بما يكتفي به أهله، انطلاقًا من آية كريمة يتلوها ما
يتعلق بالغرض ملخصًا بنقاط حرصًا على عدم تشتيت القارئ
الكريم بما نعتمده عادة من سبك مترامي الأطراف قد ينأى بنا
عن مقصدنا في هذه الومضات.
قال تعالى:
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا
لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ}
().
1- إنَّ سياق الآية يفرض كونها نزلت في مطلق الإمامة لا
الإمامة المطلقة؛ لوروده في أئمة بني إسرائيل، لكنَّ حفظَ
المرتبة الدنيا ضمن المرتبة العليا مما لا يدنوه ارتياب،
خصوصًا في الحقائق المشكّكة ذات المراتب، وعليه فهي
مستوعبةٌ للمقام الشامل لشخصياتٍ تلبّست بمبدأ الإمامة على
تعدد مراتبها.
مع أنَّ الخبر([4])
ورد بكونها نزلت في أئمة أهل البيت (عليهم السلام)
وعَنِيَتْ بوصفهم، والسّياق غير مانع من ذلك لعدم حجّيته
بقول مطلق.
وعلى أية حال فهي شاملة لأئمتنا (عليهم السلام) -بناء على
مفاد الخبر- بالمطابقة، وعلى الأخذ بالسياق بالتضمّن.
2- إنَّ الآيةَ الشريفةَ حيثُ كانت في صدد بيان مناطِ
الجعل الإلهي للإمامة، كان لا بدَّ من تعرّضها للصفات
الرئيسيّة المُقوّمةِ لذلك المناط دون الكمالات الأخرى.
3- العلم والعمل هما الجناحان اللذان بهما تحلِّق النفس
البشريّة إلى أوج معراجها لتتربع على عرش الكمال.
4- لقد هتفت الآية بكون المناط في الجعل الإلهي للإمامة
متكوّنًا من صفتين تنتمي الأولى منهما إلى مقام العمل
والأخرى إلى مقام العلم.
5- إنَّ في تقديم الصفة العَمليّة على العِلميّة لطائف لا
تخفى على أهل الإشارات يمكن استخلاصها من قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ
سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}([5])،
مع أنّ الصفتين بينهما تفاعلٌ تصاعُديٌّ بعيدًا عن محذور
الدور؛ فكُلُّ مرتبة عَمليةٍ تستجلب مرتبةً عِلميّةً،
وكُلُّ مرتبةٍ عِلميّةٍ تستجلب مرتبةً عمليّةً حالُهما
حالُ مدارج السلَّم؛ إذ كلُّ درجةٍ فيه تُمَهّدُ لارتقاء
الدرجة التي تليها، وهكذا مدارج الكمال مكوّنة من درجات
تتراوح بين العلم والعمل ترتيبًا.
6- إنَّ الإمامة هي أعلى الرتب، وأخطر السّمات، وأرقى
الصفات التي يمكن أن يتصف بها مخلوق، ومن ثَمَّ فإنَّها
تستدعي في مقام تعليلِ مَنْحِها ذكرَ أعلى الرتب
العَمَليّة، وأغلى الصفات السلوكيّة، حيث لو كان ما يفوقها
فضلاً لكان المُتعيّنُ ذكرُهُ دونَ ذكرها.
7- فتحصَّل لنا بناءً على جميع ما تقدَّم أنَّ أسمى
المراتبِ العَمليّةِ هي صفةُ الصبر، كما أنّ أعلى المراتب
العلميّة هي صفة اليقين، وأنَّ هاتين الصفتين هما العلةُ
في منح تلك السمةِ العُظمى، إمّا على وجه الحصر، وإمّا على
نحو الفرد الأكمل بين العلل الأخرى، أو فقل الجزء الأهم
بين أجزاء العلّة الواحدة.
8- لم تنفرد هذه الآية بتقدم تلك
الصفتين على سواهما من الصفات بل شواهد القرآن والسُنّة
على ذلك تعصى على الإحصاء، نورد شذرًا منها مما يتعلق
بالصبر:
قوله تعالى{وَمَا
يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا
إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}([6]).
{وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}([7]).
{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
([8]).
{ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ
حِسَابٍ}([9]).
[الصبر من الإيمان كالرأس من الجسد، ولا خير في جسد لا رأس
معه ولا في إيمان لا صبر معه]([10])
.
قال الرضا (عليه السلام) : [لا يكون المؤمن مؤمنًا حتى
يكون فيه ثلاث خصال: سُنّةٌ من ربّه، وسُنّةٌ من نبيّه،
وسُنَّةٌ من وليّه.
فالسُّنّةُ من ربّه فكتمان سره، قال تعالى:
{عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا
* إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}
([11]).
وأمّا السُنّة من رسول الله فمداراة الناس فإنَّ الله عز
وجل أمر نبيه (صلى لله عليه وآله) بمداراة الناس فقال: {خُذِ
الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجَاهِلِينَ}([12]).
وأمّا السُّنّةُ من وَليّه فالصبر في البأساء والضراء،
فإنّ الله عز وجل يقول:
{وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}([13])]([14]).
9- إنَّ للصبر تجلياتٍ مُتعددة تتّحد في حقيقتها وإن
تعدّدت في مظاهرها، قال رسول الله (صلى لله عليه وآله):
[الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر عن
المعصية]([15]).
وقضية إطلاقها تقتضي شمول المراد لها بكافة تجلياتها.
10- إنَّنا إذا ما تأمّلنا في النقطتين السابعة والثامنة،
وألقينا نظرة فاحصة على مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال، نخلص
بشكل واضح إلى أنَّها تنتمي في جوهرها إلى صفة الصبر
ورشحاتها؛ مما يُسوّغ لنا أن نطلق عليها بأنَّها أمُّ
الفضائل على الإطلاق.
بعد البيان المتقدم في مقام التنظير كان لنا أن نرد جهة
التطبيق لنرى أن الصبر كان العنصر الأبرز في مسيرة
الأولياء والأنبياء والحاكم على غيره من الصفات في سيرتهم.
لقد اقتفى أولياء الله تعالى من رسل وأوصياء وعباد صالحين
أثر السياسة الإلهيّة، وانتهجوا منهاجه، وسلكوا سبيله منذ
انطلاق المشروع الرباني، وقد بيّنوا مدى البينونة بين
المقاييس الشيطانيّة الجاهليّة وبين مقاييسهم، وقد تواترت
بذلك أنباؤهم في النصوص المقدّسة بحيث يُستهجن معها تهميشُ
هذه الحالة، أو خفاؤها على جمهور الناس، واستهجانهم
لمقتضياتها وتفاعلاتها، وقد يُعزى ذلك لسيطرة الرذائل
الأخلاقية على مرتكزات هؤلاء بحيث يصعب عليهم الإذعان بها،
وهي التي تتنافر مع طبعهم الثانوي الذي نسخ فطرتهم فعادت
ممسوخة بعد أن كانت في أحسن تقويم.
وها نحن نيمّم الوجه شطرهم بدءًا من بكرهم وحتى خاتمهم
بحسب تسلسلهم الزمني لنعود من جولتنا مزوَّدين -مضافًا إلى
إثبات مُدَّعانا- وفيرَ سنابل الخير التي بذروها في عالم
الفضائل، عسانا نُوَفَّق لانتهاج محجتهم البيضاء
والاستمساك بعروتهم الوثقى.
نبأ ابن آدم
(ع)
وبِكرُهُم في هذا المضمار ابن آدم (عليه السلام) ([16])،
قال تعالى:
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ
إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا
وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ
قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ *
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا
بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ
اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ
تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ
النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ
لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ
الْخَاسِرِينَ}([17]).
هل كان هابيلُ جبانًا؟!، أم كان ضعيفًا؟!، ولمن منهما كان
النصر المبين؟! ومن منهما مُنيَ بالهزيمة فكان من
الخاسرين؟!..
في المواجهة البشريّة الأولى كَشَف مُمثّلُ الحقِّ عن
موازينه وأهدافه، وحدَّد الأصلَ الأولي في طبيعة ردود
أفعاله.
هدّد قابيلُ أخاه هابيل بالقتل كخطوةٍ احتجاجيّة على حُكم
الباري عزَّ وجلَّ الذي تَقَبَّل قُربان أخيه دون قُربانه،
ونرى طبيعة الموقف الذي اتّخذَه هابيل وردّة الفعل التي
أبداها مُلَخَّصةً بهذه المعطيات:
1-
الانتصارُ لحُكم الله وحِكمته:
هذا هو الهمُّ الأوّل الذي يحمله الإنسان الرسالي؛ فالمحور
الأساس عنده هو الذبُّ عن السّاحة المَولويّة.
إنّ ردّة الفعل الأوليّة على التهجّم و التهديد لم تكن
انتصارًا للنفس، ولا دفعًا عنها، بل كانت بيانًا للوجه في
حِكمةِ حُكمِ الله بتقبّل قُربانه وعدمِ تَقبّل قربانِ
أخيه، وأنَّه لم يكن ذلك من ربِّ العالمين تحاملاً على
أحدهما أو تحيُّزًا للآخر.
إنَّ التهديد الصادر من قابيل أظهر تجرّدَه عن التقوى التي
هي شرط القبول، فكان حَريًّا به أن يسخط على نفسه، ويقوّمَ
عوجها، عوضًا عن حسده الذي هو تَمَظهُرٌ لاعتراضه على حكم
الله.
هذا ما حمله المحورُ الأوّل في موقف هابيل.
2-
إنَّ العبارة السابقة وإن كانت إخباريةً إلا أنَّها تحمل
في طيّها إنشاءً إرشاديًّا، وهي أنّ طريقَ الفوز بقبول
الله تعالى مفتوحٌ أمام أيِّ شخص، فمن أراد الوصولَ إليه
ما عليه إلا أن يُحقّق شرطه، وبذلك يكون قد أدّى هابيلُ
حقَّ إرشاد العبد مع حقِّ الذبِّ عن ساحة المعبود.
3-
لقد سنَّ طريقًا في كيفية تعامل الربانيين مع من يُضمرُ
الشرَّ لهم، ويريد السوء بهم.
إنّهم لا يتحركون من منطلق غرائزي، لا تستخِفُّهُم
العصبياتُ الشخصيةُ، ولا تستزلُّهم الحَميّاتُ الجاهليّة.
فهم يخضعون لإرادة الله تعالى في إقدامهم وإحجامهم، و
حركاتهم وسكناتهم، فإذا ما حاربوا الخصم فلا لحقدٍ شخصيٍّ
يحاربون، وإذا ما هادنوه فلا لضعف أو خوف يهادنون.
4-
لا ريب في أنَّ أيَّ إنسانٍ يسعى للوصول إلى ضالّته
المنشودةِ وهي السعادة، وينفّر أيَّما نفورٍ من الشّقاء،
وهذان
الشعوران لا يختلفان من إنسان لآخر، لكنَّ الفرق يكمن في
تشخيص المصاديق، وبالتشخيص الصحيح تتبيّن الموازين الحقّة
من الأوهام المزيّفة.
وهنا نرى هابيلَ كيف كشفَ عنها وفرّق بينها، حين انتفض
أخوه ثائرًا لكرامته المزيَّفة ليَمُدَّ يدَ العدوان إلى
أخيه فينتصر لتفوّقٍ لم يكن ليمتلك مؤهلاته.
ما هالَ هابيلَ ما رآه من سوء قصدٍ وتهديد، بل قابل
قابيلَ بكل طمأنينة وسكينة مُحذّرًا إيّاه من مَغَبّة ما
ينتظرُهُ إذا ما أصرَّ على موقفه؛ إذ الحقيقُ بالاضطراب هو
المعتدي لا المعتدى عليه؛ لأنَّ الخطر الواقعي إنّما يكمن
في الإثم والشقاء الحقيقي وهو العذاب الأخرويّ الذي هو
الخُسران المبين.
وهكذا كان، انهزم قابيل في معركته، ووقع ضحيّةَ حسدِهِ،
فيا لهُ من قاتلٍ مهزومٍ مقتولٍ، ويا لأخيه من مقتولٍ
منتصرٍ.
لقد انتصر قابيلُ عسكريًا، وتمتَّع بعَرَضِ هذه الحياة
الفانية، لكنّه اشترى بذلك الشقاءَ الأبديَّ والخسران
المبين.
لقد أثنى الله على المقتول الذي لم يُدافع عن نفسه، ولم
يُقابِلِ الهجمةَ بالهجمة، ولم يذمّه على شيءٍ من موقفه
وإنّما صبَّ الذم على أخيه.
وعليه فليس لمُتشرّعٍ أن يغمز من قناة هابيل -أو من كانت
ظروفه الموضوعيّة كظروفه فكان منه ما كان منه- فينتقد
موقفه أو يُسفّه فعله.
إنَّ السُّنة التي سنَّّها هابيل (عليه السلام) كانت
منهاجًا عامًّا لدى أولياء الله. ولو اتّسع المجال لأتينا
بتفصيل ما ورد في النصوص الدينية من الكتاب والسنّة في هذا
السياق مع ما فيها من الإشارات واللطائف التي قد لا يُلتفت
إليها عادة. لكننا نكتفي بذكر نماذج تغني اللبيب في هذه
العجالة.
شيخ الأنبياء نوح
(ع):
وقد تقدّم منا في الحلقة الماضية ما يغنينا عن الإعادة وإن
كانت لا تخلو من فائدة، وحيثيّة التعرض لسيرته هناك تختلف
عنها في هذا المقام إذ كان النظر ثمَة إلى السياسة
الإلهيّة، والنظر في ما نحن فيه معكوف على سنته النبويّة،
حسبنا ههنا أن نذكّر بجهاده العظيم وصبره الجسيم طيلة عشرة
قرون يكابد فيها ألوان الحروب النفسيّة والإعلاميّة حتى من
امرأته التي تساكنه تحت سقف واحد، كلُّ هذا دون أن يبدر
منه أدنى ردة فعل هجوميّة أو دفاعيّة عنيفة مستعصمًا بآية
الصبر التي رقت به ليكون مفتتح عهد أولي العزم من الرسل.
خليل الله إبراهيم (ع)
ومن تلك النماذج الفذّة التي لا يمكننا التغاضي عنها:
مسيرة أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه وآله الصلاة
والسلام.
لقد اتسمت دعوته بحالة الحوار الذاتي، ثم انتقلت إلى طور
الحوار المباشر
{إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ
الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ * قَالُوا وَجَدْنَا
آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ * قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ
أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ * قَالُوا
أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ *
قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ
الشَّاهِدِينَ}().
ثم ختم بعامل الصدمة:
{وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ
تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلاَّ
كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ}()
ليثير التساؤل بشكل تلقائي مُلحٍّ:
{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ
الظَّالِمِينَ}()
وقاد بعضَهم الاستذكارُ التسلسلي إلى الاتهام المؤكد:
{قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ
إِبْرَاهِيمُ}()
فبادرت السلطة إلى إصدار أمر باعتقاله على ذمة التحقيق
{قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ}()
وباشروا بعملية الاستجواب
{قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا
إِبْرَاهِيمُ}؟().
فجاء الجوابُ "القُنبُلةُ" التي دوّت في أعماقهم مستخدمًا
فيه أسلوب التورية متخذًا طابع التقيّة التي يجهله أو
يتجاهله الكثيرون ممن يَدَّعون أنهم على ملّة إبراهيم
(عليه السلام):
{قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ
إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ}().
وتلاشَت الرَّغوةُ، وانقَشَعَ الضبابُ؛ لقد أخذهم من بين
أيديهم، وعن أيمانهم، وشمائلهم، ولم يترك لهم مَسْلَكًا
يسلكونه، لم يجدوا بُدًّا من الإقرار بحقيقة مُرّة فيما
بينهم:
{فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ
أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ}()،
ولم يمتلكوا إلا إبداء ما أضمروه فأعلنوا عن هزيمتهم
النكراء وتدحرجت كلمات الاعتراف خجلى على شفاهٍ لطالما
قُلِبَتْ استهزاءً واستعلاءً على الحقِّ، وكأنّهُم يكتشفون
أمرًا كان خافيًا ولأوّلِ مَرّة:
{ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا
هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ}()،
فاستثمر خليل الله (عليه السلام) الموقف بلسان الإشفاق
متخذًا من منطق المصالح الذي يسيطر على نمط التفكير العام
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا
يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ}()
فإنَّ حساباتِ النفعِ والضررِ الشخصيَّ تأبى عبادةً لما لا
يجلب نفعًا ولا يدفع ضرًا، قال هذا تمهيدًا لإعلان الموقف
الصريح من هذا المعبود وفي التمهيد العائد إلى ما ذكر من
قصوره عن نفعهم جلبًا وعن ضررهم دفعًا ما لا يخفى من براعة
سياسيّة
{أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَفَلا تَعْقِلُونَ}()
أسلوب يجمع بين الصراحة واللطافة، لكنّه لم يحل دون أعلى
مراتب العنف من جهتهم، إذ أفلسوا في حجتهم، والمفلس في
حجته يعمد إلى استخدام العنف ستارًا يحجب به ضعفه الذي
يعيشه عن الأنظار، لقد حكموا عليه بالإعدام حرقًا..
{قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ فَاعِلِينَ}()
إنه أشدّ العقوبات المتصورة وأقسى ما فيه انصبابه على من
لم يأتِ إلا بنصيحة مشفقة أقرّت بصحتها سرائرهم.
ولمّا أنهى القومُ منطقَ الحوار معه بالتعسّف، وتحوّلت
المسألةُ إلى هجومٍ شخصيٍّ يَقضي بإنهاء حياته، لم يُسجّل
التاريخُ لخليل الله أدنى ردةِ فعلٍ من قول أو فعل، خلافًا
لما كان عليه من إبراز الحجج القاطعة في مقام انتصاره
لربّه، لقد أحجم عن أيّة خطوةٍ استنصاريّةٍ، فسكت حتى عن
الدعاء بالخلاص فضلاً عن إهلاك القوم بتظلُّمِهِ إلى الله،
وقد نقله العلامةُ المجلسيُّ عن ابن شهرآشوب: ... أمرَ
نمرودُ بجمع الحطب... وأوقد النارَ فعجزوا عن رمي إبراهيم،
فعمل لهم إبليسُ المنجنيق فرُمي به، فتلقّاه جبرئيلُ في
الهواء فقال: هل لك من حاجة؟
فقال: أمّا إليك فلا، حسبي الله ونعم الوكيل.
فاستقبله ميكائيل فقال: إنْ أردتَ أخمدتُ النار؛ فإنَّ
خزائن الأمطار والمياه بيدي.
فقال: لا أريد.
وأتاه مَلَكُ الرّيحِ، فقال: لو شئتَ طيّرتُ النار.
قال: لا أريد.
فقال جبرئيل : فاسأل الله.
فقال: حسبي من سؤالي علمه بحالي().
وشاء الله أن يقهر جبروتهم
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى
إِبْرَاهِيمَ}()
{وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَخْسَرِينَ
* وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي
بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ}().
كانوا هم الأخسرين، مع أنَّهم عَمَدوا -بعد فشلهم في تنفيذ
الحكم الأول- إلى إصدار حكم بديل بالنفي له عن مسقط رأسه
بابل()،
وقد تمّ تنفيذ الحكم فهجر خليل الله موطنه العراق واستوطن
الأرض المقدسة في فلسطين،
وبذلك تظهر -مرّة أخرى- حسابات الربح والخسارة في منطق
السماء مغايرة عن ما هي عليه عند أهل الأرض، وإلا فكيف
يعقل أن يكون المنفي رابحًا والنافي خاسرًا، فهل من مدَّكر؟!
يتبع =
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
|