السنة التاسعة / العدد الثالث والعشرون / حزيران  2013م / رمضان  1434هـ

       رجوع     أرشيف المجلة     الرئيسية

 

من كتاب (موريتانيا موطن الشعر والفصاحة)

للكاتب موفق العاني([1])

فلسطين في الشعر الموريتاني المعاصر

د. حسن جعفر نور الدين

 

فلسطين في الذاكرة

منذ الاحتلال الصهيوني لفلسطين سنة 1948م بدعم وتأييد مطلق من الدول العظمى وحتى اليوم، ما زال العدو الغاشم يعتدي بالبطش والقصف والعدوانية والقوة المفرطة على الشعب الفلسطيني بشيبه وشبابه، وشيوخه ونسائه وأطفاله، وعلى مسمع من الدول العربية والغربية وفي كل مدينة وبلدة وقرية، حتى أن تجاوزاته تزداد وحشية يومًا بعد يوم، فتُصادر الأراضي، وتُهوّد المدن، وتُدمر البيوت، ويُعتدى على الحرمات، ويدنّس المسجد الأقصى، مع المحاولات الجادة للسيطرة عليه وتهويده، وتُحرق كروم الزيتون وبساتين الليمون، كل ذلك -كما أشرت- في ظل صمت المسؤولين العرب وكأنّ شيئًا لم يكن وكأن أجيال العوز والفقر لم يسمعوا بها، ولم يتناهى إلى أسماعهم ما يعانون في بلاد الشتات وأحزمة البؤس وعلب السردين المتمثلة في المخيمات التي تفتقر إلى كل الظروف المناسبة المعيشية والصحية والإنسانية.

ولم يكتفِ العدو الصهيوني بما يفعله إنما أفلت العقال للمستوطنين الصهاينة ليعتدوا وينكّلوا ويسرقوا في ظل حماية مطلقة من جنود العدو واستهتار واضح بالسلطات الفلسطينية بل والسخرية منها، علاوة على الاعتقالات الجماعية التي تنفذّها بحق الفلسطينيين حتى تجاوز عدد المعتقلين عشرات الألوف.

وبلغت الوقاحة في العدو الصهيوني انه لا يسمح للمنظمات الإنسانية ولجان تقصّي الحقائق بدخول المدن الفلسطينية رغم وجود عناصر أميركية وأوروبية فيها، غير عابئ بسخط أو رضى دول هذه العناصر لعلمها أنهم لن ينبسوا ببنت شفة ولن يضرها الأمر بشيء.

والغريب أن الحكام العرب (معظمهم) لم يفكروا يومًا من الأيام بقول كلمة حق في وجه مستعمر غاصب، ولم يجرؤوا على مفاتحة الاستعمار الأميركي الذي يغدق على الصهيونية الدعم بلا حساب، ولم تكفهم مساعدة الأميركيين لإسرائيل في جميع الحروب التي خاضوها معها، لم تكفهم ليرفعوا الصوت في وجه الأميركيين وقول كلمة لا وكفى، أو لم ينفذ صبرهم من هذه السياسة التي تعلن صراحة وجهارًا دعم الصهيونية بشتى الوسائل، ويعلنوا تمردهم ويقطعوا علاقتهم ونفطهم، أم أنهم صمٌ بكمٌ عميٌ لا يفقهون .

فلسطين والشعر

في ظل هذا الوضع الدقيق والمعقّد كان الشعر العربي وما زال أحد الأسلحة التي تواجه هذا الاستعمار البغيض وربيبته الصهيونية الغاشمة حتى زماننا هذا .

والعائد إلى مجموعات الشعراء العرب يجد فيها كمًا كبيرًا من الشعر الذي تناول القضية الفلسطينية وعبّرت قصائدهم عن معاناة هذا الشعب ونضاله وتضحياته المتواصلة مستخدمين شتى الأساليب الشعرية، عدا عن الدراسات والبحوث والدراما والمسرحيات، وبشكل عام فقد خلقت مظلومية الشعب الفلسطيني حراكًا شعبيًا وأدبيًا وفكريًا جامعًا، وصدرت حتى الآن ألوف الكتب التي تحكي عن هذا الشعب المناضل وكفاحه عبر التاريخ، ولم تحتكر دولة عربية واحدة هذه الإنجازات، إنما شاركت جميع المواهب والإبداعات العربية في هذا الموضوع الذي أضحى إنسانيًا بالمفهوم العام، فتعدّى أثره إلى شعراء وأدباء أوروبيين وأميركيين وأفارقة وآسيويين شاركوا شعرًا وأدبًا في دعم حقوق الشعب الفلسطيني.

إذن، أسهم شعراء عرب كثيرون في سلّ أسلحتهم الشعرية لتكون موائمة للبندقية في صراعنا المستمر مع الصهيونية .

ومن بين هؤلاء شعراء دولة موريتانيا الإفريقية الإسلامية، فقد رفعوا راية الإسلام والعروبة وفلسطين عاليًا، وسنتذوق بعد قليل عبير قصائدهم التي قطعت ألوف الأميال لتقبّل فلسطين بشرًا وحجرًا وتسهم في نشر الوعي النضالي العربي، فما هي موريتانيا، ومن هم الشعراء الموريتانيون ؟

إطلالة على موريتانيا

إنها الدولة الإسلامية العربية الإفريقية، تقع غربي القارة الإفريقية وتشكل صلة وصل بين إفريقيا العربية وإفريقيا السوداء، نظامها جمهوري، ومساحتها مليون ومائة وعشرون ألف كيلومتر مربع، تطل على المحيط الأطلسي بمساحة ألف كيلومتر من جهة الغرب، يحدّها من الشمال والشرق الجزائر، ومن الشمال والغرب المغرب العربي، ومن الشرق مالي، ومن الجنوب نهر السنغال، أما سكانها فيبلغ تعدادهم 3،281،634 نسمة .

لغتهم العربية، ولعل أكثر ما يُعرفون به أن معظمهم شعراء، وقلما تجد موريتانيا لا يقرض الشعر، ولذلك كثر عدد الشعراء فيما بينهم .

فلسطين في الشعر الموريتاني

يتّسم الموريتانيون بمشاعرهم العروبية والإسلامية ولذلك نجد شعرهم مليئًا بقضايا أمتهم، ورغم بعدهم فهم قريبون يتفاعلون مع الأحداث، ونضالهم ضد المستعمرين والمعتدين أمر معروف، خاصة الاستعمار الفرنسي الذي دحروه وأجبروه على الرحيل سنة 1960م لتصبح موريتانيا عضوًا في الجامعة العربية .

أما فلسطين فقد أخذت حيزًا واسعًا من أشعارهم ولم تخلُ مجموعات أي شاعر من ملامسة هذه القضية والإشارة إليها، سأكتفي بالحديث عن بعض شعراء القرن العشرين فقط .

1- الشاعر الموريتاني إسماعيل ولد محمد يحظيه

ولد في موريتانيا سنة 1960م في منطقة "حاس نواتيل"، والده فقيه عالم في لغة العرب، وعليه درس الفقه والنحو، أحبّ الشعر منذ الصغر، فوزنه وقرَّضه، وكان متأثرًا بالبوصيري ومدائحه النبوية .

ينادي الشاعر إسماعيل فلسطين من بعيد، نادبًا نفسه والغيورين في الأمة إلى نجدة الأرض المقدسة والمساهمة في رفع الضيم عنها، ألا تستحق فلسطين منّا بضع كلمات وهي تفدى بالأرواح ([2]):

ويا فلسطين ذي أكبادنا انفطرت
فلم تكن هذه الصحرا لتعزلنا
ما لليهود ومالي من توغّلهم
لكنهم لم ينالوا من كرامتنا
فنحن في الغرب جزء منك مغترب
لم يغصبوا أرضنا لولا تنافرنا
الحزم فينا وفينا العزم مكتملٌ

 

 

تلك المآسي مآسٍ من مآسينا
العرق يجذبنا والدين يدنينا
فينا لقد أنشبوا فينا البراثينا
إلا بما كسبت من قَبلُ أيدينا
وأنتِ في الشرق جزءٌ من أراضينا
لولا تخاذلنا لولا تغاضينا
والبأس .. لا اليأس فينا والإبا فينا

 

إنه يضع يده على الجراح، فالمسألة تخاذلنا وتغاضينا عن حقوقنا، إذ لا ينقصنا شيء من الحزم والعزم، سوى أن تتحد خناصرنا وقلوبنا من أجل انتزاع الحقوق.

والقصيدة رويها النون، وبحرها البسيط، وهي واضحة المعاني، هادفة، تحمل طاقة من النخوة والشجاعة.

* * *

2- الشاعر محمد المصطفى بن جِدُّ

من مواليد "بوتلميت" موريتانيا سنة 1955م، نشأ وترعرع في مدينة "معط مولانا" ولاية "الترارزة" وهو من قبيلة علوية، تلقّى علومه على يد الشيخ محمد المشير، وقد حفظ القرآن الكريم، وقرأ المعلقات وكتاب عبيد في النحو، ودرس ألفية ابن مالك على العالم الكبير أب بن السيد العلوي، حصل على الشهادة الثانوية 1973م، ودخل المعهد العالي للتعليم سنة 1976م، وهو ينتمي إلى قبيلة أولاد "أبيري" التي ترجع في نسبها إلى جعفر الطيار بن أبي طالب.

يهيب الشاعر محمد المصطفى بالعرب ويحثهم على نجدة فلسطين والدفاع عنها وانتشالها من براثن الصهيونية الغاصبة في ميمية بحرها الخفيف، مذكّرًا بقادتنا العظام الذين ناضلوا دفاعًا عن الحق والإسلام داعيًا إلى التشبه بهم والتمثل بقيمهم، حيث يقول([3]):

أيها العرب حرروا القدس من أر
جدّدوا عهد خالد وعلي
ليس من مات في الجهاد بميّت
يا بني العرب اهجروا النوم هبّوا
أيها الشيب والشباب هلمّوا
إن صعب الحياة درّ ثمين

 

 

جاس سوءٍ يؤذي بها ويؤمُ
وصلاح فذاك شأن مهمُ
إنما الميت في الورى من يذمُّ
وانتموا وحدة عليكم تعمُّ
لبناء الحياة هيّا لِتَسموا
دونه الموج كالجبال خضمُ

 

* * *

3- الشاعر محمد بن الحافظ بن أحمدو

ولد الشاعر الموريتاني بن أحمدو في قرية "علبادرس" من أعمال مقاطعة "بوتمليت" التي اشتهرت بفقهائها وعلمائها وشعرائها، وكانت ولادته في خمسينيات القرن الماضي، كتب الشعر وهو في العاشرة من عمره، يقول في حديث له: [عندما لا أجد في الصحراء ما أكتب عليه أقوم بالكتابة على أوراق شجر الصمغ المنتشر في بوتمليت].

أقلقته هموم الأمة التي درس تاريخها، وأزعجه تخلفها وتقهقرها رغم ما فيها من مقومات، ولعل رائيته الجميلة تعبّر عن قلقه وحرصه على أمته وحزنه لما يصيبها، لذلك هو داعية إلى الثورة وطرد المستعمرين والانتقام من الصهاينة الغزاة.

أفي كلّ يوم نكسة وخيانة
أيملك أصقاعَ البلاد جدودُنا
ونعجز أن نحمي مساحة رقعة

 

 

فيا بؤس هذا الشعب ليس له أمرُ
ويونع فيها الشعر والفكر يخضرُ
بها المسجد الأقصى إلا إنه نكرُ

 

وفي همزية بحرها الخفيف يتحدث عن همجية العدو الصهيوني في تدنيس الأقصى، وتشتتنا نحن في بؤر التفرقة والفساد([4]):

مسجد القدس عيثَ فيه فسادٌ
خنقوا نغمةَ الأغاني وشجوَ
فَسَرَتْ لوثةُ النفاقِ وأمسى

 

 

لطّخت كبرياءه الأعداءُ
فرحة العيد فهي فيه بكاءُ
فكرُنا اليوم أهله وغباء

 

* * *

4- الشاعر محمد سالم ولد عدود

هو محمد سالم بن محمد عالي بن عبد الودود، ولد في منطقة "وادي الناقة" على الطريق بين نواكشوط وبوتمليت، وعلى رمالها وخيامها تلقّى علومه وأدبه من والده، وتعلّم القرآن وحفظه على يد عمته، استمع إلى السيرة النبوية وتاريخ العرب والمسلمين من والدته، وفي شبابه أعان والده على التدريس، وبعد استقلال موريتانيا ذهب إلى تونس مبعوثًا من الدولة لدراسة علوم القضاء وذلك سنة 1961م، وحصل على البكالوريوس في الحقوق عام 1965م.

يميل إلى التصوف ويرفض الخلوة، وهو شاعر مجيد، وفقيه كبير وقاضٍ متبحر.

خلال زيارته بغداد أثناء حضوره مؤتمر علماء المسلمين الذي دعت إليه وزارة الأوقاف، ألقى ابن عدود نونيّة رائعة استصرخ فيها أشقاءه العرب والمسلمين عمومًا، مخاطبًا إياهم من ضفاف المحيط ليهبّوا لنجدة فلسطين بعد أن تمادى العدو الصهيوني بجرائمه وتعدياته، والملاحظ في قصائد الشعراء الموريتانيين أن معظمها على البحر الخفيف، ولعل السبب في اختيار هذا البحر هو ما يحمله موسيقيًا من طاقة وتأثير، ثم إنه بحر حماسي النبرة في نظام تفعيلاته، ومما جاء في هذه القصيدة:

علليني من علمك المخزون
أيّها الأخوة الأشقاء هل
جئتُ من شاطئ المحيط إلى
حاملاً وردةَ التحية والحبّ

 

 

لا تَريني دونًا فلست بدونِ
تدرون من أين جئتُ هل تعرفوني
شطّ الخليج المبارك الميمونِ
إلى كلّ مؤمن مأمونِ

 

بعد التعريف بنفسه وبلاده يعرّج على فلسطين بيت القصيد ومهوى القلوب، داعيًا العرب إلى نفض الخنوع والذلّ والهوان والتخلّي عن مؤتمرات السلم الفاشلة، إلى إقامة الوحدة والتماسك رحمةً بفلسطين وتاريخها العريق :

أيها المسلمون هبوا فلبوا
لا تغرنّكم مواعيد سلم
لا تظنوا أن يهودا تسلم ما
إنها القدس أمّكم فاحفظوها

 

 

دعوة القدس بالحروب العونِ
أيّ غرّ يغترّ بالصهيوني
احتلت من الأرض دون حرب طحونِ
حفظ برّ حقوق أمّ حنونِ

 

ثم يسخر من مشاريع كيسنجر واتفاقيات السلام بين مصر وإسرائيل المعروفة بـ(كامب ديفيد) سنة 1978م، مؤكدًا أن فلسطين لا تستعاد إلا بالدم والتضحيات، ذلك في قصيدة رويّها الدال وبحرها الخفيف([5]):

أيها النائمون ماذا الرقاد
صار في الشرق مثل عارضة
كل يوم في السوق يعرض حلاًّ
أيها الجانحون للسلم مهلاً
أيها الراكعون للحل بالواقع
أين ثوارنا الأُلى أورثونا
رفعوا راية الجهاد وساروا
نحن في إثرهم وإن عز نصر
إنها ثورة إلى النصر عيشي

 

 

غرّكم من كيسجنز الترداد
الأزياء منهنّ طارف وتلاد
تصفويًا تضيع منه البلاد
لا يردّ البلاد إلا الجِلاد
أين الإيمان أين الجهاد
مجدهم هل تُضيّع الأمجاد
فعليهم تقطع الأكباد
وتمادى من العدو العناد
يا فلسطين أنت أنتِ المعاد

 

أبيات مفعمة بالحس القومي الإسلامي، مشحونة بعاطفة مشبوبة، ومشاعر جياشة في صور واقعية وخيال حدوده فلسطين والأمة العربية .

* * *

5- الشاعر أحمد ولد عبد القادر

شاعر ثائر، كان في العام 1977م أمينًا عامًا لرابطة الأدباء الموريتانيين، ولد في بادية "بوتمليت" سنة 1941م، تلقى اللغة العربية وعلومها على أيدي المشايخ في محاور البدو، شاعر مجيد، وقد شاعت قصيدته الهمزية "رسالة سجين" بين الشباب الموريتاني عام 1974م،وقد نظمها في سجنه، ومطلعها([6]):

يا رفيقي تحية من دمائي
لم أزل بعدكم رهن قيودي

 

 

وسلامًا معبّرًا عن وفائي
في ظلام المنازل الخرساءِ

 

ومن قصائده الفلسطينية العربية، دالية بحرها الخفيف، أنشدها في بغداد عام 1977م خلال مهرجان الشعر العربي الثالث، يقدّم في مطلعها نفسه للمشاركين كشاعر عربي صميم تهتز مشاعره لقضايا أمّته:

موكب النور هل ترى من بعيد
أنا طيف وهاجس عربي
أنا شنقيط
([7]) هل سمعت بوحي

 

 

وجه مشتاقك الحزين العنيد
لم يصافحك بعد موت الجدود
من رمال أو درة من عقود

 

ثم يخاطب بغداد دار السلام متنقلاً منها إلى فلسطين داعيًا العرب إلى نجدتها والدفاع عنها، فلسطين التي تغوص في بحار من الدموع والدماء وضباب الحياة، مستنهضًا هممهم لتضميد جراحها ومناصرة قضيتها، بلغة فيها الواقعية والحرقة والأمل، في غدٍ مشرق تتحقق فيه أحلام فلسطين المغتصبة، في ظل خيال جامح منتزع من صميم الواقع العربي ([8]):

إيهٍ دار السلام هل أنت عيد
إن في قدسنا ضباب دموع
باركوها تنهلّ شرقا وغربا
طمئنوا الخائفين إن لم يفيقوا
إنها المشعل الكبير ينادي

 

 

يتباهى بألف عيدٍ وعيدِ
تغسل العار بالعطاء المجيدِ
تحفر الأرض باللظا والحديدِ
إنها صرخة العزيز الوليدِ
إنها وحدة المصير السعيدِ

 

أما قصيدته العملاقة "في الجماهير تكمن المعجزات" فينتقل فيها الشاعر من موريتانيا إلى فلسطين والجنوب اللبناني، متحدثًا عن مناسبة هذه القصيدة التي ولدت إثر سماعه من الراديو خبر عملية فدائية ناجحة، وأنه بعد نفاذ عتاد المجموعة قام الفلاحون الجنوبيون بتقديم ملابسهم لأبطال الفداء الذين انسحبوا سالمين إلى قواعدهم، يقول الشاعر ولد عبد القادر([9]):

في الجماهير تكمن المعجزات
ينبع الفجر مشرقًا في الأعالي
ومن العسف في فلسطين قامت
مكثت في النفوس عشرين عامًا
ثم أضحت على صعيد الليالي
ورصاصًا يجول ضربًا وقصفًا
دير ياسين ما نسينا دمانا
دير ياسين ما نسينا عظامًا
جرحتنا مخالب الدهر يومًا
واعتمدنا على سوانا زمانًا
غير أنّا قد انتفضنا وثرنا
حلف الدهر أن نسير بنصر
نحن شعب قد صلّبته المآسي
نسكن النار لا نبالي لظاها
نتلقى الشهيد عزًا ونصرًا
ونغني للموت بل ونراه
ونغني حتى الجراح تغني

 

 

ومن الظلم تولد الحرياتُ
تتهادى بدربه النسماتُ
ثورة الفتح يفتديها الأباةُ
تتعاطى لهيبها الكلماتُ
ضربات تشدها ضرباتُ
وتلاشى النحيب والزفراتُ
في حمانا تدوس النظراتً
نسفتها العظام والهبواتُ
وتلاقى على ربانا الغزاةُ
ولهتنا الدموع والحسراتُ
ثورة لا تردها الفتكاتُ
واعتزاز حتى يثور الطغاةُ
صهرته الآلام والنكباتُ
زادنا العزم والإبا والثباتُ
والضحايا توديعهم حفلاتُ
في سبيل الحياة هو الحياةُ
في الجماهير تكمن المعجزاتُ

 

تلك هي الرجولة والشجاعة يبثها الشاعر في قلوب الموريتانيين وكل العرب دفاعًا عن حقوق الفلسطينيين والعرب، في لغة حماسية تبث البطولة ومعاني الحرية.

وفي قصيدة أخرى رويها النون، وبحرها الخفيف، يخاطب الشاعرُ اللاجئَ الفلسطيني المشرّد في كل أرجاء الدنيا، مكبرًا جهاد الفدائيين ونضالهم الذي أقلق العدو وأبقى قضية الفلسطينيين حية في النفوس، فالحق لا يموت وخلفه مطالب يضحي في سبيله([10]):

أيها اللاجئ المشرّد ظلمًا
لا تضع حقدك الدفين عزيزي
حوّل الحقد نقمة وجحيمًا
كلما أطلق الفدائي نارًا
منشدًا نغمة الخلاص ينادي
إنني اليوم عائد ودليلي
ذاك ما يبتغي الزمان ويرضى

 

 

أيها النور أيها الإنسانُ
حسراتٍ يلوكها الوجدانُ
يتلظى لهيبَه الجذلانُ
صاح في الأفق صوتها الرنّانُ
ها أنا الشعب ها أنا البركانُ
ضرباتي وزادي الإيمانُ
إنما الحق ما أراد الزمانُ

 

* * *

6- الشاعر ناجي بن محمد الإمام بن تمليخا

ولد الشاعر الموريتاني ناجي بن تمليخا في منطقة "إلاق" سنة 1953م، وسكان هذه المنطقة من البدو الذين ظلوا على تواصل مع اللغة وعلوم أجدادهم العرب . والده فقيه وشاعر ونحوي، تأثر ناجي به ونقش في صغره -شعرًا- ما كان يسمعه عن أبيه، إلا أن الوالد توفي والشاعر فتى، وكان عزاؤه أن والده ترك له مكتبة غنية . تتلمذ فيما بعد على كبار شيوخ القادرية الصوفية . نظم أول قصيدة سنة 1964م . التحق بالمدرسة الحكومية الابتدائية، ثم سافر إلى دكار في السنغال وهي عامرة بالمكتبات الحكومية الأجنبية والعربية، فأسس فيها مدرسة إعدادية لتعليم اللغة العربية في السنغال سنة 1962م، يقول : إنه في السنغال كان يلقي المحاضرات باللغة العربية، ويلتقي الأخوة العرب والمسلمين فيشرح لهم القضية الفلسطينية وما لحق الشعب الفلسطيني من ظلم وعدوان .

في عام 1974م عاد الشاعر إلى وطنه، وبدأ عمله فيها كمذيع ومقدّم لبرامج الأدب والفن في الإذاعة الموريتانية سنة 1974م([11]) .

نظم الشاعر بن تمليخا في القضية الفلسطينية قصائد كثيرة، ومنها رائية بحرها الكامل، يستعرض فيها بإحساس عارم عربي إسلامي هموم أمته العربية، وعلى رأسها قضية العرب الأولى (فلسطين)، منتقدًا العرب على تخاذلهم وتلهّيهم بالبكاء والانصياع للمستعمر، واكتفائهم بالخطب والكلمات الجوفاء التي لا تجدي نفعًا ولا تحرّر أرضًا إن لم تُقرن بالعمل والتضحية والفداء والتصميم والمبادرة، وهذه المشاعر نابعة عن حرصه على أمته وخوفه عليها وحبّه لها، وقد جاءت صورة واقعية، وخياله منتزع من محيطه ([12]):

الشعر والكلم العجوز أملُّهُ
ملّ الخطابة والدعاية سامعي
تعبتْ من الكذب المنمّق أمتي
يا أمة عرجاء أثخنها البكا

 

 

والعزفُ شلَّ منافسي ومشاعري
والمنطق المعسول عند الثائر
ضجرت به بإذاعة ومنابر
يا دمية صمّا برفّ التاجر

 

هذا غيض من فيض مما في القصيدة، وفيها من النقمة والهجوم والانتقاد الكثير، يتطلع إلى أمته وهي تغرق في ضبابية قاتلة، وتخلّف مريع، وضعف وهوان، وهو ينتقل من هذه الحمم الشعرية إلى الحديث عن قضية فلسطين، ويتحسّر على أيام عبد الناصر ونهضة الإسلام العظيم، في أبيات ينفثها قلب متألم وجسد يحترق وأمل يبقى هو الرجاء في زحمة الشدائد والمحن:

وا ناصراه أبعده يُطوى الفدا
أبتاه يُستلب الجنوب وأهله
أبتاه تُخنق ثورة العرب التي
ويظل شعبك في فلسطين الهدى
قسمًا بروحك بالعروبة بالفدا
أن نستعيد كرامة مهدورة
حتى تعود لنا فلسطين الأولى

 

 

قولوا معي رُحمى لعبد الناصرِ
رمز الفداء ومستظل الثارِ
سلمتها علم الكفاح الناصرِ
تحت السياط يلوك عزم الصابرِ
بدم أريق على تلال الدامرِ
من "بيغن" من صنوه "عازرِ"
مسرى الرسول إلى العلي القادرِ

 

وفي معرض احتفائه بتحرير موريتانيا من الاستعمار الفرنسي واستعادة الأجزاء المسلوبة وتحقق الوحدة الموريتانية، يميل إلى أمته العربية موقنًا في نهاية الأمر بالوحدة العربية الكبرى واستعادة فلسطين من الصهاينة الذين لا صلح معهم ولا تفاوض أو اعتراف، عبر قصيدة رويّها الراء، وبحرها الكامل([13]):

لكننا ولو استطاعوا قصفنا
حتى يحقق حلمَ أمة يعرب
لا صلح فيه مع الصهاين لا ولا

 

 

سنظل نبني للغد العبق المنير
في الوحدة الكبرى وتقرير المصير
فيه التفاوض لا اعتراف ولا مجير

 

 

* * *

7- الشاعر محمدي بن القاضي

ولد الشاعر بن القاضي في قرية "علبادرس" في منطقة بوتمليت، موطن الفقه المالكي، كان والده شاعرًا وفقيهًا، وقد أخذ عن أبيه ونهل من علمه، أكمل دراسته في نواكشوط في معهد تكوين الأساتذة، تأثر في الشعر بالجواهري وشقيق الكيالي وبدر شاكر السيّاب.

عمل مشرفًا على الصفحة الأدبية في جريدة الشعب اليومية وكان ينشر فيها مقالاته وشعره، وهو من الشعراء الشباب، أحب وطنه وأمته العربية.

مشهد شعري

للشاعر محمدي بن محمد بن القاضي قصائد كثيرة، ولكن ما يعنينا مقطوعاته الفلسطينية، ومنها واحدة رويها الكاف وبحرها البسيط، يتحدث فيها عن أمته وتاريخها المجيد، الذي تقوّض وتمزق، وهو يهديها إلى بغداد مدينة السلام، ويتحدث عما يحسّه من حبّ عارم لفلسطين وبغداد والقدس والأندلس حيث يقول([14]):

حيّاكِ بغداد يا أم الفتوح فتى
بغداد أهواك هل غيلان يسمعني
أهواكِ في القدس في أحضان قرطبة

 

 

وإخوة ورؤى تهفو لرؤياكِ
أين المغيرة من أحيا ثرياك
ألقى الحضارة شمًّا في ثناياكِ

 

* * *

8- الشاعر الخليل بن محمد بن النحوي

ولد الشاعر الخليل بن أحمد النحوي سنة 1955م في قرية "برينة" من أعمال ولاية الترارزة، والده محمد بن النحوي متبحر في علوم الدين، أنهى دراسته الثانوية وانصرف إلى التعليم سنة 1973م، ثم رأس تحرير صحيفة الشعب اليومية، وهو أحد المؤسسين لرابطة الآداب والفنون الموريتانية.

مشهد شعري

الخليل النحوي شاعر وكاتب يتسم بالهدوء والحياء، له قصائد كثيرة، ومن بينها مقطوعة فلسطينية عربية، رويّها الهاء وبحرها الخفيف، وعنوانها سنكتب النصر([15]):

مسرح المجد والنفوس الأبية
أنتِ نبض الحياة في كل عرق
فازرعينا في باطن الأرض شوكًا
وانفثينا مع الأثير رصاصًا
بدمانا سنكتب النصر يومًا
بدمانا سنستعيد غلانا
في ربى القدس في مرابع حيفا
فليقضِ العدو ما هو قاضٍ

 

 

وانعكاس الحياة والحيوية
واختلاج الإباء والوطنية
ثمرات الكفاح منه جنية
واقذفينا صواعقًا بشرية
وبها سوف نكسب الحرية
وعهود استقلالنا القومية
في فلسطين حرة عربية
فلنا الحكم مطلقًا في القضية

 

هكذا ينتفض هذا الشاعر، مؤمنًا بالنصر واستعادة حرية فلسطين واستقلالها وانقضاء عهد الظلم والعبودية في فلسطين الأبية، فالدم العربي سينتفض يومًا ما لدحر الصهيونية، وواضح هذا الحماس والاندفاع في لغة الشاعر، حتى غدا الحقل المعجمي للتصميم والبذل واضحًا في ما ردّد من أبيات تعاملت فيها الصور الواضحة والخيال الواقعي.

إلى هنا نكتفي بهذا القدر من الشعر الفلسطيني الموريتاني، لمجموعة من الشعراء الموريتانيين، أحيوا ذكرى فلسطين وتاريخها ونضالها، وأبانوا عن نخوة عربية إسلامية تدعو إلى رفع الضيم والوحدة والتماسك، ودعم القضية الفلسطينية في كل الوسائل المتاحة حتى يشرق فجرها وتستعيد استقلالها وحريتها وتقضي على الصهيونية الغاشمة عدو الشعوب.


ــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش

([1]) موفق العاني، موريتانيا موطن الشعر والفصاحة، إصدار مجلة دبي الثقافية، العدد 64 سنة 2012 .

([2]) المصدر نفسه ص163-168 .

([3]) المصدر نفسه 51 و161.

([4]) المصدر السابق ص105-107.

([5]) المصدر نفسه ص123-128 .

([6]) يقول الشاعر الموريتاني -المختار بن حامد الديماني-: إن شنقيط لفظة بربرية تعني عيون الخيل .

([7]) المصدر نفسه ص132 .

([8]) المصدر نفسه ص139-142 .

([9]) المصدر نفسه ص142-143.

([10]) المصدر نفسه ص144-145 .

([11]) المصدر نفسه ص177-178.

([12]) المصدر نفسه ص177-181 .

([13]) المصدر نفسه ص184 .

([14]) المصدر نفسه ص79 .

([15]) المصدر نفسه ص 74 .

 

 

 

 

أعلى الصفحة     محتويات العدد الثالث والعشرون