السنة الثامنة / العدد الثاني والعشرون/ كانون أول:  2012م / محرم: 1434هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

أدب الدعاء .. الفنّ المنفي

الشيخ مصطفى الشيخ سليمان يحفوفي

 

 

مقدمة

ترمي هذه المقالة إلى تبيان ما حاق بمناهجنا التعليمية، وبدراساتنا الأدبية من خللٍ في تعاطيها مع أدب الدعاء، حيث وجدنا أن هذه المناهج والدراسات قد سدلت دون أدب الدعاء ثوبًا، وطوت عنه كشحًا، حتى غدا لديها فنًا منفيًا من حاضرة الأدب، وملحقًا بساحة العدم، على الرغم مما يمتاز به من حضور متألّق يؤهّله لكي يأتي في طليعة الفنون الأدبيّة، ويتسنم علياءها.

ولما كان هذا التغييب يسبّب نقصًا خطيرًا في مادة الأدب العربي، وينعكس جهلاً بيّنًا على طلابه ومريديه، فقد رأيت أن أحاول الكشف عن هذا الخلل الذي ابتُليَتْ به مناهجنا التعليمية، ودراساتنا الأدبية، راجيًا أن تساهم محاولتي هذه في لفت أنظار المعنيين، من البحّاثة، ومن القيّمين على وضع المناهج التعليمية، علّهم يتداركون هذا النقص، فينفضوا عن أدب الدعاء غبار النسيان، ليقدّموا بذلك للأدب العربي خدمة جُلّى، حيث يعيدون إلى حاضرته نصوصًا قيِّمة، قد تُساهم في إغناء مادته، وفي إعلاء شأنه بين الآداب العالمية. كما يمكنها أن تُساهم أيضًا في قلب عدد من المفاهيم والأحكام التي تسالم عليها الكثيرون من البحَّاثة ودارسي الأدب، حتى غدت تشكّل في نظرهم نوعًا من البديهيات الواضحة التي لا تحتاج إلى أي نقاش، ولا تستدعي أيّة إعادة نظر.

وقد اقتضانا موضوع البحث أن نبدأ مقالتنا هذه بعرض لمحة تاريخية موجزة، نُشير من خلالها إلى قِدَم ظهور أدب الدعاء، وسعة انتشاره، ومدى أصالته. لننتقل بعدها إلى تبيان ما ابتُليتْ به المناهج التعليمية والدراسات الأدبية من نقصٍ ناجم عن تجاهلها أمر هذا الأدب. ثم نمضي من هناك إلى محاولة استكشاف أهمّ الأسباب التي يمكن أن يناط بها هذا التجاهل، فنناقشها لمعرفة مقدار حظها من الصواب أو الخطأ، حتى إذا ما انتهينا إلى التدليل على بطلانها وعدم كفايتها لتعليل نفي أدب الدعاء، حقَّ علينا حينئذٍ وعلى جميع المعنيين أن نسعى لكي نعيد الحق إلى نصابه، فنعمل جاهدين على استرجاع هذا الأدب من منفاه وإحلالِه محلَّه المناسب من الدراسات الأدبية والمناهج التعليمية.

ولنشرع الآن في تفصيل هذا الإجمال.

أدب الدعاء.. لمحة تاريخية

تتوغل جذور "أدب الدعاء" عميقًا في باطن الزمان حتى تبلغ النشأة الأولى للإنسان وتتصل بفجر حياته على الأرض حين جعل الله له فيها مستقرًا ومتاعًا إلى حين.

قال تعالى في محكم كتابه العزيز: {وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ * قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}([1]).

بعد أن أكل آدم (عليه السلام) وزوجه من الشجرة المنهي عنها وبدت لهما سوءاتهما، ابتهلا إلى الله سبحانه بقولهما: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}. فكان ابتهالهما هذا أولَ دعاء يصدح به الإنسان، والومضةَ البكر التي افتتح بها فن البيان، لتنطلق بذلك شرارة واحد من أوائل الفنون التي عرفتها البشرية عبر تاريخها الطويل.

وهذه قضية جديرة بالانتباه، خصوصًا وأن مؤرخي الفن يهملونها حين يحاولون تحديد أوائل الفنون ظهورًا فيرجحون أنه هو هذا الفن أو ذاك، ولكنهم يُغفلون الإشارة إلى فن الدعاء([2]).

وليس من غرضنا في هذا البحث أن نؤرخ للفنون ولا لتسلسل ظهورها، ولكننا أردنا التأكيد فقط على أصالة فن الدعاء، وعلى قدم ظهوره في حياة الإنسان.

وعلى كل حال، ومهما يكن الأمر في مسألة تاريخ ظهور أدب الدعاء، فإنّه مما لا ريب فيه أنه قد تسنى لهذا الأدب -وعلى مرّ الأزمان- أن يشغل حيزًا معتبرًا من صفحات آداب الشعوب المختلفة، حتى لا يكاد يخلو منه أدب شعب من الشعوب ولا تراث أمة من الأمم، سواء تجلى ذلك في كتبها الدينية المقدسة، أو في آثار مبدعيها من البشر.

وليس الأدب العربي بمنأى عن هذه الحقيقة، بل إننا نجد أن هذا الأدب قد اهتم بفن الدعاء اهتمامًا بالغًا قد لا يرقى إليه الكثير من آداب الشعوب والأمم الأخرى.

وقد تجلى هذا الاهتمام بدءًا بالقرآن الكريم، حيث نجده وقد حفظ لنا أول دعاء ابتهل به الإنسان على الإطلاق، كما أطْلَعَنا على الكثير من الأدعية التي جرت على ألسنة الأنبياء (عليهم السلام)، أو على ألسنة غيرهم من عباد الله الصالحين. وهو إلى ذلك حثّ الإنسان على الدعاء، ودلّه على مجمل أصنافه، وعرَّفه الكثير من شؤونه وقضاياه.

وجاء تاليًا دورُ النبي الأكرم (صلى لله عليه وآله) ليبين ويفصّل الكثير من أمور الدعاء ومسائله المختلفة، وليترك لنا إلى جانب ذلك جملة من روائع النصوص التي أُثرت عنه (صلى لله عليه وآله) في أدب الدعاء.

وما إن وصلت النوبة إلى ورثة علوم النبي (صلى لله عليه وآله) من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) حتى بلغ هذا الفن على أيديهم ذروته، واتسع إلى أقصى مداه، وبات يشكّل مدرسة خاصة عرفت باسم (مدرسة الدعاء)، وهو اسم يشير إلى كل ما يدل عليه إطلاق عنوان (المدرسة) من خصائص فنية، أو من قِيَم فكرية ومعنوية.

ومن ثَمَّ شهد أدب الدعاء مساهامات أخرى أفاض بها عدد من العلماء والأدباء والشعراء، الأمر الذي زاد دائرة هذا الأدب اتساعًا، وأضفى على صفحاته تنوّعًا، ورفده بطاقاتٍ إبداعيةٍ متجددة..

* * *

يتلخص لنا من كل ما سبق أن أدب الدعاء أدب متجذر في أعماق الزمان، ومنتشر على امتداد المكان، وله في أدبنا العربي مكانة خاصة لا تكاد تخفى على مطّلع، ناهيك عمن هو من أهل البحث أو من أصحاب الاختصاص. وفي هذا دلالة واضحة على ما يحتفّ به هذا الأدب من أصالة، وما يتصف به من أهمية.

ونتيجة لذلك، فقد كان من الحريّ أن يحظى هذا الأدب في مؤسساتنا التعليمية، وفي دراساتنا الأدبية بعناية فريدة، وأن يُحبى باهتمام خاص. لكن -ولشديد أسف- جاء الواقع على خلاف المتوقع، وتجلّى عن نقيض المنتظر والمأمول، فلم تُبدِ المؤسسات التعليمية أي اهتمام بأدب الدعاء، ولم تولِهِ الدراسات الأدبية والفنية أدنى عناية([3])، بل صمتت عنه هذه وتلك صمتًا مطبقًا وأهملته إهمالاً تامًا وكأنها لا تقرّ له بهويته الأدبية ولا تعترف له بخصائصه الفنية، فأمسى لديها فنًّا منفيًا يقيم خارج حدود ميادين الفن والأدب.

وفيما يلي سنحاول الإضاءة على هذا الواقع المرّ الذي انتهجته المؤسسات التعليمية والدراسات الأدبية تجاه أدب الدعاء. ولكنني أودُّ قبل ذلك أن أنبّه على أنني قصرت اهتمامي في هذا البحث على أدب الدعاء في فن النثر وحده دون فن الشعر، وعلى ما ينتسب من هذا الفن إلى أهل البيت (عليهم السلام) دون ما ينتسب إلى سواهم. ولم يكن ذلك مني ناشئًا عن توهّم خلو الشعر العربي من روائع شعرية تنتمي إلى أدب الدعاء، ولا عن توهّم أن التأليف في هذا الأدب اختص بأهل البيت (عليهم السلام) ولم يتجاوزهم إلى غيرهم، بل يرجع الأمر أولاً إلى ضيق المجال عن الخوض في الميادين المذكورة كلها.

ويرجع ثانيًا إلى ما اختص به أدب الدعاء المكتوب بلغة النثر من مميزات ذاتية جعلته أولى بالاهتمام، وخصوصًا ما أُثر منه عن أهل البيت (عليهم السلام). وسأذكر هنا جملة من الخصائص التي تتضمن كل واحدة منها -وفي آن معًا- الإشارة إلى علة الاهتمام بالنثر دون الشعر، وإلى سبب الاقتصار على نصوص أهل البيت (عليهم السلام) دون سواها.

الخصائص الداعية لقصر البحث على نثر آل البيت (ع)

الخاصية الأولى:

وتتمثل بالسبق الزماني، حيث إن التأليف بلغة النثر في أدب الدعاء كان قد تقدم على التأليف بلغة الشعر في هذا الأدب، وقد نُميَت أوائل نصوصه -بعد ما ورد منها في الكتاب العزيز، أو على لسان النبي الأكرم (صلى لله عليه وآله)- إلى الإمام علي (عليه السلام) والذي لا يخفى على أحد معاصرتُه لنزول الوحي، وسبقُه لاعتناق الإسلام.

الخاصية الثانية:

وهي تتمثل بكثرة النصوص النثرية قياسًا على النصوص الشعرية، ويعود أكثرها إلى أهل البيت (عليهم السلام)، ويكفينا في هذا المقام أن نعلم أنه قد أُثر عن كل واحد من أئمة أهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام)، كما عن السيدة الزهراء (عليها السلام) أيضًا عدد من الأدعية، بل لقد ترك لنا الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) صحيفة كاملة هي الصحيفة السجادية والتي يبلغ عدد أدعيتها أربعة وخمسين دعاءً، هذا عدا عن أدعيته الأخرى المروية عنه في غير هذه الصحيفة.

الخاصية الثالثة:

ونشير في هذه الخاصية إلى ما شهده أدب الدعاء في فن النثر من تنوع في موضوعاته وتشعب في أغراضه ومراميه، حتى لم يكد يترك شأنًا من شؤون الإنسان ولا بعدًا من أبعاده الوجودية إلا وطرق بابه. لذا جاءت نصوص هذا الأدب -وخصوصًا ما أُثر منها عن أهل البيت (عليهم السلام)- مستوعبة لشتى ميادين الحياة الإنسانية من عقائدية وفلسفية، وروحية ونفسية، وتربوية وسلوكية، وفردية واجتماعية..

ويكفي المرء شاهدًا على هذا أن يتصفح فهرس محتويات الصحيفة السجادية، فهذا وحده كفيل بالدلالة على صدق ما نقول، ناهيك عن غيرها من صحفهم ونصوصهم (عليهم السلام) مما يضيق المقام عن مجرد ذكره وتعداده.

الخاصية الرابعة:

ونُلْمِحُ فيها إلى أن أدب الدعاء المكتوب بلغة النثر -وخصوصًا ما ينتمي منه إلى أهل البيت (عليهم السلام)- يتميز عمومًا بجِدَّةِ الطرح وعمق الفكرة وجمال الأسلوب، وهي أمور لا يسعنا التدليل عليها في مقامنا الحالي، إلا أننا سنعاود الإشارة إليها في موضعٍ تالٍ من هذه المقالة، آملين أن نتمكن من تلمّس بعض ملامحها في سياق مقالاتٍ لاحقةٍ بعون الله تعالى.

* * *

والآن، وبعد الفراغ عما أردنا التنبيه عليه هنا، نعود إلى ما كنا فيه من البحث لنتبين واقع أدب الدعاء في المناهج التعليمية، وفي الدراسات الأدبية والفنية.

أولاً: أدب الدعاء في المناهج التعليمية:

إذا ما تتبع المرء الكتب المعتمدةَ في تدريس مادة الأدب العربي في مدارسنا وجامعاتنا، والمعدّةَ وفقًا للمناهج التعليمية المقررة، فإنه سرعان ما يلاحظ غياب أدب الدعاء غيابًا تامًا عن صفحات هذه الكتب، فهو يجد أن هذه الكتب -وعند تعرضها لدراسة أنواع فنون النثر- تُعدّد من أنواعه: القصة والمسرحية والخطبة والرسالة والمقالة والتقرير.. ثم تُغفل فن الدعاء، فلا تعتبره نوعًا من أنواع فنّ النثر.

وهي حين تعرض النصوص التي اختارتها كنماذج لأنواع فنون النثر، فإنها تعرض نماذج للأنواع المختلفة التي سبق ذكرها، وتسكت هنا أيضًا عن أدب الدعاء، فلا تخصّه ولو بنص واحد يحكي عن وجوده، ويكشف عن بعض ما يميّزه من الخصائص.

وهكذا يغدو أدب الدعاء فنًا منفيًا لا تعترف به المناهج التعليمية، ولا تقرّ بوجوده الكتب الدراسية.

ثانيًا: أدب الدعاء في الدراسات الأدبية والفنية:

تستوقف المرء لدى مطالعته جملةً من المؤلفات المعنية بدراسة الأدب العربي ظاهرةٌ مستغربة، تتمثل في خلو هذه المؤلفات عن أي ذكر لأدب الدعاء، وقد كان من الطبيعي أن يترتب على هذه الظاهرة عدد من المفاهيم الخاطئة والأحكام المغلوطة، والتي يأتي على رأسها الدعوى القائلة بأن الأدب العربي لم يتسنَّ له الاستفادة من ظهور الدين الجديد، فظلّ بمنأى عن استلهام روح الإسلام، وعن التأثر بالخصائص الفنية للقرآن، وهي دعوى ربما تكون جائزة بعض الجواز لو كانت مكتبة الأدب العربي خالية من الحضور المشرق لأدب الدعاء([4])، وهو الأدب الذي انعكست على صفحاته روح الإسلام وخصائص القرآن بأبهى صورها الممكنة.

وفيما يلي نورد ثلاثة نماذج متنوعة للدراسات التي أقصت عن صفحاتها أدب الدعاء، وسوف نبين في طيات كل واحد منها السبب الذي دعانا لاختياره.

النموذج الأول:

نتوقف في هذا النموذج عند كتاب (الفن ومذاهبه في النثر العربي) للدكتور شوقي ضيف، وهو كتاب حاول فيه مؤلفه أن يؤرخ للنثر العربي في مختلف أطواره ومراحله، وقد تبنى المؤلف في كتابه هذا الدعوى التي سبق منا الإشارة إليها والقائلة بعدم تأثر الأدب العربي بالمعطيات الجديدة للإسلام، ولذلك نجده يصرح بهذه الدعوى على طريقته، فيقول: [ويدور الزمن دورة أخرى وإذا الإسلام يفتح صفحة مشرقة في تاريخ العرب فقد أخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن دائرة الشعوب القبلية إلى دائرة الأمم المتحضرة وقد رأيت النثر يستمر في أثناء العصر الإسلامي في الصورة التي رسمها العصر الجاهلي من حيث نسجه وصوغه وإن اختلفت موضوعاته وتشعبت معانيه] ([5]).

فالمؤلف يرى في نصه هذا أن النثر قد استمر في أثناء العصر الإسلامي في الصورة التي رسمها العصر الجاهلي من حيث نسجه وصوغه، ولم يكن لظهور الإسلام في نظره أي تأثير على هاتين الحيثيتين، بل ظلّ الحكم فيهما هو حكم الجاهلية.

وما كان للمؤلف أن يذهب هذا المذهب لو لم يقفز في كتابه عن أدب الدعاء ويسقطه من ميدان الفن والأدب، وإلا فإن أدنى مقارنة بين ما كان عليه النثر الجاهلي وما أضحى عليه النثر في أدب الدعاء لكفيلة بأن تكشف لنا عن عظمة التجديد الذي تجلى في أدب الدعاء من حيث النسج والصياغة([6]).

ونحن إنما اخترنا كتاب الدكتور شوقي ضيف ليمثّل أحد نماذجنا المنتقاة، لأجل ما انطوى عليه من شمول وتشعب في دراسة النثر، وقد وصفه مؤلفه بأنه دراسة متشعبة للنثر وما مرَّ به من أحداث في عصوره وأقاليمه المختلفة([7]).

ولكن الغريب أن الدكتور شوقي ضيف لم يتعرض في كتابه هذا لدراسة أدب الدعاء، وذلك على الرغم من شمول هذه الدراسة وتشعّبها ومحاولتها تتبّع ما مرّ به النثر من أحداث في عصوره وأقاليمه المختلفة، حتى كأنّ أدب الدعاء -وعلى كثرة نصوصه- لم يحظَ بنعمة الوجود، أو أنه لم يَرقَ في نظر الدكتور إلى المستوى الذي يؤهله للدخول إلى واحة الفن والأدب!

النموذج الثاني

نلتقي في هذا النموذج مع الأستاذ محمد قطب في كتابه "منهج الفنّ الإسلامي" لنجده يعتنق مضمون الدعوى السابقة ذاتها، وإن اختلفت طريقته في التعبير.

ومن الأمثلة على ذلك قوله: [وقد كان يخطر في حسي دائمًا أن العرب لم يستفيدوا من القرآن ولا من الإسلام في إنتاجهم الفني. لقد مرّت عليهم فترة في أول الإسلام، انصرفوا فيها عن كثير من فنون القول. وربما كان لهذا الانصراف أسباب متعددة] ([8]).

ثم يذكر جملة من هذه الأسباب ليعود فيقول: [ولكنهم حين عادوا إلى التعبير لم يلجأوا مع الأسف إلى الرصيد الجديد يستمدون منه مشاعرهم وإيحاءاتهم وأغراض تعبيرهم وطرائقه. وإنما عادوا إلى الجاهلية كاملة في مجال التعبير، أغراضه وطرائقه سواء] ([9]).

ويقول في موضع آخر: [وأيًا ما كان الأمر، فقد خسر الأدب العربي فرصة هائلة للاستمداد من رصيد الإسلام الضخم، وظل في تاريخه الطويل كله مجانبًا -تقريبًا- لهذا الرصيد، مبتعدًا عن ثرائه محرومًا من القدرة على إبداع لون من الفن كان حريًا أن يكون أروع الفنون العالمية وأبدعها، لو وجد له التوجيه الصالح والقدرة الفنية المؤاتية] ([10]).

يتبنى الأستاذ محمد قطب في هذه النصوص الدعوى السابقة نفسها والقائلة بوجود هوة فاصلة باعدت ما بين الأدب العربي والإسلام، فحرمت هذا الأدب من فرصة مؤاتية كان يمكنها أن ترقى به إلى مصاف الآداب العالمية لو تسنى له الاستفادة منها، والاستمداد من الرصيد الضخم الذي جاء به الإسلام.

والملاحظ هنا أيضًا هو غياب فن الدعاء عن كتاب الأستاذ محمد قطب كما غاب عن كتاب الدكتور شوقي ضيف، وهذا ما يجعل المؤاخذات التي سجلناها على كلام الدكتور شوقي ضيف، ترد هي بعينها على كلام الأستاذ محمد قطب، فلا نعيد.

ولكن يبقى أن نقول: إن الداعي الذي دعانا لاختيار كتاب الأستاذ محمد قطب كواحد من نماذجنا المنتقاة، هو سعي المؤلف في هذا الكتاب لاستنباط قواعد منهج الفن الإسلامي، والأسس التي يبتني عليها هذا الفن.

وهذا ما يقودنا إلى التساؤل: أنّى يتأتى للباحث أن يتصدى لاستنباط قواعد منهج الفن الإسلامي واستكشاف أسسه، بقصد تجلية صورة هذا المنهج وإيضاح معالمه، في الوقت الذي يغفل فيه هذا الباحث -أو يتغافل- عن أدب تُمثّل نصوصه تجليًا من أروع تجليات الفن الإسلامي، وتُفصح خير إفصاح عن خصائص هذا الفن، وعما يراعيه من قواعد، وما يلتزمه من منهج؟!

فهل يعقل أن يتصدى امرؤ لدراسة وظيفة الرئتين-مثلا- مع غفلته عن وجود الهواء، أو مع عدم معرفته بخصائصه، وما يكوّنه من العناصر؟!

النموذج الثالث

وفي نموذجنا الثالث والأخير نحط الرحال عند كتاب "المقدمة في نقد النثر العربي/ مشروع رؤية جديدة في تقنيات البحث والكتابة" لمؤلفه الشيخ علي حب الله، لنجد المؤلف يتبنى هو أيضًا الدعوى نفسها التي تقدمت الإشارة إليها في كلمات الدكتور شوقي ضيف والأستاذ محمد قطب.

وقد صرح الشيخ بهذه الدعوى عند تعرّضه لدراسة النثر في صدر الإسلام حيث قال: [نعم أثَّر القرآن الكريم في الأدب الجاهلي من جهة الموضوع والأفكار والمعاني، لا من جهة الأسلوب والصياغة، يظهر ذلك جليًا في شعر أمية بن أبي الصلت (ت8 هـ) على أحد القولين، وفي الخطابة الدينية] ([11]).

إن هذا النص وإن كان يفصح عن المضمون نفسه الذي تفصح عنه كلمات الدكتور شوقي ضيف، والأستاذ محمد قطب، بل ويكاد يتطابق حتى في صورته مع كلام الأول منهما، إلا أن كتاب الشيخ ينفرد بعد ذلك بالإشارة إلى استثناء وحيد استطاع خرق القاعدة، والخروج عن صورة الأدب الجاهلي من حيث الصياغة والأسلوب، وقد تمثل هذا النموذج بكتاب "نهج البلاغة" للإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ([12]).

غير أن الشيخ حب الله وعلى الرغم من هذا الاستثناء الذي نبّه عليه- وهو استثناء جدير بالثناء- فقد ظل نصيب أدب الدعاء في كتابه هو النفي([13])، كما كانت عليه حاله في كتابَي المؤلفَين المذكورَين.

هذا، وقد كان الذي دعانا لتخصيص هذا النموذج بكتاب "المقدمة في النثر العربي" هو انتماء مؤلفه إلى مذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، وهو المذهب الذي أفاض أئمته بإبداعاتهم في أدب الدعاء، ودرج أتباعهم على إيلاء هذا الأدب الكثير من العناية والاهتمام.

* * *

والآن.. وبعد الفراغ عن بيان ما عمدت إليه المناهج التعليمية، وكذلك الدراسات الأدبية، من استبعاد لأدب الدعاء ونفيه عن دائرة الفن والأدب، يصل بنا المقام إلى التساؤل عن إمكانية وجود أسباب ومبررات معقولة، تقف وراء هذا النفي والاستبعاد. ونحن سوف نورد فيما يلي جملة من أهم الأسباب والمبررات التي قد يُتمسك بها لاستبعاد بعض النصوص ونفيها عن دائرة الأدب، لنناقش من بعدها مدى صلاحية هذه الأسباب والمبررات للانطباق على أدب الدعاء.

الأسباب المحتملة لنفي أدب الدعاء

السبب الأول: الشك في النسبة

قد يشك الباحث في نسبة بعض النصوص إلى أصحابها، الأمر الذي يُسقطها في نظره عن الاعتبار، فيدعوه ذلك إلى إهمالها وعدم التعويل عليها. وربما يكون هذا السبب عينه هو الدافع إلى نفي أدب الدعاء، إذ لعل الذين أهملوا هذا الأدب لم تثبت لديهم صحة نسبة نصوصه إلى أصحابها.

ولكن الصحيح أن هذا التبرير لا يمكن قبوله فيما يخص أدب الدعاء، وذلك لأن الكتّاب الذين أغفلوا هذا الأدب في مؤلفاتهم، لم يتعرّضوا لمسألة النسبة لا من قريب ولا من بعيد، بل أهملوا أدب الدعاء جملةً ودون التعرض لأي شأن من شؤونه، ليعاملوه بذلك معاملة الشيء المعدوم. فلو كان شكهم في النسبة هو الدافع الذي يقف وراء فعلهم، لتحتّم عليهم أن يعللوا شكهم هذا ويبينوا الوجه فيه، خصوصًا وأن الأمر يتعلق بنصوص تتميز بكثرتها الوافرة، وبأنها ذات اعتبار لدى أمة كبيرة من الناس ممن أدركوا قيمتها وشُغفوا بتلاوتها، كما تهيّأ لها عدد من المحققين الذين أفاضوا في تصحيح نسبتها، وربطها بأصحابها.

فليس من حق أيّ باحثٍ بعد هذا أن يقفز عن هذه النصوص، بحجة الشك في صحة نسبتها، إلا إذا أشار إلى وجودها أولاً، ثم بيّن بعد ذلك مبررات شكه هذا ودواعيه.

ولذلك فإننا نجد أن ما نطالب به هنا من منهج قد التزمه كتّابنا المعنيون -ولكن في غير أدب الدعاء-. فها هو الأستاذ محمد قطب مثلاً يورد في كتابه "منهج الفن الإسلامي" بيتين من الشعر منسوبين لسكينة بنت الحسين، ثم يعلق عليهما بقوله: [لم أتمكن من تحقيق نسبة هذين البيتين لسكينة، ويقال إنهما لأحد المتصوّفين، والذي يعنينا من هذه النماذج هنا هو موضوعها بصرف النظر عن قائلها]([14]).

فها أنت تراه يحفظ الاعتبار لبيتين من الشعر، لأجل موضوعهما، على الرغم من عدم تمكنه من تحقيق نسبتهما. أفلم يكن الأولى به إذن أن يحفظ الاعتبار أيضًا لأدب الدعاء، على كثرة نصوصه، مع ما تفيض به هذه النصوص من مميزات وقيم؟! ثم يستفيد من ذلك كله في محاولته استنباطَ منهج الفن الإسلامي، سواء صحّت لديه النسبة أم لم تصح، حيث إن عدم صحة النسبة لا تُحيل الموجود معدومًا، ولا تفرغ الأدب السامي من خصائص سموّه.

والأمر عينه يقال بالنسبة للدكتور شوقي ضيف والشيخ علي حب الله، حيث أظهرا الشك في صحة أكثر المروي من خطب الجاهلية، ولكنهما استشهدا مع ذلك ببعض هذه الخطب، واستخلصا منها بعض ظواهر وخصائص تلك الخطابة ([15]).

السبب الثاني: النقص الكمي

ربما يكون الداعي أحيانا لكي يهمل الباحث نوعًا من أنواع الفنون الأدبية هو ندرة نصوص هذا النوع الأدبي، أو قلّة قرّائه. وهذا ما قصدناه بعبارة: "النقص الكمي" الواردة في العنوان.

ونحن حتى لو سلّمنا جدلاً بكفاية هذا السبب لإغفال أدب من الآداب، أو إقصاء فن من الفنون، فإنه لا يمكننا التسليم بانطباق هذا السبب على أدب الدعاء. وذلك لعدم ابتلاء هذا الأدب بأي لون من ألوان النقص الكمي، لا من حيث ندرة نصوصه، ولا من حيث قلة قرائه.

ويكفينا، فيما يتعلق بالحيثية الأولى، أن نذكّر القارئ بما قلناه عند حديثنا حول الخصائص التي دعتنا إلى قصر اهتمامنا على النثر دون الشعر، وعلى أدعية أهل البيت (عليهم السلام) دون سواهم. فقد قلنا هناك: [ قد أُثر عن كل واحد من أئمة أهل البيت الاثني عشر (عليهم السلام)، كما عن السيدة الزهراء (عليها السلام) أيضًا عدد من الأدعية، بل لقد ترك لنا الإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) صحيفة كاملة هي الصحيفة السجادية والتي يبلغ عدد أدعيتها أربعة وخمسين دعاءً، هذا عدا عن أدعيته الأخرى المروية عنه في غير هذه الصحيفة].

ثم.. وعلاوةً على ما ذكرناه، فإنا لو أخذنا بعين الاعتبار أيضًا أدعية غير أهل البيت (عليهم السلام) من علماء وأدباء وشعراء، لحصلنا من ذلك على مساحة واسعة تشغلها نصوص أدب الدعاء، الأمر الذي يرفع عن هذا الأدب أيّ وهم بوجود نقص كمّي يمكن أن ينسب إليه من حيث عدد النصوص التي تخصّه، والقادرةِ على تمثيله خير تمثيل في واحة الفن والأدب.

والآن وبعد أن بيّنّا بطلان الحيثية الأولى من حيثيتي النقص الكمي (ندرة النصوص)، يبقى علينا أن نناقش الحيثية الثانية وهي حيثية (قلة القرّاء)، فنسأل: هل يعاني أدب الدعاء فعلاً من أيّ نقص في عدد قرّائه والمقبلين على تلاوته أم أن الواقع يكشف لنا عن عكس ذلك؟

في الإجابة على هذا السؤال نقول: لعلنا لا نبالغ إذا ما ادّعينا أن أدب الدعاء قد يأتي في الصدارة من حيث اهتمام القرّاء به وإقبالهم على قراءته. يدلّنا على ذلك الواقع المشهود، حيث نجد الكثير من الناس، وبمختلف فئاتهم الاجتماعية والثقافية يقبلون إقبالاً قلّ نظيره على تلاوة نصوص أدب الدعاء، يحدوهم على ذلك ما يجدونه في هذه النصوص من حلاوة البيان وغنى المضامين وتنوعها، مما يرضي الذائقة الفنية لدى الفرد، ويتيح له التعرف على أعمق المشاعر الإنسانية والتعبير عنها، كما يفتح ناظريه على آفاق واسعة من الأفكار والمعارف والقيم، فيضع بذلك بين يدي كل شخص ما ينسجم مع حاجاته المختلفة، ويتلاءم مع تطلعاته المتنوعة.

ويكفينا للتدليل على ذلك أن نستعرض جملة من صنوف الأدعية والمواضيع التي تدور حولها. فثمّة أدعية وُضعت لتناسب كل يوم من أيام الأسبوع بخصوصه (كدعاء يوم الجمعة، ودعاء يوم السبت...)، وإخرى وضعت لتناسب بعض أوقات اليوم الواحد (كأدعية الصباح والمساء، ودعاء السَّحَر...) ومنها ما وضع مراعيًا للمناسبات الدينية المختلفة (كأدعية شهر رمضان، وأدعية الأعياد، وكدعاء يوم عرفة...).

ومن الأدعية ما يصدح بتمجيد الله سبحانه وتقديسه، ومنها ما يلهج بالتحية والتسليم على الملائكة والأنبياء والرسل، ومنها ما هو مخصص للتوبة وطلب المغفرة، أو لاستنزال الرزق وطلب الشفاء، ومنها ما يدعو لأهل الثغور، أو للجيران، أو للأهل والأبناء... ومنها ما يدعو للأمة جمعاء...

والخلاصة هي أن نصوص أدب الدعاء لا تكاد تترك مناسبة من المناسبات، ولا حالاً من أحوال الفرد أو المجتمع إلا وتعرّضت له وقالت كلمتها فيه، فهيّأت بذلك مادّة غنيّة وضعتها بين أيدي الناس، متيحة لهم أن يستخدموها بما يتوافق مع الحاجات الروحية والحياتية للفرد، أو بما يتلاءم مع الشؤون العامة للأمة والمجتمع.

ولهذا فإننا نجد من الناس مَن يثابر على تلاوة بعض نصوص الأدعية بصورة يومية، ومنهم من يتلوها في بعض المناسبات الدينية الخاصة، ومنهم من يدعو بها وفقًا للظروف التي تَعرض عليه، أو تتعرّض لها الأمّة...

ثم إن كَثرة ما يُطبع من كتب الأدعية، وكَثرة ما يقتنيه الناس من هذه الكتب، لَدليلٌ على شدّة الاهتمام بهذا الأدب. ومما يدل على هذا الاهتمام أيضًا ما نشهده من تلاوة متكررة للدعاء في البيوت، وفي المساجد، وفي النوادي الدينية، وفي الإذاعات، وعلى قنوات التلفزة، وفي غيرها من المواضع المتاحة للعبادة ومناجاة الله جل وعلا.

وبناء على هذا يتبين لنا أن الحيثية الثانية. وهي حيثية قلّة عدد القراء، لا تنطبق على قرّاء أدب الدعاء.

وبذا يغدو السبب الثاني باطلاً بكلا شقّيه، وعليه فلا يصح تعليل نفي أدب الدعاء بوجود نقص في عدد نصوصه، ولا في عدد قرّائه والمقبلين على تلاوته.

وبهذا يصل بنا المقام إلى مناقشة السبب الثالث والأخير.

السبب الثالث: القصور الفني

إنّ واحدًا من الأسباب التي يمكن أن يُتمسك بها لإسقاط بعض النصوص الأدبية عن الاعتبار هو قصورها الفني، فقد لا ترقى هذه النصوص في أساليبها التعبيرية أو في خصائصها الفنية إلى المستوى الذي يؤهلها للدخول إلى واحة الفن والأدب، فتُبتلى لأجل ذلك بالإعراض عنها، ويكون مصيرها النفي.

 وهنا ربما يتوهم متوهم بأن مثل هذا السبب كان هو الداعي إلى إهمال أدب الدعاء والحكم عليه بالنفي من دائرة الأدب.

ولكن الحق هو أن أدب الدعاء بعيد كل البعد عن مثل هذا القصور، بل العكس هو الصحيح، إذ يمكننا أن ندّعي بأن أدب الدعاء إنما يأتي في الذروة العليا بين فنون الأدب من حيث خصائصه الفنية وقِيَمه التعبيرية، وهي أمور لا يسعنا التعرض لها في هذه العجالة. إلا أننا نرجو أن يوفقنا المولى سبحانه إلى تلمس بعض ملامحها في سياق مقالات لاحقة تتصدى لمعالجة مواضيع أخرى من مواضيع أدب الدعاء، ولذا فإننا سنكتفي هنا بإيراد شهادتين فقط من شهادات أعلام فنّ البيان([16])، تؤيدان ما ادعيناه، وتغنياننا حاليًا عن كل تفصيل.

أولاهما: شهادة يعود تاريخها إلى فترة صدر الإسلام. وهي شهادة الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول: [وإنّا لأمراء الكلام، وفينا تنشّبت عروقه، وعلينا تهدّلت غصونه]([17]).

وأما ثانيتهما فهي شهادة معاصرة للشاعر اللبناني الشهير سعيد عقل يصوّر فيها مقام الإمام علي (عليه السلام) من فنّ البيان، فيقول([18]):

كلامي على رَبِّ الكلامِ هوىً صَعْبُ
 

 

تهيّبتُ إلا أنّني السَّيفُ لم يَنْبُ
 

فإذا ما كان الإمام علي وأهل البيت (عليهم السلام) هم أمراء الكلام بحسب شهادة الإمام علي نفسه، وإذا ما كان الإمام علي (عليه السلام) أيضًا هو رب الكلام بحسب شهادة الشاعر سعيد عقل. فهل يمكن أن نحتمل بعد هذا أن يعاني أدب أرباب الكلام وأمرائه من قصورٍ في قِيمهِ الفنّية وخصائصه الأسلوبية؟!

وهكذا يظهر بأن الأسباب الثلاثة، والتي يمكن اعتبارها من أهم أسباب إهمال نصّ من النصوص أو فنّ من الفنون، لا تنطبق على فن الدعاء. ولذلك يغدو من البعيد وجود أيّ سبب وجيه في البين يمكن التمسك به لإسقاط أدب الدعاء ونفيه عن ساحة الفنّ والأدب.

خاتمة

وأخيرًا أودّ أن أؤكد على أن جُلّ ما قَصَدنا إليه في هذه المقالة هو إبراز أدب الدعاء إلى دائرة الضوء في مجال المناهج التعليمية والدراسات الأدبية، والتنبيه على ما يفضي إليه إهمال هذا الأدب والاستهانة بشأنه من نقصٍ خطيرٍ في مادة الأدب العربي، الأمر الذي يحرم هذا الأدب من بعض أروع نصوصه وأبهاها، ويُفوّت عليه فرصة سانحة قد ترقى بمكانته على صعيد الأدب العالمي، فتستفيد من مدخرات كنوزه الإنسانيةُ جمعاء. خصوصًا وأن أدب الدعاء ينطوي على مضامين فلسفيّة وعقائديّة وخُلُقيّة وتربويّة وروحيّة... قلّ نظيرها، ولكننا تجنّبنا التلبُّث عندها لكي لا نتعدى عن صلب موضوع مقالتنا الحاليّة.

فنرجو أن نكون قد وفقنا لما رمينا إليه، وأن تَلفِتَ مقالتُنا هذه انتباهَ بعض المعنيين بشؤون الأدب العربي، فتشعرهم بما يقع على عاتقهم من مسؤوليّة، علّهم يبادرون إلى الإضاءة ما أمكنهم على أدب الدعاء، محاولين ردّه من منفاه، لِيُقيمَ في محلّه المناسب في حاضرة الفن والأدب.

كما نرجو أن يوفقنا المولى سبحانه إلى معالجة جوانب أخرى من أدب الدعاء في مقالة لاحقة. والحمد لله أولاً وآخرًا.


ـــــــــــــــــــــــــــ

الهومش

([1]) الأعراف: 19-23.

([2]) لعل بعض مؤرخي الفن لا يؤمنون -كما نؤمن نحن- بأن القرآن الكريم كتاب منزل من عند الله تعالى، ولكن ذلك لا يعفيهم من أن يحتملوا احتمالاً قويًا أن يكون أدب الدعاء واحدًا من أوائل الفنون ظهورًا، لأنه احتمال ينسجم وطبيعة الأمور، خصوصًا وأن العلوم الإنسانية المعنيّة تسلّم بقدم ظهور التدين في حياة الإنسان. ولا شك في وجود تلازم بين التدين والدعاء. وعليه. فنحن لا نلزمهم الاعتقاد بما ورد في القرآن الكريم. بل نلزمهم بنتائج العلوم الإنسانية وبما يقتضيه منطق الأمور.

([3]) لا تخلو المكتبة العربية من وجود مؤلفات قيمة تختص بأدب الدعاء. وهي ليست مقصودة بكلامنا الوارد في المتن. وذلك لأن مرادنا بالدراسات الأدبية والفنية. والتي أخذنا عليها -في المتن- عدم اهتمامها بأدب الدعاء، هو ذلك النوع من الدراسات التي سعت لكي تعالج بعض المواضيع العامة والقضايا الكبرى في الأدب. لتخرج من ذلك بنتائج عامة وأحكام كلية. إلا أنها وعلى الرغم من عموم مواضيعها وكليّة نتائجها أهملت أدب الدعاء. وهو الأدب الذي كان من شأنه أن يزودها بمادة غنية ويمدها بذخائر هامة. مما يعينها خير عون على نيل أوطارها وبلوغ غاياتها.

([4]) إن الدعوى المذكورة لم تنتج عن إقصاء نصوص أدب الدعاء وحدها عن ساحة الأدب العربي، بل هي ناتجة أيضًا عن إقصاء نصوص أخرى غيرها وعلى رأسها كتاب نهج البلاغة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام). ولكن لما كان موضوع بحثنا هو أدب الدعاء، لذلك فإنا لم نتعرض لأيّ من النصوص الأخرى.

([5]) د. شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في النثر العربي. ص8، دار المعارف. القاهرة. ط8.

([6]) وكمثال على ذلك يمكن للمرء أن يقارن بين ما أورده الدكتور شوقي ضيف في كتابه من نصوص تكشف عن أساليب الصياغة في النثر الجاهلي. وبين دعاء الصباح -مثلاً- للإمام علي (عليه السلام)، ليدرك جليًا عمق الهوّة الفاصلة بين أساليب الصياغة في هذين النثرين. ولا أعتقد أن أي متذوق للأدب سيوافق بعدها على عدم وجود تجديد كبير في دعاء كدعاء الصباح. أو على أن هذا الدعاء لا يمثل في صياغته سوى استمرار للصياغة التي عرفتها خطب الجاهلية وسجع الكهان.

ومن الأمثلة التي تصور أساليب الصياغة في خطب الجاهلية والتي أوردها الدكتور شوقي ضيف في كتابه نقتطع هذه السطور: "أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، آيات محكمات، مطر ونبات، وآباء وأمهات، وذاهب وآت، ضوء وظلام، وبرّ وآثام، لباس ومركب، ومطعم ومشرب.." ص64:

ونقتطع من دعاء الصباح هذه السطور: "يا من دلّ على ذاته بذاته، وتنزه عن مجانسة مخلوقاته، وجلّ عن ملاءمة كيفياته، يا من قرب من خطرات الظنون، وبعد عن لحظات العيون، وعلم بما كان قبل أن يكون..".

وبكلمة سريعة جدًا يمكننا أن نقول: إن قوة السبك، كما الموسيقى، وكذلك طريقة استخدام السجع، تتفاوت كلها تفاوتًا بيّنًا بين النصين، بحيث لا يمكن التسليم بأن الصياغة التي اعتمدها الدعاء تمثل عملية استمرار للصياغة التي اعتمدتها خطب الجاهلية.

([7]) انظر: الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص10.

([8]) محمد قطب: منهج الفن الإسلامي. ص7، دار الشروق - بيروت/ القاهرة، 1393هـ-1973م.

([9]) نفسه ص 12.

([10]) نفسه ص 13.

([11]) الشيخ علي حب الله: المقدمة في نقد النثر العربي - مشروع لرؤية جديدة في تقنيات البحث والكتابة، ص 65، دار الهادي، بيروت، ط 1، 1421 هـ - 2001 م.

([12]) انظر: "المقدمة في نقد النثر العربي" ص 67.

([13]) لا يتعارض قولنا "بأنّ نصيب أدب الدعاء في كتاب من الكتب هو النفي" مع كون هذا الكتاب قد ذَكَر -مثلاً- اسم الصحيفة السّجاديّة في سياق ما وبصورة عابرة، حيث إن المطلوب هو إعادة الاعتبار إلى أدب الدعاء، وذلك من خلال تصنيفه كَفَنٍّ بين الفنون، ومن خلال ذكر نصوصه ودراستها، ثم استخراج ما يبتني على ذلك كله من نتائج يمكنها أن تغيّر الكثير مما يخصّ الأدب العربي من مفاهيم وأحكام، ولا شيء من هذا تستطيع أن تنهض به الإشارة العابرة، أو يستوفيه ذكر اسم من الأسماء.

([14]) منهج الفن الإسلامي. ص 297.

([15]) انظر: الفن ومذاهبه في النثر العربي. ص 34 و 35 ؛ والمقدمة في نقد النثر العربي، ص 57.

([16]) إن الشهادات التي أدلى بها أعلام فنّ البيان حول بلاغة الإمام علي (عليه السلام). أو حول سحر بيان بعض الأئمة من ولده. لا يكاد يحيط به الإحصاء، وقد توالت هذه الشهادات على مرّ العصور. وكان لعصرنا الحالي نصيبه الوافي منها أيضًا. مما يدل على دوام جِدّة نصوصهم (عليهم السلام). وملاءمتها لأذواق أهل الأدب في كل زمان ومكان.

([17]) نهج البلاغة. شرح الشيخ محمد عبده، ج2 خطبة رقم233 .

([18]) سعيد عقل: ديوانه (كما الأعمدة).

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثاني والعشرون