تمهيد:
عرفت الدولة الإسلامية الوليدة بعد الرسول محمد (صلى لله
عليه وآله)، وفي القرن الأول للهجرة صراعات داخلية كان
أبرزها معارك الردة، والجمل، وصِفّين، كما يمكن أن نعتبر
معركة كربلاء أحد أبرز هذه المواجهات التي حاولت من خلالها
السلطة الأموية في دمشق التفرد بحكم المسلمين بعد موت
معاوية بن أبي سفيان.
وتتالت المواجهات بعد كربلاء 61هـ، حيث إن السلطة الأموية
أخفقت في تثبيت حكمها بالقوة، فخرج عليها أغلب المسلمين
معلنين العداء لهذه السلطة التي ظهر فسادها وفشا بشكل واضح
مع وصول يزيد بن معاوية، لتسقط هذه الدولة وبعد عمر لم
يتجاوز التسع وثمانين عامًا، من العام 41هـ/661هـ إلى
العام 132هـ/750م([1]).
ومن بين هذه المعارك التي وقعت بعد معركة كربلاء، كانت
معركة الحرة 63هـ/682م، التي ثار فيها أهل المدينة المنورة
على سلطة يزيد بن معاوية وأعلنوا خلعه، إلا أن كتب التاريخ
لم تضئ عليها بالشكل المطلوب.
وقد يكون ذلك بسبب قربها من معركة كربلاء ومقتل الإمام
الحسين (عليه السلام)، وعلى الأرجح فإن السلطة الأموية
لعبت دورًا إعلاميًا قويًا في محاولة لطمس هذه المواجهة
التي وقعت بين أهل المدينة المنورة والأمويين، حيث حاول
الأمويون التقليل من أهميتها حفاظًا على مكانتهم وموقعهم
الرياسي على العالم الإسلامي، وخوفًا من انقلاب الموقف
عليهم، سيما وأن جماعة ممن شارك إلى جانب أهل المدينة في
هذه المواجهة كان من الصحابة حفظة القرآن، وأن المدينة
المنورة هي عاصمة الرسول محمد (صلى لله عليه وآله)
والخلفاء من بعده.
لذلك لا نجد تفاصيل عن هذه المعركة إلا عن بعض المؤرخين،
ومنهم من فقدت مؤلفاته واعتُمِد على نقل ما أوردوه من خلال
مؤلفات وضعها مؤرخون نقلوا عنهم، وأبرزهم:
- عوانة بن الحكم، ويعتبر أقدم المؤرخين الذين أتَوا على
ذكر هذه المعركة، وصلت إلينا روايته من خلال الطبري
والبلاذري وخليفة بن خياط([2]).
- الأخبار المنقولة عن أبي مخنف، ووصلتنا من خلال الطبري
والبلاذري([3]).
- أبو اليقظان النسابة، وقد ظهرت أخباره عن معركة الحرة من
خلال خليفة بن خياط([4]).
- الواقدي، الذي اعتبر من أبرز من نقل عن معركة الحرة، حتى
أنه ذكر أسماء من قتل فيها.
وغيرهم من المؤرخين الذين اعتُمِد على كتاباتهم في نقل
أخبار موقعة الحرة.
أهل المدينة وموقفهم من السلطة الأموية:
كان موقف أهل المدينة المنورة تجاه السلطة الأموية وخلافة
يزيد بن معاوية، عبارة عن مجموعة من الاتجاهات السياسية
والحزبية والعقائدية التي تجمّعت معًا لتشكِّل موقفًا
موحدًا، هذه الاتجاهات المختلفة لم تكن شبيهة بالتيارات
الفكرية والاجتماعية التي ظهرت في بلاد الشام والعراق
ومصر، والتي تأثرت بالفتوحات والشعوب التي دخلت في
الإسلام، أو بالسكان الذين خضعوا للفتح العربي الإسلامي،
بل كان مجتمع المدينة محافظًا، فمدينة الرسول (ص) هي عاصمة
المسلمين في كافة أنحاء الدولة الإسلامية، بغض النظر عن
انتقال السلطة السياسية إلى دمشق حينها، لذلك نجد معاوية
يوصي ولده يزيد ويحذره من أهل مكة والمدينة قائلاً له:
"... من أتاك منهم فأكرمه، ومن لم يأتك فابعث إليه
بصلة...،"([5]).
كما أن معاوية كان يولّي المدينة ومكة من رجاله المحنكين
ومن البيت الأموي لضمان ولائهم، أمثال مروان بن الحكم،
وسعيد بن العاص([6]).
ومع موت معاوية وتولّي يزيد من بعده بدأت الأوضاع في
المدينة ومكة تتبدل تجاه السلطة الأموية للأسباب التالية:
1-
ازدياد حقد المسلمين على يزيد لقتله ابن بنت رسول الله
(ص)، الإمام الحسين (عليه السلام)([7]).
2-
شعور أهل المدينة بأن يزيد ليس أولى بالخلافة من بعد والده
معاوية.
3-
شعور أهل المدينة والمسلمين قاطبة بأن الخلافة الإسلامية
قد تحوَّلت إلى ملك عضوض بسبب ممارسات معاوية وخَلَفِه.
4-
خروج عبد الله بن الزبير ورفعه لشعار الشورى، وتعاطف أهل
الحجاز معه ([8]).
إلا أن السبب الأبرز كان رفض الإمام الحسين (عليه السلام)
بيعة يزيد، مع ما للإمام الحسين (عليه السلام) من مكانة
ومنزلة، وموقعة كربلاء ونتيجتها، من مقتل للإمام الحسين
(عليه السلام) وأولاده وأصحابه وسبي نسائه، الذين هم أهل
بيت النبوة، مما جعل أبناء الصحابة والمسلمين يشعرون بحجم
المصيبة وعظيم هذا العمل الشائن، ومستوى الاستبداد
والتسلّط الذي تمارسه الدولة الأموية([9]).
كل هذه الأسباب، ساعدت على تغذية الكراهية تجاه الحكم
الأموي وظهورها إلى العلن، وكانت سببًا في معارضة أهل
المدينة الذين عبّروا عن هذه المعارضة علنًا من خلال
وقوفهم في وجه جابي أموال بني أمية المعروف بـ"ابن مينا".
وقد أورد الواقدي أن "ابن مينا"، وهو عامل بني أمية على
أملاكهم، [منها المزارع في المدينة]، كان يجبي خراجها
ويرفعها إلى الخليفة الأموي في دمشق، ومع وصوله إلى
المدينة ليحصي تلك الأموال لينقلها إلى يزيد رفض بنو حارثة
دفع ما عليهم من مستحقات، وانضم إليهم الأنصار وقريش داخل
المدينة([10]).
ويورد ابن قتيبة في كتابه الإمامة والسياسة، أن نفرًا من
قريش والأنصار دخلوا على عثمان [والي المدينة الأموي]
فكلموه فيها فقالوا: "قد علمت أن هذه الأموال كلها لنا،
وأن معاوية آثر علينا في عطائنا، ولم يعطنا قط درهمًا فما
فوقه، حتى مضّنا الزمان، ونالتنا المجاعة، فاشتراها منا
بجزء من مئة من ثمنها"([11]).
حيث يظهر أن هذه الأملاك من المزارع التي تنتج المحاصيل
الضخمة، كان معاوية قد سلبها وتحت الضغط من أصحابها، وكان
عامله ابن مينا يعمد في كل عام إلى جمع الأموال التي تحصّل
منها، ومع موت معاوية، اعترض أصحابها الفعليين علنًا هذه
المرة، مطالبين باستعادة أملاكهم.
ومع منع أهل المدينة ابن مينا من جباية تلك الأموال، عمد
الوالي الأموي على المدينة، عثمان بن محمد بن أبي سفيان،
إلى أن يكتب ليزيد بالأمر، عندها كتب يزيد كتابًا، أمر فيه
واليه أن يقرأه على أهل المدينة، وهو:
"... إني قد لبستكم فأخلقتكم... وأيم الله لئن وضعتكم تحت
قدمي لأطأنكم وطأة أُقِل بها عددكم، وأترككم بها أحاديث
تُنسخ منها أخباركم كأخبار عاد وثمود"([12]).
بعد هذه الحادثة، وكتاب يزيد وتوعده لأهل المدينة، شكّل
أشراف المدينة وفدًا توجّه إلى يزيد بن معاوية لمقابلته في
دمشق، يقول خليفة بن خياط أن هذا الوفد عندما عاد: "عمدوا
إلى إظهار شتم يزيد، وإعلان البراءة منه وخلعه" ([13])،
فلقد ظهر لهذا الوفد أن يزيد كان قليل الدين وغير جدير
بقيادة الأمة([14]).
في الواقع فإن أهل المدينة كانوا على علم مسبق بفساد يزيد
بن معاوية، فكما ينقل المسعودي فإنه "قد غلب على أصحاب
يزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق، وفي أيامه ظهر الغناء
بمكة والمدينة، واستعملت الملاهي، وأظهر الناس شرب الشراب"([15]).
ويذكر الطبري، نقلاً عن أبي مخنف عن وفد المدينة: "فلما
قدم أولئك النفر الوفد المدينة قاموا فيهم فأظهروا شتم
يزيد... وقالوا: إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب
الخمر، ويعزف بالطنابر، ويضرب عنده القيان، ويلعب بالكلاب،
ويُسامر الخُّراب([16])
والفتيان، وإنّا نشهدكم أنا قد خلعناه، فتابعهم الناس"([17]).
بعدها عمد أهل المدينة إلى مبايعة عبد الله بن حنظلة
الغسيل([18])
الذي خاطبهم قائلاً:
"يا قوم اتقوا الله وحده لا شريك له، فوالله ما خرجنا على
يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إنه رجل ينكح
الأمهات والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة،
والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاءً
حسنًا"([19]).
هكذا وبعد أن أجمع كبار المدينة وأشرافها على فسوق يزيد،
خرجوا عليه ولم يقبلوه خليفة عليهم.
بعد هذه المواقف الواضحة، التي أظهرت فسق يزيد وانحرافه
أمام العامة، عمدت الناس إلى محاصرة أمير المدينة، عثمان
بن محمد، وباقي الأمويين ومن يحيط بهم في قصر مروان بن
الحكم، فقام عندها هذا الأخير بمكاتبة يزيد بن معاوية في
دمشق، وبعث بكتابه مع أحد أتباعه وهو "حبيب بن كرة"،
وأمهله "اثنتي عشرة ليلة ذاهبًا واثنتي عشر ليلة مقبلاً"،
وكان في الكتاب "أما بعد، فإنه قد حصرنا في دار مروان بن
الحكم، ومنعنا العذب، ورُمينا بالجبوب([20])فيا
غوثاه يا غوثاه"([21]).
وينقل حبيب بن كرة: "فأخذت الكتاب ومضيت به حتى قدمت على
يزيد وهو جالس على كرسي، واضع قدميه في ماء طشت من وجع كان
يجده فيهما، ويقال كان به النقرس([22])،
فقرأه ثم قال...":
لقد بدلوا الحلم
الذي من سجيتي
|
|
فبدّلت قومي غلظة
بليان
|
وعاتب بني أمية في المدينة على عدم قتال محاصريهم، إلا أن
ابن كرة قال له: "... أجمع الناس كلهم عليهم، فلم يكن لهم
بجمع الناس طاقة"([23]).
فأمر يزيد بتجهيز الجيش، وعرض على عمرو بن سعيد قيادته،
إلا أن هذا الأخير رفض ذلك قائلاً له: "قد كنت ضبطت لك
البلاد، وأحكمت لك الأمور، فأما الآن إذا صارت إنما هي
دماء قريش تهراق بالصعيد، فلا أحب أن أكون أنا أتولى ذلك،
يتولاها منهم من هم أبعد منهم مني"([24]).
فبعث يزيد إلى عبيد الله بن زياد: فاعتذر وقال: "لا أجمعها
للفاسق، أقتل ابن رسول الله (ص) وأغزو مدينته والكعبة"!!.([25]).
عندها ندب إليهم "مسلم بن عقبة المري"، وكان شيخًا كبيرًا
مريضًا، إلا أنه كان أحد جبابرة العرب وشياطينهم"([26]).
وينقل ابن طباطبا في ذلك، أن معاوية كان قد أوصى يزيد
قائلاً له: "إن خالفك أهل المدينة فارمهم بمسلم بن عقبة"([27])،
وبلغ تعداد هذا الجيش اثني عشر ألفًا من المقاتلين([28]).
حيث أنشد يزيد قائلاً بعد تهيئته:
أبلغ أبا بكر إذا
الليل سرى
عشرون ألفًا بين كهل وفتى
أم جَمْعَ يقظان نُفي عنهُ الكرى!
|
|
وهبط القوم على
وادي القرى
أجَمْعَ سكرانَ من القوم ترى
يا عجبًا من ملحدٍ يا عجبا!
|
مخادع في الدين
يقفو بالعُرى ([29])
|
من الملاحظ في هذه الأبيات أن يزيد أورد عدد أفراد الجيش
بعشرين ألفًا من المقاتلين، إلا أن الروايات تورد أن عدده
لم يتجاوز الاثني عشر ألفًا، حيث تورد هذه الأبيات بطريقة
مختلفة عند البلاذري:
أبلغ أبا بكر إذا
الجيش انبرى
أجمَعَ سكرانَ من القوم ترى
واعجبًا من ملحدٍ يا عجبا!
|
|
وأشرف القوم على
وادي القرى
أم جمع يقظان إذا حثّ السرى
مخادع في الدين يقفو بالعُرى([30])
|
ومع وصول أخبار تقدم الجيش الأموي باتجاه المدينة المنورة،
عمد أهلها إلى إعلان التعبئة العامة، وأخذوا بتوزيع المهام
القتالية، واختير اثنان منهم كقادة عليهم، وهما: عبد الله
بن مطيع على قريش، وعبد الله بن حنظلة الغسيل على الأنصار،
ويعقل بن سنان على المهاجرين، وتوزع باقي القادة على
المواقع الميدانية داخل المدينة([31]).
تدابير أهل المدينة
الدفاعية ومعركة الحرة
بدأ أهل المدينة بحفر خندق من حول المدينة المنورة حيث
إنهم فضّلوا البقاء داخل أسوار المدينة أثناء المواجهة،
فجيش المدينة لا يتجاوز الألف مقاتل، وهم بذلك أرادوا أن
تطول الحرب، لاعتقادهم بأنه قد تصلهم المساعدات من أنحاء
الحجاز، وقسّموا العمل بين القبائل([32]).
في هذا الوقت كان الجيش الأموي قد اقترب من المدينة
المنورة، ووصل إليهم مروان بن الحكم وعبد الملك بن مروان
ومن معه من بني أمية، الذين أخرجوا من المدينة، وكان مروان
بن الحكم قد أودع حرمه عند الإمام علي بن الحسين (عليه
السلام) في المدينة ليأمن عليهم قبل أن يخرج منها([33]).
واستشار مسلم بن عقبة مروان بن الحكم وولده عبد الملك حول
وضع المدينة، والطريقة الأنسب لمهاجمتها فأشاروا عليه
بكيفية دخولها وقتال أهلها، وفق الخطة التي وضعها عبد
الملك بن مروان([34])،
فتقدم الجيش الأموي حتى نزل الحرة [حرة واقم]([35]).
بعدها عمد مسلم بن عقبة إلى دعوة بعض أهل المدينة، ثم قال
لهم: "إني أؤجلكم ثلاثًا، فمن ارعوى وراجع الحق قبلنا منه،
وانصرفت عنكم، وسرت إلى هذا الملحد الذي بمكة [يقصد عبد
الله بن الزبير]، وإن أبيتم كنا قد أعذرنا إليكم"، وينقل
الطبري أن ذلك كان في ذي الحجة من العام 63هـ([36]).
كما يضيف الطبري أن يزيد أوصى فيما أوصاه إلى مسلم قبل
توجهه إلى المدينة قائلاً له: "... ادعُ القوم ثلاثًا، فإن
هم أجابوك وإلا فقاتلهم، فإذا أظهرت عليهم فأبحها ثلاثًا،
فما فيها من مال أو ورقة [الدرهم] أو سلاح أو طعام فهو
للجند، فإذا مضت الثلاث فاكفف عن الناس..."([37]).
وبعد مضي الأيام الثلاثة اجتمع الجيشان، وكانت الهزيمة
لأهل المدينة، وذلك للأسباب التالية:
1-
تجمّع جند المدينة مقابل الجيش الشامي، حيث مسلم بن عقبة،
وترك باقي الأنحاء في حراسة بعض المقاتلين([38]).
2-
اتصال مروان بن الحكم، قبل انتهاء مهلة الثلاثة أيام مع
بني حارثة، داخل المدينة، ليساعدوا الجيش الأموي من الداخل
أثناء وقوع المعركة([39]).
وفي ذلك يقول إبن قتيبة: "فخرج مروان [مروان بن الحكم] حتى
جاء بني حارثة فكلم رجلاً منهم ورغّبه في الضيعة وقال:
افتح لنا طريقًا فأنا أكتب بذلك إلى أمير المؤمنين، ومتضمن
لك عنه شطر ما كان بذل لأهل المدينة من العطاء وتضعيفه.
ففتح له طريقًا ورغب فيما بذل له وتقبّل ما تضمن له عن
يزيد فاقتحمت الخيل..."([40]).
وكان مسلم بن عقبة قد عمد إلى وضع سرير خاص به في موضع بين
الجيشين، جلس عليه طالبًا من جيشه أن يقاتل عنه أو يتركوه([41])،
وهو بذلك أراد أن يدفع بأهل المدينة للخروج من وراء الخندق
ليقصدوه وهو ما حصل، حيث اعتقد بعض قادة المدينة أنه
وبمجرد مقتل مسلم بن عقبة فإن ذلك سيؤدي إلى إضعاف الجيش
الأموي، لذلك قام بعضهم بهجمات يمكن أن نسميها بالانتحارية
لقتل مسلم بن عقبة، إلا أن الجيش الأموي قضى على المهاجمين([42]).
في الوقت نفسه كان مسلم قد وزع جيشه على أكثر نواحي
المدينة مقابل خندقها، وجعل قوة جيش المدينة وقيادته تنشغل
بالمكان الذي هو فيه، مع قيام خيالة بني أمية بالتسلل إلى
داخل المدينة من ناحية بني حارثة.
وأمام انشغال جيش المدينة وقيادته مقابل مسلم بن عقبة،
فوجئوا بالتكبير من داخل المدينة، حيث أصبح فرسان بني أمية
في وسط المدينة من خلف المقاتلين المدنيين، فتراجع هؤلاء
خائفين([43]).
وأخذ بنو أمية يتدفقون إلى داخل المدينة، يضعون السيوف في
جنودها الذين سقط معظمهم قتلى بما فيهم عبد الله بن حنظلة
الغسيل وبنيه وباقي القادة ممن كان معه([44]).
ويذكر ابن قتيبة في ذلك: "فلما مات ابن حنظلة صار أهل
المدينة كالنِّعم بلا راع، شرود يقتلهم أهل الشام من كل
وجه"([45]).
ووقع من القتلى في صفوف أهل المدينة من قريش والأنصار
والمهاجرين ووجوه الناس: "ألف وسبعمائة وسائرهم من الناس
عشرة آلاف سوى النساء والصبيان"([46]).
كما ينقل في مكان آخر "أنه قتل يوم الحرة من أصحاب النبي
(ص) ثمانون رجلاً ولم يبقَ بدري بعد ذلك"([47])،
"كلهم ذوو حفاظ"([48]).
[من حفظة القرآن].
وبنتيجة ذلك يقول عبد الله بن أبي بكر: "كان أهل المدينة
أعز الناس وأهيبهم حتى كانت الحرة فاجترأ الناس عليهم
فهانوا"([49]).
استباحة المدينة:
كان يزيد بن معاوية عندما بعث بمسلم بن عقبة نحو المدينة،
قد أوصاه بأن "... ادعُ القوم ثلاثًا، فإن هم أجابوك وإلا
فقاتلهم، فإذا أظهرت عليهم فأبحها ثلاثًا... فإذا مضت
الثلاث فاكفف عن الناس..."([50]).
يذكر ياقوت الحموي في ذلك: "ودخل جنده المدينة فنهبوا
الأموال وسبوا الذريَّة واستباحوا الفروج، وحملت منهم
ثمانماية حُرَّة وولدت، وكان يقال لأولئك الأولاد أولاد
الحرَّة"([51]).
وجُعِلَ "قصر بني حارثة أمانًا لمن أراد أهل الشام أن
يؤمنوه، وكان بنو حارثة آمنين ما قتل منهم أحد"([52]).
ونهب جنود بني أمية المدينة، حسب وصية يزيد بن معاوية:
"فما تركوا في المنازل من أثاث ولا حلي، ولا فراش إلا نقض
صوفه، حتى الحمام والدجاج كانوا يذبحونها"([53]).
وينقل أنهم قصدوا منزل أبي سعيد الخدري، أحد صحابة الرسول
(ص) ومع أنه عرَّف عن نفسه، إلا أنهم طلبوا ما عنده من
مال، فقال لهم "والله ما عندي مال فنتفوا لحيته وضربوه
ضربات ثم أخذوا كل ما وجدوه في بيته".
وكان الصحابي الجليل جابر بن عبد الله موجودًا في المدينة
حينها، "فجعل يمشي في بعض أزقة المدينة وهو يقول: تعس من
أخاف الله والرسول فقال له رجل: ومن أخاف الله ورسوله؟
فقال سمعت رسول الله (ص) يقول:
من أخاف المدينة فقد أخاف ما بين جنبي، فحمل عليه رجل
بالسيف ليقتله فترامى عليه مروان فأجاره وأمر أن يدخله
منزله ويغلق عليه بابه"([54]).
وبعد أن انتهت الأيام الثلاثة، جمع مسلم بن عقبة أهل
المدينة ليبايعوا يزيد، وفي ذلك ينقل المسعودي: "وبايع
الناس على أنهم عبيدٌ ليزيد. ومن أبى ذلك أمره مسرف (مسلم
بن عقبة) على السيف"([55]).
وينقل الطبري: "فدعا الناس للبيعة على أنهم خَوَلٌ ليزيد
بن معاوية، يحكم في دمائهم وأموالهم وأهلهم ما شاء"([56]).
وبذلك يكون وصول الجيش الأموي إلى المدينة "لثلاث بقين من
ذي الحجة سنة ثلاث وستين، فانتهبوها ثلاثًا حتى رأوا هلال
المحرم ثم أمسكوا بعد أن لم يبقوا أحدًا به رمق"([57]).
الإمام زين العابدين
(عليه السلام) ومسلم بن عقبة :
ينقل المسعودي، أن الإمام زين العابدين (عليه السلام) كان
أثناء هذه الأحداث، قد لاذ بالقبر[قبر الرسول (ص)] وهو
يدعو، فأُتي به إلى مسرف وهو مغتاظ عليه، فتبرأ منه ومن
آبائه، فلما رآه وقد أشرف عليه ارتعد وقام له وأقعده إلى
جانبه، وقال له: سلني حوائجك فلم يسأله في أحد ممّن قُدِّم
إلى السيف إلا شَفَّعه فيه، ثم انصرف عنه، فقيل لعلي (عليه
السلام): رأيناك تحرك شفتيك فما الذي قلت؟ قال: قلت: اللهم
ربّ السموات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن،
رب العرش العظيم، ربّ محمد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شره،
وأدرأ بك في نحْره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شره.
وقيل لمسلم: رأيناك تسب هذا الغلام وسلفه، فلما أُتي به
إليك رفعت منزلته، فقال: ما كان ذلك لرأي مني، لقد ملئ
قلبي منه رعبًا..." ([58]).
كما ذكر في كتاب كشف الغمة في معرفة الأئمة، أن الإمام زين
العابدين (عليه السلام)، كفل في وقعة الحرة أربعمئة امرأة
"يعولهن إلى أن تفرق جيش مسرف بن عقبة"([59]).
_5موت
مسلم بن عقبة
ينقل أن مسلم بن عقبة بعدما انتهى من المدينة، توجه نحو
مكة المكرمة للقضاء على عبد الله بن الزبير، وقبل أن يصل
إلى مكة مات في الطريق ودفن، "فلما تفرق القوم عنه أتته أم
ولد ليزيد بن عبد الله بن زمعة وكانت من وراء العسكر تترقب
موته فنبشت عنه... فصلبته. فحدثني من رآه مصلوبًا يُرمى
كما يرمى قبر أبي رغال"([60]).
كان ذلك في آخر المحرم سنة أربع وستين للهجرة([61]).
وينقل أنه قال قبل موته: "اللهم إني لم أعمل عملاً قط بعد
شهادة أن لا اله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله أحب إليّ
من قتلي لأهل المدينة، ولا أرجى عندي في الآخرة"([62]).
استنتاج:
من خلال ما ظهر معنا من الروايات فإن مسلم بن عقبة كان له
ثأر تجاه أهل المدينة، فهو يقول ليزيد عندما أراد أن يعين
قائدًا آخر مكانه كونه كان مريضًا: "فإني أراك مدنفًا
منهوكًا"، فأجابه مسلم: "نشدتك الله أن لا تحرمني أجرًا
ساقه الله إليّ أو تبعث غيري، فإني رأيت في النوم شجرة
غرقد تصيح أغصانها يا ثارات عثمان فأقبلت إليها وجعلت
الشجرة تقول: إلي يا مسلم بن عقبة فأخذتها، فعبّرت ذلك أن
أكون أنا القائم بأمر عثمان ووالله ما صنعوا الذي صنعوا
إلا أنَّ الله أراد بهم الهلاك"([63]).
كما ظهر ذلك من خلال الكتاب الذي بعثه مسلم إلى يزيد بعدما
انتهى من نهب المدينة: "... وجعلت دور بني الشهيد المظلوم
عثمان بن عفان في حرز وأمان، فالحمد لله الذي شفا صدري من
قتل أهل الخلاف القديم والنفاق العظيم، فطالما عتوا
وقديمًا ما طغوا.. فما كنت أبالي متى متّ بعد يومي هذا..."([64]).
لذلك أوصى معاوية ولده يزيد قائلاً: "إن خالفك أهل المدينة
فارمهم بمسلم بن عقبة"([65]).
فمعاوية بن أبي سفيان، كان على علم بمدى الكراهية والبغض
التي يكنّها مسلم لأهل المدينة، فكان يتركه لهذه المهمة.
وينقل في سبب موت مسلم: "كان بمسلم نقرس فركب بقديد فرسًا
فسقط عنه فتوطأه الفرس فثقل ومات"([66]).
فكانت وقعة الحرة "يوم الجمعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة
ثلاث وستين، وكان مسير مسلم من المدينة للنصف من المحرم
سنة أربعة وستين، ومات لسبع بقين من المحرم سنة أربع
وستين"([67]).
أما يزيد بن معاوية فمات "لأربع عشر ليلة خلت من ربيع
الأول سنة أربع وستين"([68]).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
([1])
رزق الله منقريوس الصرفي، تاريخ دول الإسلام،
بيروت: الدار العالمية، ط1، 1986، ج1، ص48.
([2])
ياقوت الحموي، معجم الأدباء، بيروت: دار إحياء
التراث العربي، د. ت، ج16، ص134؛ ابن النديم، كتاب
الفهرست، تحقيق رضا تجدد، طهران: 1971، ص103.
([3])
ابن النديم، المصدر نفسه، ص105.
([4])
ياقوت الحموي، معجم الأدباء، ج11، ص180.
([5])
البلاذري، أنساب الأشراف، بيروت: دار الفكر، تحقيق
سهيل زكار ورياض الزركلي، ط1، 1996، ج5، ص100.
([6])
الطبري، تاريخ الطبري، بيروت: دار الفكر، ط1،
1998، ج6، ص148و262.
([7])
رزق الله منقريوس الصرفي، تاريخ دول الإسلام،
المرجع السابق، ج1، ص51.
([8])
البلاذري، أنساب الأشراف، المصدر السابق: ج5،
ص303.
([9])
ابن طباطبا، الفخري في الآداب السلطانية والدول
الإسلامية، مصر: مكتبة الثقافة الدينية، د.ت،
ص118.
([10])
ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، مصر: مطبعة النيل،
ج2، ص325.
([11])
ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، المصدر نفسه، ج2،
ص325.
([12])
القلقشندي، صبح الأعشى، مصر: وزارة الثقافة
والإرشاد القومي، د،ت، ج6، ص390-391.
([13])
خليفة بن خياط، تاريخ خليفة بن خياط، تحقيق سهيل
زكار، دمشق: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، د،ت،
ج1، ص289.
([14])
المسعودي، مروج الذهب، بيروت: دار الفكر، ط1،
2000، ج3، ص78-79.
([15])
المسعودي، مروج الذهب، المصدر نفسه، ج3، ص79.
([16])
هكذا في الأصل، وقد وردت في بعض الكتب "الحرّاب"
أي اللصوص (التحرير).
([17])
الطبري، تاريخ الطبري، بيروت: دار الفكر،ط6، 1998،
ج1، 262-263.
([18])
هو حنظلة بن الراهب غسيل الملائكة، أسماه الرسول
(صلى لله عليه وآله) بهذا الاسم، وقد شارك في يوم
أحد وكان حديث العهد بعرس فخرج ولم يغتسل، واستشهد
في المعركة فرأى الرسول (صلى لله عليه وآله)
الملائكة تغسله فسمّاه غسيل الملائكة ؛ المسعودي،
مروج الذهب، ج3، ص80.
([19])
ابن سعد، الطبقات الكبرى، تحقيق عبد القادر عطا،
بيروت: دار الكتب العلمية، ط5، 1990، ج1، ص49.
([20])
الجبوب: الأرض الغليظة.
([22])
النقرس: مرض مؤلم وهو ورم يصيب مفاصل القدم.
([23])
الطبري: المصدر السابق، ج6، ص264.
([24])
الطبري، المصدر نفسه، ج6، ص265.
([25])
ابن طباطبا، الفخري، المصدر السابق، ص119.
([26])
المصدر نفسه، ص119.
([27])
المصدر نفسه، ص119.
([28])
البلاذري، أنساب الأشراف، المصدر السابق، ج5،
ص322.
([29])
الطبري، المصدر نفسه، ج6، ص265 عن أبي مخنف.
([30])
يقصد بالمخادع عبد الله بن الزبير؛ البلاذري،
أنساب الأشراف، ج5، ص322.
([31])
الطبري، المصدر نفسه، ج6، ص267.
([32])
البلاذري، أنساب الأشراف، ج2، ص332.
([33])
الطبري، المصدر السابق، ج6، ص266.
([34])
الطبري، المصدر نفسه، ج6، ص267.
([35])
حرة واقم، إحدى حرتي المدينة، وهي الشرقية سميت
برجل من العماليق إسمه واقم؛ ياقوت، معجم البلدان،
بيروت: دار صادر، ط2، 1995، ج2، ص249.
([36])
الطبري، المصدر نفسه، ج6، ص267.
([37])
المصدر نفسه، ج6، ص266.
([38])
المصدر نفسه،ج6، ص267-268.
([39])
المصدر نفسه، ج6، ص272.
([40])
ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، المصدر السابق،
ص333.
([41])
الطبري، المصدر نفسه، ج6، ص268.
([42])
الطبري، المصدر نفسه.
([43])
الطبري، المصدر نفسه، ج6، 272.
([45])
ابن قتيبة، الإمامة والسياسة، ج1، ص334.
([46])
المصدر نفسه، ج1، ص340.
([47])
المصدر نفسه، ج1، ص342.
([48])
المصدر نفسه، ج1، ص348.
([49])
ابن قتيبة، المصدر السابق، ج1، ص347.
([50])
الطبري، المصدر السابق، ج6، ص266.
([51])
ياقوت، معجم البلدان، بيروت: دار صادر، ط2، 1995،
ج2، ص249.
([52])
ابن قتيبة: ج1، ص336.
([53])
ابن قتيبة: المصدر نفسه؛ البلاذزي: أنساب الأشراف،
ج5، ص334.
([54])
ابن قتيبة، المصدر نفسه، ج1، ص337.
([55])
أُطلِق على مسلم بن عقبة لقب مسرف لإسرافه في
القتل والنهب ولم يعرف بعد ذلك إلا بمسرف أو مجرم؛
المسعودي، مروج الذهب، ج3، ص80.
([56])
خَوَلٌ: خدم - عبيد؛ الطبري، ج6، ص272.
([57])
ابن قتيبة: ج1، ص347-348.
([58])
المسعودي، مروج الذهب، ج3، ص81.
([59])
أبي الحسن الاربلي، كشف الغمة في معرفة الأئمة،
بيروت: دار الاضواء، ج2، ص319.
([60])
أبو رغال كنيته واسمه زيد بن مخلف، من ثمود، وقيل
كان رجلاً عشارًا جائرًا، فقبره يُرجَم إلى اليوم،
وقبره بين مكة والطائف؛ ابن قتيبة، المصدر السابق،
ج1، ص346.
([63])
ابن قتيبة، المصدر السابق، ج1، ص330.
([64])
المصدر نفسه، ج1، ص344.
([65])
ابن طباطبا، الفخري، مصدر سابق، ص119.
([66])
البلاذري: أنساب الأشراف، ج5، ص337.
([67])
المصدر نفسه، ج5، ص332.
([68])
الطبري، المصدر السابق، ج6، ص275.
|