السنة التاسعة / العدد الثالث والعشرون / حزيران  2013م / رمضان  1434هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

دولة بني عمّار في طرابلس

إطلالة تاريخية

(الحلقة الثانية)

الشيخ نعيم نعمة

 

تمهيد

تعرضنا في الحلقة السابقة لنشأة هذه الدولة وتأسيسها وبعض إنجازاتها، وسوف نتابع في هذه الحلقة سرد الإنجازات العلمية لهذه الدولة، والظروف التي مرّت عليها، وكيفية سقوطها.

الدور العلمي لبني عمار

لم يغفل بنو عمار الحياة الثقافية والعلمية في طرابلس، لذا وضعوا نصب أعينهم هدفًا وسعوا للوصول إليه، وقد حققوا في هذا الإطار نجاحًا باهرًا، ولم يكن ذلك صعبًا عليهم بما أنهم قضاة وعلماء قبل أن يصبحوا أمراء، فسخّروا كل مقدراتهم من أجل بناء دور العلم والمدارس والمكتبات، ففتحوا أبوابهم لجذب العلماء إلى طرابلس، وأكرموهم منتهى الإكرام.

فقام أول ملوكهم أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار بتأسيس دار العلم، وجعل لطلاب العلم فيها رواتب، وفرّق على أهلها ذهبًا، وجعل لها نظّارًا يتولون القيام بذلك، فسنّ هذه السُنّة الحسنة التي سار عليها من جاء بعده.

وجدَّد جلال الدولة علي بن محمد بن عمار دار العلم وطورها، وزاد في اقتناء الكتب، وأصبحت مكتبة طرابلس تحوي أكثر من ثلاثة ملايين كتاب كما ذكر بعض المؤرخين.

وكان شعراء الشام يفدون لمدح أمراء بني عمار ونيل جوائزهم فيلقون الترحيب والتكريم، وكثرت حلقات التدريس، وازدحمت المدينة بأشهر الأعلام، من أدباء وفقهاء وشعراء ولغويين، وقصدها الناس على اختلاف أجناسهم وأديانهم ومذاهبهم، كما كان يفد إليها التجار والرحالة وطلبة العلم والعلماء من كل البلاد([1]).

كما كانوا يبعثون القضاة والخطباء الى المدن الشامية، ومن ذلك ما ذكره "ابن تغري بردي" في كتابه "النجوم الزاهرة" عن ابن تلتمش: [أنه عندما فتح حصن انطرطوس من الروم سنة 475هـ، بعث إلى صاحب طرابلس جلال الملك يطلب منه قاضيًا وخطيبًا ليقيم بها]([2]).

وازدهر علم الترجمة في زمن بني عمار، فترجمت الكثير من العلوم والآداب عن اللاتينية والفارسية وغيرهما إلى اللغة العربية، ومنها إلى اللغات الأخرى، كما شهد بذلك المستشرق (دي لاسي أوليري) في كتابه "علوم اليونان وسبل انتقالها إلى العرب": [وساوت في ذلك كبريات الحواضر العربية، فكثر فيها المترجمون والنسّاخون والكتَّاب والخطاطون]([3]).

دار الحكمة في طرابلس

أنشأ بنو عمار في طرابلس مدرسة عرفت باسم "دار الحكمة" ضمت عددًا كبيرًا من طلاب العلم، حتى وقفت جنبًا إلى جنب مع "دار الحكمة" بمصر أيام الفاطميين، فنشرت العلوم والآداب والثقافة.

وإلى جانب طلاب العلم فقد كان يفد إليها العلماء لمراجعة المؤلفات لأشهر المؤلفين في العلوم والمعارف، كما كانت تعقد حلقات علمية لكبار العلماء ينضم اليها العلماء الوافدون إلى طرابلس للاستزادة من العلم.

وأصبحت طرابلس بذلك ميدان علم ودرس ومباراة في التعلم، ومركزًا من أعظم المراكز الشيعية في ذلك العصر([4])، وكعبة يحج إليها طلاب العلم للأخذ عن علمائها مختلف العلوم والفنون من فقه وحديث ولغة وأدب وفلسفة وهندسة وفلك وطب وغيره، وللاطلاع على المصنفات والمخطوطات العلمية والأدبية والدينية والفلسفية التي كانت تحتويها مكتبتها([5]).

وكانت بطرابلس عدة حلقات علمية يعقدها كبار العلماء، نذكر منهم المحدث المشهور "خيثمة بن سليمان القرشي الأطرابلسي" و"ابن أبي الخناجر الطرابلسي"، و"أحمد بن محمد الطليطلي"، الذي كانت له حلقة عامرة بالطلبة يلقي عليهم فيها دروسًا في العربية والأدب، وقد حضرها الشاعر "ابن الخياط" صاحب الديوان المعروف باسمه.

دار العلم في طرابلس

انفردت مدينة طرابلس دون غيرها من بلاد الشام، بقيام مكتبة كبرى فيها عُرفت بـ"دار العلم"، التي اعتبرت «أروع مكتبة في العالم]([6])، وكان الهدف من إنشاء هذه الدار سياسيًا ودينيًا، إلى جانب كونه عملاً إنسانيًا وحضاريًا عظيمًا لنشر العلم والمعرفة، فمن البديهي أن يبادر أول حكام طرابلس من أسرة بني عمار إلى إقامتها لتكون قاعدة سياسية ودينية وعلمية لنشر مذهبهم الشيعي وبث أفكارهم الدينية، ولتوطيد سلطانهم السياسي في طرابلس ونواحيها، بعد أن استقلت ثقافيًا وفكريًا وسياسيًا عن مصر، إذ كان عليهم الوقوف أمام الدولة السنيّة المتمثلة بالدولة السلجوقية في العراق، لذا بادر أمين الدولة إلى وضع حجر الأساس لهذا الصرح العلمي فور استقلاله بطرابلس سنة 462هـ، أو قبل ذلك، حيث شغل أمين الدولة منصب القضاء في طرابلس عدة سنوات قبل أن يستقل بدولته، لذا عمل على تهيئة النواة الأولى لهذه المكتبة التي كان يحلم بها من الكتب التي جمعها بنفسه وأضاف إليها خزائن الكتب التي كان قد وقفها ذوو اليسار من أهل طرابلس([7]).

وجاء بعده جلال الملك فتصدى لجمع المكتبات الأهلية الموجودة في طرابلس والتي كانت تضم خزانات كتب موقوفة، إلى جانب مكتبة عمه أمين الدولة، وكوّن منها -ومن الكتب التي جمعها- دار كتب ضخمة، اهتم الكثير من المؤرخين بتعداد ما احتوته من المؤلفات، وفي عهده ازدحمت طرابلس بالعلماء والأدباء وطلاب العلم، حيث قصدها معظم أهل دمشق إبّان فتنة "أتسز بن آف بن الخوارزمي"([8]) الذي دخل دمشق سنة 468هـ([9]).

اهتمّ جلال الملك بهذه الدار، وأوقف على طلابها الجرايات، فكان يفرّق على أهلها ذهبًا تشجيعًا لهم. وكان يكلّف الناظر على الدار القيام بمهمة توزيع هذه الجراية، وكان الشاعر ابن الخياط ممن تصرف له تلك المنحة، وقد ذكر ذلك في ديوانه([10]).

وادعى بعض المؤرخين نسبة تأسيس دار العلم إلى جلال الدولة في سنة 472هـ([11])، ويدحض هذا القول روايتا «ابن شداد» و «ابن الفرات» من أن أمين الدولة كانت له دار علم فيها ما يزيد على مائة ألف كتاب وقفًا.

وليس عجيبًا أن تكثر المكتبات في طرابلس وأن تمتلئ بالكتب في القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، وفي القرن الذي تلاه، فقد كانت مصانع الورق التي تعمل في المدينة تمدّ المشتغلين ببيع أو نسخ أو تأليف الكتب بكمّيات موفورة من الورق بمختلف أنواعه المعروفة في ذلك الوقت من الكاغَذ، والطوامير، والقراطيس، إذ كانت تشتهر بصناعة الورق الجميل الذي يفوق السمرقندي جودة([12])، وكان لذلك أثره على حركة التأليف، والكتابة، والتجليد، والوراقة، فكثر الورّاقون الذين كانوا يعملون في تجليد الكتب على الطريقة الصينية وزخرفتها وتوشيحها بالخطوط الملوّنة، ووصلتنا أسماء عدة من الورّاقين بطرابلس، منهم أبو الحسن إبراهيم بن عبد الله بن إسحاق الورّاق ويُعرف بـ"ورّاق الوزير"([13])، وأبو علي الحسن بن محمد بن هبة الله الطرابلسي الورّاق([14]).

يقول د. منصور سرحان مدير إدارة المكتبات العامة بدولة البحرين:

[أسس بنو عمار مكتبة ضخمة لهم في طرابلس بسورية تحمل اسمهم، غير أنهم جعلوها عامة فيما بعد وفتحت أبوابها لكل قارئ ومتحدث ودارس دون استثناء، وكانت الكتب في معظمها مجلدة تجليدًا فاخرًا، ومزخرفة بالذهب والفضة وقد قدّر شوشتري في كتابه "مختصر الثقافة الإسلامية" مقتنيات مكتبة بني عمار بثلاثة ملايين كتاب، وكان لها أكثر من مائة وثمانين ناسخًا يتناوبون العمل بالمكتبة ليلاً ونهارًا] ([15]).

ولا يمكننا أن نتصور هذا العدد الضخم من الكتب، إلا وهي موجودة في دار كبيرة تتسع لها، وأن هذه الدار كان يرتادها من يريد الاطلاع عليها، طالما أن الكتب التي بين جنباتها كانت كتبًا موقوفة.

وكانت المكتبات الكبرى في ذلك العصر توضع تحت إدارة ثلاثة أشخاص هم المشرف الأعلى ويسمى «الوكيل»، وأمين المكتبة ويسمى «الخازن»، ومساعد ويسمى «المشرف»، ويتولى إداراتها أشهر العلماء والأدباء والشخصيات البارزة في المجتمع([16])، وقد ذكر في كتب المؤرخين أسماء ثلاثة من نظار دار العلم وهم:

الحسين بن بِشْر بن علي بن بِشْر الطرابلسي المعروف بالقاضي.

أبو الفضل أسعد بن أحمد بن أبي رَوح القاضي الطرابلسي.

- أبو عبد الله أحمد بن محمد الطُليطلي النحوي، وسيأتي التعريف بهم بعد قليل.

نبذة عن بعض علماء طرابلس

- الشيخ الكراجكي

هو محمد بن علي بن أبي الفتح الكراجكي، كان عالمًا فاضلاً متكلمًا فقيهًا محدثًا ثقةً جليل القدر، تتلمذ على الشيخ المفيد، والسيد المرتضى، والشيخ الطوسي، وسلار بن عبد العزيز الديلمي، والحسين بن عبيد الله الواسطي، وأبي الحسن بن شاذان القمي، سكن الرملة (فلسطين)، وأخذ عن بعض المشايخ في حلب والقاهرة ومكة وبغداد وغيرها من البلدان، لم تُعلم سنة ولادته، توفي في صور (لبنان) سنة ‏449هـ.

قال العلامة المجلسي (رحمه الله): وأما الكراجكي فهو من أجلّة العلماء والفقهاء والمتكلمين، وأسند إليه جميع أرباب الإجازات، وكتابه كنز الفوائد من الكتب المشهورة التي أخذ عنه جل من أتى بعده، وسائر كتبه في غاية المتانة([17]).

- القاضي ابن البراج

هو أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البرّاج، من كبار علماء الشيعة الإمامية وفُقهائهم ووجوههم، وخليفة الشيخ الطوسي بالفقه في البلاد الشامية، وُلد بمصر ونشأ بها، ثم رحل إلى العراق فقرأ على الشريف المرتضى سنة 429هـ/ 1038م، حتى توفي السيد المرتضى سنة 436هـ/1045م، ثم أكمل قراءته على الطوسي والكراجكي وتقي الدين ابن النجم الحلبي وغيره.

ثم دخل طرابلس في سنة 438ﻫ/1074م، وأقام فيها ما ينيف على الأربعين سنة، وعيّنه أميرها جلال الدولة ابن عمّار قاضيًا، فاستمر في منصبه عشرين عامًا، وقيل: ثلاثين عامًا، وكان يحضر مجلس جلال الدولة ويناظر العلماء أمامه في الفقه وغيره، وقد ناظر إمام المعتزلة عبد السلام القزويني.

تخرّج عليه الكثير من طلابه الذين نبغوا وصاروا أساتذة في اختصاصهم، ومنهم الفقيه الحسن بن بابويه والقاضي أسعد بن أبي رَوْح الطرابلسي، وغيرهما.

صنّف عدة كتب في علم الكلام وفي أصول الفقه وفروعه، منها: "المهذب" و"شرح جُمل العلم والعمل" لشيخه المرتضى، وكان الطوسي ألّف كتابه "الْجُمل والعقود في العبادات" بناء لطلب ابن البرّاج.

توفي بطرابلس ليلة الجمعة في التاسع من شعبان سنة 481 هـ، ودُفن في حجرة القاضي([18]).

- الحسين بن بشر بن علي بن بشر الطرابلسي

أحد علماء الشيعة في طرابلس وقضاتها، كان خطيبًا وبارعًا في المناظرة، نقل الكراجكي مناظرة له في الخطابة تفوَّق فيها على الخطيب البغدادي سنة 449هـ.

ذكره ابن أبي طي في رجال الشيعة وقال: [كان صاحب دار العلم بطرابلس، وله خطب يضاهي بها خطب ابن نباتة]. وله ذكر في ديوان عبد المحسن الصوري. ولم تعلم سنة وفاته([19]).

- أبو الفضل أسعد بن أحمد بن أبي رَوح

القاضي الفقيه، ناظر دار العلم بطرابلس، ورأس الشيعة في الشام، تفقّه على القاضي ابن البرّاج، ولما توفي شيخه خَلَفَه في القضاء سنة 481هـ / 1089م، وأصبح مرجعًا للإمامية.

عيّنه جلال الدولة ناظرًا على دار العلم، فبقي إلى عهد فخر الْمُلك، وعُقدت له حلقة الإقراء، وانفرد بالشام وطرابلس وفلسطين، وتخرّج عليه جماعة، منهم ابن مخلوف الراشدي المعروف بابن بركات الطرابلسي.

جمع فخر الْمُلك بينه وبين بعض فقهاء المالكية فتناظروا في مسائل فقهية وغيرها، منها تحريم الفقّاع، وحدوث القرآن، وأفعال الناس مخيّرة أم مسيّرة، وفي المتعة، فكانت له الغلبة عليهم.

له عدة مؤلفات، منها: "عيون الأدلّة في معرفة الله"، و"التبصرة في معرفة المذهبين: الشافعية والإمامية"، و"البيان في الخلاف بين الإمامية والنعمان"، و"المقتبس في الخلاف مع مالك بن أنس"، و"مسألة تحريم الفُقّاع" وغيرها.

انتقل ابن أبي روح في أواخر القرن الخامس الهجري من طرابلس إلى صيدا وأقام بها، ونقل معه مكتبته الخاصة -وكانت تحتوي على أكثر من أربعة آلاف مجلّد- ولكنها ضاعت من جرّاء الحروب الصليبية، بقي في صيدا إلى أن احتلها الصليبيون، فانتقل منها إلى دمشق وتوفي فيها نحو سنة 520هـ/1126م([20]).

- أبو عبد الله أحمد بن محمد الطليطُلي

هاجر إلى طرابلس في عهد أميرها جلال الدولة ابن عمار سنة (478هـ-1085م) بعد سقوط طليطلة في الأندلس بأيدي القشتاليين، فاحتضنه وجعله متوليًا لدار العلم، وبقي في منصبه حتى سقطت طرابلس بأيدي الصليبيين سنة 502 هـ/1109م. وأخذوه أسيرًا، فافتداه أمير شيْزَر واستضافه عنده ليكون أستاذًا لابنه الأمير أسامة بن منقذ، وكان من تلامذته الأمير سلطان بن علي بن مقلد بن منقذ.

كان الطُليطُلي من الحفَظَة المُكثرين، ويتمتع بملكة نادرة وذاكرة قوية في حفظ نصوص الكتب والمتون، وقد أشار الأمير أسامة بن منقذ إلى ذلك في كتابه "الاعتبار" عندما اختبره في قوة حفظه([21]).

بقي الطُليطُلي مقيمًا في شيْزَر([22]) حتى عُرف بنزيلها، إلى أن توفي سنة 512هـ/ 1019م تقريبًا.

بداية حصار دولة بني عمار

استطاعت هذه الدولة الفتية أن تصمد في وجه التحديات التي واجهتها أيام الحصار الصليبي عشر سنوات تقريبًا، ولكنها ابتليت بقلة الناصر وكثرة الأعداء، لذلك أفل نجمها باكرًا ولم يكتب لها البقاء.

ففي سنة 495هـ بدأ حصار الإفرنج لطرابلس، وفي هذه السنة بدأ عهد انتقال بني عمار من الكتاب إلى السيف، فأعدوا العدة لحصار طويل، وبعد مرور سنة كاملة على الحصار كانت مهمة فخر الملك فيها مزدوجة ذات شقين: شق دفاعي وشق هجومي، فهو يقف في وجه اقتحام الصليبيين لمدينته فيقاتلهم دفاعًا عنها، ثم هو ينفذ بمراكبه من بين سفن الصليبيين المحاصرة له، فيهاجم الصليبيين في ما يحتلونه من بقاع، فكان فخر الملك بطل الدفاع والهجوم معًا، وكان "العماريون" أهله يشدون من أزره، وشعبه الطرابلسي يصبر ويصابر معه.

وقد تناول ابن الأثير هذه القضية بشيء من التفصيل في تاريخه حيث يقول([23]):

[عندما وصل القائد الصليبي"صنجيل" (ريموند دي سان جيل) إلى مشارف الشام كان أول من أدرك الخطر الصليبي فخر الملك بن عمار، فصمم على الإعداد لهذا الخطر قبل أن يتغلغل في البلاد الشامية، وذلك بالدعوة إلى حلف إسلامي يقف في وجهه، فراسل الأمير "ياخز" في حمص والملك "دقاق بن تتش" في دمشق يقول لهما: من الصواب أن يعاجل صنجيل إذ هو في هذه العدة القريبة، فاستجابا له، فخرج الأمير "ياخز" بنفسه وسيّر "دقاق" ألفي مقاتل، وخرجت الامدادات الطرابلسية فاجتمعوا على باب طرابلس وصافوا "صنجيل" هناك].

ويقول ابن الأثير، في أحداث سنة 496هـ:

 [وكان صنجيل يحاصر مدينة طرابلس الشام، والمواد تأتيها، وبها فخر الملك بن عمار، وكان يرسل أصحابه في المراكب يغيرون على البلاد التي بيد الفرنج ويقتلون من وجدوا، ويقصد بذلك أن يخلو السواد ممن يزرع لتقلَّ المواد من الفرنج فيرحلوا عنه].

ثم تأتي سنة 497هـ، فيقول ابن الأثير: [في هذه السنة وصلت مراكب من بلاد الفرنج إلى مدينة اللاذقية فيها التجار والأجناد والحجاج وغير ذلك، واستعان بهم صنجيل الفرنجي على حصار طرابلس، فحاصروها معه برًا وبحرًا وضايقوها وقاتلوها أيامًا، فلم يروا فيها مطمعًا فرحلوا عنها إلى مدينة جبيل...].

سنتان مرتا وفخر الملك محاصر في مدينته، وهو صامد يدافع عنها دفاع الأبطال، ويستعين الأعداء بقوى جديدة فلا ينالون من صموده منالاً.

وفي سنة 499 هـ يقول ابن الاثير: كان صنجيل قد ملك مدينة جبلة، وأقام على طرابلس يحاصرها فحيث لم يقدر أن يملكها، بنى بالقرب منها حصنًا وبنى تحته ربضًا، وأقام مُراصدًا لها، ومنتظرًا وجود فرصة فيها، فخرج الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس فأحرق ربضه ووقف صنجيل على بعض سقوفه المتحرقة ومعه جماعة من القمامصة والفرسان فانخسف بهم فمرض صنجيل ومات بعد عشرة أيام، فحمل إلى القدس ودفن فيه.

ثم إن ملك الروم أمر أصحابه باللاذقية ليحملوا الميرة إلى هؤلاء الفرنج الذين على طرابلس فحملوها في البحر، فأخرج إليها فخر الملك بن عمار أسطولاً فجرى بينهم وبين الروم قتال شديد، فظفر المسلمون بقطعة من الروم فأخذوها وأسروا من كان بها وعادوا.

ولم تزل الحرب بين أهل طرابلس والفرنج خمس سنين إلى هذا الوقت، فعدمت الأقوات بها وخاف أهلها على نفوسهم وأولادهم وحرمهم، فجلا الفقراء وافتقر الأغنياء، وظهر من ابن عمار صبر عظيم وشجاعة ورأي سديد، ومما أضر بالمسلمين فيها أن صاحبها استنجد بـ"سقمان بن أرتق" فجمع العساكر وسار إليه، فمات في الطريق.

وأجرى فخر الملك ابن عمار الجرايات على الجند والضعفاء فلما قلّت الأموال عنده شرع يقسط على الناس ما يخرجه في باب الجهاد فأخذ من رجلين من الأغنياء مالاً مع غيرهما فخرج الرجلان إلى الفرنج وقالا: إن صاحبنا صادرنا فخرجنا إليكم لنكون معكم، وذكروا له أنه تأتيه الميرة من عرقة والجبل، فجعل الفرنج جمعًا على ذلك الجانب يحفظه من دخول شيء إلى البلد فأرسل ابن عمار وبذل للفرنج مالاً كثيرًا ليسلموا الرجلين إليه فلم يفعلوا فوضع عليهما من قتلهما غيلة].

ويظهر من هذا أن ابن عمار لم يكن بطلاً شجاعًا فقط، بل كان إلى ذلك حازمًا بعيد النظر، محكم التدبير، جلدًا أمام الاهوال، فلم يشغله ما هو فيه عن التفكير في أمر هذين الخائنين، فصمم على معاقبتهما لأن تركهما سليمين يشجع أمثالهما على الخيانة فأحكم تدبير أمر اغتيالهما، واستطاع اختراق صفوف أعدائه والوصول الى اغتيالهما، وفي هذا ما فيه من قوة العزم وسداد الرأي وإحكام الأمر، حتى لا يتجرأ أحد على الخيانة والركون إلى أعداء الله.

يقول المؤرخون: اجتمع على منازلة طرابلس كل من"برتران" الابن الاكبر لريموند الصنجيلي، ودوليم غوردان، ابن اخت ريموند المذكور، و"تانكريد" امير انطاكية واللاذقية و"بلدوين" ملك بيت المقدس، و"بلدوين" كونت الرها و"غوسلين" أمير قلعة تل باشر.

وكانت القوى المهاجمة للمدينة تتألف من 4000 فارس بروفنسي قدموا مع برتران، وعدد كبير من الجنوية جاءوا بعشرين سفينة، إلى جانب سفن برتران وعددها أربعون، و500 فارس أتى بهم بلدوين ملك القدس، إلى جانب عدد كبير من الرجالة و700 فارس من خيرة فرسان تانكريد، بالاضافة إلى بلدوين كونت الرها، وجوسلين وحرسيهما، ثم جموع المردة ومن أتى من جبل لبنان.

كان هذا الجمع قد تجمع على طرابلس بعد ان كلّت قواها بعد عشر سنوات من الحصار المضروب والقتال الدائم، وكان هو الذي دخل طرابلس.

توجّه فخر الملك إلى بغداد

بعد أن اشتد الحصار على طرابلس، آيس فخر الملك من قدرته على الصمود فترة أطول، فاستحسن الذهاب إلى بغداد لطلب المعونة من الدولة السلجوقية، لذا توجه مسرعًا وكله أمل أن يجد عندهم ما يفيده، ولكن الأمور جرت بعكس ما كان يتمنى، لأن السلاجقة بالرغم من أنهم وعدوه بالمساعدة ولكن الفاطميين استولوا على طرابلس، وقبضوا على بني عمار، وحملوهم إلى مصر بدل أن ينقذوها من أيدي الصليبيين، وتركوا فيها حامية ضعيفة مما جعل طرابلس لقمة سائغة أمامهم، وهذا ما يشير إليه ابن كثير فيقول:

[في هذه السنة -أي 501هـ- في شهر رمضان ورد القاضي فخر الملك أبو علي بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد قاصدًا باب السلطان محمد، مستنفرًا على الفرنج طالبًا تسيير العساكر لإزاحتهم، والذي حثّه على ذلك أنه لما طال حصر الفرنج لمدينة طرابلس على ما ذكرناه ضاقت عليه الأقوات وقلّت، واشتد الأمر عليه وعلى أهل البلد، فمنَّ الله عليهم سنة خمسمائة بميرة في البحر من جزيرة قبرص وأنطاكية وجزائر البنادقة، فاشتدت قلوبهم وقووا على حفظ البلد بعد أن كانوا استسلموا‏.‏

فلما وصل إلى بغداد أمر السلطان الأمراء كافة بتلقيه وإكرامه، ولما اجتمع بالسلطان قدّم هديته وسأله السلطان عن حاله وما يعانيه في مجاهدة الكفار ويقاسيه من ركوب الخطوب في قتالهم، فذكر له حاله وقوة عدوه وطول حصره وطلب النجدة، وضمن أنه إذا سيّرت العساكر معه أوصل إليهم جميع ما يلتمسونه، فوعده السلطان بذلك، وأرسل معه جيشًا بقيادة الأمير حسين بن أتابك قتلغ تكين، وخلع عليه السلطان خلعًا نفيسة وأعطاه شيئًا كثيرًا وودّعه، وسار ومعه الأمير حسين، فلم يجدِ ذلك نفعًا].

سقوط الدولة

بعد توجه فخر الملك إلى بغداد وانقلاب ابن عمه عليه، راسل بعض أهل طرابلس "الأفضل" أمير الجيوش بمصر يلتمسون منه واليًا يكون عندهم ومعه الميرة في البحر، فسيّر إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب واليًا ومعه الغلة وغيرها مما تحتاج إليه البلاد في الحصار، فلما صار فيها قبض على جماعة من أهل ابن عمار وأصحابه وأخذ ما وجده من ذخائره وآلاته وغير ذلك وحمل الجميع إلى مصر في البحر([24])‏، ومن غير المعروف إن كان بقي بطرابلس أحد من الأندلسيين أو المغاربة إبان سقوطها بيد الفرنج وطوال مدة حكمهم لها، من أواخر 502- 688هـ/1109-1289م.

قال ابن الأثير في حوادث سنة 501هـ: فيها قدم فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس الشام إلى بغداد للاستنجاد على الفرنج، فاستناب بطرابلس ابن عمه ذا المناقب وأمره بالمقام بها، ورتب معه الأجناد برًا وبحرًا وأعطاهم جامكية ستة أشهر سلفًا، وجعل كل موضع إلى من يقوم بحفظه بحيث ان ابن عمه لا يحتاج إلى فعل شيء من ذلك وسار إلى دمشق، فأظهر ابن عمه الخلاف له والعصيان عليه ونادى بشعار المصريين، فلما عرف فخر الملك ذلك كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمله إلى حصن الخوابي ففعلوا ما أمرهم].

ويقول ابن شداد في كتابه الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة متحدثًا عن سقوط طرابلس: [... نزل عليها صنجيل بجموعه في شهر رجب سنة خمس وتسعين وأربعمائة، وحاصرها وضايقها، وأناخ عليها بخيله ورجله، فبعث فخرُ الملك إلى الملوك بالهدايا والتحف يستنجدهم، ويستصرخهم، فلم يُعنْهُ أحد منهم، فلما لم يرَ منهم معاضدةً ولا مساعدةً، رغب إلى "صنجيل" في رحيله عنه، وبذل له أموالاً وبعث إليه ميرة، وتضرع جهده، فلم ينفعه ذلك عنده، فلما ضاق بالحصار ذرعًا وعجز عن دفع العدوّ عنه، خرج من أطرابلس قاصدًا السلطان محمود بن ملكشاه واستناب فيها ابن عمّه "أبا المناقب" ورتّب معه سعد الدولة فتيان بن الأعسر، ونفق في الجند ستة أشهر، فجلس أبو المناقب في بعض الأيام في مجلسه وعنده وجوه أهل أطرابلس، فخلط في كلامه فنهاه سعد الدولة، فصاح، وقال: "لا يا سيدي، لا يا سيدي"، فجرّد أبو المناقب سيفه وضرب سعدَ الدولة فقتله، وانهزم من كان في المجلس، فقطّع سعد الدولة إربًا إربًا، فقام أهلُ البلد وقبضوا عليه، واعتقلوه، ونادوا بشعار الأفضل ابن أمير الجيوش، وذلك في شهر رمضان سنة خمسمائة وواحد للهجرة.

ولما بلغ الأفضل ما فعله أهل أطرابلس جهّز إليهم جيشًا في البحر، وجعل مُقدّمهُ تاج العجم، فعمد تاج العجم إلى أخذ جميع أمواله، وما يحفظ البلد، فرقي إلى الأفضل أنه يريد العصيان بأطرابلس، فقبض على ما كان حمله في المراكب، وولّى بدر الدولة ابن الطيب الدمشقي، فوصل إلى أطرابلس، وكان أهلها قد ضاقت صدورهم من طول الحصار، ثم رأوا من تخلّفه ما رغّبهم عنه ونفّرهم منه فعوّلوا على طرده، ثم رأوا إبقاءه لأنهم لا ملجأ لهم إلا المصريين.

ووصلت من مصر مراكب بالغلات والرجال، فاعتقل بدر الدولة أعيان البلد وأصحاب فخر الملك وحريمه، فأخذهم وسيّرهم في المراكب إلى مصر، وبعث معهم ما كان بأطرابلس من السلاح والذخائر والأموال، فاعتقل أهل بني عّمار بمصر.

ولم تزل الفرنج على طرابلس مجدّين في حصارها، وأهلها يتكرر استصراخهم إلى الملوك ولا يجابون، وضعفوا عن مدافعة العدو وممانعته، وعمل الفرنج أبراجًا وأسندوها إلى السور، وأشرفوا بها على البلد وأوصلوا منها النكاية إلى كل أحد، فطلبوا الأمان فأجيبوا.

واستعجل بعض الجند في النزول إلى البر قبل إحكام عَقد الأيمان، فدخل الفرنج من حيث خرج الجندي، فقتلوا وسبَوا من كان فيها، وأخذوا ما لا يحصى من السلاح والمال. وذلك في ذي الحجة سنة اثنتين وخمسمائة بعد أن حاصروها سبع سنين وأربعة أشهر]([25]).

الافتراء على فخر الملك

بالرغم من كل ما فعله فخر الملك لرد هجمات الصليبيين نجد بعض الكتاب يحيكون القصص حول خيانته، وأنه السبب في سقوط طرابلس، حيث ذكر د. راغب السرجاني في كتابه الطريق إلى بيت المقدس، تحت عنوان "الصليبييون وتواطؤ العبيديين الشيعة" استنادًا إلى كتاب اسمه "أعمال الفرنجة وحجاج بيت المقدس ص274" لكاتب مجهول([26]) ما نصّه:

[ثم مرَّ الجيش الصليبي على مدينة طرابُلُس اللُّبنانيَّة، وكانت هذه المدينة مقرَّ حُكم أحد العائلات الشيعيَّة، وهي عائلة بني عمَّار، وحاكمها في ذلك الوقت هو فخر الملك أبو عليّ، ومع كونها شيعيَّة إلا أنها كانت منشقَّة عن الدولة العبيدية بمصر، وكانت هذه المدينة تُسيطر على عدَّة مدن وقرى مجاورة مكوِّنة بذلك إمارة واسعة نسبيًّا، تحكم عدَّة مناطق في لُبنان وسوريا.

قرَّر فخر الملك أبو علي بن عمار أن يُهَادن الصليبيين، فرفع أعلامهم على أسوار مدينته دلالة تبعيته لهم، وأقرَّ بدفع جزية لهم...].

وما ذكره ليس له شاهد في كتب المؤرخين، بل الشواهد على خلافه، وقد تقدم الكلام عن صمود ابن عمار وتخاذل السلاجقة وغيرهم عن التصدي للغزاة، وأن فخر الملك كان أول من تنبّه إلى خطر الصليبيين ولكنه لم يجد آذانًا صاغية، ولم يذكر أحد من المؤرخين أنه رفع أعلام الاستسلام غير ذلك المؤلف المجهول.

ولست أدري كيف يسوّغ د. السرجاني لنفسه أن يهمل كل أقوال المؤرخين المتقدم ذكرها وغيرها، ثم يعتمد بعد ذلك على (مؤلف مجهول). ولكن ما يهون الخطب أن هذه ليست أول تهمة تلصق بالشيعة زورًا وبهتانًا، فقد افترى عليهم بعض من كتب عن سقوط بغداد بيد المغول، حيث اعتبر أن الشيعة هم السبب في ذلك، للتغطية على فساد الخليفة في ذلك الوقت، والأعجب من ذلك أن هذه الافتراءات تجد من يتلقفها ويروج لها وإن كانت بعيدة عن روح البحث الموضوعي التي ينبغي أن يتصف بها الباحث.

حرق مكتبة بني عمار

بعد سقوط طرابلس بيد الصليبيين لم يكتفِ هؤلا الغزاة بالاستيلاء على دولة بني عمار، بل عمدوا وبكل وحشية إلى تخريب هذه الدولة والتنكيل بأهلها، فقتلوا رجالها وسبوا نساءها، وقضوا على كل ما يمثل تقدمًا وتحضرًا فيها، وكان أبرز ما خربوه هو دار العلم فيها، فقد عمدوا إلى إحراقها تعصبًا وكرهًا للإسلام.

ولم أعثر في كتب التاريخ التي بحثت فيها من يذكر كيفية إحراقهم للمكتبة سوى ما ذكره د. منصور سرحان مدير إدارة المكتبات العامة بدولة البحرين حول سبب حرق مكتبة بني عمار، حيث اعتبر أن الصليبيين توهموا بأن جميع محتويات المكتبة هي نسخ القرآن الكريم، حيث يقول:

[إنه من الفواجع التي لحقت بالمكتبات الخاصة في العصور الإسلامية مكتبة بني عمار في القرن العاشر الميلادي، فعند احتلال طرابلس دخل أحد القساوسة ويدعى الكونت "برتر امسنت جيل" مبنى المكتبة -وكان يرافق الحملة الصليبية- وتجوّل في القاعة المخصصة للقرآن الكريم، فاعتقد أن المكتبة بجميع قاعاتها مخصصة للقرآن الكريم فقط، فأعطى أوامره بحرقها، وأدّى حرقها إلى القضاء على الكثير من الكتب والمراجع القيمة وضياعها، ما أوجد فراغًا في المكتبة العربية الإسلامية آنذاك]([27]).

مصير فخر الملك

وكان فخر الملك لما خرج من طرابلس سار في البحر إلى بيروت، وقصد دمشق فالتقى بأتابك طغتكين، ثم توجه إلى بغداد والتقى بالسلطان، وأقام عنده إلى أن أنس من نصرته، لكن لما بلغه رجوعُ طرابلس إلى المصريين، ونقل حريمه وأمواله وذخائره وسلاحه، انكفأ راجعًا إلى دمشق فدخلها في النصف من المحرم سنة اثنتين وخمسمائة هجرية، وقصد صاحبها طغتكين فأكرمه وأقطعه بلادًا كثيرة، فأكرمه وأحسن لقياه، وسأله أن يعينه إلى الوصول إلى "جبلة" فأجابه، وسيّر معه عسكرًا إليها فدخلها، ثم توجه إلى مصر سنة 516هـ بعد أن اشتدّ الأمر عليه، وسلّم نفسه للدولة الفاطمية بعد مضي حوالي أربعة عشر سنة.

يقول د عمر عبد السلام تدمري: [أما بنو عمار، فقد انقرض وجودهم فيها قبل سقوطها بقليل؛ إذ أرسل الأفضل وزير مصر أحد الولاة فحمل أهل فخر الملك ابن عمار وأصحابه جميعًا إلى مصر في البحر سنة 502 هـ. فيما كان فخر الملك ينتقل بين جبلة وشيزر ودمشق وبغداد والموصل وماردين، قبل أن يعود إلى مصر في سنة 516هـ/1123م ويعلن ولاءه للخليفة الفاطمي الآمر بالله]([28]).

 ويذكر المقريزي في أحداث شهر صفر سنة 516هـ: [فيه وصل فخر الملك أبو علي عمار بن محمد بن عمار صاحب طرابلس إلى مصر، وقال في كتابه الذي رفعه إلى الخليفة الآمر بأحكام الله: [والمملوك لم يصل إلى هذه الوجهة إلا وقد علم أن له من الذنوب السالفة ما يستحق به القتل، وقتله بسيوف هذه الدولة عدل وإحياء له وتشريف، وفخر يكفّر عنه بعض ذنوبه من كفر نعمتها؛ فإن خرج الأمر بذلك فمنّة كريمة، وإن خفف عنه فتخليده في السجن أحب إليه من رجوعه إلى تأميل غير هذه الدولة].

فلما عرض هذا بالحضرة أدركته الرأفة بعد أن استفظع كل الحاضرين أمره وأشير بإيقاع الحوطة عليه وإيداعه خزانة البنود، فقال الوزير المأمون بن البطائحي للخليفة: [قد أجلّ الله عواطف مولانا ورحمته من أن يهاجر أحد إلى أبوابه ويلجأ إلى عفوه فيخيب أمله ويؤاخذ بذنبه، وما بعد استسلامه إلا الشكر لله والعفو عن جرمه، فإن العفو زكاة القدرة عليه، ويشمله ما شمل أمثاله].

فأعجب الخليفة الآمر ذلك، وخرج الأمر بأن تُعدَّد على ابن عمار ذنوبُه وذنوبُ أسلافه، ويقال له: قد أذهبت مهاجرتك ما كان يجب من عقوبتك. فإذا اعترف بذنوبه وذنوب أسلافه يقال له: قد غفر ذنبك وأنت مخيّر بين أمرين؛ إما أن تعود فيصل إليك من الإنعام ما يبلغك إلى حيث تريد ويصحبك من يوصلك إلى مأمنك، وإما أن تؤثر الإقامة بفناء الدولة فتقيم على أنك تلزم ما يعنيك وتقنع بما ينعم به عليك وتقبل على شأنك، وتترك التعرض للمخالطات وتتجنب جميع المكروهات.

فلما خوطب بذلك قبّل الأرض وأبى أن يرفع رأسه ووجهه، وكلما خوطب في رفعه، قال: لست أرفعه حتى أتلقى كلمات العفو عن إمام زماني وتمتلئ مسامعي بألفاظ مغفرته. فبلّغته الحضرة ما تمناه، وحصل له الأمن؛ وأمر به إلى دار أعدت له، وجعل فيها شهوات السمع والبصر، وحملت إليه الضيافات الكثيرة، وجرّد برسم خدمته حاجب معه عدة مستخدمين، فأقام أيامًا يسيرة ثم حملت إليه الكسوات التي لا نظير لها، ووصله من المواهب ما أربى على أمله، وقرّر له راتبًا في كل شهر، ستون دينارًا مع مياومة الدقيق واللحم والحيوان. وصار يتعهد ما يفتقد به أعيان الضيوف من بواكير الفاكهة المستغربة وأنواع التحف المستظرفة ورسوم المواسم، ورفع عنه الحاجب والمستخدمون، وجعل له في المواسم والأعياد من الكسوات الفاخرة ما يميزه عن أمثاله. ولزم طريقة حمدت منه، فاستمر إليه الإحسان؛ وصار يركب في يومي الركوب ويومي السلام وغيرهما].

خاتمة البحث

بعد هذه القراءة السريعة لتاريخ هذه الدولة أرجو أن أكون قد ساهمتُ ولو قليلاً في نفض غبار النسيان عن بعض صفحات التاريخ الإسلامي، بعد أن أضأتُ للقارئ الكريم على هذه الحقبة التي قلما تذكر في زماننا، ولا أخاله إلا فخورًا بهذه الدولة التي قامت في طرابلس، التي وإن انهارت بسرعة، إلا أنها تركت بصماتها الواضحة في الفكر الإسلامي والعمران والسياسة والاقتصاد والفنون الحربية طوال نصف قرن تقريبًا.

ولا أخفي عليكم كم اعتصرتني الحسرة على ما أصابها، لأنها دولة جديرة بالاحترام، وأن ينحنى لها بإجلال، فقد كانت كوكبًا في سماء المنطقة وشمسًا كشفت ظلمة ديجورها، ولكن السياسة والتعصب الأعمى، إضافة إلى تخاذل السلاجقة وضُعف الفاطميين وحصار الصليبيين، كلّ ذلك كان أقوى من قدرتها على التحمل فانهارت، وتغير عند ذلك الكثير من الأمور، وتشتت شمل الشيعة في المنطقة، وحلَّ بهم البلاء فلم يبقَ إلا بعض القرى الشيعية المتناثرة في تلك المنطقة.


ــــــــــــــــ

الهوامش

 ([1])الحياة الثقافية في طرابلس الشام، ص14.

([2]) النجوم الزاهرة، ابن تغري بردي، ج5، ص113.

 ([3])علوم اليونان وسبل انتقالها إلى العرب، دي لاسي أوليري، ترجمة د. وهيب كامل، راجعه زكي علي، ص266، مكتبة النهضة المصرية 1962م.

[4])) راجع: خطط الشام، محمد كرد علي، ج4، ص38، دمشق 1925م.

([5]) الحياة العقلية في عصر الحروب الصليبية بمصر والشام، أحمد بدوي، ص29، طباعة مصر.

([6]) راجع: تاريخ الحروب الصليبية، ستيفن رنسيمان، ترجمة د. العريني، ج2، ص113، بيروت 1969.

([7]) هذه الكتب الموقوفة هي التي كان يتردّد إليها أبو العلاء المعرّي ولم يفارقها إلا بعد أن جاءه نعيُ أبيه في سنة 377هـ/987م، كما يذكر القفطي في كتابه إنباه الرواة، ج1، ص50: أن أبا العلاء حضر خزانة الكتب التي بيد عبد السلام البصري -وكان يتولى النظر في دار العلم ببغداد- وطلب منه معرفة أسماء ما تحتويه من كتب، فقرأ له أسماءها، فلم يستغرب أبو العلاء منها شيئًا لم يقف عليه بخزائن طرابلس سوى كتاب واحد هو "ديوان تيم اللاّت" فاستعاره منه. راجع.

([8]) أتسز بن أوف الخوارزمي السلجوقي، المعروف بالإقسيس، ويلقب بالملك المعظم، أحد أمراء السلطان ملكشاه السلجوقي [ ابن ألب ارسلان]، وهو أول من استعاد بلاد الشام من أيدي الفاطميين، وأزال الأذان منها بـ"حي على خير العمل"، بعد أن كان يؤذن به. (راجع: البداية والنهاية، ابن كثير، أحداث سنة 464هـ؛ وراجع: سير اعلام النبلاء، الذهبي، ج18، ص431).

([9]) مجلة المجمع العلمي العربي، (تقديم لديوان ابن الخياط)، خليل مردم بك، ج3 من المجلد33، ص358، دمشق، عدد تموز 1958.

([10]) ديوان ابن الخياط ـ خليل مردم بك ـ ص 121ـ دمشق 1958.

([11]) طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي، د. السيد عبد العزيز سالم، ص385، الإسكندرية 1967م.

([12]) سفرنامة، ناصر خسرو، ص47.

([13]) تاريخ دمشق، ابن عساكر، ج4، ص327.

([14]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة، الطهراني، ج1، ص273، طبقات أعلام الشيعة، الطهراني، ج2، ص189.

([15]) في محاضرة ألقاها في بيت القرآن في البحرين بتاريخ (24-10-2009م)، تحت عنوان "حرق الكتب وتدمير المكتبات وراء تخلف الأمة العربية!! ضياع 8 ملايين كتاب عربي بسبب الجهل والتعصب والغزو الأجنبي".

([16]) تراثنا بين ماض وحاضر، بنت الشاطئ، ص 126.

([17]) بحار الأنوار، ج1 ص35. وراجع ترجمته في "أعيان الشيعة" و"أمل الآمل" و"الكنى والألقاب" و"الفوائد الرجالية" وغيرها من كتب التراجم

([18]) رجال السيد بحر العلوم، ج 3، ص 61-63 و233؛ فهرست أسماء علماء الشيعة ومصنفيهم، ابن بابويه، ص107، رقم 218؛ معالم العلماء، ابن شهرآشوب، ص80.

([19]) راجع: أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج5، ص462.

([20]) راجع: تاريخ الإسلام، تحقيق د. عمر عبد السلام تدمري، رقم193، بتصرف

([21]) راجع: الحياة الثقافية في طرابلس الشام، ص 14.

([22]) قلعة شيزر هي قلعة سورية تقع في شيزر على مسافة 30 كم شمال غرب مدينة حماة، وقد شيدت القلعة على أكمة صخرية تحاذي نهر العاصي من الغرب، وورد اسمها بين أسماء المدن السورية القديمة باسم سيزار وسنزار، وقد سميت في الفترة السلجوقية باسم لاريسا، ولكن السوريين أعادوا إليها اسمها القديم "شيزر".

([23]) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج١٠، ص٤١٢.

([24]) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج4 ص232 "ذكر قدوم ابن عمار بغداد مستنفرًا".

([25]) الأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة، ابن شداد، ج1، ص79-80.

([26]) د. راغب السرجاني، الطريق إلى بيت المقدس، تحت عنوان "الصليبييون وتواطؤ العبيديين الشيعة" ص66، أعمال الفرنجة وحجاج بيت ‏المقدس، ترجمة حسن حبشي، ص274 القاهرة، 1958م.

([27]) في محاضرة ألقاها في بيت القرآن في البحرين بتاريخ 24-10-2009 تحت عنوان "حرق الكتب وتدمير المكتبات وراء تخلف الأمة العربية!!ضياع 8 ملايين كتاب عربي بسبب الجهل والتعصب والغزو الأجنبي".

([28]) المغاربة في بلاد الشام، د.عمر عبد السلام تدمري، ص76.

 

 

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث والعشرون